التفكير والإيمان

العقل والنقل

١

إن مقدمة ابن خلدون — بهيئتها المجموعة — تدل دلالةً واضحةً على أن مؤلفها مؤمن قوي الإيمان؛ إنه يؤمن بالله وبالإسلام إيمانًا راسخًا عميقًا.

وآثار هذا الإيمان ودلائله بارزة للعيان في جميع فصول المقدمة، ولا يوجد في تلك الفصول فقرة واحدة يمكن أن تُعْتَبَرَ دليلًا على أن ابن خلدون قد خامره شك في الله والدين، ولو لحظةً واحدةً في مسألة واحدة.

  • (١)

    يخصِّص ابن خلدون فصولًا كثيرةً لبحث بعض المسائل الدينية والشرعية؛ إنه يتكلَّم في إحدى مقدمات الباب الأول عن الوحي والنبوة (ص٩٦–١١٩). ويخصِّص عدة فصول من الباب الثالث لمسائل الخلافة والإمامة، والأمور المتفرِّعة منها (١٩٠–٢٢٦). كما أنه يخصِّص عدة فصول من الباب السادس لعلوم الدين والشريعة؛ من علوم القرآن والحديث، إلى علم الفقه وأصول الفقه، وعلم الكلام، والتصوُّف (ص٤٣٧–٤٧٥).

    إن ما يكتبه ابن خلدون في جميع هذه الفصول الخاصة بالأمور الدينية والشرعية ينمُّ عن إيمان راسخ صادق.

  • (٢)

    زِدْ على ذلك أن ابن خلدون يختتم كل فصل من فصول المقدمة — تقريبًا — بذكر الله، وبنقل آية من آيات القرآن المناسبة للمقام. إنه لا يحيد عن هذه الخطة إلا في بضعة فصول، لا يتجاوز عددها الاثني عشر، ولكنه — مقابل ذلك — يطبِّق هذه الخطبة في بعض الفصول الطويلة بمقياس أوسع؛ إنه يختتم كل قسم من أقسام الفصل أيضًا بذكر الله، وبنقل شيء من كلام الله.

    هذه الكلمات الختامية تكون في بعض الفصول قصيرة، مثل: «والله أعلم، والله الموفِّق، وهو على كل شيء قدير.»

    ولكنها تكون في بعض الفصول طويلة، مثل قوله:

    «والله يخلق ما يشاء لا شريك له. له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير. وحسبنا الله ونعم الوكيل، والحمد لله.»

    وقوله: «والله مدبر الأمور ومصرفها بحكمته. لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين.»

    وقد تكون الكلمة الختامية في بعض الفصول من قبيل الدعاء إلى الله، مثل قوله: «رب زدني علمًا، وأنت أرحم الراحمين.»

  • (٣)

    إن الكلمات الختامية التي يذكر ابن خلدون فيها «الله»، تشير على الأكثر إلى علمه وقدرته ومشيئته ووحدانيته.

    ومما جاء في وحدانية الله: هو الواحد القهار، لا رب سواه، لا شريك له، لا معبود سواه، لا إله إلا هو، هو رب الأولين والآخرين، هو الواحد الأحد القهار.

    ومما يذكره حول مشيئة الله: يخلق ما يشاء ويحكم ما يريد يؤتي ملكه من يشاء، يهدي من يشاء، ويضل من يشاء، مصرف الأمور كيف يشاء، مولي الأمور لمن يشاء، وهو الفعَّال لما يريد، يرزق من يشاء بغير حساب.

    ومما يذكره عن علم الله: والله بكل شيء عليم، والله أعلم بالصواب، وما العلم إلا من عند الله، وهو الحكيم الخبير، والعليم الحكيم، والخلاق العليم، والله أعلم بما في القلوب ومطلع على ما في الضمائر، والله علام الغيوب، عالم الغيب والشهادة، وفوق كل ذي علم عليم.

    ومما كتبه حول قدرة الله: والله على كل شيء قدير، وعلى كل شيء رقيب، والله يحكم لا معقِّب له، هو الرزاق ذو القوة المتين، وهو القوي العزيز، الواحد القهار، العزيز الجبار، والله غالب على أمره، وهو رب العرش العظيم، مالك الأمور كلها، بيده ملكوت كل شيء، والله يقبض ويبسط، وهو القاهر فوق عباده، مقلب الليل والنهار، الخلاق العظيم، مدبر الأمور ومصرفها بحكمته.

  • (٤)

    ونرى أن ننقل فيما يلي طائفةً من الكلمات الجامعة التي تنتهي بها الفصول:

    والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء إلى صراط مستقيم. وهو العلي الكبير.

    إنه على كل شيء قدير، وإليه الملجأ والمصير، والله تعالى أعلم.

    والله الموفِّق لما يحب ويرضاه، لا معبود سواه.

    والله مقدر الليل والنهار، وهو الواحد القهار، لا شريك له.

    والله مقلب الليل والنهار، وهو العزيز الجبار، والله تعالى أعلم.

    والله يهدي من يشاء بفضله وكرمه، وهو رب الأولين والآخرين.

    والله يرث الأرض ومن عليها، وهو خير الوارثين.

    والله قاهر فوق عباده، وهو الواحد القهار.

    والله قادر على ما يشاء، وهو بكل شيء عليم، وهو حسبنا ونعم الوكيل.

    والله ولي المؤمنين، وهو على كل شيء وكيل.

    والله الملهِم، وبه المستعان وعليه التكلان، وحسبنا الله ونعم الوكيل.

    والله الموفِّق للصواب بعلمه وفضله وكرمه.

    والله سبحانه وتعالى كل يوم هو في شأن، لا يشغله شأن عن شأن.

    سنة الله في خلقه، ولن تجد لسنة الله تبديلًا.

  • (٥)

    يذكر ابن خلدون في متون بعض الفصول أيضًا بعض الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، ويكتب أحيانًا بعض العبارات التي تتجلَّى فيها حماسة الدين ورعشة الإيمان بكل وضوح وجلاء.

    ويقول مثلًا في فصل علم الكلام — حينما يتكلَّم عن الذين يحاولون معرفة حقيقة النبوة وحقائق صفات الله عن طريق الفكر وحده: إنهم قد يصبحون «من الضالين الهالكين». ثم يعقِّب على ذلك بقوله: «نعوذ بالله من الحرمان والخسران المبين» (ص٤٥٨).

    ويقول — حينما يتكلَّم عن العابد الذي يجد في الصلاة منتهى لذته وقرة عينه:

    «وأين هذا من صلاة الناس؟ «وأنَّى لهم بها؟» فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون. اللهم وفقنا واهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم غير المعضوب عليهم ولا الضالين» (ص٤٦١).

    ويقول حينما يتكلَّم عن سر تحريم المخيط في الحج:

    «إن مشروعية الحج مشتملة على نبذ العلائق الدنيوية كلها، والرجوع إلى الله تعالى كما خلقنا أول مرة، حتى لا يعلِّق العبد قلبه بشيء من عوائد ترفه، لا طيبًا ولا نساءً ولا مخيطًا ولا خفًّا، ولا يتعرض لصيد ولا لشيء من عوائده التي تلوَّثت بها نفسه وخلقه، مع أنه يفقدها بالموت ضرورة، وإنما يجيء كأنه وارد إلى المحشر ضارعًا بقلبه مخلصًا لربه. وكان جزاؤه إن تمَّ له إخلاصه في ذلك أن يخرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه.»

    ثم يعقِّب ابن خلدون على ذلك بالعبارة التالية: «سبحانك ما أرفقك بعبادك، وأرحمك بهم في طلب هدايتهم إليك!» (ص٤١٢).

  • (٦)

    لا نرانا في حاجة إلى القول أن هذه الكلمات والعبارات كلها تدل على عقيدة راسخة، وإيمان عميق، وعاطفة دينية شديدة.

    ولذلك كله يحق لنا أن نقرِّر أن ابن خلدون كان مؤمنًا إيمانًا صادقًا، لا يشوبه شيء من الشك في الله أو في الدين أبدًا.

٢

  • (١)

    وممَّا تجدر ملاحظته أن ابن خلدون — مع هذا الإيمان القوي الذي يختلج في جوانبه — لم يذهب إلى ما ذهب إليه الكثيرون من رجال الدين الذين يحاولون تحكيم الشريعة في كل شيء، ولا ينفكون عن السعي وراء إرجاع كل الأمور إلى أحكام الدين.

    وذلك لأنه يعتقد أن مقاصد الشريعة وغاياتها محدودة بحدود لا تتعدَّاها، وأن النبي إنما بُعِث ليعلِّمنا مسائل التوحيد والمعاد التي لا سبيل إلى معرفتها بالأنظار العقلية وحدها. فيرى ابن خلدون لذلك أنه من العبث أن نرجع إلى الأحكام الشرعية والمصادر الدينية في الأمور التي لا تدخل في نطاق هذه المقاصد والغايات.

    إن رأي ابن خلدون في هذا الصدد يلوح من مباحث فصول كثيرة، ولكنه يتجلَّى بوضوح تام من بعض العبارات التي كتبها خلال بعض المباحث بوجه خاص.

  • (٢)

    وهو مثلًا حينما يتكلَّم عن علم الطب ينتقد بشدة رأي الذين يذهبون إلى وجود «طب نبوي»، ويصرِّح أن النبي إنما بُعِث ليعلِّمنا الشرائع، ولم يُبْعَثْ لتعريف الطب أو غيره من العاديات:

    «وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصرة على بعض الأشخاص، متوارثًا عن مشايخ الحي وعجائزه. كان عند العرب من هذا الطب كثير، وكان فيهم أطباء معروفون، كالحارث بن كلدة وغيره» (ص٤٩٣).

    «والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل، وليس من الوحي في شيء، وإنما هو أمر كان عاديًّا للعرب، ووقع في ذكره أحوال النبي من نوع ذكر أحواله التي هي عادة وجِبلَّة، لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل، فإنه إنما بُعِث ليعلِّمنا الشرائع، ولم يُبْعَث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات» (ص٤٩٤).

    يؤيد ابن خلدون رأيه هذا بذكر حديث نبوي ورد في هذا الموضوع:

    «وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع، فقال: أنتم أعلم بأمور دنياكم. فلا ينبغي أن يحمل بشيء من الطب الذي وقع في الأحاديث المنقولة على أنه مشروع؛ فليس هناك ما يدل عليه» (ص٤٩٤).

    ومع هذا يلاحظ ابن خلدون عمل الإيحاء في مثل هذه الأمور، فيقول:

    «اللهم إذا استُعْمِلَ على جهة التبرُّك وصدق العقد الإيماني، فيكون له أثر عظيم في النفع، وليس ذلك من الطب المزاجي، إنما هو من آثار الكلمة الإيمانية» (ص٤٩٤).

  • (٣)

    يقرِّر ابن خلدون أمرًا مماثلًا لذلك في قضية علاقة الدين بالاجتماع أيضًا، فإنه يعترض بشدة على الذين يقولون إن الحياة الاجتماعية لا تقوم إلا بالدين، وإن السياسة لا تنهض إلا بالشرع:

    «يقول بعض الفلاسفة: لا بد للبشر من الحكم الوازع، وإن ذلك الحكم يكون بشرع مفروض من الله، يأتي به واحد من البشر. غير أن الوجود وحياة البشر قد تتم من دون ذلك، بما يفرضه الحاكم لنفسه أو بالعصبية التي يقتدر بها على قهرهم وحملهم على جادته. فأهل الكتب والمتبِعون للأنبياء قليلون بالنسبة إلى المجوس الذين ليس لهم كتاب، فإنهم أكثر أهل العالم، ومع ذلك فقد كانت لهم الدول والآثار، فضلًا عن الحياة، وكذلك هي لهم في هذا العهد، في الأقاليم المنحرفة في الشمال والجنوب» (ص٤٣-٤٤).

    «إن الوازع قد يكون بسطوة الملك وقهر أهل الشوكة لو لم يكن شرع، كما في أمم المجوس وغيرهم ممَّا ليس له كتاب، أو لم تبلغه الدعوة. أو نقول: يكفي في رفع التنازع معرفة كل واحد بتحريم الظلم عليه بحكم العقل. فادعاؤهم أن ارتفاع التنازع إنما يكون بوجود الشرع هناك، ولقب الإمام هنا غير صحيح، بل كما يكون بنصب الإمام، يكون بوجود الرؤساء أهل الشوكة، أو بامتناع الناس عن التنازع والتظلُّم» (ص١٩١).

    إن تنظيم الحياة الاجتماعية وتصريف أمور المُلْك يتطلَّب الرجوع إلى قوانين سياسية مفروضة، يسلِّمها الكافة وينقادون إلى أحكامها. وهذه القوانين قد تكون «مفروضةً من العقلاء وأكابر الدولة وبصرائها»، وقد تكون مفروضةً من الله بشارع يقرِّرها ويشرعها» (ص١٩٠).

    «إن الملك السياسي هو حمل الكافة على مقتضى النظر العقلي في جلب المصالح الدنيوية ودفع المضار» (ص١٩١).

    «والخلافة هي حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الأخروية والدنيوية الراجعة إليها» (ص١٩١).

  • (٤)

    يظهر من كل ذلك بوضوح تام أن الشريعة — على رأي ابن خلدون — لا تشتغل بكل شيء، فلا تستهدف جميع شئون الحياة؛ فإن ساحة عملها محدودة بحدود، هي ما تقتضيه المصالح الأخروية. وأمَّا الأمور التي هي خارجة عن نطاق تلك الحدود، فمتروكة إلى بحث الفكر وحكم العقل. وهذا العقل إنما هو نعمة من نعم الله على البشر؛ لأن «الله سبحانه وتعالى» هو الذي ميَّز الإنسان من الحيوان بهذا العقل. والإنسان يستطيع أن يستنبط سنة الله في خلقه بقوة العقل، كما أنه يستطيع أن يستفيد من تلك السنن الثابتة في «جلب المنافع ودفع المضار» في حياته الشخصية والاجتماعية، وفي تقرير سياسة عقلية.

  • (٥)

    إن هذه النزعة الفكرية — بجانب ذلك الإيمان الديني — هي التي تحمل ابن خلدون على السير في تفكيره سيرًا عقلانيًّا مستقلًّا عن أحكام الدين.

    فإننا إذا استثنيا الفصول التي تحوم مواضيعها حول المسائل الدينية والشرعية مباشرة، نجد أن ابن خلدون يستند في جميع أبحاثه وتعليلاته على الدلائل العقلية والمنطقية وحدها. وأمَّا الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فلا يذكرها عادةً إلا بعد الانتهاء من التفكير والتعليل، وإذا ذكرها أحيانًا خلال البحث فإنما يذكرها في غالب الأحوال بقصد تأييد القضايا التي كان قد توصَّل إليها بنظره العقلي، كما يذكرها في بعض الأحيان بقصد دفع الاعتراضات التي قد تُوجَّه إليه مستندًا إلى مضامين تلك الآيات والأحاديث.

    ونحن نستطيع أن نقول بناءً على كل ما سبق، إن ابن خلدون كان من المفكرين الذين يعتمدون على العقل ويثقون به، ويرون لزومًا للاستناد إليه.

٣

  • (١)

    ولكن ابن خلدون لا يسترسل في الاعتماد على العقل استرسالًا كليًّا، بل يقرِّر أن نطاق مدركات العقل أيضًا محدود بحدود طبيعية لا سبيل إلى اجتيازها بالمحاكمات النظرية وحدها. فإن العقل البشري عاجز عن إدراك ما يقع وراء الحس؛ من أمور التوحيد، ومسائل المعاد، وحقائق صفات الله، وسائر أمور الروحانيات.

    إنه يقرِّر ذلك بعبارة صريحة تمامًا: «لا تثقن بما يزعم لك العقل من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها، والوقوف على تفصيل الوجود كله» (ص٤٥٩).

    ويبرهن على رأيه هذا بسلسلة محاكمات عقلية:

    إن مدركاتنا العقلية تعتمد على حواسنا، وحواسنا محدودة، فمن الطبيعي أن تكون مدركاتنا أيضًا محدودة.

    ونحن نعلم أن الأعمى لا يدرك المبصرات، والأصم لا يعرف شيئًا عن المسموعات، فيجب علينا أن نسائل أنفسنا — قياسًا على ذلك — ألا يوجد في الكون ما يبقى خارجًا عن إدراك جميع حواسنا، كما تبقى المبصرات خارجةً عن إدراك الأعمى؟ إننا إذا أجبنا على ذلك بالنفي — وأنكرنا هذا الاحتمال — نكون كالأعمى الذي ينكر المبصرات لحرمانه من حاسة البصر، وكالأصم الذي ينكر وجود المسموعات لحرمانه من نعمة السمع. فلا يجوز لنا أن ننكر ما يقع وراء الحس والإدراك، بل يجب علينا أن نعتمد في هذا المضمار على الشرع وحده، وأن نؤمن بكل ما جاء به في هذا الصدد من غير أن نلجأ إلى تحكيم عقولنا فيه.

    ابن خلدون يقرِّر ذلك بكل وضوح:

    «اعلم أن الوجود عند كل مدرك — في بادئ رأيه — منحصر في مداركه لا يَعْدُوها، والأمر في نفسه بخلاف ذلك، والحق من ورائه؛ ألا ترى الأصم كيف ينحصر الوجود عنده في المحسوسات الأربعة والمعقولات، ويسقط من الوجود عنده صنف المسموعات؟ وكذلك الأعمى أيضًا يسقط عنده صنف المرئيات. ولولا ما يردهم إلى ذلك تقليد الآباء والمشيخة من أهل عصرهم والكافة لما أقروا به، لكنهم يتبعون الكافة في إثبات هذه الأصناف، لا بمقتضى فطرتهم وطبيعة إدراكهم. ولو سُئِل الحيوان الأعجم ونطق لوجدناه منكرًا للمعقولات، وساقطة لديه بالكلية. فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربًا من الإدراك غير مدركاتنا؛ لأن إدراكاتنا مخلوقة ومُحْدَثة، وخلق الله أكبر من خلق الناس. والحصر مجهول، والوجود أوسع نطاقًا من ذلك، والله من ورائهم محيط. فاتهم إدراكك ومدركاتك في الحصر، واتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك، وأعلم بنفعك؛ لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك» (ص٤٦٠).

  • (٢)

    عندما يقرِّر ابن خلدون المبادئ الآنفة الذكر، لا يجد فيها قدحًا في العقل أو حطًّا من شأنه؛ فإن شأن العقل في هذه القضية هو شأن الميزان؛ لأن كل ميزان — مهما كان صحيحًا ودقيقًا — لا يستطيع أن يزن إلا مقدارًا محدودًا من الأثقال. إن عمل العقل مثل عمل الميزان، محدود بحدود، فمن الضروري الرجوع إلى الديانة والشريعة في كل ما يقع وراء تلك الحدود.

    «ليس ذلك بقادح في العقل ومداركه، بل العقل ميزان صحيح، فأحكامه يقينية لا كذب فيها، غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق الصفات الإلهية، وكل ما وراء طوره؛ فإن ذلك طمع في محال. ومثال ذلك مثال رجل رأى الميزان الذي يوزن به الذهب، فطمع أن يزن به الجبال، وهذا لا يدرك على أن الميزان في أحكامه غير صادق، ولكن العقل قد يقف عنده ولا يتعدى طوره. «وأنَّى يكون له» أن يحيط بالله وبصفاته؟ فإنه ذرةً من ذرات الوجود الحاصل منه. وتفطن في هذا «غلط» من يقدِّم العقل على السمع في أمثال هذه القضايا، وقصور فهمه واضمحلال رأيه» (ص٤٦٠).

  • (٣)

    يُفْهَم من ملاحظة الآراء الأساسية التي نقلناها آنفًا أن ابن خلدون يقرِّر من جهة، أن هدف الدين محدود، ويرى من جهة أخرى أن قدرة العقل محدودة؛ ولذلك نجده يسعى إلى تمييز نطاق العقل من نطاق الدين.

    وبما أن الدين يستند إلى «النقل والسمع»، فإنه يقول يترتَّب على الإنسان أن يرجِّح السمع والنقل على العقل في بعض القضايا، وأن يعتمد على العقل دون مراجعة النقل في بعض القضايا.

    إن القضايا التي تدخل في نطاق الصنف الأول — على ما يُستدل من مجموع كتابات ابن خلدون — هي التي تتعلَّق بالآخرة، وحقيقة النبوة، وحقائق صفات الله. وأمَّا ما سوى ذلك فيدخل في الصنف الثاني بوجه عام.

    ولكن من البديهي أن هذا التمييز لم يكن من السهل في كل الأحوال؛ لأن الأمور الدنيوية لا تخلو من الارتباط بالأمور الأخروية، والنصوص الشرعية تذكر أحيانًا بعض القضايا المتعلقة بحقائق الكون وبأمور الدنيا. زد على ذلك أن طائفةً من هذه النصوص الشرعية تظهر — عند الوهلة الأولى — منافيةً لحكم العقل فيها، فما العمل في مثل هذه الأحوال؟

    إن ابن خلدون لا يسأل هذا السؤال بصراحة؛ ولذلك لا يجيب عليه جوابًا مباشرًا، ولكننا نستطيع أن نستدل على نزعته الفكرية في هذا المضمار من السلوك الذي يسلكه في معالجة مثل هذه القضايا، فإنه حينما يجد في بعض النصوص المذكورة ما يخالف نتائج المحاكمات العقلية، يلجأ إلى تأويل النصوص الشرعية وفق ما تقتضيه المحاكمات العقلية، كما يتضح من الأمثلة التالية:

٤

  • (١)

    من المعلوم أن ابن خلدون توسَّع كثيرًا في بحث العصبية، وقرر أنها ضرورية لتأسيس الملك وتنظيم الاجتماع، حتى إنه ذهب إلى أن الدعوة الدينية أيضًا تحتاج إلى عصبية.

    ولكنه يعرف أن هناك بعض النصوص الشرعية التي تذمُّ العصبية، وتدعو إلى تركها، وأن هذه الأقوال الشرعية تبدو مخالِفَةً للحقائق التي توصَّل إليها بأبحاثه النظرية ومحاكماته العقلية. تجاه هذا التعارض نجد أن ابن خلدون يرجِّح حكم العقل، ويلجأ إلى تأويل الأقوال الشرعية المذكورة بملاحظات نظرية، فيقول إن الشريعة لم تذم العصبية لذاتها، بل إنها ذمَّت توجيهها إلى الباطل، وإلا فمن المؤكد أن العصبية لو بطلت؛ لبطلت معها الشرائع نفسها.

    «إن الشارع قد ذم العصبية وندب إلى تركها، وقال: لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ، فإن مراده حيث تكون العصبية على الباطل وأحواله، كما كانت في الجاهلية، وأن يكون لأحد فخر بها أو حق على أحد؛ لأن ذلك كان مجان من أفعال العقلاء، وغير نافع في الآخرة التي هي دار القرار. فأمَّا إذا كانت العصبية في الحق وإقامة أمر الله، فأمر مطلوب، ولو بطل لبطلت الشرائع؛ إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل» (ص٢٠٣).
  • (٢)

    وكذلك الأمر في الملك، فإن ابن خلدون يقرِّر أنه طبيعي في العمران، وأنه ضروري للبشر، ولكنه يعرف في الوقت نفسه أن علماء الدين يذكرون كثيرًا من النصوص الشرعية الواردة في ذم الملك؛ ولذلك لا يتردَّد في تأويل تلك النصوص أيضًا وفقًا لما تقتضيه المحاكمات العقلية.

    «إن الشريعة ممتلئة بذم «الملك ومذاهبه من الاستطالة والتغلُّب والاستمتاع بالدنيا»، والنعي على أهله، ومُرغِّبة في رفضه. واعلم أن الشرع لم يذم الملك لذاته، ولا حظر القيام به، وإنما ذمَّ المفاسد الناشئة عنه، من القهر والظلم والتمتع باللذات. ولا شك أن في هذه مفاسد محظورة، وهي من توابعه. كما أثنى على العدل والنصفة، وإقامة مراسم الدين والذب عنه، وأوجب بإزائها الثواب، وهي كلها من توابع الملك. فإذن إنما وقع الذم للملك على صفة وحال دون أخرى» (ص١٩٢).

    «ولم يذمه (الشارع) لذاته، ولا طلب تركه — كما ذم الشهوة والغضب من المكلفين — وليس مراده تركهما بالكلية؛ لدعاية الضرورة إليها. وأمَّا المراد تصريفهما على مقتضى الحق» (ص١٩٢).

    ويكرِّر ابن خلدون القول بأن الشرع «لمَّا ذم الملك لم يذمَّ منه التغلُّب بالحق وقهْر الكافة على الدين ومراعاة المصالح، وإنما ذمه لما فيه من الغلب بالباطل وتصريف الآدميين طوع الأغراض والشهوات». فلو كان الملك مخلصًا في غلبه للناس، وأنه لله، ولحملهم على عبادة الله وجهاد عدوه، لم يكن ذلك مذمومًا (ص٢٠٣).

    يذكر ابن خلدون سببًا آخر لذم الملك في صدر الإسلام:

    في عهد الخلفاء الأولين «لم يجرِ ذكر للملك؛ لما أنه كان مظنةً للباطل، ونِحْلةً يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدين». والصحابة كانوا يرفضون الملك وأحواله؛ حذارًا من التباسها بالباطل (ص٢٠٣).

  • (٣)

    يقرِّر ابن خلدون مبدءًا عامًّا في مقاصد الشرع في ذم بعض الأفعال البشرية أو النهي عنها، فيقول إن مراد الشريعة من ذلك لم يكن ترك الأفعال المذكورة بالكلية، أو اقتلاع النزعات التي تولِّد تلك الأفعال من أصولها، بل إن مرادها من ذلك هو توجيه القوى والأفعال المذكورة نحو الحق. إن كل ما ورد في الشرع من ذم الغضب والشهوة والنهي عن استكثار متاع الدنيا هو من هذا القبيل.

    «ليس مراد «الشرع» فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه، إهماله بالكلية، أو اقتلاعه من أصله، وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية؛ إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة، حتى تصير المقاصد كلها حقًّا، وتتحد الوجهة» (ص٢٠٢).

    إن ذم الغضب في الشرع إنما هو لهذا الغرض وحده:

    «فلم يذمَّ الشرع الغضب، وهو يقصد نزعه من الإنسان، فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفُقِد منه الانتصار للحق، وبطل الجهاد وإعلاء كلمة الله. وإنما يُذَم الغضب للشيطان وللأغراض الذميمة. وإذا كان الغضب لذلك كان مذمومًا، وإذا كان الغضب لله وفي الله كان ممدوحًا» (ص٢٠٢).

    وكذا الشهوات، فإن الشارع عنى بذمِّها أيضًا معنًى مماثلًا لما سبق.

    «وكذلك ذم الشهوات أيضًا ليس المراد إبطالها بالكلية، فإن من بطلت شهوته كان نقصًا في حقه، وإنما المراد تصريفها فيما أُبيح له باشتماله على المصالح؛ ليكون الإنسان عبدًا متصرِّفًا طور الأوامر الإلهية» (ص٢٠٢-٢٠٣).

    وكذلك الأمر في ذم الاستكثار من الدنيا والاستمتاع بملذاتها.

    «وإن كان الاستكثار من الدنيا مذمومًا، فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج عن القصد، وإذا كان حالهم قصدًا، ونفقاتهم في سبيل الحق ومذاهبه، كان ذلك الاستكثار عونًا لهم على طريق الحق، واكتساب الدار الآخرة» (ص٢٠٥).

    يعزِّز ابن خلدون رأيه في هذه القضايا كلها بملاحظة جوهرية يعبِّر عنها بكلمة وجيزة:

    «إن الدنيا وأحوالها كلها مطية للأخرى، ومن فقد المطية فقد الوصول» (ص٢٠٢).

    ويظهر من ذلك أن الإنسان إذا أهمل دنياه؛ فلا يمكن أن يصل إلى السعادة في أخراه.

٥

  • (١)

    وأمَّا القضايا الشرعية البحتة، والمسائل الإيمانية الصرفة — كأمور التوحيد والآخرة، وحقيقة النبوة، وكنه الصفات الإلهية، وكل ما وراء طور العقل — فإن ابن خلدون يسلك إزاءها مسلكًا يخالف المسلك الذي ذكرناه آنفًا مخالفةً كلية؛ إنه يمسك عن التفكير في شأنها، ويقول بوجوب قَبولها والعمل بها مباشرة، من غير إدخال العقل في أمرها، وإشغال الفكر بها؛ لأنها خارجة عن نطاق مداركنا، ولأن الشارع أَعْرَفُ بها منا.

    «مقصود الشارع بالناس هو إصلاح آخرتهم» (ص١٩٠).

    «إن الشارع أعلم بمصالح الكافة، فيما هو مغيَّب عنهم عن أمور آخرتهم. وأمور البشر كلها عائدة عليهم في معادهم» (ص١٩٠).

    «الشارع أَعْرَفُ بمصالح ديننا وطرق سعادتنا؛ لاطلاعه على ما وراء الحس» (ص١٦٩).

    «إن مدارك صاحب الشريعة أوسع من مدارك الأنظار العقلية؛ لاستمدادها من الأنوار الإلهية» (ص١٩٤).

    ولذلك يوصي ابن خلدون باتباع أوامر الشرع — في الاعتقاد والعمل — من غير تردُّد ولا تشكُّك.

    «اتبع ما أمرك الشارع به من اعتقادك وعملك، فهو أحرص على سعادتك وأعلم بنفعك؛ لأنه من طور فوق إدراكك، ومن نطاق أوسع من نطاق عقلك» (ص٤٦٠).

    ويقول بوجوب الاستسلام إلى أحكام الشريعة استسلامًا مطلقًا، حتى ولو لم نفهم حكمة تلك الأوامر والأحكام.

    «إن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية، فهي فوقها ومحيطة بها؛ لاستمدادها من الأنوار الإلهية، فلا تدخل تحت النظر الضعيف والمدارك المحاط بها. فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدِّمه على مداركنا، ونثق به دونها، ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولو عارضه، بل نعتمد ما أمرنا به اعتقادًا وعلمًا، ونسكت عمَّا لم نفهم من ذلك، ونفوِّضه إلى الشارع، ونعزل العقل عنه» (ص٤٩٥-٤٩٦).

  • (٢)

    في الواقع إن هناك علمًا يسمى علم الكلام، وهو يتضمَّن «الحِجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة، المنحرفين في الاعتقادات عن مذاهب السلف وأهل السنة» (ص٤٥٨). ولكن المقصود من هذا العلم ومن الأدلة العقلية المسرودة فيه لم يكن إثبات تلك العقائد، بل هو الرد على معارضيها؛ وذلك لأن العقائد المذكورة لا تثبت إلا بالنقل، وأمَّا عمل العقل في شأنها فينحصر في الرد على خصومها.

    «إن مسائل الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف، من غير رجوع فيها إلى العقل، ولا تعويل عليه، بمعنى أنها لا تثبت إلا به، فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره. وما تحدَّث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثًا عن الحق فيها — فالتعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلومًا هو شأن الفلسفة — بل إنما هو التماس حجة تعضد العقائد الإيمانية ومذاهب السلف فيها، وتدفع شبه أهل البدع عنها، وذلك بعد أن تُفْرَضَ صحيحةً بالأدلة النقلية، كما تلقَّاها السلف واعتقدوها» (ص٤٩٥).

  • (٣)

    يقول ابن خلدون في فصل الفلسفة، إن الفلاسفة يذهبون إلى عكس ذلك تمامًا، فإنهم يقولون إن العقائد الإيمانية لا تخرج عن نطاق مدارك العقل، وإنها مما يمكن التوصُّل إليها بالأنظار الفكرية.

    «إن قومًا من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله — الحسي منه وما وراء الحسي — تُدْرَكُ ذاته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية، وأن تصحيح العقائد الإيمانية يكون من قِبَل النظر لا من جهة السمع، فإنها بعض من مدارك العقل» (ص٥١٤).

    ولكن ابن خلدون يفنِّد رأي هؤلاء الفلاسفة في هذا الصدد، ويقول: «إن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه» (ص٥١٦)؛ لأن العقل البشري قاصر عن إدراك ما يقع وراء الحس ووراء المادة. إن الرأي الذي نحن بصدده كان يصح لو صح قول الطبيعيين «المعتقدين أن ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء» (ص٥١٦)، ولكن طالما ثبت أن قول هؤلاء غير صحيح، وأن نطاق الموجودات لا ينحصر بنطاق الماديات المحسوسة، بل يتعدَّاه إلى الروحانيات غير المحسوسة، فلا مجال للشك في أن رأي هؤلاء الفلاسفة باطل من أساسه.

    «لأن من لا مادة له، لا يمكن البرهان عليه.»

    «إن الموجودات التي وراء الحس — وهي الروحانيات — فإن ذواتها مجهولة رأسًا، ولا يمكن التوصُّل إليها، ولا البرهان عليها.»

    «لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مُدْرَك لنا، ونحن لا ندرك الذوات الروحانيات حتى نجرد منها ماهيات أخرى [محجوبةً] بحجاب الحس بيننا وبينها، فلا يتأتى لنا برهان عليها. ولا مدرك لنا في إثبات وجوها على الجملة، إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها» (ص٥١٦).

    ومن المعلوم أن الإيمان باليوم الآخر من أمهات العقائد الإيمانية، وهو يتضمن الإيمان «بنعيم جنة وشقاء جهنم»، وكل ذلك مما يتعدَّى نطاق إدراكنا، فلا سبيل لنا إلى معرفة هذه الأمور إلا بالرجوع إلى ما جاء عنها في الشريعة المحمدية.

    «إن السعادة التي وعدنا بها الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال والأخلاق، فأمر لا تحيط به مدارك المدركين.»

    «وقد تنبَّه إليها زعيمهم (أي زعيم الفلاسفة) أبو علي بن سينا فقال — في كتاب المبدأ والمعاد — ما معناه: إن المعاد الروحاني وأحواله، هو مما يُتَوَصَّل إليه بالبراهين العقلية والمقاييس (أي القياسات المنطقية)؛ لأنه على نسبة طبيعية محفوظة، ووتيرة واحدة، فلنا في البراهين عليه سعة. وأمَّا المعاد الجسماني وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان؛ لأنه ليس على نسبة واحدة، وقد بسطته لنا الشريعة المحمدية الحقة، فلينظر فيها، وليرجع في أحواله إليها» (ص٥١٩).

  • (٤)

    يشير ابن خلدون بهذه المناسبة إلى الفرق القائم بين علم الكلام وبين الفلسفة، إذ يقول: «التعليل بالدليل بعد أن لم يكن معلومًا هو شأن الفلسفة» (ص٤٩٥). وأمَّا مهمة علم الكلام فهي البحث عن حجج عقلية لأمر كان قد ثبت بالأدلة النقلية، وذلك يعني أن الفلسفة تسعى إلى الحصول على علم عن الشيء وتعليله عن طرق عقلية. وأمَّا علم الكلام فيتحرَّى الحجج على شيء تمَّ علمه بطرق نقلية، وبتعبير آخر؛ إن الفيلسوف لا يقرِّر شيئًا إلا بعد التفكير بالأدلة العقلية، وأمَّا المتكلم فإنه يقرِّر أولًا، ثم يبحث عن الدلائل المؤيدة لما قرَّره قبلًا.

    «موضوع علم الكلام عند أهله إنما هو العقائد الإيمانية، بعد فرضها صحيحةً من الشرع، من حيث يمكن أن يستدل عليها بالأدلة العقلية؛ فتُرْفَع البدع وتزول الشكوك والشُّبَه عن العقائد.»

    «إن جميع علماء الكلام يتَّحدون في هذه الخطة، كل واحد منهم يفرض العقائد صحيحة، ثم يستنهض الحجج والأدلة عليها» (ص٤٦١).

    ولهذه الملاحظة الأساسية يرى ابن خلدون أن علم الكلام أصبح غير ضروري وإن كان مفيدًا.

    «إن علم الكلام غير ضروري لهذا العهد على طالب العلم؛ إذ الملحدة والمبتدعة قد انقرضوا، والأئمة من أهل السنة كفونا شأنهم فيما كتبوا ودوَّنوا، والأدلة العقلية إنما احتاجوا إليها حين دافعوا ونصروا، وأمَّا الآن فلم يبقَ منها إلا كلام تنزَّه الباري عن كثير من إيهاماته وإطلاقه. ولقد سُئِل الجنيد عن قوم مر بهم بعض المتكلمين يفيضون فيه، فقال: ما هؤلاء؟ فقيل: قوم ينزِّهون الله بالأدلة عن صفات الحدوث وسمات النقص. فقال: نفي العيب حيث يستحيل العيب، عيب.»

    «ولكن فائدته في آحاد الناس وطلبة العلم فائدة معتبرة؛ إذ لا يحسن بحامل السنة الجهل بالحجج النظرية على عقائدها» (ص٤٦٧).

  • (٥)

    يتكلَّم ابن خلدون عن أسباب الحوادث الكونية والأفعال البشرية، ويقرِّر أنها تتسلسل إلى أن تصل إلى مسبب الأسباب الذي هو خالق الكون.

    إن كل حادث لا بد له من سبب، وهذا السبب يكون عادةً حادث آخر متقدِّم عليه، ولهذا الحادث أيضًا سبب متقدِّم عليه. وهكذا تتسلسل الأسباب بالتدريج إلى أن تنتهي إلى مسبِّب الأسباب.

    «إن الحوادث في عالم الكائنات — سواء كانت من الذوات أو من الأفعال البشرية أو الحيوانية — فلا بد لها من أسباب متقدمة عليها، بها تقع في مستقر العادة، وعنها يتم كونه.»

    «وكل واحد من هذه الأسباب أيضًا حادث، فلا بد له من أسباب أُخَر، ولا تزال الأسباب مرتقيةً حتى تنتهي إلى مسبِّب الأسباب وموجدها وخالقها سبحانه لا إله إلا هو» (ص٤٥٧).

    «وتلك الأسباب في ارتقائها تتفسَّح وتتصاعد طولًا وعرضًا، ويحار العقل في إدراكها وتعديدها، فإذن لا يحصرها إلا العلم المحيط، سيما الأفعال البشرية والحيوانية، فإن من جملة أسبابها في الشاهد القصود والإرادات؛ إذ لا يتم كون الفعل إلا بإرادته والقصد إليه. والقصود والإرادات أمور نفسانية ناشئة في الغالب عن تصوُّرات سابقة يتلو بعضها بعضًا، وتلك التصوُّرات هي أسباب قصد الفعل، وقد تكون أسباب تلك التصوُّرات تصوُّرات أخرى. وكل ما يقع في النفس من التصوُّرات مجهول سببه، إذ لا يطَّلع أحد على مبادئ الأمور النفسانية ولا ترتيبها، إنما هي أشياء يلقيها الله في الفكر يتبع بعضها بعضًا، والإنسان عاجز عن معرفة مبادئها أو غاياتها، إنما يحيط علمًا في الغالب بالأسباب التي هي طبيعة ظاهرة، ويقع في مداركها على نظام وترتيب» (ص٤٥٨).

    يقرِّر ابن خلدون أن العقل يستطيع أن يتتبَّع سلسلة هذه الأسباب، ويكتشفها واحدًا بعد آخر، ولكن هذا التتبُّع إنما يتيسَّر داخل نطاق العقل فقط. وأمَّا الأسباب التي تقع خارج هذا النطاق، فلا سبيل إلى اكتشافها بالأنظار العقلية، فمن الضروري الالتجاء إلى النقل والسمع في أمرها.

    «فلعل الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا، خرجت من أن تكون مدركة، فيضل العقل في بيداء الأوهام، ويحار وينقطع.»

    فإذن فإن السبيل السوي أمامنا هو «التوحيد المطلق»، والاعتراف بالعجز «عن إدراك الأسباب وكيفيات تأثيرها، وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها؛ إذ لا فاعل غيره، وكلها ترتقي إليه، وترجع إلى قدرته، وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه» (ص٤٦٠).

    «وزِدْ على ذلك، إن العقل عندما يتحرَّى سلسلة الأسباب، قد يقف في حلقة من حلقات السلسلة فيظنها منتهى الأسباب، وينكر ما وراءها، فيكون قد أنكر مسبِّب الأسباب؛ «فيصبح من الضالين الهالكين»» (ص٤٥٩).

    ثم يوالي ابن خلدون دلائله التحذيرية قائلًا:

    «ولا تحسبن أن هذا الوقوف أو الرجوع عنه في قدرتك واختيارك، بل هو لون يحصل للنفس، وصفة تستحكم (فيها) من الخوض في الأسباب على نسبة لا نعلمها، إذ لو علمناها لتحرَّزنا منها. فلْنتحرز من ذلك بقطع النظر عنها جملة» (ص٤٥٩).

    يرى ابن خلدون في هذه الملاحظات ما يوضِّح حكمة تحريم النظر في الأسباب.

    «فلذلك أمرنا الشارع بقطع النظر عنها وإلغائها جملة، والتوجُّه إلى مسبب الأسباب كلها وفاعلها وموجدها؛ لترسخ صفة التوحيد في النفس على ما علَّمنا الشارع، الذي هو أعرف بمصالح ديننا وطرق سعادتنا؛ لاطِّلاعه على ما وراء الحس. قال : «من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة.» فإن وقف عند تلك الأسباب فقد انقطع وحقَّت عليه كلمة الكفر، وإن سبح في بحر النظر في البحث عنها وعن أسبابها، فأنا الضامن له ألا يعود إلا بالخيبة؛ فلذلك نهانا الشارع عن النظر في الأسباب، وأمرنا بالتوحيد المطلق: قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ» (ص٤٥٩).
  • (٦)

    يلاحَظ أن ابن خلدون كثيرًا ما يشير في هذه الفقرات إلى نهي الشارع عن النظر في الأسباب على الإطلاق، ونحن نجد هنا أمرًا جديرًا بالبحث والاعتبار. إننا نعلم أن ابن خلدون نفسه كثيرًا ما بحث عن الأسباب في كل فصل من فصول المقدمة، فإن تعبيرات؛ «السبب في ذلك»، و«سببه»، و«أمَّا السبب في ذلك»، هي من أكثر التعبيرات المتكرِّرة في المقدمة، فكيف يدعو ابن خلدون إلى «عدم النظر في الأسباب» في هذا المقام بعد كل تلك الأبحاث وبجانب تلك الأبحاث؟ فهل قصد من الأسباب هنا الأسباب الأصلية والبعيدة وحدها؟ أم أنه كتب هذه الفقرات — وفصل علم الكلام الذي يحتويها — بعد مرور مدة طويلة على كتابة سائر الفصول؟

    إننا نميل إلى القول بأن كِلَا الأمرين عملا مشتركين في ما كتبه ابن خلدون في هذا المضمار؛ فإننا نجد أن أسلوب هذا الفصل أكثر نضوجًا وأشد صقلًا من أساليب الفصول الاعتيادية، كما أننا نستدل من سياق الكلام أنه يقصد في أبحاثه المذكورة — وفي فقراته الآنفة الذكر — الأسباب البعيدة الأصلية، لا الأسباب القريبة الاعتيادية.

  • (٧)

    يتكلَّم ابن خلدون عن «الإيمان» أيضًا، ويُبْدِي بعض الملاحظات الطريفة في هذا الشأن.

    إن التكاليف الشرعية نوعان؛ قلبية وبدنية. فالتكاليف القلبية هي الإيمان والاعتقادات، والتكاليف البدنية هي الأعمال والعبادات.

    «إن الشارع وصف لنا» ما يجب أن نؤمن به، «وعيَّن أمورًا مخصوصةً كلَّفنا التصديق بها بقلوبنا، واعتقادها في أنفسنا، مع الإقرار بألسنتنا» (ص٤٦١). كما أنه عيَّن العبادات المفروضة علينا.

    ولكن مقصود الشارع ومطلوبه من الإيمان لم يكن الاعتقاد المجرَّد أو التصديق، بل هو «حصول صفة تتكيَّف بها النفس» من جرَّاء ذلك التصديق والاعتقاد، كما أن مقصوده ومطلوبه من العبادات أيضًا لم يكن العمل نفسه، والعبادة للعبادة نفسها، بل هو «حصول مَلَكة الطاعة والانقياد، وتفريغ القلب من شواغل ما سوى المعبود» (ص٤٦١)، من جراء المواظبة على تلك العبادات. وخلاصة القول: إن المطلوب من التكاليف كلها — سواء أكانت قلبيةً أم بدنية — إنما هو حصول مَلَكة راسخة في النفس. والكمال — عند الشارع — في كل ما كُلِّف به، هو حصول هذه المَلَكة الراسخة.

    «فقد تبيَّن لك من جميع ما قرَّرناه أن المطلوب في التكاليف كلها حصول مَلَكة راسخة في النفس، يحصل منها علم اضطراري هو التوحيد، وهو العقيدة الإيمانية، وهو الذي تحصل به السعادة» (ص٤٠١).

    ويظهر من ذلك أن الإيمان الذي هو أصل التكاليف وينبوعها ذو مراتب عديدة.

    «إن الإيمان الذي هو أصل التكاليف وينبوعها ذو مراتب؛ أولها التصديق القلبي الموافق للسان، وأعلاها حصول كيفية من ذلك الاعتقاد القلبي وما يتبعه من العمل مستوليةً على القلب، فيستتبع الجوارح، وتندرج في طاعتها جميع التصرُّفات حتى تنخرط الأفعال كلها في طاعة ذلك التصديق الإيماني. وهذا أرفع مراتب الإيمان، وهو الإيمان الكامل الذي لا يقارف المؤمن معه صغيرةً ولا كبيرة؛ إذ حصول المَلَكة ورسوخها مانع من الانحراف عن مناهجه طرفة عين» (ص٤٦١-٤٦٢).

    وهذه هي المرتبة العليا من الإيمان.

٦

لقد تطرَّق ابن خلدون في عدة فصول من المقدمة إلى المذاهب الإسلامية، ودوَّن بعض المعلومات والملحوظات عن تاريخ نشوئها وانتشارها، وقد فعل ذلك بوجه خاص في فصول الإمامة والخلافة والفقه وأصول الفقه.

فقد رأينا أن ندرج فيما يلي نموذجَين من الآراء التي أبداها ابن خلدون في هذا الصدد؛ لنظهر خطة البحث التي سار عليها، والنزعة الفكرية التي استسلم إليها في مثل هذه الأمور:
  • (١)

    لقد أشار ابن خلدون إلى مسألة «علي ومعاوية» في فصل «انقلاب الخلافة إلى الملك». يستفاد من مطالعة هذا الفصل أنه يرى أن انقلاب الخلافة إلى الملك كان من الأمور الطبيعية المحتمة في الحياة الاجتماعية؛ لأنه يقول:

    «إن الخلافة قد وُجِدت بدون الملك أولًا، ثم التبست معانيهما واختلطت، ثم انفرد الملك، حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة» (ص٢٠٨).

    كما أنه يعتقد أن «الفتنة» التي وقعت بين «علي ومعاوية» كانت طبيعية؛ ولذلك نجده لا يتعصَّب ولا يتشيَّع لأحدهما على الآخر، بل يقول كان كلاهما على حق.

    «لمَّا وقعت الفتنة بين علي ومعاوية — وهي مقتضى العصبية — كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد، ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي، أو لإيثار باطل واستشعار حقد، كما قد يتوهمه وينزع إليه ملحد. وإنما اختلف اجتهادهم في الحق، وسفَّه كل واحد نظر صاحبه باجتهاده في الحق؛ فاقتتلوا عليه. وإن كان المصيب عليًّا، فلم يكن معاوية قائمًا فيها بقصد الباطل، إنما قصد الحق وأخطأ، والكل كانوا في مقاصدهم على حق» (ص٢٠٥).

  • (٢)

    يتكلَّم ابن خلدون في فصل الفقه عن المذهب المالكي، ويبيِّن كيفية نشأة هذا المذهب وانتشاره، ويعلِّل ذلك بعلل طبيعية واجتماعية:

    «إن الإمام مالك بن أنس الأصبحي كان إمام دار الهجرة — المدينة المنورة — وامتاز عن سائر أئمة السنة بإدخال «عمل أهل المدينة» في عداد الأدلة الشرعية.

    إن الإمام مالك اختص بمدرك آخر للأحكام، غير المدارك المعتبرة عند غيره، وهو عمل أهل المدينة؛ لأنه رأى أنهم فيما ينفسون عليه من فعل أو ترك متابعون لمن قبلهم ضرورةً لدينهم واقتدائهم، وهكذا إلى الجيل المباشر لفعل النبي الآخذين عنه، وصار ذلك عنده من أصول الأدلة الشرعية» (ص٤٤٧).

    «وظن كثيرون أن ذلك من مسائل الإجماع، ولكن مالك أنكر ذلك قائلًا: إن الإجماع لا يخص أهل المدينة دون سواهم، بل شامل للأمة.

    واعلم أن الإجماع وهو الاتفاق على الأمر الديني عن اجتهاد، ومالك رحمه الله تعالى لم يعتبر أهل المدينة بهذا المعنى، وإنما اعتبره من حيث اتباع الجيل بالمشاهدة للجيل، إلى أن ينتهي إلى الشارع صلوات الله وسلامه عليه» (ص٤٤٨).

    إن مذهب الإمام مالك انتشر بوجه خاص في الأندلس والمغرب؛ وذلك لأسباب جغرافية واجتماعية: أولًا إن أهل المغرب كانوا يخالطون أهل الحجاز أكثر مما يخالطون أهل العراق، فكان من الطبيعي أن يأخذوا من الحجاز أكثر ممَّا يأخذون من العراق. ثانيًا: إن حالتهم الاجتماعية كانت أقرب إلى حالة أهل الحجاز بسبب بداوتهم، والأحكام التي قال بها الإمام مالك كانت أكثر ملاءمةً لاحتياجاتهم من الأحكام التي وُضِعتْ في العراق.

    «وأمَّا مالك رحمه الله تعالى فاختص بمذهبه أهل المغرب والأندلس، وإن كان يوجد في غيرهم، إلا أنهم لم يقلِّدوا غيره إلا في القليل؛ لما أن رحلتهم كانت غالبًا إلى الحجاز، وهو منتهى سفرهم، والمدينة يومئذ دار العلم، ومنها خرج إلى العراق، ولم يكن العراق في طريقهم، فاقتصروا في الأخذ عن علماء المدينة، وشيخهم يومئذ وإمامهم مالك، وشيوخه من قبله وتلاميذه بعده. فرجع إليه أهل الأندلس والمغرب، وقلَّدوه دون غيره ممن لم تصل إليهم طريقته» (ص٤٤٩).

    «وأيضًا فالبداوة كانت غالبةً على أهل المغرب والأندلس، ولم يكونوا يعانون الحضارة التي لأهل العراق، فكانوا إلى أهل الحجاز أميل؛ ولهذا لم يزل المذهب المالكي غضًّا عندهم، ولم يأخذه تنقيح الحضارة وتهذيبها كما وقع في غيره من المذاهب» (ص٤٤٩).

    يتبيَّن من هذه الفقرات أن ابن خلدون لم يُظْهِر في بحثه هذا أي تشيُّع للمذهب المالكي، مع أنه كان مالكيًّا، كما أنه صار فيما بعدُ قاضيًا للقضاة المالكية في مصر. إنه لم يتشيَّع ولم يتعصَّب لهذا المذهب، ولا تردَّد في تعليل اختصاص أهل المغرب بهذا المذهب ببداوة المغرب من جهة، وبعلاقته الجغرافية بالحجاز من جهة أخرى.

    وتعليل ابن خلدون في هذا الصدد إنما هو بمثابة «تفسير تاريخ المذاهب بتأثير العوامل الجغرافية والاجتماعية».

    وهكذا يتبع ابن خلدون في هذه المسألة خطةً عقلانيةً بحتة؛ ممَّا يدل على أنه لم يعتبر مسائل المذاهب وتاريخها من الأمور التي تخرج عن نطاق مدارك العقل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤