ابن خلدون ومونتسكيو

(١) حياة مونتسكيو وآثاره

  • (١)
    مونتسكيو Montesquieu من أشهر رجال الفكر والقلم الذين نبغوا في فرنسا في القرن الثامن عشر. وُلِدَ في قصر يقع بالقرب من مدينة «بوردو» سنة ١٦٨٩، ومات في باريس سنة ١٧٥٥.

    كان والده من صنف النبلاء، فعمل كل ما يجب عمله لتعليم وتثقيف ابنه وفق تقاليد النبلاء في ذلك العصر.

    وقد أظهر مونتسكيو شغفًا شديدًا بالدرس منذ صباه، أكمل دراسته الكلاسيكية بنجاح، ثم أكب على تعلُّم الحقوق، وصار عضوًا في محكمة بوردو وهو في الخامسة والعشرين من عمره، وبعد ذلك بسنتين أصبح رئيسًا للمحكمة المذكورة، إذ ورث رئاستها عن عمه، كما ورث عنه — في الوقت نفسه — بارونية مونتسكيو، وصار يُلقَّب لذلك بلقب «بارون دو مونتسكيو»، بعد أن كان يسمَّى إلى ذلك التاريخ — أي إلى سنة ١٧١٦ — باسم «شارل لويس دو برده» De Bréde.

    إن اسم «مونتسكيو» الذي اشتهر به هذا الكاتب المفكر، إنما هو مختصر من هذا اللقب الجديد.

  • (٢)

    لقد انصرفت أولاع مونتسكيو في بادئ الأمر إلى نواحٍ مختلفة، حتى إنه اشتغل عدة سنوات بمباحث طبيعية متنوعة، تحوم حول التاريخ الطبيعي، والتشريح، والطب، والفيزياء، غير أن جميع أولاعه تمركزت واستقرَّت في الأخير في السياسة والحقوق.

    لقد أولع مونتسكيو بالكتابة أيضًا، كتب ونشر مقالات كثيرةً في مواضيع متنوعة، ولكن شهرته في عالم الأدب لم تبدأ إلا بالرسائل الفارسية Lettres persanes التي نشرها سنة ١٧٢١. كتب هذه الرسائل على لسان رجل فارسي مُتخيَّل، أتى إلى أوروبا سائحًا، وأخذ يكتب إلى أحد أصدقائه سلسلة رسائل يصف بها مشاهداته وملاحظاته. لقد تستَّر مونتسكيو وراء هذه الرسائل الفارسية لنقد الكثير من النظم والتقاليد السائدة عندئذ، بلسان لاذع وأسلوب متهكم.
    ولكنه كان يطمع في عمل أكثر جديةً وأعظم أهميةً من ذلك بكثير، كان يُمني نفسه بتأليف كتاب «حقوقي سياسي» هام، فأخذ يعدُّ نفسه لكتابة «روح القوانين» Esprit des lois، وقد رأى من الضروري أن يتفرَّغ بكليته لتحقيق أمنيته هذه، فباع رئاسة المحكمة التي كانت بعهدته،١ وبعد ذلك أخذ يقضي جميع أوقاته بالبحث والمطالعة في قصر أسرته.

    غير أن مونتسكيو أدرك بعد مدة وجيزة عدم كفاية المطالعة وحدها لتحقيق أمنيته، فقام برحلة إلى مختلِف البلاد الأوروبية؛ بغية الاطلاع على النظم السياسية السائدة فيها. استغرقت رحلته هذه ثلاث سنوات — وذلك من ١٧٢٨ إلى ١٧٣١ — وشملت البلاد الألمانية والإيطالية المختلفة، مع المجر والنمسا وسويسرا وهولاندا وإنجلترا، وقد قضى مونتسكيو معظم هذه المدة في المملكة الأخيرة، وتأثَّر بالنظم التي شاهدها هناك تأثُّرًا كبيرًا.

    وحينما عاد من هذه الرحلة الطويلة لم يرغب في الاستقرار بباريس، بل رجع إلى قصر أسرته، وانزوى فيه، وأخذ يشتغل هنالك بالمطالعة والكتابة من جهة، وبإدارة شئون أراضيه من جهة أخرى، ولم يعد يذهب إلى باريس إلا من وقت إلى آخر لمدد قصيرة.

  • (٣)

    وقد نشر مونتسكيو سنة ١٧٣٠ كتابًا بعنوان: «ملاحظات عن أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم». إنه كان شرع في إعداد هذه الملاحظات ليجعلها فصلًا من تأليفه الأساسي «روح القوانين»، ولكنه حينما قطع شوطًا في كتابتها لاحظ أنها توسَّعت توسُّعًا كبيرًا، فلم يرَ من المعقول اعتبارها فصلًا من كتاب، فقرَّر أن ينشرها على شكل كتاب مستقل.

    وأمَّا كتاب روح القوانين نفسه فلم ينتهِ مونتسكيو من تأليفه ونشره إلا سنة ١٧٤٨، وقد صرَّح في المقدمة التي صدَّره بها أنه اشتغل بتأليفه مدةً لا تقل عن عشرين عامًا.

    لقد نال روح القوانين عقب انتشاره شهرةً هائلةً استوجبت إعادة طبعه أكثر من عشرين مرةً خلال سنة ونصف السنة.

    ولم يعمر مونتسكيو بعد الانتهاء من تأليف روح القوانين إلا سبع سنوات، ولم يُنْتِج خلال هذه المدة شيئًا غير «الدفاع عن روح القوانين»، الذي خطَّه سنة ١٨٥٠؛ ردًّا على بعض الناقدين.

    إن كتاب روح القوانين هو الذي خلَّد اسم مونتسكيو في تاريخ الأفكار والعلوم؛ لأنه يعتبر من أمهات الكتب التي تمثِّل أهم المراحل التي قطعها الفكر البشري في طريق تقدُّمه المستمر، كما يُعَدُّ من جملة العوامل التي قوَّت في النفوس نزعة الحرية في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، والتي حملت الناس على الثورة ضد الحكم الاستبدادي ثورةً عنيفة.

  • (٤)

    ينقسم روح القوانين إلى واحد وثلاثين كتابًا؛ يبحث الكتاب الأول في القوانين بوجه عام، والثاني والثالث في أشكال الحكومات، والكتب الستة التي تلي ذلك تبيِّن وجوب وضع القوانين بصورة ملائمة لأشكال الحكومات، ويبحث الكتابان التاسع والعاشر في علاقة القوانين بالقوة الحربية، والكتابان اللذان يليان ذلك في القوانين التي تنشئ الحرية السياسية، ويبيِّن الكتاب الثالث عشر علاقة الجباية بالحرية، وتبحث الكتب الخمسة التي تلي ذلك في علاقة القوانين بالإقليم والأرض، وأمَّا الكتاب التاسع عشر فيشرح علاقة القوانين بطبائع الأمم وسجاياها، وتبحث الثلاثة التي تلي ذلك في علاقة القوانين بعدد النفوس، والكتابان اللذان يليان ذلك في علاقة القوانين بالأديان، وأمَّا الكتب الستة الباقية فتبحث في القوانين الرومانية والإقطاعية والفرنسية، وتشرح القواعد التي تجب مراعاتها في سَنِّ القوانين.

    في جميع هذه الكتب يشير مونتسكيو إلى وقائع تاريخية عديدة، ويذكر نُبَذًا كثيرةً من القوانين القديمة والحديثة الموضوعة في البلاد المختلفة، ويُبْدِي شتى الملاحظات حول تلك الوقائع والقوانين، ويسوق ملاحظاته هذه تارةً في سبيل التفسير والتعليل، وطورًا على طريق الاستحسان والاستقباح، وكثيرًا ما يفرِّغها في قالب وصايا علمية ودساتير سياسية، موجَّهة إلى رجال الحكم والتشريع.

  • (٥)

    يتبيَّن من الخلاصة الآنفة الذكر — كما يظهر من عنوان المؤلف نفسه — أن الموضوع الأساسي الذي يتناوله مونتسكيو بالبحث والدرس في كتابه هذا هو «القوانين» و«الحقوق»، وإذا أردنا أن ننعت «روح القوانين» بالتعبيرات المألوفة الآن، نستطيع أن نقول إنه من نوع المؤلفات التي تُعْرَف باسم «مدخل القوانين»، أو «فلسفة الحقوق»، أو «حكمة التشريع».

    ومما يؤيد ذلك أن مونتسكيو نفسه قال — في «الدفاع عن روح القوانين»: إنه «تأليف سياسي صرف، وتشريعي خاص.»

    Un onvrage de pure politique et de pure jurisprudence.

    ومع هذا يحتوي «روح القوانين» على أبحاث كثيرة تتعدَّى حدود «فلسفة التشريع»، وتمتُّ بصلة قوية إلى «فلسفة التاريخ». إن هذه الأبحاث هي التي تحاول تعليل طبائع الأمم، وتسعى لإظهار العوامل التي تؤثِّر في سير التاريخ.

    إن أبحاث روح القوانين التي تتعلَّق بذلك تجتمع حول نظريتين هامتين:
    • (أ)

      نظرية تأثير الطبيعة والإقليم في طبائع الأمم وسير التاريخ.

    • (ب)

      نظرية تأثير الأحوال الاقتصادية في الوقائع التاريخية.

    إن مونتسكيو لم يكن مبتكرًا للنظرية الأولى؛ لأن «تأثير الطبيعة في الإنسان» كان صار موضوع أنظار الباحثين منذ عهد بقراط، فكثيرون من مفكري اليونان والرومان بحثوا فيها وكتبوا عنها، كما أن أحد مواطني مونتسكيو — «جان بودن» — كان قد تناول هذه القضية بالبحث والدرس في القرن السادس عشر، وسعى لإظهار تأثير الطبيعة والإقليم في طبائع الأقوام، ووقائع التاريخ بكل تفصيل.

    وأمَّا النظرية الثانية فيزعمون أن مونتسكيو لم يكن مسبوقًا فيها بأحد من الغربيين، ولهذا السبب يخصصون له مقامًا ممتازًا في تاريخ فلسفة التاريخ من وجهة هذه النظرية بوجه خاص.

  • (٦)

    إن كل من يريد أن يقارن بين مونتسكيو وبين ابن خلدون — وبتعبير أصح بين «روح القوانين» وبين «مقدمة التاريخ» — يجب أن يُقْدِمَ على ذلك من وجهة المباحث المتعلقة بفلسفة التاريخ، وعلى الأخص، من وجهة المباحث المتعلقة بعمل الاقتصاد في التاريخ، وتأثير الطبيعة في طبائع الأمم.

    ذلك لأن الكتابين المذكورين يختلفان اختلافًا كليًّا من الوجوه الأخرى.

    إن روح القوانين يبحث من حيث الأساس في القوانين والشرائع، ولا يتطرَّق إلى مسائل التاريخ وفلسفة التاريخ إلا من وجهة علاقتها بالقوانين والشرائع، في حين أن مقدمة ابن خلدون بعكس ذلك، لا تلتفت إلى مسائل القوانين والشرائع، بل تسعى لدرس العوامل الاجتماعية، والتطوُّرات التاريخية درسًا مباشرًا.

    وزيادة على ذلك فإن روح القوانين مُشبَّع بغايات سياسية عملية، والمسائل التي يعالجها ترمي — بوجه عام — إلى تقرير «السياسة المثلى»، في حين أن مقدمة ابن خلدون بعكس ذلك، تكاد تكون مجردةً عن كل نزعة سياسية وعملية، والمسائل التي تسعى لحلها لا تخرج — عادةً — عن نطاق «تقرير الواقع وتعليله».

    ولهذا السبب رأيت من الضروري أن أحدِّد بحثي في روح القوانين بحدود النظريتين المذكورتين.

(٢) التاريخ والاقتصاد

  • (١)

    يشغل مونتسكيو في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم التاريخ مقامًا ممتازًا من جراء الأهمية التي يعزوها إلى العوامل الاقتصادية في تكوين طبائع الأمم وتسيير وقائع التاريخ.

    إن الباحث الإنجليزي «روبرت فلينت» Flint — الذي وَقَفَ حياته على درس المؤلفات التي تحوم حول فلسفة التاريخ — خصَّص لمونتسكيو فصلًا كبيرًا في الكتاب الذي وضعه عن «فلسفة التاريخ في فرنسا».

    استعرض فلينت في هذا الفصل الآراء والنظريات التي قال بها مونتسكيو في روح القوانين، وانتقد القسم الأعظم منها انتقادًا لا يخلو من الشدة.

    قال فلينت: «إن كل من يدرس روح القوانين دراسةً جدية، يُضطر إلى التسليم بأن التعميمات الخاطئة فيه كثيرة بقدر الصائبة، وبأن هذا الكتاب غني بالحقائق، ولكنه في الوقت نفسه مملوء بالأغلاط.»

    والسبب في ذلك — على رأي فلينت — هو أن مونتسكيو لم يهتدِ في تأليفه هذا إلى خطة بحث علمية، فسار على طريقة مشوشة. إنه كدَّس الآراء فيها تكديسًا من غير أن يوفَّق إلى تنظيمها تنظيمًا معقولًا، والمعلومات الكثيرة التي جمعها في روح القوانين تنمُّ عن روح بحث قوية، ولكن الطريقة التي عرض بها هذه المعلومات لا تدل على قوة تركيبية علمية، إذ كثيرًا ما خلط بين «الحق» وبين «الواقع»، وقلَّما ميَّز بين «التفسير» وبين «التعليل».

    ومع ذلك يرى فلينت أن مونتسكيو يستحق مقامًا ممتازًا جدًّا في «تاريخ فلسفة التاريخ»؛ وذلك بفضل المباحث التي كتبها عن الجباية والتجارة والنقود والنفوس في الكتب: ١٣، ٢١، ٢٢، ٢٣، ٢٤ من روح القوانين.

    «لأن الكتب المذكورة تُدْخِل عنصر الاقتصاد في التاريخ، وتؤدي بذلك خدمةً عظيمةً جدًّا.»

    يؤكد فلينت أهمية هذه الخدمة، ثم يقول:

    «من الغلط أن يُعْزَى شرف هذه الخدمة العظيمة إلى «تورغو» Turgot، أو «كوندورسه» Condorcet، أو «كونت» Comte، أو «ساسيمون» Saint-Silmon كما فعل بعضهم، فإن شرف ذلك يعود في الدرجة الأولى إلى «مونتسكيو».
    لا ينكر روبرت فلينت أن معظم النظريات الاقتصادية التي قال بها مونتسكيو في روح القوانين بعيدة عن الصواب، ومليئة بالأغلاط، حتى إنه يعترف بأن تلك الآراء لا تخلو من التناقض أيضًا في بعض الأحيان، ويوصي كل من يود الاطلاع على أنواع الأغلاط التي تتخلَّل تلك الآراء والنظريات بمراجعة ما كان كتبه «دستو دو تراسي» Deslut de Téracy في هذا الصدد، حينما شرح روح القوانين.

    ومع كل هذا يقول روبرت فلينت: «لا يمكن لأي منصف كان، أن يمتنع عن التسليم لمونتسكيو بهذا الشرف العظيم، إنه كان أول من ربط علم الاقتصاد بعلم التاريخ، وأول من شارك هذين العلمين في أمر تفسير الحادثات الاجتماعية وتعليلها.»

  • (٢)

    إنني لا أشك في أن روبرت فلينت كتب ما كتبه في هذا الصدد قبل أن يطلع على مقدمة ابن خلدون، ولولا ذلك لما سوَّغ لنفسه أن يقول إن مونتسكيو كان أول من أدخل عنصر الاقتصاد في التاريخ، وأول من ربط علم الاقتصاد بعلم التاريخ؛ لأن ابن خلدون كان قد فعل ذلك قبل مونتسكيو بمدة تناهز أربعة قرون.

    إن اهتمام ابن خلدون بعنصر الاقتصاد في تعليل الوقائع التاريخية يظهر إلى العيان أولًا من عنوان الكتاب الأول نفسه؛ لأن «الكسب والمعاش والصنائع» تحتل منزلةً خطيرةً وصريحةً في هذا العنوان:

    «الكتاب الأول: في طبيعة العمران في الخليقة، وما يعرض لها من البدو والحضر، والتغلب، والكسب، والمعاش، والصنائع، والعلوم، ونحوها، وما لذلك من العلل والأسباب» (ص٣٥).

    وأمَّا العبارات التي تلي العنوان المذكور، وتشير إلى ذلك بوضوح أعظم:

    «اعلم أنه لما كانت حقيقة التاريخ أنه خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال، وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع» (ص٣٥).

    لقد خصَّص ابن خلدون بابًا كبيرًا من أبواب المقدمة الستة لأمور المعاش (وهو الباب الخامس مع فصوله الفرعية البالغ عددها الثلاثة والثلاثين)، كما خصَّص عددًا غير قليل من فصول الأبواب الأخرى (ولا سيما من فصول البابين الثالث والرابع) أيضًا لمسائل الاقتصاد. ومن غريب الاتفاق أن مسائل الجباية والتجارة والنقود والنفوس — التي تكوِّن القسم الاقتصادي من روح القوانين — قد شغلت أبحاثًا وفصولًا هامةً في مقدمة ابن خلدون أيضًا.

    وزيادة على كل ذلك فقد عالجت المقدمة في فصولها المختلفة عدة مسائل اقتصادية اجتماعية أخرى، مثل مستوى المعيشة، وأسعار الأشياء، وعلاقة العمران بوسائل المعيشة.

    في جميع هذه الفصول والأبحاث يُظْهِر ابن خلدون العلائق القوية التي تربط الأحوال الاجتماعية بالحياة الاقتصادية، ويعبِّر عن هذا الارتباط بأصرح العبارات.

    يبدأ الفصل الأول من الباب الثاني بتقرير المبدأ التالي:

    «اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله» (ص١٢٠).

    يشرح ابن خلدون هذه القضية الأساسية، ويبرهن عليها في فصول عديدة، كما أنه يقرر أهمية العوامل الاقتصادية في تطوُّر الدول واستفحال الحضارة أيضًا بعبارات صريحة جدًّا.

    إن فصل طروق الخلل للدولة يبدأ بتقرير القضايا التالية:

    «اعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما؛ فالأول الشوكة والعصبية، وهو المعبَّر عنه بالجند، والثاني المال، الذي هو قوام أولئك الجند.

    «والخلل إذا طرق للدولة طَرَقَها في هذين الأساسين» (ص٢٩٤).

    كما أنه يعزو دورًا هامًّا إلى الأحوال الاقتصادية في أمر «حدوث الهرم» أيضًا.

    ذلك لأن «طبيعة الملك تقتضي الترف»، والترف يؤدي إلى زيادة نفقات الناس، حينئذ «لا يفي دخلهم بخرجهم، فالفقير منهم يهلك، والمترف يستغرق عطاءه بترفه» (ص١٦٨).

    إن هذه الأحوال الاقتصادية تؤثِّر في الأخلاق أيضًا؛ لأن استفحال الحضارة والترف يقترن بوجه عام بارتفاع أسعار الحاجيات، وهذا الارتفاع يزيد في مشاكل المعيشة، وتلك المشاكل تؤدي إلى انحطاط الأخلاق.

    إن المصر الكثير السكان يختص بالغلاء في أسواقه وأسعار حاجياته، ثم تزيدها المكوس غلاءً؛ فتعظم نفقات أهل الحضارة، ويخرج عن القصد إلى الإسراف، وتذهب مكاسبهم كلها في النفقات، ويتتابعون في الإملاق والخصاصة، ويغلب عليهم الفقر، ويكثر منهم الفسق والشر والسفسفة، والتحيُّل على تحصيل المعاش من وجهه ومن غير وجهه» (ص٣٧٢).

    إن مقدمة ابن خلدون مملوءة بمثل هذه الآراء والملاحظات التي تقرِّر علاقة الاقتصاديات بطبائع الأمم وأطوار الدول.

    ولهذه الأسباب إنني أعتقد اعتقادًا جازمًا بأن القول بأن «شرف إدخال عنصر الاقتصاد في علم التاريخ يعود إلى مونتسكيو»، ما هو إلا افتئات صريح على الحقيقة والواقع، وأجزم بلا تردد بأن هذا الشرف يعود إلى ابن خلدون الذي سبق مونتسكيو في هذا المضمار مدةً تزيد على ثلاثة قرون.

    هذا وإني أقول — زيادة على ذلك — إن ابن خلدون لا يمتاز على مونتسكيو — في هذه القضية — من جرَّاء سبقه إلى فهم «علاقة التاريخ بالاقتصاد» سبقًا زمانيًّا فحسب، بل إنه يمتاز عليه من جرَّاء عمق التفكير ودقة النظر التي أظهرها في بحث ودرس هذه العلاقة أيضًا.

    وذلك لأن ابن خلدون ذهب في هذا المضمار إلى حدود لم يصل إليها مونتسكيو أبدًا.

    فإن الآراء التي يُبْدِيها المفكر العربي في هذا الصدد تقرِّبه كثيرًا من مبادئ المذهب الاقتصادي الاجتماعي الذي عُرِف فيما بعدُ باسم «المادية التاريخية» Matérialisme Historique، منذ عهد كارل ماركس في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

    إن مقارنة روح القوانين بمقدمة ابن خلدون من وجهة المباحث الاقتصادية تبرهن على ذلك برهنةً قطعية.

  • (٣)

    إن أول ما تجب ملاحظته عند الإقدام على الموازنة بين مقدمة ابن خلدون وبين روح القوانين من وجهة المباحث الاقتصادية، هو الانقلاب العظيم الذي كان قد حدث في الحياة الاقتصادية خلال المدة التي مضت بين عصر ابن خلدون وبين عهد مونتسكيو. إن بزوغ عصر الانبعاث، واكتشاف القارات الجديدة، وتقدُّم وسائل الملاحة البحرية، كانت من العوامل التي تضافرت على توسيع نطاق العلائق الاقتصادية توسيعًا هائلًا، وتنويع المعاملات التجارية تنويعًا كبيرًا. فمن الطبيعي أن يكون هناك فرق عظيم بين المسائل الاقتصادية التي ظهرت في العالم الغربي خلال القرن الثامن عشر، وبين تلك التي كانت تسود العالم الشرقي خلال القرن الرابع عشر.

    إن هذا الفرق الكبير يجعل الموازنة بين مقدمة ابن خلدون وبين روح القوانين من الصعوبة بمكان، ومع ذلك فمن المستطاع التغلُّب على هذه الصعوبة.

    • أولًا: بالبحث عن مبلغ سمو كل واحد منهما على مستوى العصر الذي كُتِب فيه.
    • ثانيًا: بملاحظة المسائل الاقتصادية التي اشترك الكتابان في بحثها، بقطع النظر عن طول الزمان الذي يفصل بينهما.
  • (٤)

    إذا وازنَّا بين «مقدمة ابن خلدون» وبين «روح القوانين» من وجهة «السمو فوق مستوى العصر»؛ وجدنا أن كفة الكتاب الأول ترجح على كفة الثاني رجحانًا كبيرًا.

    ذلك لأن مونتسكيو لم يسمُ كثيرًا على معاصريه في أبحاثه الاقتصادية، وقد اعترف بذلك روبرت فلينت نفسه، على الرغم من تقديره الشديد للخدمة التي أدَّاها مؤلف روح القوانين لفلسفة التاريخ بإدخال عنصر الاقتصاد في تفسير التاريخ.

    يقول روبرت فلينت بعدما يعلن أهمية هذا العمل: «يجب علينا أن نتجنب المغالاة في تقدير ما نحن مدينون به إلى مونتسكيو في هذا المضمار.» إذ يجب علينا ألا ننسى أن العصر الذي كُتِب فيه روح القوانين كان عهد نشوء وترعرع في علم الاقتصاد. إن الأبحاث الاقتصادية كانت صارت موضع اهتمام الكثيرين من المؤلفين والمفكرين، حتى إن جماعةً من معاصري مونتسكيو ومواطنيه كانوا أقدموا على تأسيس المذهب «الفيزيوقراطي» المشهور في علم الاقتصاد.٢

    من الثابت أن مونتسكيو كان قد أبدى طائفةً من الآراء الاقتصادية التي ثبت بطلانها بعد مدة وجيزة، كما أنه أغفل كثيرًا من الحقائق الاقتصادية التي تم اكتشافها قبل مرور مدة طويلة؛ مما يدل دلالةً قطعيةً على أنه لم يتفوق على معاصريه تفوُّقًا كبيرًا في أبحاثه الاقتصادية.

    في حين أن ابن خلدون كان قد سما فوق معاصريه سُموًّا هائلًا في هذا المضمار، كما أنه ظل يحلق فوق مستوى الذين جاءوا بعده أيضًا — في الشرق وفي الغرب — مدة قرون عديدة.

  • (٥)

    وأمَّا أبرز المسائل الاقتصادية التي تشترك مقدمة ابن خلدون في بحثها مع روح القوانين فهي؛ مسألة اشتغال الدول والأمراء بالتجارة.

    يوجد في الباب الثالث من مقدمة ابن خلدون «فصل في أن التجارة من السلطان مضرة بالرعايا ومفسدة للجباية» (ص٢٨١)، كما في الكتاب العشرين من روح القوانين فصل «في أن الأمير يجب ألا يتعاطى التجارة أبدًا».

    مما يلفت النظر — قبل كل شيء — في هذين العنوانين، أن عبارة ابن خلدون تقرِّر الواقع، في حين أن عبارة مونتسكيو تضع دستورًا للعمل.

    إن هذا الاختلاف يكتسب وضوحًا أكثر من ذلك عند مطالعة ما جاء من الأبحاث تحت العنوانين المذكورين.

    يقول مونتسكيو في الفصل السالف الذكر: إن الإمبراطور «تيوفيل» شاهد سفينةً تحمل أمتعةً لزوجته «تيودورا»، فأمر بإحراق السفينة قائلًا لها: «أنا إمبراطور، وأنتِ تريدين أن تجعليني رب سفينة؟! كيف يستطيع الناس الفقراء أن يكتسبوا أقواتهم إذا نحن زاحمناهم في مهنهم؟»

    «كان الإمبراطور يستطيع أن يضيف إلى ذلك الأقوال التالية أيضًا: ومن يستطيع أن يصدَّنا عن الاحتكار؟ ومن يستطيع أن يجبرنا على القيام بتعهُّداتنا؟ ثم إن هذه التجارة التي نقوم بها نحن قد يتعاطاها رجال حاشيتنا أيضًا، وإذا أقدم هؤلاء على ذلك يكونون — بطبيعة الحال — أشد طمعًا وأكثر ظلمًا منا. إن الشعب يثق بعدالتنا، ولكنه لا يثق ببذخنا، إن كل الضرائب التي تؤدي إلى شقاء الشعب تدل دلالةً قاطعةً على بذخنا.»

    يواصل مونتسكيو البحث المذكور في الفصل الذي يلي ذلك تحت عنوان: «استمرار الموضوع نفسه»، ويقول هناك ما يلي:

    «عندما كان البرتغاليون والقشتاليون يحكمون الهند الشرقية، كان للتجارة فروع رابحة جدًّا؛ مما حمل أمراءهم على الاستئثار بها، وذلك أدَّى إلى تقويض مؤسساتهم في تلك البلاد.»

    «إن نائب الملك في غوا Goa كان يمنح بعض الأشخاص امتيازات خاصة، ومثل هؤلاء الأشخاص لا يوثق بهم أبدًا، فإن التجارة كانت تفقد مزية الاستمرار من جَرَّاء تبدُّل الأشخاص الذين يتولونها، ولم يكن لأحد من هؤلاء أن يهتم بمستقبل التجارة التي يتولاها، ولا أن يبالي إذا أصبحت كاسدةً بعده حينما يتركها لخَلَفِه، والمكاسب تبقى في أيدي أشخاص محدودين، فلا تتوسَّع بدرجة كافية.»

    هذا كل ما كتبه مونتسكيو في هذا الموضوع.

    وأمَّا ابن خلدون فقد بحث الموضوع المذكور بتوسُّع وتعمُّق يستلفتان الأنظار؛ يبدأ ابن خلدون الفصل السالف الذكر بالبحث عن الأسباب التي تحمل السلطان على تعاطي التجارة، ويستعرض جميع الوسائل التي تتوسَّل بها الدول، حينما تحتاج إلى مزيد المال والجباية، قائلًا:

    «اعلم أن الدولة قد ضاقت جبايتها — بما قدَّمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات — وقصر الحاصل من جبايتها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها، واحتاجت إلى مزيد المال والجباية.»

    «فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم، كما قدَّمنا ذلك في الفصل قبله، وتارةً بالزيادة في ألقاب المكوس، إن كان قد استُحْدِثَ من قبل، وتارةً بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم؛ لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان، وتارةً باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان» (ص٢٨١).

    ثم يشرح ابن خلدون الأسباب والملاحظات التي تحمل السلطان على التوسُّل بالوسيلة الأخيرة:

    «لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم، وأن الأرباح تكون على نسبة رءوس الأموال، فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرُّض بها لحوالة الأسواق، ويحسبون ذلك من إدرار الجباية وتكثير الفوائد.»

    وبعد ذلك يبيِّن ابن خلدون غَلَط هذا الحساب، ويوضِّح أضرار هذه الخطة قائلًا:

    «هو غلط عظيم، وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة؛ فأولًا مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك، فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون، ومزاحمة بعضهم بعضًا تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب، وإذا رافقهم السلطان في ذلك، وماله أعظم كثيرًا منهم؛ فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته، ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد» (ص٢٨١).

    «ثم إذا حصل فوائد الفلاحة (ومغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات)، وحصلت بضائع التجارة (من سائر الأنواع)، فلا ينتظرون به حوالة الأسواق، ولا نفاق البياعات؛ لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة، فيكلفون أهل تلك الأصناف — من تاجر أو فلاح — بشراء تلك البضائع، ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد». وأهل تلك الأصناف يستوعبون في ذلك ناض أموالهم، وتبقى تلك البضائع في أيديهم عروضًا جامدة، ويمكثون عطلًا من الإدارة التي فيها كسبهم ومعاشهم، وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال؛ فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن، وربما يتكَّرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يُذْهِب رأس ماله، فيقعد عن سوقه، ويتعدَّد ذلك ويتكرَّر، ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة، ويؤدي إلى فساد الجباية. فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار، ولا سيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها، وإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة، وقعد التجار عن التجارة؛ ذهبت التجارة جملة، أو دخلها النقض المتفاحش.»

    «وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجباية وبين هذه الأرباح القليلة؛ وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل» (ص٢٨٢).

    وبعد التوسُّع في شرح الأضرار التي تنجم عن ذلك، يقرِّر ابن خلدون أن الطريقة المثلى في هذه الأحوال هي الاعتماد على الجباية وحدها:

    «اعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولا يدر موجوده إلا الجباية، وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال، والنظر لهم بذلك، فبذلك تنبسط آمالهم، وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها؛ فتعظم منها جباية السلطان. وأمَّا غير ذلك من تجارة أو فلح، فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا، وفساد للجباية، ونقص للعمارة» (ص٢٨٢).

    ثم ينتقل إلى شكل آخر من التجارة التي يُقْدِمُ عليها الأمراء في بعض الأحوال:

    «وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان أنهم يتعرَّضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم، ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاءون، ويبيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن، وهذه أشد من الأولى، وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم» (ص٢٨٣).

    وبعد ذلك يُبْدِي ابن خلدون بعض الملاحظات عن الذين يشوِّقون السلطان إلى سلوك مثل هذه المسالك:

    «وربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف — أعني التجار والفلاحين — لما هي صناعته التي نشأ عليها، فيحمل السلطان على ذلك، ويضرب معه بسهم لنفسه؛ ليحصل على غرضه من المال سريعًا، ولا سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم ولا مكس. فإنها أجدر بنمو الأموال، وأسرع في تثميره، ولا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته» (ص٢٨٣).

    هذا ويعود مؤلف المقدمة إلى هذه القضية في فصل آخر، هو الفصل الذي يقرِّر فيه «أن الظلم مؤذن بخراب العمران» (ص٢٨٦–٢٩٠).

    يستعرض ابن خلدون في هذا الفصل الأضرار التي تنجم من العدوان على أموال الناس، وبعد التبسُّط في شرح هذه الأضرار، يقول:

    «وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة؛ التسلُّط على الناس بشراء ما بين أيديهم بأبخس الأثمان، ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان، على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع» (ص٢٨٩).

    إن ذلك يسبِّب قعود التجار عن العمل: «فيتثاقل الوارد من الآفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك؛ فتكسد الأسواق، ويبطل معاش الرعايا، وتنقص جباية السلطان وتفسد، ويئول ذلك إلى تلاشي الدولة، وفساد عمران المدينة، ويتطرَّق هذا الخلل على التدريج، ولا يُشعر به» (ص٢٩٠).

    يلاحظ من كل ذلك أن ابن خلدون درس هذه الحادثات الاجتماعية الاقتصادية دراسةً مفصلةً دقيقة، كمن يدرس مرضًا من الأمراض، فيبحث عن أسباب تولُّده، ويسرد التحوُّلات التي تطرأ على البدن من جرَّائه، ويتتبع أعراض المرض وسيره وأدواره، ويفعل كل ذلك بنظر شامل متشوِّف مدقق ومتعمق.

    حينما يقارن الباحث ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد بما كتبه مونتسكيو الشهير؛ يُضطر إلى التسليم بأن الأول تفوَّق على الثاني — في بحث هذه القضية الاقتصادية الاجتماعية — تفوُّقًا بارزًا، مع أنه أتى قبله بمدة طويلة تناهز أربعة قرون.

  • (٦)

    وهناك بحث اقتصادي اجتماعي آخر تشترك فيه مقدمة ابن خلدون مع روح القوانين، وهو بحث «علاقة ظلم الدولة وأحوالها بعدد النفوس».

    فقد خصَّص مونتسكيو لهذه القضية فصلًا من تأليفه، كما أن ابن خلدون تطرَّق إلى هذه المسألة في عدة فصول من مقدمته.

    لقد عنون مونتسكيو الفصل الحادي عشر من الكتاب الثالث والعشرين من روح القوانين بعنوان: «قساوة الحكومة»، وقال فيه ما يلي:

    «إن الأشخاص الذين لا يملكون شيئًا على الإطلاق — كالشحاذين — يكونون كثيري الأولاد؛ ذلك لأنهم يكونون في حالة الأقوام الناشئة. فمن السهل لكل أب منهم أن يعطي مهنته لولده، حتى إن الولد قد يكون آلةً تساعد الوالد في مهنته منذ ولادته. إن هؤلاء يتكاثرون في البلاد الغنية والجاهلة؛ إذ لا أعباء اجتماعية عليهم، وهم أنفسهم أعباء على المجتمع.»

    «وأمَّا الأشخاص الذين لا يكونون فقراء إلا لأنهم يعيشون في كنف دولة قاسية مستبدة، والذين يعتبرون حقولهم واسطةً للضريبة أكثر مما تكون واسطةً للمعيشة، إن هؤلاء يكونون قليلي الأولاد؛ وذلك لأنهم لا يملكون ما يقتاتون به، فكيف يستطيعون أن يفكروا في اقتسام أرزاقهم مع أولادهم؟ كما أنهم لا يستطيعون أن يعالجوا أنفسهم من الأمراض التي تنتابهم، فكيف يمكنهم أن يفكروا في توليد وتنشئة مخلوقات تكون في حالة مرض دائم هي الطفولة؟»

    «وأمَّا القول بأنه كلما كانت الرعية فقيرة، كانت العائلات كثيرة الأفراد، وبأنه كلما كانت الضرائب فادحة، كان الناس يعملون ما يساعدهم على تأديتها، إن القول بذلك إنما يتأتى من التجوُّز في الكلام، أو من العجز عن التفكير. إن هذين القولين لمن السفسطات التي خرَّبت الممالك، والتي ستظل تخربها على الدوام.»

    «إن قساوة الحكومة قد توصل الأمر إلى درجة إتلاف العواطف الطبيعية بعواطف طبيعية مثلها؛ أما كانت النساء الأمريكيات (يقصد نساء أهل أمريكا الأصليين) تُقْبِل على إسقاط أجنتهن؛ لكيلا يتركن أولادهن تحت رحمة أسياد ظلمة؟»

    هذا ما كتبه مونتسكيو في روح القوانين حول هذه المسألة.٣

    وأمَّا ابن خلدون فقد درس المسألة بمقياس أوسع، ونظر أشمل، وتفكير أعمق، في فصول متعددة، ومن وجوه مختلفة، فإنه لم يكتفِ بدرس تأثير قساوة الحكومة وظلمها على الولادات وحدها، بل لاحظ تأثير ذلك على الوفَيَات، وعلى تجمُّع السكان وتبعثرهم، وعلى الهجرة من البلاد وإليها أيضًا، وزيادة على كل ذلك فإنه لاحظ تأثير استقلال الأمة واستعبادها في نشاط الأفراد، وعدد النفوس، وثروة الدولة أيضًا في جميع تلك الحوادث والأمور.

    فقد قرَّر في أحد فصول الباب الثالث «أن الظلم مؤذن بخراب العمران»، وقال في الفصل المذكور في جملة ما قاله:

    «اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها؛ لما يرونه حينئذ من أن غايتها انتهابها من أيديهم، وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها؛ انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك» (ص٢٨٦).

    «والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب، ذاهبين وجائين. فإذا قعد الناس عن المعاش، وانقبضت أيديهم عن المكاسب؛ كسدت أسواق العمران، وانتقضت الأحوال، وانذعر الناس في الآفاق من غير تلك الأيالة، في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها، فخف ساكن القُطر وخَلَتْ دياره، وخربت أمصاره، واختلَّ باختلاله حال الدولة والسلطان؛ لما أنها صورة للعمران، تفسد بفساد مادتها ضرورة» (ص٢٨٧).

    يؤكد ابن خلدون أن الظلم يؤدي إلى خراب العمران، ويعود على الدولة بالفساد والانتقاض، ثم يقول:

    «ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة، من الدول التي بها ولم يقع فيها خراب، واعلم أن ذلك إنما جاء من قبيل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المَصْر؛ فلما كان المصر كبيرًا، وعمرانه كثيرًا، وأحواله متسعة بما لا ينحصر، كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيرًا؛ لأن النقص إنما يقع بالتدريج، وإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر، لم يظهر أثره إلا بعد حين.»

    «والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه، ووباله عائد على الدول» (ص٢٨٨).

    هذا ويقرِّر ابن خلدون في فصل آخر «أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها؛ أَسْرَعَ إليها بالفناء» (ص١٤٧). ويعلِّل ذلك قائلًا:

    «والسبب في ذلك — والله أعلم — ما حصل في النفوس من التكاسل إذا ملك أمرها، وصارت بالاستعباد آلةً لسواها، وعالةً عليهم؛ فيقصر الأمل، ويضعف التناسل.»

    «والاعتمار إنما هو عن جدَّة الأمل، وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية، فإذا ذهب الأمل بالتكاسل، وذهب ما يدعو إليه من الأحوال، وكانت العصبية ذاهبةً بالغلب الحاصل عليهم؛ تناقص عمرانهم، وتلاشت مكاسبهم ومساعيهم» (ص١٤٨).

    ويرى ابن خلدون لذلك سببًا آخر، ويشرح هذا السبب كما يلي:

    «إن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خُلِق له، والرئيس إذا غُلِب على رئاسته، وكُبِح عن غاية عزه؛ تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده، وهذا موجود في أخلاق الأناسي، ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة، إنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين.»

    ثم يقول: «فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقض واضمحلال، إلى أن يأخذهم الفناء.»

    وبعد ذلك يستشهد ابن خلدون بما حدث للفرس بعد استيلاء العرب عليهم، فيقول: «ولا تحسبن أن ذلك لظلم نزل بهم، أو لعدوان شملهم، فملكة الإسلام في العدل ما علمت، وإنما هي طبيعة في الإنسان إذا غُلِب على أمره، وصار آلةً لغيره» (ص١٤٨).

    وزيادة على كل ذلك، يتطرَّق ابن خلدون إلى هذه المسألة في فصل آخر حينما يقرر: «أن الترف يزيد الدولة في أولها قوةً على قوتها» (ص١٧٤)، حيث يقول: «والسبب في ذلك أن القبيل إذا حصل لهم الملك والترف؛ كثر التناسل والولد والعمومية؛ فكثرت العصابة، واستكثروا أيضًا من الموالي والصنائع، ورُبِّيَت أجيالهم في جو ذلك النعيم والرفه؛ فازدادوا به عددًا إلى عددهم وقوةً إلى قوتهم» (ص١٧٤).

    وأبلغ مثال على ذلك هو ما وقع في الدولة العربية في الإسلام، يقول ابن خلدون إن العرب زادوا بعد الإسلام زيادةً كبيرة، ويرد سبب هذه الزيادة إلى الرفه الذي حصل عند ذاك: «واعلم أن سببه الرفه والنعيم الذي حصل للدولة ورُبِّي فيه أجيالهم» (ص١٧٥).

    يعود ابن خلدون إلى هذه المسألة في فصل آخر، هو الفصل الذي يتكلَّم فيه عن «وفور العمران في آخر الدولة، وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات» (ص٣٠١). إذ يقول في هذا الفصل:

    «إن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في ملكتها، والاعتدال في أيالتها.»

    «وإذا كانت الملكة رفيقةً محسنة؛ انبسطت آمال الرعايا، وانتشطوا للعمران وأسبابه؛ فتوفَّر ويكثر التناسل» (ص٣٠١).

    وأمَّا في أواخر الدول فتكثر المجاعات والموتان، تكثر المجاعات «لقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر؛ بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات، أو الفتن الواقعة في انتقاض الرعايا، وكثرة الخوارج لهرم الدولة.»

    كما يكثر الموتان لأسباب عديدة من جملتها؛ «كثرة المجاعات أو كثرة الفتن لاختلال الدولة»، و«كثرة الهرج والقتل»، أو «وقوع الوباء» (ص٣٠٢).

    •••

    بعد هذه التفاصيل والمقارنات، أنا لا أتردد في القول بأنه لا بد لكل باحث منصف أن ينحني احترامًا وإجلالًا لعبقرية ابن خلدون الذي سمَا على عبقرية مونتسكيو في هذه المسائل والأبحاث، على الرغم من قِدَم العصر الذي عاش فيه، وعلى الرغم من انحطاط البيئة التي نشأ فيها.

(٣) التاريخ والطبيعة

  • (١)

    يعزو مونتسكيو أهميةً كبرى إلى تأثير الطبيعة والإقليم في سجايا الأمم ووقائع التاريخ، ويخصِّص نحو ثمانين فصلًا من فصول روح القوانين لشرح هذه التأثيرات.

    إنه يستهل أبحاثه في هذا المضمار بتقرير المبدأ التالي:

    «إن أوصاف العقل وانفعالات القلب تختلف كثيرًا باختلاف الأقاليم، فمن الطبيعي أن تختلف القوانين أيضًا باختلاف الأقاليم.»

    وبعد ذلك يأخذ في شرح آرائه في هذا الصدد بتفصيل وإسهاب، ونحن نستطيع أن نلخِّص هذه الآراء — من حيث الأساس — بما يلي:
    • (أ)

      إن شدة الحرارة تقلِّل القوة وتزيل النشاط؛ ولذلك تصل قوة الإنسان إلى أقصى درجاتها في البلاد الباردة، وتنزل إلى أدنى دركاتها في البلاد الحارة.

    • (ب)

      إن التأثير الذي يحصل بهذه الصورة يسري إلى القوى المعنوية والفكرية أيضًا؛ ولهذا السبب يكون سكان البلاد الباردة أكثر ثقةً بأنفسهم، وأشد شعورًا بتفوُّقهم بالنسبة إلى سكنة البلاد الحارة، وهذا يجعلهم أكثر نشاطًا منهم وأكبر شجاعة، كما يجعلهم أقل ميلًا للاحتيال، وأقل رغبةً في الانتقام.

    • (جـ)

      إذا وضعنا رجلًا في محل حار محصور، رأينا أنه يشعر بهبوط في قوة قلبه، وذلك قد يوصله إلى حالة قريبة من الإغماء، وفي هذه الحالة إذا طُلِب منه عمل لا يشعر بقابليةٍ للقيام به؛ ولذلك نجد دائمًا «أن سكان البلاد الحارة يكونون جبناء مثل الشيوخ، في حين أن سكان البلاد الباردة يكونون شجعانَ مثل الشبان.»

    • (د)

      غير أن الحرارة تؤثر في حساسية الإنسان تأثيرًا معكوسًا لذلك، فإن الحساسية — بعكس القوة — تصل إلى أقصى درجاتها في البلاد الحارة، وتهبط إلى أحط درجاتها في البلاد الباردة. من المعلوم «أن الأقاليم يتميَّز بعضها عن بعض باختلاف «درجات العرض الجغرافي»». ونستطيع أن نقول إنها تتميَّز كذلك باختلاف «درجة حساسية الإنسان»؛ فإن حساسية الإنسان للَّذة تكون ضعيفةً في البلاد الباردة، وأقوى من ذلك في البلاد المعتدلة، وتصل إلى درجة الإفراط في البلاد الحارة. وكذلك الحال في الحساسية للألم، مثلًا «إن الموسقوفي لا يحس شيئًا من الألم إلا إذا سَلخ جلده.»

    • (هـ)

      إن الشهوة الجنسية تتبع الحساسية العامة في هذا الصدد، فإنها تكون مفرطةً في البلاد الحارة، وضئيلةً في البلاد الباردة.

      في البلاد الشمالية تكون ماديات العشق «في منتهى الضعف»، وقوتها الضئيلة «تكاد تكفي لجعلها محسوسة»، وأمَّا في البلاد الحارة فهي تتغلَّب على كل شيء.

      إن الفيزيقوط عندما هاجروا من جرمانيا إلى الجنوب فانتقلوا إلى إسبانيا؛ أصبحوا أكثر شهوانيةً من ذي قبل، وشدة الشهوة التي اكتسبوها بهذه الصورة قوَّت في نفوسهم «حس الغيرة»، كما ظهر ذلك بكل وضوح في سلوك «الكونت جوليانوس الذي ضحَّى ببلاده من جرَّاء واقعة تتعلَّق بعِرْض ابنته.»

      في البلاد الشمالية تجد «ماكينة البدن» ملذات كثيرةً في كل ما يحرك النفس — من صيد وسباحة وحرب وخمر — وأمَّا في البلاد الحارة فتكاد تنحصر ملذات الحياة في العلاقات الجنسية.

    • (و)

      في البلاد الحارة ينفق البدن مقدارًا كبيرًا من الماء، فلا يحتاج إلى شيء من الخمور والكحوليات، وأمَّا في البلاد الباردة فبعكس ذلك تقل الحاجة إلى الماء، فتزداد الحاجة إلى الخمور والكحوليات.

      ولهذا السبب نجد أن إدمان الخمور يزداد مع ارتفاع درجة العرض الجغرافي، كلما تباعدنا من خط الاستواء نحو القطب.

    • (ز)

      إن الإقليم يؤثر في الأخلاق العامة أيضًا تأثيرًا شديدًا؛ فإن سكنة البلاد الباردة يمتازون بكثرة الفضائل وقلة المفاسد، وقوة الصراحة، وقلة الأنانية. فإننا كلما تباعدنا من الشمال إلى الجنوب نكون كأننا تباعدنا عن الأخلاق، فشاهدنا أُممًا ينقص فيهم روح التشوُّف والإقدام والكرم، ويزداد فيهم الكسل والأنانية، وتتفشَّى بينهم المفاسد والجرائم.

    • (ﺣ)

      ولذلك كله نجد أن أمم الشمال تتغلَّب دائمًا على أُمم الجنوب، كما نجد أن الحرية والديمقراطية لا تتأسَّس إلا عند أُمم الشمال، وأمَّا أُمم الجنوب فيتصفون بالعبودية والاستسلام بوجه عام، كما أن دولها لا تعرف معنًى للحرية والديمقراطية، بل تكون مستبدَّةً وظالمةً في كل الأحوال.

    • (ط)

      إن عادة حجب النساء وحجزهن أيضًا من التقاليد التي تتأسَّس في البلاد الجنوبية وحدها؛ لأن شدة الشهوة في تلك البلاد تستلزم اتخاذ تدابير شديدة لكبح جماحها، وأمَّا في البلاد الباردة فلا فتكون ثمة حاجة لمثل هذه التدابير؛ لأن الخصال هناك تكون حميدةً بوجه عام، كما أن شهوات النفس تكون معتدلةً وهادئةً في حد ذاتها؛ ولذلك شيء قليل من الانضباط يكفي لتنظيم الحياة الجنسية والمحافظة على العفاف؛ ولهذا السبب نجد أن المرأة في البلاد الباردة «تؤنس الجميع وترفِّه عن الجميع، على الرغم من أنها تخص نفسها لملذات شخص واحد.»

    • (ي)

      إن تأثير الحرارة والبرودة في الشجاعة لا يظهر عند مقارنة الممالك الشمالية بالجنوبية فحسب، بل إنه يظهر عند مقارنة المناطق الشمالية بالجنوبية في المملكة الواحدة أيضًا.

      وهذه الحقيقة يجب أن توضع نصب الأعين عند اختيار العاصمة في السلطنات الكبيرة، يجب أن تكون العاصمة في القسم الشمالي من المملكة؛ لأن الدولة التي تجعل عاصمتها في الجنوب تتعرَّض إلى خسارة مناطقها الشمالية، وأمَّا الدولة التي تجعل عاصمتها في الشمال فتستطيع أن تسيطر على أقسامها الجنوبية بسهولة؛ وذلك بسبب شجاعة الشماليين وجبن الجنوبيين.

  • (٢)

    إن آراء مونتسكيو في طبائع الشماليين والجنوبيين يجرُّه إلى نظرية مماثلة عن طبائع الأوروبيين والآسيويين؛ لأنه يقول:

    في آسيا لا توجد منطقة معتدلة الحرارة، فالبلاد الحارة هناك تتصل بالبلاد الباردة اتصالًا مباشرًا؛ ولذلك تكون الأمم القوية مجاورةً للأمم الضعيفة مجاورةً مباشرة، وتستطيع أن تسيطر عليها سيطرةً قاصمة؛ وذلك يجعل الأولين سادةً والأخيرين عبيدًا.

    وأمَّا في أوروبا فالأمر يختلف عن ذلك اختلافًا كليًّا؛ لأنه يوجد في القارة الأوروبية منطقة معتدلة الحرارة واسعة النطاق، فتكون الحرارة في هذه القارة متدرجةً من الشمال إلى الجنوب، وكذلك قوة الأمم وشجاعتها، فلا تشاهَد فروق عظيمة بين الأمم المتجاورة من حيث الشجاعة؛ فتتعادل القوى، فلا تستطيع الواحدة منها أن تسيطر على جارتها سيطرةً تامة.

    هذا هو السبب الأصلي — في نظر مونتسكيو — في قوة أوروبا وضعف آسيا، وفي حرية أوروبا وعبودية آسيا. إن روح الاستبداد من ناحية، وشيمة العبودية من ناحية أخرى قد تأسَّست ورسخت في آسيا، ولم تفارقها أبدًا في دور من أدوار تاريخها الطويل. والباحث المدقِّق لا يلمح في جميع الأمم الآسيوية «علامةً واحدةً» تدل على روح حرة، و«لا يمكن أن يشاهد في آسيا في المستقبل أيضًا بطولةً غير بطولة العبودية.»

    مونتسكيو يدَّعي ذلك بصيغة الجزم والتأكيد، كما أنه يجيب بذلك على سؤال يحوم حول تاريخ فتوحات الرومان؛ لماذا لم يتوسَّع الرومان في أوروبا إلا بمشقات عظيمة، في حين أنهم استطاعوا أن يفتحوا آسيا بسهولة خارقة؟

    وفضلًا عن ذلك يحاول مونتسكيو أن يقرر ويعلِّل خصائص الشرق والغرب أيضًا على هذا الأساس.

    بما أن الشمال يتفوَّق على الجنوب، وأوروبا تتفوَّق على آسيا، فإن سكان شمال أوروبا — الذين يجمعون في أنفسهم مزايا الشمال مع مزايا أوروبا — يتفوَّقون على جميع أُمم الأرض تفوُّقًا عظيمًا.

    إن المنطقة الشمالية من القارة الأوروبية هي مصدر الحرية المنتشرة في أوروبا، بل مصدر الحرية الموجودة في العالم. كان «جورناندس» القوطي قال عن شمال أوروبا إنه «معمل الجنس البشري»، ولكن مونتسكيو يفضِّل تسمية تلك المنطقة ﺑ «مصنع الآلات التي تكسر الأغلال المصنوعة في الجنوب»؛ لأنه يعتقد بأن «هناك تتكوَّن الأمم الباسلة التي تخرج من بلادها لسحق الظالمين والعبيد.»

    وأمَّا الشرق فهو عكس ذلك تمامًا؛ لأنه يجمع خصائص الجنوب مع خصائص آسيا، وقد سبق أن قال مونتسكيو إن الخصال التي يختص بها سكان الجنوب وسكان آسيا هي من أردأ الخصال.

  • (٣)

    إن تأثير الطبيعة والإقليم يظهر في أمور الأديان أيضًا على رأي مونتسكيو؛ ذلك لأن بعض الأوامر والنواهي الدينية تتبع أحوال الإقليم مباشرة؛ مثلًا قانون «تحريم الخمور» في الدين المحمدي، هو من القوانين الإقليمية التي تلائم طبيعة البلاد الحارة، وكذلك أمر تحريم لحم الخنزير؛ لأن هذا اللحم مضر في البلاد الحارة، حيث تكثر الأمراض الجلدية، غير أنه غير ضار في البلاد الباردة، بل ربما كان من الأغذية الضرورية — نوعًا ما — في تلك البلاد.

    ويقول مونتسكيو — بناءً على كل ما سبق: «إن الأوامر الإسلامية في هذا الصدد توافق حاجات الأقاليم الحارة، وتنافي حاجات الأقاليم الباردة؛ ولهذا السبب انتشر الدين الإسلامي في آسيا — وفي أفريقيا التي هي في حكم آسيا — ولكنه لم يستطع أن ينتشر ويستقر في أوروبا.»

    «وأمَّا الديانة المسيحية فبعكس ذلك، قد انتشرت بسهولة في أوروبا، ولكنها لم تستطع أن تنتشر في آسيا وأفريقيا، فمن الجائز أن يقال — والحالة هذه — «إن الإقليم هو الذي عيَّن وقرَّر الحدود الفاصلة بين بلاد الديانة المسيحية، وبين بلاد الديانة الإسلامية».»

    هذا ويزعم مونتسكيو أن تأثير الإقليم قد تجلَّى في تقرير الحدود الفاصلة بين فرعَي المسيحية أيضًا؛ لأن الأمم الشمالية في أوروبا اعتنقت المذهب البروتستانتي، في حين أن الأمم الجنوبية حافظت على المذهب الكاثوليكي؛ والسبب في ذلك هو أن الشماليين أكثر ميلًا إلى الحرية والاستقلال، بحكم بيئتهم الطبيعية، فكان من الطبيعي أن يصيروا أكثر ترجيحًا للمذهب البروتستانتي الذي لا يعترف برئيس ديني مطلق، وأشد تباعدًا عن المذهب الكاثوليكي الذي يعترف بسلطة مطلقة لرئيس ديني.

    وفي الأخير يجب أن يلاحَظَ أن تأثير الإقليم يشمل أمور الدروشة والرهبنة أيضًا؛ فإن عدد التكايا والأديرة، مثل عدد الدراويش والرهبان، يزداد بازدياد حرارة الأقاليم.

  • (٤)

    يتكلَّم مونتسكيو عن تأثير «طبيعة الأرض» أيضًا في طبائع الأمم وأنظمتها، إنه يهتم بوجه خاص في شرح تأثير خصوبة الأراضي في هذا المضمار.

    إن خصوبة الأرض تؤدي إلى تأسُّس روح العبودية؛ لأن الزُّرَّاع الذين يؤلِّفون أكثرية السكان في مثل تلك البلاد لا يهتمون كثيرًا بالحرية، ولا يطلبون شيئًا من الدولة غير ضمان الأمن والسكون؛ ولهذا السبب تكون الحكومات هناك فرديةً ومطلقة، في حين أن الأمر يكون عكس ذلك تمامًا في الحكومات التي تنشأ على أراضٍ قليلة الخصب وجدباء.

    إن تاريخ اليونان — على زعم مونتسكيو — أبلغ شاهد على ذلك؛ إن أراضي آتيكا كانت جدباء؛ وذلك أدَّى إلى تأسُّس دولة ديمقراطية في أثينا، إلا أن أراضي لاسه ده مونيا كانت خصبة بوجه عام؛ وذلك أدَّى إلى تأسس دولة أرستقراطية في إسبارطة.

    ويذكر مونتسكيو بهذه الوسيلة ما قاله بلوتارخوس في ما كتبه عن حياة صولون: انقسم الأهالي إلى أحزاب حسب طبيعة الأراضي التي يقطنونها، كان أهل الجبال يطلبون حكومةً يديرها الشعب، في حين أن أهل السهول كانوا يرغبون في حكومة يديرها الرؤساء، وأمَّا أهل السواحل فكانوا يطالبون بحكومة يشترك فيها القسمان — الشعب والرؤساء — على حد سواء.

    هذا ويعزو مونتسكيو إلى خصوبة الأرض تأثيرًا في الطبائع، من جهة أخرى أيضًا: إن قلة خصوبة الأرض تضطر الناس إلى الجد والكد، وتعوِّدهم الحياة الخشنة؛ وذلك يجعلهم شجعان ومحاربين، ولكن خصوبة الأرض تحمل سكانها على التراخي، وتزيد في نفوسهم حب الحياة.

    وفي الأخير يلاحظ مونتسكيو أن أهل الجبال يكونون أكثر تمسُّكًا بالحرية من أهل السهول، ويعلِّل ذلك بقوله: السبب الأصلي في ذلك هو أن الجبال تكون أقل خصوبةً من السهول بوجه عام، كما أن الدفاع عنها يكون أسهل بكثير من الدفاع عن السهول.

    •••

    هذه هي الخطوط الأساسية للآراء والنظريات التي سردها مونتسكيو في «روح القوانين» حول مسألة «تأثير الإقليم والأرض في طبائع الأمم، ونُظُم السياسة ووقائع التاريخ».

    يلاحَظ أنه يغالي في تقدير هذا التأثير مغالاةً شديدة، ويُبْدِي كثيرًا من الآراء والنظريات التي لا تستند إلى أُسس علمية صحيحة، وإن ظهرت في الوهلة الأولى لامعةً وأخَّاذة، تنمُّ عن طرافة في التفكير وبراعة في التعليل.

    لقد بذل مؤلف روح القوانين جهودًا فكريةً بارعة؛ لأجل تعليل الكثير من طبائع الأمم ووقائع التاريخ بتأثير «درجة الحرارة والعرض الجغرافي» بوجه خاص، ولكنه خالف كثيرًا من الحقائق الثابتة خلال هذه التعليلات.

    إن مخالفة هذه النظريات للحقائق الثابتة كانت لفتت أنظار البعض من معاصريه، وحملتهم على انتقاده من هذه الوجهة انتقادًا عنيفًا، وكان «فولتير» الشهير من جملة هؤلاء المنتقدين.

    وقد ردَّ المشار إليه على ما ذهب إليه مونتسكيو من «أن الأمم الشمالية تكون شجاعةً ومحاربة؛ ولذلك تتغلَّب على الأمم الجنوبية التي تكون جبانةً ومسالمة»، بذكر بعض الوقائع التاريخية التي تشهد على عكس ذلك، فقال: «إن العرب فتحوا خلال ثمانين عامًا بلادًا أوسع بكثير من التي دخلت تحت حكم الإمبراطورية الرومانية في أوج عظمتها، كما أن الرومان أنفسهم تغلَّبوا على عدة أقوام من سكنة البلاد الشمالية، وفي التاريخ القريب تغلَّب جيش صغير من الإسبان الجنوبيين على جيش كبير من الألمان الشماليين.»

    كما أنه ردَّ على نظرية «تأثير خصوبة الأرض في تقرير نظام الحكم» قائلًا: «إن تاريخ اليونان يشهد — في حقيقة الحال — على عكس ما ذهب إليه مونتسكيو تمامًا؛ لأن أثينا تنتج الآن القطن والحرير والزيت والجلود، مع أنها تئن تحت نير الاستعباد، في حين أن إسبارطة لا تنتج شيئًا. فلا مجال للشك في أن أثينا كانت أغنى من إسبارطة بكثير في قديم الزمان أيضًا. إن تعليل نظام الحكم بكون الأرض خصبةً أو قاحلة، لا يقوم على أي أساس واقعي؛ فإن السويد — مثلًا — ظلت مدةً طويلةً تحت نير الحكومة الاستبدادية، في حين أن بولندا أرستقراطية على الرغم من خصوبة أراضيها.»

    أنا لا أرى لزومًا لاستعراض جميع الانتقادات المحقة التي كانت وُجِّهَت إلى آراء مونتسكيو هذه في زمانه، غير أني أرى من الضروري أن أشير إلى حكم العلم الحاضر على هذه الآراء.

    لقد حدَّد مونتكسيو مفهوم «الإقليم» بحدود ضيقة؛ لأنه حصره في شدة الحرارة والبرودة تقريبًا، كما أنه بالغ مبالغةً كبيرةً جدًّا في تأثير ذلك في أحوال الأمم، وقد فاته أن الإنسان يقاوم تأثير الحرارة والبرودة ﺑ «تكيُّف فسلجي طبيعي» من جهة، و«تكيُّف اجتماعي اصطناعي» من جهة أخرى. فإن النوع الأول من التكيُّف يتم بردود الأفعال الحياتية — بتقلص أو انبساط الأوعية الدموية المحيطة، وبتزايد أو تناقص الإفرازات العرقية — تبعًا لحالة الحرارة الخارجية، وأمَّا النوع الثاني من التكيُّف فيحدث بتنويع وتنظيم الأغذية والملابس والمساكن، حسب مقتضيات الحرارة.

    فقد أخطأ مونتسكيو خطأً عظيمًا عندما سهى عن ملاحظة الحقائق الراهنة، وتوسَّع كل هذا التوسُّع في تقدير مبلغ تأثير الحرارة في طبائع الأفراد والجماعات، وأوصل المغالاة في هذا المضمار إلى حدِّ الادعاء بأن «النظم الاجتماعية والسياسية، والنزعات الدينية والمذهبية، وكثيرًا من الأمور الأخلاقية» أيضًا تتبع الإقليم بوجه عام، ودرجة الحرارة والبرودة بوجه خاص.

    إن جميع الأبحاث التي قام بها علماء التاريخ والاجتماع منذ عهد مونتسكيو إلى الآن، اتجهت اتجاهًا يخالف المزاعم المذكورة بوجه عام؛ لأنها دلَّت دلالةً قطعيةً على أن تفشي الجرائم، وإدمان المسكرات، وطغيان الشهوات، من الأحوال الاجتماعية المعضلة التي تتبع عوامل كثيرة، فتختلف لذلك اختلافًا كبيرًا في الإقليم الواحد بين سكان المدن والأرياف، وفي المدينة الواحدة بين الطبقات الغنية والفقيرة، وفي الطبقة الواحدة بين معتنقي مختلِف المذاهب والديانات، كما أنها تختلف في كل ذلك بين عهد وعهد، وبين قرن وقرن، فتعليل مثل هذه الأمور الاجتماعية المعضلة بتأثير الإقليم والحرارة مما لا يدل على فهم صحيح للحقائق الاجتماعية.

    وأمَّا تأسُّس نظم الاجتماع والحكم، وانتشار الديانات والمذاهب، ونشوء نزعات السلم والحرب؛ فهي من الحادثات التي تتبع سلسلةً طويلةً ومتشابكةً من الوقائع التاريخية، والعوامل الاقتصادية، والتطوُّرات الفكرية والاجتماعية.

    إن تعليل وتفسير مثل هذه الحوادث التاريخية والاجتماعية المعضلة، بالعوامل الطبيعية البسيطة — مثل درجة الحرارة، والعرض الجغرافي، وخصوبة الأرض — مما لا يتفق مع حقائق العلم الحديث واتجاهاته أبدًا.

    •••

    إذا رجعنا إلى مقدمة ابن خلدون وأنعمنا النظر فيها على ضوء ما ذكرناه آنفًا؛ وجدنا أنها كانت أكثر فهمًا للحقائق الاجتماعية، وأشد تمشيًا مع مناحي الأبحاث العلمية.

    إن ابن خلدون أيضًا قال بتأثير الإقليم والطبيعة في أخلاق الإنسان وطبائعه، ولكنه لم يغالِ في هذا المضمار كما غالى مونتسكيو، فلم يقع في الأخطاء التي وقع فيها هذا المفكر المشهور.

    بما أننا اتخذنا آراء ابن خلدون في طبائع الأمم وعوامل التاريخ موضوع دراسة خاصة، لا نرى لزومًا لإطالة الكلام في هذا المقام، بل نحيل القارئ إلى تلك الدراسة في القسم الثالث من هذا الكتاب.

    إن مطالعة تلك الدراسة — ومقارنة الآراء المذكورة فيها بالنظريات المسرودة آنفًا — يُظْهِر بوضوح أعظم أن ابن خلدون كان أقرب إلى فهم «طبيعة الحياة الاجتماعية»، وإلى إدراك «روح التاريخ وفلسفته» من مونتسكيو بدرجات، على الرغم من أنه كان قد عاش وفكَّر وكتب قبله بمدة طويلة تقرُب من أربعة قرون.

١  إن رئاسة المحاكم كانت تنتقل في ذلك العهد من شخص إلى شخص، عن طريق البيع والشعراء، كما كانت تنتقل عن طريق الإرث.
٢  في تاريخ نشر روح القوانين كان الباحث الاقتصادي المشهور «كنه Quesnay» في العقد السادس من عمره، و«آدم سميث» A. Smith في العقد الثالث.
٣  يبحث مونتسكيو في الفصل العاشر من الكتاب الثامن عشر في «عدد النفوس بالنسبة إلى نحلتهم المعاشية»، كما يبحث في الفصل الرابع عشر من الكتاب الثالث والعشرين في عدد النفوس بالنسبة إلى أنواع المزروعات. بما أن ذلك لا يدخل في نطاق علاقة النفوس بأحوال الدول، لقد تركت الآراء التي أبداها مونتسكيو في هذا الصدد خارجًا عن البحث والمقارنة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤