حول ابن خلدون وأوكوست كونت

لقد قلت في بحثي عن «ابن خلدون وعلم الاجتماع» [القسم الثاني: مكانة ابن خلدون في تاريخ فلسفة التاريخ وعلم الاجتماع – ابن خلدون وعلم الاجتماع]، إن حق هذا المفكر العربي بلقب «مؤسِّس علم الاجتماع» أقوى من حق أوكوست كونت، ولكني لم أقل: «إن كونت اقتبس فكرة علم الاجتماع من ابن خلدون»؛ لعلمي بأن مقدمة ابن خلدون ظلت مجهولةً لعالم التفكير الغربي حتى أواسط القرن التاسع عشر.

ولكن الأستاذ لطفي جمعة المحامي ادَّعى — في كتابه «تاريخ فلاسفة الإسلام» — أن أوكوست كونت كان قد اطلع على مقدمة ابن خلدون، وأنه اقتبس منها فكرة علم الاجتماع.

وهذا نص ما كتبه في هذا الصدد في الفصل المخصص لابن خلدون في الكتاب المذكور:

«نحن لا نرتاب في أن أوكوست كونت وقف على مؤلِّف هذا الحكيم، وإن كان لم يذكره بكلمة واحدة في كتابه، واكتفى بذكر كوندورسه ومونتسكيو، ولا يمكن أن يجهل كونت فضل ابن خلدون، وقد كتب عنه شولز في المجلة الآسيوية في عام ١٨٢٥، أي قبل ظهور فلسفة أوكوست كونت بسبع سنين، وكان كونت إذ ذاك في السابعة والعشرين من عمره، والمجلة المذكورة تُنْشَر في باريس وطنه» (تاريخ فلاسفة الإسلام، ص٢٤٠).

إني لا أجد في الدلائل المسرودة هنا أية وجاهة كانت.

  • أولًا: إن نشر المجلة الآسيوية في باريس لا يمكن أن يُتَّخذ دليلًا على اطلاع كونت عليها؛ لأنها من المجلات الاختصاصية التي لا يطالعها عادةً إلا جماعة محدودة من المستشرقين.
  • ثانيًا: إن المقالة التي نشرها شولز في المجلة المذكورة كانت مقالةً مختصرةً لا تكفي لإعطاء فكرة واضحة عن مضامين مقدمة ابن خلدون، ولا شك في أن شولز نفسه لم يكن قد أدرك بعدُ أهمية المقدمة، من وجهة «علم الاجتماع» الذي كان لا يزال بعيدًا عن أذهان المفكرين.
  • ثالثًا: من المعلوم أن كونت كان قد وضع خطةً دراساته في رسالة نشرها سنة ١٨٢٢، كما أنه قرَّر لنفسه — منذ تلك السنة — خطةً صارمةً في ما أسماه «حفظ الصحة العقلية»؛ قرَّر «الصيام عن المطالعة»؛ لكيلا يتأثر بما يطالعه، ولكي يسترسل في التأمُّل والتفكير، طليقًا من كل تأثير خارجي. ولا يُعقل أن يقرأ في تلك المدة ما تنشره مجلة خاصة بأبحاث المستشرقين.
  • رابعًا: من المعلوم أن كونت وضع أُسس علم الاجتماع ضمن «أنظومة فلسفية» واسعة النطاق، تشمل جميع العلوم الأساسية، وترتِّبها حسب درجات إعضال مواضيعها، وتعيِّن نظام نشوئها وفقًا لهذا الترتيب. وقد قال كونت — عندما تكلَّم عن علم الاجتماع: «إنه كان من المستحيل أن يتأسَّس هذا العلم قبل أن يتأسس علم الحياة وسائر علوم الطبيعة المتقدمة عليه.» حتى إنه صرَّح بأنه «ما كان في استطاعة مونتسكيو أن يوجِدَ علم الاجتماع — على الرغم من العبقرية الفذة التي أظهرها في أبحاثه — لأن علم الحياة لم يكن قد أخذ شكلًا علميًّا بعدُ في زمانه.»

    فلا شك في أنه لو كان اطلع على ما كان كتبه ابن خلدون قبل مدة تزيد على أربعة قرون ونصف قرن — ليس قبل تأسُّس علم الحياة فحسب، بل قبل تكوُّن علمَي الفيزياء والكيمياء أيضًا — لَمَا أَبْدَى تلك النظرية، ولما تمسَّك بها كل ذلك التمسُّك.

    إني أستطيع أن أقول — بناءً على كل ما تقدم — إن الزعم بأن أوكوست كونت اقتبس فكرة علم الاجتماع من مقدمة ابن خلدون، لا يستند إلى أي دليل وبرهان.

    وأزيد على ذلك فأقول: إن كونت لو كان اطلع على مقدمة ابن خلدون، وانتبه إلى الآراء والنظريات الاجتماعية المسرودة فيها؛ لاستطاع أن يتقدم بعلم الاجتماع إلى مدًى أبعد بكثير من الذي أوصله إليه فعلًا.

•••

إني أعتقد أن ابن خلدون وضع أُسس علم الاجتماع، وارتفع ببناء ذلك العلم ارتفاعًا يستحق الإعجاب، إلا أن ذلك البناء نُكب بالإهمال والنسيان، واندثر تحت رمال الزمان.

وعلم الاجتماع تأسَّس مرةً أخرى في أوروبا على أُسس جديدة تمامًا، مماثِلَة للأسس التي كان وضعها ابن خلدون، ولكنها مستقلة عنها استقلالًا كليًّا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤