القسر الاجتماعي والتقليد

١

إن أواخر القرن الماضي وأوائل القرن الحاضر كانت عهد توسُّع كبير، وتطوُّر وثَّاب في تاريخ علم الاجتماع.

وقد لعب علماء فرنسا آنئذ دورًا هامًّا في هذا التوسُّع والتطوُّر؛ لأنهم أكبُّوا على دراسة الأحوال والحوادث الاجتماعية من وجوه عديدة ومناح متنوعة، وأسَّسوا نظريات عامةً مختلفة، والمناقشات التي جرت بين أصحاب هذه النظريات حملتهم على التعمُّق في أبحاثهم؛ فأدَّت بهم إلى اكتشاف قوانين هامة.

لعل أهم المناقشات التي جرت عندئذٍ في هذا المضمار كانت تلك التي احتدمت بين جبرائيل تارد Gábriel Tarde، وبين إميل دوركهايم Emile Durckheim.

لقد زعم الأول — تارد — أن أهم الأفاعيل في الحياة الاجتماعية هي أفعولة التقليد والمحاكاة؛ لأن الابتكار والاختراع — في مختلِف ميادين التفكير والعمل والحياة — يتم على يد بعض الأفراد، غير أن ما يبتكره هؤلاء الأفراد المعدودون لا ينتشر بين سائر الأفراد، ولا يعم المجتمع إلا عن طريق التقليد. وقال تارد لذلك: «إن المجتمع إنما هو نسيج، لُحْمَتُه الابتكار وسُدَاه التقليد.»

وهذا الاعتقاد حمل تارد على التعمُّق والتوسُّع في درس «قوانين التقليد»؛ لتأسيس نظريته الاجتماعية على هذا الأساس.

ولكن «دوركهايم» زعم أن الأوصاف التي تميِّز الواقعات الاجتماعية من الأمور الفردية، هي «القسر على الأفراد»، وأن الحادث الاجتماعي هو «ما يجري ويحدث تحت ضغط المجتمع وقسره»؛ ذلك لأن العوائد والمؤسسات تحيط بالأفراد «إحاطة الأشياء الخارجية»، وتضغط عليهم «ضغط الأشياء الخارجية»؛ فتقسرهم على «الحس والتفكير والعمل» في اتجاهات خاصة، وفق أساليب معينة.

فالتشابه الذي يلاحَظ بين أفراد المجتمع لا يتأتَّى — على رأي دوركهايم — من «تقليد بعضهم لبعضهم الآخر»، كما زعم تارد، بل إنما يتأتَّى من «ضغط المجتمع على جميع الأفراد» على وتيرة واحدة وحد سواء.

إن هذا الضغط الاجتماعي — أو القسر الاجتماعي — يعمل عمله علانية، وفي عنف في بعض الأحوال، وفي الخفاء وبلطف في بعض الأحوال الأخرى، فهو يصد الأفراد عن الأعمال المختلفة، وإذا لم يستطِع صد بعضهم عن مباشرة العمل فيعاقبهم على مخالفتهم بصور شتى؛ مثلًا إذا خالف الفرد في ملبسه العادات المتبعة في بلاده وبين أفراد صنفه وطبقته؛ ضحك الناس منه، وهزئوا به، وتباعدوا عنه، ولا حاجة للبيان أن ذلك يقوم مقام عقوبة «من المجتمع» على تلك المخالفة. ومن المعلوم أن الأفراد يخضعون عادةً للعرف والتقاليد؛ خشية مثل هذه النتائج المؤلمة، بقطع النظر عمَّا قد يصيبهم من العقوبات الزاجرة مباشرة.

ولهذه الملاحظات الجوهرية اهتم إميل دوركهايم بأفعولة «القسر الاجتماعي» اهتمامًا كبيرًا، وبذل جهودًا فكريةً جبارةً لإظهار آثار هذه الأفعولة في مختلِف ميادين الحياة الاجتماعية.

إن الاختلاف بين هذين الرأيين يدل — في حقيقة الأمر — على اختلاف جوهري في تقدير «كنه الحادثات الاجتماعية وطبيعتها»؛ لأن نظرية «تارد» تعزو دورًا هامًّا إلى «الفرد» في تسيير أمور المجتمع؛ لأنها تعتبر أعمال الأفراد — من ابتكار عند بعضهم وتقليد عند الآخرين — مصدرًا للحوادث الاجتماعية، في حين أن نظرية دوركهايم — بعكس ذلك — تعتبر «المجتمع» حاكمًا على «الفرد»، ومسيطرًا على أعمال الأفراد وأفكارهم وعواطفهم.

ولهذا السبب احتدم النقاش بين الرأيين بشدة وعنف، والتزم بعض المفكرين جانب تارد، وتشيَّع بعض العلماء لنظرية دوركهايم، واستمر النقاش مدةً طويلة.

وقام خلال هذه المناقشات جماعة ثالثة قالوا: «إن كلتا النظريتين مشوبتان بالنقص والتطرُّف؛ لأن كل واحدة منهما لا ترى إلا وجهًا واحدًا من وجوه الحقيقة، وتهمل وجوهها الأخرى.»

ولذلك اعتقد هؤلاء أن النظرية الأولى لا تتنافى مع النظرية الثانية، وأنه من السهل التأليف بينهما.

وقد أبدى العالم الاجتماعي «رنه فورمس» René Wormes — مثلًا — الرأي التالي في هذا الصدد؛ إن المشابهة والمماثلة التي تشاهَد بين جميع أفراد المجتمع الواحد — من حيث السلوك — تتأتَّى في بعض الأحوال من «أن الأفراد يقلِّد بعضهم بعضًا تقليدًا تلقائيًّا»، كما تتأتَّى في أحوال أخرى من «أن المجتمع يضغط على جميع الأفراد في وقت واحد وعلى نمط واحد، فيقسرهم على سلوك مسلك واحد». ومن الطبيعي أن الحالة الأولى تنطبق على نظرية تارد، في حين أن الحالة الثانية تنطبق على نظرية دوركهايم.
وكذلك كان قد قال المؤرخ المفكر «بول لاكومب»  P. Lacombe: «إن المجتمع إنما هو جماعة من الأفراد، يقلِّد بعضهم بعضًا، ويضغط بعضهم على بعض بصورة متقابلة.»

نحن لا نرى لزومًا لتفصيل هذه الآراء والنظريات والمناقشات في هذا المقام، ولكننا إذا لاحظنا التطوُّرات التي حدثت في الأبحاث الاجتماعية منذ بداية هذا القرن، نستطيع أن نقول إن نظرية دوركهايم كانت أكثر إنتاجًا من نظرية تارد، كما أنها ظهرت أكثر نفوذًا إلى حقيقة الحياة الاجتماعية. ومع هذا فإن آراء تارد أيضًا أتت ببعض الحقائق الهامة؛ فما من عالم اجتماعي — في الحالة الحاضرة — يستطيع أن يهمل «أفعولة التقليد»، أو يغض النظر عن عمل «الضغط الاجتماعي» في الحياة الاجتماعية.

٢

ومن الغريب أن ابن خلدون كان قد انتبه إلى هاتين الأفعولتين الهامتين، وذكرهما في مقدمته بصراحة، قبل المناقشات التي أشرنا إليها آنفًا، بمدة تزيد على خمسة قرون.

إن آراء ابن خلدون في «التقليد» صارت موضوع أبحاث عديدة؛ لأنها مذكورة في بعض الفصول بصورة مباشرة، غير أن آراءه في الضغط الاجتماعي لم تستلفت أنظار الباحثين؛ لأنها لم تكن معروضةً في المقدمة إلا بصورة عرضية، وفيما يلي بعض الأمثلة على ذلك:
  • (أ)

    لقد كتب ابن خلدون العبارات التالية في الفصل الذي يقرر: «إن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع»:

    «فإن من أدرك مثلًا أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والديباج، ويتحلون بالذهب في السلاح والمراكب، ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات، فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزي، والاختلاط بالناس؛ إذ العوائد حينئذ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه، ولو فعله لرُمِي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة، وخُشِي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه» (ص٢٩٤).

    نحن نرى في هذه الفقرات مثالًا بارزًا لفكرة الضغط والقسر الاجتماعي، ونقول لذلك بلا تردُّد إن ابن خلدون قد لاحظ آثار هذا «الضغط الاجتماعي» بصراحة، وإن لم يسمه باسم خاص، ولزيادة التأكيد ندرج فيما يلي فقرةً مقتبسةً مما كتبه إميل دوركهايم نفسه، في صدد شرح القسر الاجتماعي بأمثلة وشواهد حية:

    «إذا لم آخذ بنظر الاعتبار في ملبسي — مثلًا — العادات المتبعة في بلادي وبين أبناء صنفي؛ ضحك الناس مني، وأعرضوا عني.»

    ومن غرائب الصدف أن هذا المثال الذي ذكره دوركهايم في أواخر القرن التاسع عشر، لا يختلف اختلافًا يُذْكَر عما كان لاحظه وكتبه ابن خلدون في القرن الرابع عشر.

  • (ب)

    وفي الفصل الذي يلي الفصل المذكور، عندما يشرح ابن خلدون «كيفية طروق الخلل للدولة» يقول:

    «تستغني الدولة عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل أيالتها، وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة، التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها، فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة، فلا يكاد أحد يتصور عصيانًا أو خروجًا إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له، فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده، فلا تكاد النفوس تحدِّث سرها بمخالفة، ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة» (ص٢٩٦).

    ومن الواضح أن ابن خلدون يلاحظ هنا أيضًا عمل الضغط الاجتماعي ملاحظةً دقيقة، ويعبِّر عن آثار هذا الضغط والقسر تعبيرًا صحيحًا.

  • (جـ)

    يكتب ابن خلدون الفقرات التالية في الفصل الذي يبرهن فيه على أنه «قد يحدث لبعض أهل النصاب الملكي دولة تستغني عن العصبية»:

    «لا يطمعون في مشاركته في شيء من سلطانه، تسليمًا لعصبيته، وانقيادًا لما استحكم له ولقومه من صبغة الغلب في العالم، وعقيدة إيمانية استقرَّت في الإذعان لهم، فلو راموها معه، أو دونه؛ لزُلزلت الأرض زلزالها» (ص١٥٦، ١٥٧).

  • (د)

    وفي الفصل الذي يقرِّر «أن الأمصار التي تكون كراسي للملك تخرب بخراب الدولة وانقراضها»، يكتب ابن خلدون الفقرات التالية:

    «إذا صار المصر الذي كان كرسيًّا للملك في ملكة هذه الدولة المتجددة، ونقصت أحوال الترف فيها؛ نقص الترف فيمن تحت أيديها من أهل المصر؛ لأن الرعايا تبع للدولة، فيرجعون إلى خُلق الدولة، إما طوعًا؛ لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم، أو كرهًا؛ لما يدعو إليه خُلق الدولة من الانقباض عن الترف في جميع الأحوال» (٣٧٤).

    ولا حاجة للبيان أن العبارة الأخيرة تشير بصراحة إلى «الإكراه الذي يتأتَّى من خُلق الدولة وطبيعتها»، كما أن مجموع الفقرة تدل دلالةً قاطعةً على أن ابن خلدون قد لاحظ في هذه الحوادث الاجتماعية عمل «التقليد الطوعي» من جهة، وأثر «التكيُّف القسري» من جهة أخرى.

٣

يتكلَّم ابن خلدون عن التقليد في عدة فصول من المقدمة، ويسميه أحيانًا بأسماء أخرى، مثل؛ المحاكاة، والتشبه، والاقتداء، والتلقن، ويوضح تأثير ذلك في الحياة الاجتماعية بوجه عام، وفي انتشار الحضارة وفي التربية والتعليم بوجه خاص.

إنه يقول: «إن الالتباس والمحاكاة للإنسان طبيعة معروفة.» (ص٢٩) ويذكر أنواعًا كثيرةً للتقليد والمحاكاة؛ من تقليد الأفراد للأفراد، إلى تقليد الجماعات للجماعات، تقليد الأبناء للآباء، تقليد المتعلمين للمعلمين، تقليد الرعية للحكام، تقليد الأخلاف للأسلاف، تقليد المغلوب للغالب، تقليد الغالب للمغلوب، تقليد الأفراد والأمم لمن يخالطونهم من الأفراد والأجيال.

  • (١)

    يُفْرِد ابن خلدون فصلًا خاصًّا لشرح تقليد المغلوب للغالب، فيقول في عنوان الفصل:

    «إن المغلوب مولَع أبدًا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده» (ص١٤٧).

    كما يقول في متن الفصل:

    «ترى المغلوب أبدًا يتشبَّه بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه — في اتخاذها وأشكالها — بل وفي سائر أحواله.»

    ويصرِّح بأن «النفس تنتحل جميع مذاهب الغالب وتتشبه به، وذلك هو الاقتداء.»

    وأمَّا أسباب هذا التقليد فيردها ابن خلدون إلى تأثير «نزعة نفسية» يعبِّر عنها بقوله: «إن النفس أبدًا تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه.»

    وهذا الاعتقاد النفسي يتولَّد — على رأي ابن خلدون — من ثلاثة أسباب:
    • (أ)

      «إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه.»

    • (ب)

      «أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي، إنما هو لكمال الغالب.»

    • (جـ)

      «أو لما تراه من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، إنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب.»

    هذه الأسباب النفسية هي التي تحمل المغلوب على الاقتداء بالغالب، وعلى انتحال كل ما يراه فيه من العوائد والمذاهب.

    ولتأييد هذا التعليل يذكر ابن خلدون تقليد الأبناء للآباء:

    «انظر ذلك في الأبناء مع آبائهم، كيف تجدهم متشبهين بهم دائمًا، وما ذلك إلا لاعتقادهم الكمال فيهم» (ص١٤٧).

    كما يذكر تقليد الناس للحامية: «وانظر إلى كل قطر من الأقطار كيف يغلب على أهله زي الحامية وجند السلطان في الأكثر؛ لأنهم الغالبون لهم.»

    ويذكر كذلك سراية بعض العادات والأحوال من أمة إلى من يجاورها ويخالطها:

    «حتى إنه إذا كانت أمة تجاور أخرى ولها الغلب عليها، فيسري فيهم من هذا التشبُّه والاقتداء حظ كبير.»

    ويستشهد على ذلك بما لاحظه في الأندلس:

    «كما هو في الأندلس لهذا العهد مع أمم الجلالقة؛ فإنك تجدهم يتشبَّهون بهم في ملابسهم وشاراتهم، والكثير من عوائدهم وأحوالهم، حتى في رسم التماثيل في الجدران والمصانع والبيوت.»

    ويستنتج من هذه الملاحظة العاقبة المؤلمة التي تنتظر أهل الأندلس:

    «حتى لقد يستشعر من ذلك الناظر بعين الحكمة أنه من علامات الاستيلاء، والأمر لله.»

    ثم يقرن بكل ذلك كلمةً من الكلمات الحكمية، ويختم الفصل بقوله:

    «وتأمَّل في هذا سر قولهم: العامة على دين الملك، فإنه من بابه؛ إذ الملك غالب لمن تحت يده، والرعية مقتدون به؛ لاعتقادهم الكمال فيه اعتقاد الأبناء بآبائهم، والمتعلمين بمعلميهم» (١٤٧).

  • (٢)

    يقول ابن خلدون في فصل انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة:

    «أهل الدول أبدًا يقلِّدون في طور الحضارة وأحوالها للدولة السابقة قبلهم، فأحوالهم يشاهدون، ومنهم في الغالب يأخذون» (ص١٧٢).

    ويستشهد على ذلك بما «وقع للعرب لمَّا كان الفتح، وملكوا فارس والروم، ويستعرض ما حدث في المشرق والمغرب، ثم يقول:

    «تنتقل الحضارة من الدول السابقة إلى الدول الخالفة» (ص١٧٤).

    ويذكر كيف انتقلت حضارة الفُرْس للعرب بني أمية وبني العباس، وانتقلت حضارة بني أمية بالأندلس إلى «ملوك المغرب من الموحدين وزنانة لهذا العهد»، وانتقلت حضارة بني العباس إلى الديلم، ثم إلى الترك، ثم إلى السلجوقية، ثم إلى الترك المماليك بمصر والتتر بالعراقين» (ص١٧٤).

  • (٣)

    يكرِّر ابن خلدون في عدة مواضيع تقليد الرعية للسلطان من جهة، وتقليد الدولة الجديدة للدولة السابقة من جهة أخرى.

    فنراه يقول في مقدمة الكتاب: «إن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه، كما يقال في الأمثال الحكمية: الناس على دين الملك، وأهل المُلك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر، فلا بد أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم، ويأخذون الكثير منها» (ص٣٩).

    ويقول كذلك في الفصل الذي يقرر «أن من طبيعة الملك الترف»:

    «إن الأمة إذا تغلَّبت وملكت ما بأيدي أهل الملك قبلها؛ يذهبون إلى اتباع من قبلهم في عوائدهم وأحوالهم، ويناغي خلفهم في ذلك سلفهم»، إلى أن تبلغ الدولة غايتها «بحسب قوتها وعوائد من قبلها» (ص١٦٧).

    ويقول ابن خلدون في فصل «خراب الأمصار بخراب الدولة» ما يأتي:

    «الرعايا تبع للدولة؛ فيرجعون إلى خُلق الدولة، إما طوعًا لما في طباع البشر من تقليد متبوعهم» (ص٣٧٤).

    كما يقول في فصل طروق الخلل للدولة: «يقلد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول، مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدَّمناه» (ص٢٩٥).

    ويقول عند شرح زيادة النفقات وتعمُّم الإسراف: «يستفحل الملك، فيدعو إلى الترف، فيكثر الإنفاق بسببه، فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم، بل يتعدَّى ذلك إلى أهل المصر، ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات، وينتشر ذلك في الرعية؛ لأن الناس على دين ملوكها وعوائدها» (ص٣٩٧).

    ويشير ابن خلدون — في فصل أطوار الدولة — إلى تقليد الخلف للسلف إشارةً صريحة؛ لأنه — عندما يشرح الطور السابع الذي يسميه باسم طور القنوع والمسالمة — يقول ما يلي:

    «يكون صاحب الدولة في هذا الطور قانعًا بما بنى أولوه سلمًا لأنظاره من الملوك وأقتاله، مقلِّدًا للماضين من سلفه، فيتبع آثارهم حذو النعل بالنعل، ويقتفي طرقهم بأحسن مناهج الاقتداء، ويرى أن الخروج عن تقليدهم فساد أمره، وأنهم أبصر بما بنوا من مجده» (ص١٧٤).

  • (٤)

    يلاحظ ابن خلدون عمل التقليد والمحاكاة في التربية والتعليم أيضًا، فإنه يعبِّر عن رأيه في هذا الصدد بصراحة تامة في الفصل الذي يقرر «أن الرحلة في طلب العلم ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم»:

    «والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلون به من المذاهب والفضائل، تارةً تعليمًا وإلقاءً، وتارةً محاكاةً وتلقينًا بالمباشرة، إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكامًا ورسوخًا» (ص٥٤١).

    يلاحظ بأن هذه الفقرة تشير بوضوح إلى مهمة التقليد والمحاكاة في اكتساب المعارف من جهة، واكتساب الفضائل من جهة أخرى، وبتعبير آخر في التربية الفكرية من جهة، والتربية الأخلاقية من جهة ثانية.

    هذا ويشرح ابن خلدون في فصل «العقل التجربي» عمل الزمان والتجربة في تعليم ما ينبغي للإنسان في معاملة أبناء جنسه — فلًّا وتركًا — ثم يقول:

    «وقد يُسهِّل الله على كثير من البشر تحصيل ذلك في أقرب من زمن التجربة، إذا قلَّد فيها الآباء والمشيخة والأكابر، ولُقِّن عنهم، ووعى تعليمهم؛ فيستغني عن طول المعاناة في تتبُّع الوقائع واقتناص هذا المعنى من بينها. ومن فقد العلم في ذلك والتقليد فيه، وأعرض عن حسن استماعه واتباعه؛ طال عناؤه في التأديب بذلك» (إن هذا الفصل غير موجود في الطبعات الشرقية، فيجب مراجعة الطبعة الباريسية، ج٢، ص٣٧٠).

    ومن الواضح الجلي أن هذه الفقرة أيضًا تشير بصراحة إلى أهمية التقليد في التربية وفي الحياة الاجتماعية.

  • (٥)

    ابن خلدون يذكر عمل التقليد والمحاكاة في تعلُّم اللغة واكتسابها أيضًا.

    إنه يقول في صدد الكلام عن علم النحو والبحث في كلام العرب: «إن اللغة مَلَكة في ألسنتهم، يأخذها الآخر عن الأول، كما تأخذ صبياننا لغاتنا لهذا العهد» (ص٥٤٦).

    ويقول كذلك — في الفصل الذي يقرِّر «أن اللغة مَلَكة صناعية» — ما يلي:

    «فالمتكلم من العرب حين كانت مَلَكة اللغة العربية موجودةً فيهم، يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم، كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيُلَقَّنها أولًا، ثم يسمع التراكيب بعدها فيُلَقَّنها كذلك، ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدَّد في كل لحظة ومن كل متكلم، واستعماله يتكرَّر إلى أن يصير ذلك مَلَكةً وصفةً راسخة، ويكون كأحدهم؛ هكذا تصيَّرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل، وتعلَّمها العجم والأطفال» (ص٥٥٤-٥٥٥).

    ويقول ابن خلدون في الفصل الذي يقرر فيه «أن لغة العرب لهذا العهد مستقلة مغايِرَة للغة مُضَر وحِمْيَر»:

    «إن هذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل، بل هي متوارثة فيهم متعاقبة» (ص٥٥٨).

    كما يقول — بعد أن يشرح كيفية النطق بالقاف عند القبائل البدوية:

    «إن من يريد التقرُّب والانتساب إلى الجيل، والدخول فيه، يحاكيهم بالنطق بها» (ص٥٥٧).

    إن رأي ابن خلدون في هذا الصدد يتكرَّر في جميع الفصول المتعلقة باللغة وبتعلُّم اللغة.

  • (٦)

    يشرح ابن خلدون — في فصل علم الكلام — كيفية تكوُّن المعلومات عند البشر، ويتطرَّق خلال هذا الشرح إلى معلومات العميان وتصوُّراتهم، ويشير إلى عمل التقليد في هذا الصدد أيضًا، حيث يقول:

    «الأعمى يسقط عنده صنف المرئيات، ولولا ما يردُّهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة، لَمَا أقروا به، ولكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم» (ص٤٥٩).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤