التطوُّر التدريجي في الطبيعة والمجتمعات

١

إن مسألة «أصل الأنواع» النباتية والحيوانية من المسائل التي استرعت أنظار العلماء والمفكرين، وأثارت اهتمامهم منذ عصور طويلة.

وقد ظنوا في بادئ الأمر أن كل نوع من الأنواع يُخْلَق مستقلًّا عن غيره، وأن الأوصاف التي تميز هذه الأنواع بعضها من بعض تبقى ثابتةً فلا تتغيَّر أبدًا، فكل نوع من الأنواع النباتية والحيوانية ينشأ على حِدَة، ويبقى على حاله من تاريخ نشأته إلى حين انقراضه.

غير أن بعض العلماء والمفكرين ذهبوا إلى عكس ذلك تمامًا، قالوا إن الأوصاف التي تميِّز الأنواع بعضها من بعض لا تدوم على وتيرة واحدة، بل تتطوَّر تطوُّرًا تدريجيًّا؛ يؤدي إلى تكوين أنواع جديدة؛ فإن الأنواع التي تراها الآن متخالفة، تنحدر في حقيقة الأمر من أصل واحد، إنها لم تصل إلى أشكالها الحالية إلا بعد سلسلة طويلة من التطوُّرات.

إن ذلك لا ينحصر بالأنواع النباتية والحيوانية وحدها، بل يشمل النوع البشري أيضًا، فإن الإنسان نشأ من تطوُّر بعض الأنواع الحيوانية، وهو ينحدر من أصل حيواني مع أنواع القردة.

إن هذا الرأي نشأ تدريجيًّا، ثم كوَّن «نظريةً علميةً» مستندةً إلى مشاهدات وملاحظات كثيرة في أواسط القرن التاسع عشر، عندما نشر «داروين» Darwin كتابه المشهور عن «أصل الأنواع».
ولذلك عُرِفت هذه النظرية باسم «الداروينية» Darwinisme بالنسبة إلى اسم مؤسسها، كما عُرِفت باسم «نظرية التطوُّر»، Transformisme أو Evolutionnisme بالنسبة إلى موضوعها، وقد سماها بعض المترجمين باسم نظرية «النشوء والارتقاء»، مع أن فكرة التطوُّر تختلف في حد ذاتها عن فكرة الارتقاء؛ لأن التطوُّر قد يكون ارتقائيًّا، وقد يكون انحطاطيًّا.
إن انتشار كتاب داروين وذيوع نظريته أوجد حركةً فكريةً خصبة، لم تلبث أن أثَّرت في آراء علماء الاجتماع، وأدَّت إلى تطبيق نظرية التطوُّر على الحياة الاجتماعية؛ فأوجدت بذلك المذهب الذي عُرِف باسم «مذهب التطور» في علم الاجتماع Transformisme social, Sociologie évolutionniste.
إن مقدمة ابن خلدون تتضمَّن بعض الآراء والملاحظات التي تنطبق على نظرية التطوُّر تمام الانطباق، والباحث المدقق يجد بين تلك الآراء والملاحظات ما يمكن أن يُعْتَبر رشيمًا لهذه النظرية على شكلها الحياتي العام biologique وما يجب أن يُعْتَبَر تعبيرًا صريحًا ومكتملًا لشكلها الاجتماعي الخاص.

٢

لقد كتب ابن خلدون في فصل حقيقة البنوة ما يلي:

«إنا نشاهد هذا العالم بما فيه من المخلوقات كلها على هيئة من الترتيب والإحكام، وربط الأسباب بالمسببات، واتصال الأكوان بالأكوان، واستحالة بعض الموجودات إلى بعض، لا تنقضي عجائبه في ذلك، ولا تنتهي غاياته.»

«وأبدأ من ذلك بالعالم المحسوس الجثماني أولًا، عالم العناصر المشاهدة، كيف يتدرَّج صاعدًا من الأرض إلى الماء، ثم إلى الهواء، ثم إلى النار، متصلًا بعضها ببعض، وكل واحد منها مستعد إلى أن يستحيل إلى ما يليه صاعدًا وهابطًا، ويستحيل بعض الأوقات» (ص٩٥).

«ثم انظر إلى عالم التكوين، كيف ابتدأ من المعادن، ثم النبات، ثم الحيوان، على هيئة بديعة من التدريج؛ آخر أفق المعادن متصل بأول أفق النبات، وآخر أفق النبات متصل بأول أفق الحيوان، ومعنى الاتصال في هذه المكونات أن آخر أفق منها مستعد بالاستعداد القريب لأن يصير أول أفق الذي بعده.»

«واتسع عالم الحيوان، وتعدَّدت أنواعه، وانتهى في تدريج التكوين إلى الإنسان — صاحب الفكر والروية — ترتفع إليه من عالم القردة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم ينته إلى الرويَّة والفكر بالفعل، وكان ذلك أول أفق من الإنسان» (ص٩٦).

يلاحظ أن هذه الفقرات تتضمن فكرة التطوُّر التدريجي بكل صراحة، ولا سيما الفقرة الأخيرة منها؛ فإنها تمتُّ بصلة قوية إلى «النظرية الداروينية» بمعناها الخاص.

من الغريب أن الطبعات الشرقية مسخت تعبير «عالم القردة» إلى شكل «عالم القدرة»، وجرَّدت بهذه الصورة الفقرة الأخيرة المذكورة من معناها الهام، كما حرمتها من كل معنًى معقول، إذ ليس في استطاعة أحد أن يستخرج أي معنى كان من عبارة تنص على «أن أنواع الحيوان ترتفع إلى الإنسان من عالم القدرة الذي اجتمع فيه الحس والإدراك، ولم تنته إلى الروية والفكر بالفعل.»

هذا ومما تجب ملاحظته أن ابن خلدون تطرَّق إلى هذه النظرية في فصل من فصول الباب السادس أيضًا، يكرِّر ابن خلدون هناك رأيه «الدارويني» بصراحة أعظم، قائلًا:

«وقد تقدَّم لنا الكلام في الوحي في أول فصل المدركين للغيب، وبيَّنَّا هنالك أن الوجود كله، في عوالمه البسيطة والمركبة، على ترتيب طبيعي، من أعلاها وأسفلها متصلة كلها اتصالًا لا ينخرم، وأن الذوات التي في آخر كل أفق من العوالم مستعدة لأن تنقلب إلى الذات التي تجاورها، من الأسفل والأعلى، استعدادًا طبيعيًّا، كما في العناصر الجسمانية البسيطة، وكما في النخل والكرم آخر أفق النبات، مع الحلزون والصدف من أفق الحيوان، وكما في القردة التي استجمع فيها الكيس والإدراك، مع الإنسان صاحب الفكر والروية» (طبعة كاترمير، ج٢، ص٣٧٣).

٣

غير أن نظرية التطوُّر تظهر في مقدمة ابن خلدون بوضوح أعظم من ذلك، وبشكل أتم، من خلال المباحث المتعلقة بالحياة الاجتماعية، والوقائع التاريخية:
  • (١)

    أولًا، يقول ابن خلدون في المقدمة الباحثة عن فضل علم التاريخ:

    «ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدُّل الأحوال في الأمم والأجيال، بتبدُّل الأعصار ومرور الأيام، وهو داء دوي شديد الخفاء، إذ لا يقع إلا بعد أحقاب متطاولة، فلا يكاد يتفطَّن له إلا الآحاد من أهل الخليقة.»

    «وذلك أن أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لا تدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر، إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة، وانتقال من حال إلى حال، وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول» (ص٢٨).

    لا يكتفي ابن خلدون بذكر هذا التطوُّر التدريجي، بل يحاول تعليله أيضًا قائلًا:

    «والسبب الشائع في تبدُّل الأحوال والعوائد؛ أن عوائد كل جيل تابعة لعوائد سلطانه، كما يقال في الأمثال الحكمية: الناس على دين الملك. وأهل الملك والسلطان إذا استولوا على الدولة والأمر، فلا بد من أن يفزعوا إلى عوائد من قبلهم، ويأخذوا الكثير منها، ولا يُغْفِلون عوائد جيلهم مع ذلك، فيقع في عوائد الدولة بعض المخالفة لعوائد الجيل الأول. فإذا جاءت دولة أخرى من بعدهم، ومزجت من عوائدهم وعوائدها؛ خالفت أيضًا بعض الشيء، وكانت للأولى أشد مخالفة. ثم لا يزال التدريج في المخالفة حتى ينتهي إلى المباينة بالجملة» (ص٢٩).

    هذه العبارات تدل دلالةً صريحةً على أن ابن خلدون قد فهم التطوُّر التدريجي في الحياة الاجتماعية فهمًا واضحًا.

  • (٢)

    يعود ابن خلدون إلى هذا المبدأ في عدة فصول، ويطبِّقه على عدة أنواع من الحادثات الاجتماعية والتاريخية.

    إنه يخصِّص فصلًا كاملًا لشرح «أطوار الدولة، واختلاف أحوالها، وخُلق أهلها باختلاف الأطوار» (ص١٧٠).

    كما أنه يشرح آثار التطوُّر التدريجي في فصول عديدة؛ منها فصل «انتقال الدولة من البداوة إلى الحضارة» (ص١٧٢)، ومنها «فصل انقلاب الخلافة إلى الملك» (ص٢٠٢)، وفصل طروق الخلل للدولة (ص٢٩٤)، وفصل خراب الأمصار (٣٥٩)، ومنها الفصل القائل: «إن رسوخ الصنائع في الأمصار، إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها» (ص٤٠١).

  • (٣)

    يلاحظ ابن خلدون أن الأمور الناتجة من طور من الأطوار لا تزول تمامًا بمجرد زوال ذلك الطور، بل تترك بعض الآثار بعد ذلك أيضًا:

    «إن رسوخ الصنائع في الأمصار إنما هو برسوخ الحضارة وطول أمدها، والسبب في ذلك ظاهر وهو أن هذه كلها عوائد للعمران وألوان، والعوائد إنما ترسخ بكثرة التكرار وطول الأمد، فتستحكم صبغة ذلك وترسخ في الأجيال، وإذا استحكمت الصبغة عسر نزعها. ولهذا تجد في الأمصار التي كانت استبحرت في الحضارة لمَّا تراجع عمرانها وتناقص؛ بقيت فيها آثار من هذه الصنائع ليست في غيرها من المدن المستحدثة العمران، ولو بلغت مبالغها في الوفور والكثرة.»

    «وما ذاك إلا لأن أحوال تلك القديمة العمران مستحكمة راسخة، بطول الأحقاب وتداول الأحوال وتكرارها، وهذه لم تبلغ الغاية بعد، وهذا كالحال في الأندلس لهذا العهد» (ص٤٠١-٤٠٢).

    وبعد ذلك يشرح ابن خلدون وفرة العمران والصنائع في الأندلس، ثم يقول:

    «ونجد صنائعها مستحكمةً لديهم، فهم على حصة موفورة من ذلك، وحظ متميِّز بين جميع الأمصار، وما ذاك إلا لما قدمناه من رسوخ الحضارة فيهم، فاستحكمت فيها الصنائع وكملت جميع أصنافها على الاستجادة والتنميق، وبقيت صبغتها ثابتةً في ذلك العمران، لا تفارقه إلى أن ينتقص بالكلية، حال الصبغ إذا رسخ في الثوب» (ص٤٠٢).

    يستشهد ابن خلدون على ذلك بأحوال تونس أيضًا، ثم يقول:

    «إلا أن الصبغة إذا استحكمت فقليلًا ما تحول إلا بزوال محلها، وكذا نجد بالقيروان ومراكش وقلعة ابن حماد أثرًا باقيًا من ذلك، وإن كانت هذه كلها اليوم خرابًا أو في حكم الخراب، ولا يتفطَّن لها إلا البصير من الناس، فيجد في هذه الصنائع آثارًا تدل على ما كان بها، كأثر الخط الممحو في الكتاب» (ص٤٠٣).

    وكذلك يقول ابن خلدون في الفصل الذي يشرح «أن الحضارة في الأمصار من قبل الدول، ترسخ باتصال الدولة ورسوخها» — خلال البحث في أحوال إفريقية:

    «تغلَّب بدو العرب الهلاليين عليها، وخربوها، وبقي أثر خفي من حضارة العمران فيها، وإلى هذا العهد يؤنس فيمن سلف له بالقلعة، أو القيروان، أو المهدية سلف، فتجد له من الحضارة في شئون منزله وعوائد أحواله آثارًا ملتبسةً بغيرها، يميزها الحضري البصير بها» (ص٣٧٠).

    إن هذه العبارات تدل دلالةً صريحةً على أن ابن خلدون كان قد أدرك إدراكًا واضحًا ما يسميه «التطوُّريون» évolutionnistes باسم اﻟ «التخلُّف» survivance في الحياة الاجتماعية.
  • (٤)

    يلاحظ ابن خلدون أن أحوال الأمم تتبدَّل أحيانًا تبدُّلًا كليًّا، على الرغم من التدريج الذي ذكرناه آنفًا، ويعبِّر عن هذا التبدُّل الكلي بقوله:

    «إذا تبدَّلت الأحوال جملة، فكأنما تبدَّل الخلق من أصله، وتحوَّل العالم بأسره، كأنه خلق جديد ونشأة مستأنفة، وعالم محدث» (ص٣٣).

    يلاحظ ابن خلدون، أن أحوال الأمم والأجيال لا يقع فيها «كثير انتقال ولا عظيم تغيُّر» في بعض العهود، ولكن تلك الأحوال تنقلب انقلابًا كليًّا في بعض العهود، وتتبدَّل بالجملة.

    إن ما كتبه ابن خلدون في هذا الصدد يذكِّرنا ما قاله سان سيمون Saint Simon في «أدوار الأزمات» في حياة المجتمعات.

ملاحظة

إن فكرة «التطوُّر التدريجي في الطبيعة» لم تكن من ابتكارات ابن خلدون؛ لأنها كانت موجودةً عند إخوان الصفا أيضًا، إلا أن رأي ابن خلدون في اعتبار القردة بمثابة النوع الواصل بين الإنسان وبين سائر أنواع الحيوان، أكسب هذه الفكرة طرافةً كبيرة، وأمَّا رأيه في «التطوُّر التدريجي في المجتمعات» فقد زادها طرافةً واتساعًا، وحوَّلها إلى نظرية هامة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤