حول فقرة في مقدمة ابن خلدون

إن دراستي عن «التفكير والإيمان» عند ابن خلدون قد أظهرت أنه كان يسير في تفكيره سيرًا عقلانيًّا، حتى في الأمور التي لا تخلو من الصلات بالدين [القسم الثالث: آراء ابن خلدون ونظرياته – التفكير والإيمان].

مع هذا يجدر بنا أن نتساءل: هذه النزعة العلمية والشيئية، هل كانت تشمل أمور أوروبا النصرانية أيضًا؟ هل كان ينظر ابن خلدون إلى أحوال أوروبا النصرانية، كما ينظر إلى أحوال البلاد الإسلامية، بنظرات الباحث العلمي المتجرِّد عن التحيُّز والتشيُّع؟

إن آراء المستشرقين في هذه القضية لا تخلو من التضارب والاختلاف؛ بعضهم يُعْجَب بروح الحياد التي أظهرها ابن خلدون فيما كتبه عن ملوك الدول النصرانية في الأندلس، وبعضهم يذهب إلى أن روح التعصُّب الإسلامي كان مسيطرًا على ابن خلدون في كل ما يتعلق بالشئون الأوروبية والمسيحية.

فيجب علينا أن نبحث ما هو وجه الحقيقة بين هذه الآراء المتضاربة؟

•••

إني لم أجد في جميع فصول المقدمة وأبحاثها ما يدل على التعصُّب الديني، سوى فقرة واحدة وردت في الفصل الذي يشرح «اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية».

تأتي هذه الفقرة بعد ذكر الطوائف الثلاث التي انقسم إليها النصارى، وتنص على ما يلي:

«ولم نرَ أن نسخم أوراق الكتاب بذكر مذهب كفرهم، فهي على الجملة معروفة، وكلها كفر كما صرَّح به القرآن الكريم، ولم يبقَ بيننا وبينهم في ذلك جدال ولا استدلال، إنما هو الإسلام أو الجزية أو القتل» (ص١١٤ من طبعة بولاق، و٢٦٠ من طبعة المطبعة الشرقية بمصر).

وبديهي أن هذه الفقرة تنمُّ عن تعصب ديني يخالف روح البحث العلمي مخالفةً صريحة.

ولكن ممَّا لا مجال للشك فيه أيضًا أن هذه الفقرة لا تنسجم مع سائر أبحاث المقدمة، وتشذ عنها شذوذًا صارخًا.

ولذلك رأيت من الضروري أن أتوسَّع وأتعمَّق في درس هذه القضية.

•••

إن أول ما يلفت النظر في هذا المضمار، هو أن الفقرة المذكورة ليست موجودةً في الطبعة البيروتية وفي طبعة مصطفى محمد المصرية المستنسخة منها، ولكنها موجودة في طبعة بولاق، وفي الطبعات المصرية المنقولة عنها، كما أنها موجودة في الترجمتين الفرنسية والتركية.

وذلك يضعنا أمام مسألة جديرة بالبحث؛ عدم وجود الفقرة المذكورة في طبعة بيروت، هل نتج من عدم وجودها في مخطوطة استندت إليها الطبعة المذكورة؟ أم نتج عن حذفها من قِبَل الناشرين عند الطبع عن قصد وتصميم؟

إننا لسنا في وضع يخوِّلنا الإجابة على هذا السؤال بصيغة الجزم؛ لعدم علمنا بأصول الطبعات الموجودة بين أيدينا، ومع هذا لا نستبعد أن تكون الفقرة المذكورة قد حُذِفت خلال الطبع؛ مراعاةً لشعور المواطنين المسيحيين. ولكن مهما يكن الأمر — وعلى فرض أنها موجودة في جميع الطبعات وفي المخطوطات التي صارت أساسًا لتلك الطبعات — نستطيع أن نواصل بحث الأمر عن طريق «النقد الداخلي»، و«مقارنة أساليب التفكير والبيان».

•••

فلْننظر أولًا: هل هي من صميم الموضوع أم دخيلة عليه؟

إذا طالعنا الفقرات التي سبقت الفقرة المذكورة من ناحية، والتي تلتها من ناحية أخرى؛ وجدنا أنها تكوِّن فقرةً استطراديةً بكل معنى الكلمة؛ حذفها لا يخلُّ بسير الأبحاث، بل يجعلها أكثر انسجامًا.

وهذه هي الفقرات التي تسبقها:

«ثم اختلفت النصارى في دينهم بعد ذلك، وفيما يعتقدونه في المسيح، وصاروا طوائف وفِرقًا، واستظهروا بملوك النصرانية كلٌّ على صاحبه. فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة، إلى أن استقرَّت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم، ولا يلتفتون إلى غيرها، وهم: الملكية واليعقوبية والنسطورية.»

وهذه هي الفقرات التي تليها:

«ثم اختصت كل فرقة منهم ببطرك، فبطرك روما اليوم المسمى بالبابا على رأي الملكية، وروما للإفرنجة وملكهم قائم بتلك الناحية، وبطرك المعاهَدين بمصر على رأي اليعقوبية، وهو ساكن بين ظهرانيهم والحبشة يدينون بدينهم.»

يلاحَظ أن القسم الأول من هذه النصوص ينتهي بتحديد أسماء الطوائف، وأمَّا القسم الثاني فيبدأ بذكر رؤساء هذه الطوائف، والانسجام بين هذين القسمين تام. ولا شك في أن دخول الفقرة الآنفة الذكر بين هذين القسمين يقطع ما بينهما من ارتباط طبيعي وتسلسل منطقي.

ولذلك نستطيع أن نجزم بأن الفقرة المذكورة إنما هي فقرة استطرادية دخلت بين سطور البحث بعد كتابتها الأولى.

•••

فلنبحث بعد ذلك في أسلوب الفقرة ومعانيها، هل تتناسب مع أسلوب سائر أقسام المقدمة ومعانيها؟

لا شك في أن كل من ينعم النظر في الفقرة المذكورة ويقارنها بما كتبه ابن خلدون في مواقف أخرى؛ يُضطر إلى التسليم بأنها لا تتناسب مع سائر فقرات المقدمة، لا من حيث أسلوب البيان، ولا من حيث طراز التفكير.

«لم نرَ أن نسخم أوراق الكتاب …» هذه عبارة ليس لها ما يماثلها في أية صحيفة من صحائف المقدمة.

«لم يبقَ بيننا وبينهم في ذلك جدال ولا استدلال، إنما هو الإسلام أو الجزية أو القتل»، هذا قول لا ينسجم مع كتابات ابن خلدون الأخرى، ولا مع أحوال العصر الذي عاش خلاله.

هذا القول لو كان صدر من قلم أحد الكُتَّاب في عهود الفتوحات الإسلامية؛ «لانسجم مع منطق الوقائع الجارية في تلك الأزمنة»، ولكن صدوره في عهد انحسار الإسلام عن كثير من البلاد — في عهد جلاء المسلمين من الأندلس إقليمًا بعد إقليم، واستطالة الدول النصرانية على بعض المدن الإسلامية من وقت إلى آخر — يكون خروجًا على أوضح وأثبت مقتضيات العقل والمنطق.

ثم إن مثل هذا القول لو نُسِب إلى رجل غافل عن أحوال عصره؛ لما أثار أي استغراب، ولكن نسبته إلى مؤرخ مفكر مثل ابن خلدون الذي دوَّن وقائع عصره — بما في ذلك الوقائع التي حدثت بين الدول الإسلامية وبين الدول النصرانية — بدقة تامة وحياد فكري شديد، ممَّا يجب أن يقابَلَ بالاستغراب، ويُسْتَبْعَدَ كل الاستبعاد.

•••

ويجب عليَّ أن أصرِّح في هذا المقام بأني بقيت مدةً طويلةً متردِّدًا وحائرًا في أمر هذه الفقرة الغريبة، ولم أُقْدِمْ على تدوين رأيي فيها بهذه الصيغة الجازمة، إلا بعد أن حصلت على دليل لا يترك مجالًا للشك في هذا المضمار؛ لقد كتب ابن خلدون في الجزء الثاني من تاريخه مذاهب كل طائفة من الطوائف النصرانية بشيء غير قليل من التفصيل.

وذلك يعني أن المذاهب التي تقول فيها الفقرة المذكورة آنفًا «إنها لم تُذْكَر؛ لكيلا تسخم أوراق الكتاب»، مسطورة فعلًا وبتفصيل تام في موضع آخر من تاريخ ابن خلدون نفسه.

وها أنا أنقل فيما يلي قسمًا من تلك التفاصيل؛ لكي أزيل من الأذهان كل ما يمكن أن يعتريها من الشكوك في هذا المضمار:

يذكر ابن خلدون الخلافات التي أثارها بين النصارى الأسقف آريوش، والمناقشات التي جرت بين الأساقفة في مجتمع نيقية، ثم ينقل نص العقيدة التي تمَّ الاتفاق عليها في المجتمع المذكور:

«نؤمن بالله الواحد الأحد، الأب، مالك كل شيء، وصانع ما يُرَى وما لا يُرَى. وبالابن الوحيد يسوع المسيح، ابن الله، ذكر الخلائق كلها، وليس بمصنوع، إله حق من جوهر أبيه، الذي بيده أُتْقِنت العوالم وكل شيء، الذي من أجلنا ومن أجل خلاصنا بعث العوالم وكل شيء، الذي نزل من السماء وتجسَّد من ورح القدس ووُلِد من مريم البتول، وصُلِب أيام فيلاطوس، ودُفِن ثم قام في اليوم الثالث، وصعد إلى السماء، وجلس على يمين أبيه. وهو مستعد للمجيء تارةً أخرى للقضاء بين الأحياء والأموات. ونؤمن بروح الواحد، روح الحق الذي يخرج من أبيه، وبعمودية واحدة لغفران الخطايا، وبجماعة قدسية مسيحية جاثليقية، وبقيام أبداننا بالحياة الدائمة أبد الآبدين» (ج٢، ص١٥٠).

وبعد ذلك ينقل ابن خلدون الحديث إلى الاختلافات التي حدثت بعد مجمع نيقية، وإلى المذاهب التي نشأت من هذه الاختلافات، ويذكر بين ما يذكره من المذاهب قول الأسقفين تاودوس وديودوس:

«إن المولود من مريم هو المسيح، والمولود من الأب هو الابن الأزلي، والابن الأزلي حلَّ في المسيح المحدث. فسُمِّي المسيح ابن الله بالموهبة والكرامة، وإنما الاتحاد بالمشيئة والإرادة.»

«فأثبتوا لله ولدين؛ أحدهما بالجوهر، والثاني بالنعمة» (ج٢، ص١٥٢).

يلاحَظ أن ابن خلدون كتب ونقل هذه الأمور الاعتقادية والمذهبية — وكثيرًا من أمثالها — من غير أن يرى في ذلك أية غضاضة.

فهل من المعقول أن يقول في موضع آخر: «لم نرَ أن نسخم أوراق الكتاب بذكر تلك المذاهب؟!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤