الاشتراكية مذهب شو

مذهب برنارد شو في السياسة والمجتمع هو الاشتراكية.

عرف هذا المذهب قبل أن يصل إلى الثلاثين من عمره، ودعا إليه، وروَّج له، وضحَّى بوقته وجهده لإيضاح مزاياه، وما كنت في حاجة لأن أشرح هذا المذهب لولا الأميَّةُ السياسية التي عمَّمَهَا قانون المطبوعات في مصر، حين كانت تؤيده هيئة مؤلَّفَةٌ من البوليس السري لتعقب المفكرين، كما تتربص بالشعب «نيابة عامة» تقدم المفكرين للقضاء وتطلب معاقبتهم، والى كل هذا عشرون سنة من الرقابة على الصحف، وهي رقابة عرفتُها أنا، وعرفها الصحفيون والمؤلفون في الحكومات الغابرة، حين لم يكن يؤذَن لنا بنشر جملة في كتاب إلا إذا أذن بها الرقيب الذي لعلَّه لم يكن ليرتفع في المستوى الثقافي إلى مقام المؤلِّف نفسه.

المذهب الاشتراكي يقوم على تأميم الممتلكات التي تحتاج إلى استغلالها إلى عمل العمال، بينما المذهب الانفرادي الذي نعيش نحن على نظامه يُجيز للفرد أن يمتلك الممتلكات ويستخدم العمال لاستغلالهم وزيادة كسبه بهذا الاستغلال.

نحن نعيش في نظام انفرادي، ولكن المجتمع الانفرادي، مهما بالَغ والتزم الروح الانفرادي في نشاطه الاقتصادي، يحتاج إلى شيء كبير من الاشتراكية وإلَّا عَمَّتِ الفوضى، ففي مصر مثلًا تدير الحكومة مصالح التلغرافات والتليفونات والبريد والسكك الحديدية، والطرق والجسور، ومشروعات الري، كما تدير المدارس والجامعات والمتاحف وصيانة الآثار، وعندنا مجالس بلدية تتولى إضاءة المنازل والشوارع وإيصال المياه النقيَّة للمساكن.

كل هذه الأعمال اشتراكية يديرها الشعب، الممثَّل في حكومته الرئيسية أو بمجالسه البلدية العديدة لمصلحة الشعب؛ أي إنها لا تملكها وتستغلها هيئات كالشركات مثلًا فتديرها لمصلحة الكسب الذي يعود على مساهميها، بل لقد كانت إضاءة القاهرة بل وكذلك مياه الشرب — إلى وقت قريب — تقوم بها شركتان استغلاليتان.

كان نظام إيصال الضوء الكهربائي والغازي وكذلك إيصال الماء للبيوت والمصالح انفراديًّا، حين كانت تتولاه شركتان غاية نشاطهما كسب المساهمين أولًا ثم خدمة السكان في القاهرة ثانيًا، ولكن الحكومة المصرية استولت عليها، فأصبح مساهموها الشعب بدلًا من الأفراد الذين كانوا يشترون أسهم الشركتين في البورصة.

وليس من المعقول أن الشركتين كانتا تخدمان الشعب بإخلاص يزيد على إخلاص الحكومة المصرية للشعب المصري.

والقضاء والتعليم كلاهما نشاط اشتراكي لا يمكننا أن نسلمه لشركة أو لأفراد كي يقوموا هم به بدلًا من الحكومة.

الأفراد والشركات يقومون بالأعمال بغية الكسب، ولكن الحكومة العامة، والحكومات الخاصة الممثلة في المجالس البلدية، تقوم بالأعمال بغية الخدمة العامة للشعب، ومن هنا أفضلية نظم الاشتراكية على النظم الانفرادية في الاستغلال.

كان الطب نشاطًا انفراديًّا في إنجلترا إلى وقت قريب، ثم أصبح مؤممًا، فماذا أعني بكلمة التأميم؟ وكيف كان الطب قبل التأميم ثم بعده؟

كان الطبيب قبل التأميم يعالج المريض ويطالبه بالأجر كما يهوى، تجارة حرة بين الطبيب والمريض، فكان من مصلحة الأطباء أن يكثُر المرضى، بل كان من مصلحة الطبيب أن يبقى المريض أطول مدة ممكنة تحت العلاج حتى يحصل الطبيب على أكبر مقدار من الأجر.

وكان الأثرياء يمتازون بأحسن الأطباء، الذين يكافئونهم بأكبر الأجور التي يعجز الفقراء عن تقديمها لهم، فكان الأثرياء يدخلون المستشفيات الفخمة ويجدون الخدمة الممتازة حين كان الفقراء يقنعون بالطبيب الرخيص، الذي قد يكون كذلك لأنه غير كفء في المعالجة ولم يكونوا يجدون سوى المستشفيات الحقيرة.

ثم أُمِّمَ الطب في إنجلترا؛ فلم يعد الطبيب يتناول أجرًا من المريض، وإنما هو يتناول مرتبه آخر الشهر من هيئة حكومية، وصار أفقر الفقراء يجد العناية التي يجدها أثرى الأثرياء، كما أن طقوم الأسنان، والنظارات، والسماعات، وُزِّعَتْ بالمجان على المحتاجين إليها.

أصبح من مصلحة الأطباء أن تنتشر الصحة وتقل الأمراض، حتى لا يتعبوا في العلاج؛ لأن زيادة الأمراض لن تزيد أجورهم.

ونحن في مصر نكلف الدولة القيام بالتعليم المدرسي والجامعي؛ أي أن التعليم مؤمَّم، وقد كان يمكننا أن نترك التعليم كله للهيئات غير الحكومية شركات أو أفراد، فهل لو كان كذلك كُنَّا ننتفع به كما ننتفع الآن به وهو مؤمَّمٌ تحت إشراف الحكومة؟

ولسنا مع ذلك اشتراكيين في مجموع أو معظم نشاطنا وأعمالنا، وإنما بدون هذا القليل من النظم الاشتراكية في الدولة لا يمكن البقاء.

بل الدفاع عن البلاد، بالجيش والأسطول والطائرات عمل اشتراكي لا يمكن أمة — مهما بالغت في الإيمان بالمذهب الانفرادي — أن تأتمن الأفراد أو الهيئات الحرة على أن تتولاه.

بل أكثر من هذا، فإنه حين تحدث الأزمات لقلة المعروض من القمح أو البترول أو نحو ذلك؛ تنهض الحكومات وتتدخل لمنع المباراة الحرة في هذه الأشياء، فتشتري هي القمح أو البترول وتبيعها لأفراد الشعب؛ وذلك لإيمانها الراسخ بأن التاجر الحر عندما يجد قلة في سلعة معروضة للبيع يرفع أثمانها، وقد يخفيها، حتى يحسَّ الجمهور قلتها فيزيد في الثمن لشرائها.

نظام المباراة الحرة في الكسب هو النظام الانفرادي، ونظام الإشراف أو الإدارة الحكومية هو النظام الاشتراكي، ولكن وصف الاشتراكية بأنها نشاط حكومي يُحدث التباسات، وصحيح أن هناك اشتراكية حكومية حين تدير الحكومة الرئيسية السكك الحديدية مثلًا، أو حتى يتولى المجلس البلدي كنسَ الشوارع وتنظيم المواصلات في المدينة، ولكن الاشتراكية أكبر من هذا.

فحين يكون هناك مصنع أو مزرعة يتولى العمال إدارتهما بأنفسهم، ويؤلِّفون من أنفسهم حكومة لهذا المصنع أو لهذه المزرعة، ويعينون الأجور، كما يعينون المبالغ للتجديد والترميم، ويختارون اللجنة المشرفة، والحكومة الرئيسة (المركزية العامة) لا تتدخل في إدارة هذا المصنع إلا بمقدار ما تحافظ به على مصلحة المستهلكين، أو للفصل في خلاف تعجز اللجنة المشرفة عن علاجه.

النظام الاشتراكي يقوم على:
  • (١)

    أعمال تتولَّاها الحكومة المركزية.

  • (٢)

    أعمال تتولَّاها المجالس البلدية.

  • (٣)

    أعمال يتولَّاها العمال أنفسهم عن طريق نقاباتهم أو شركاتهم التعاونية.

وليس هناك شعب، يعيش على النظام الرأسمالي (أي المباراة الحرة بين أصحاب الأعمال من الأفراد أو الشركات) يمكنه أن يستغني عن نحو عشرين أو ثلاثين عمل اشتراكي كما هي الحال في مصر الآن، وما يطلبه الاشتراكيون هو تعميم هذا النظام الاشتراكي على جميع الأعمال التي تحتاج إلى عمل العمال حتى تأخذ الخدمة الاشتراكية مكان الاستغلال الفردي.

•••

نظام المباراة الحرة في الإنتاج هو نظام تنازع البقاء، للفائز الرخاء والثراء، وللمهزوم الجوع والعري، هو نظام الفقر والغنى، الفقر الذي يؤدي إلى الجريمة وإلى المرض، والغنى الذي يفسد الأبناء بالميراث ويعمم الأمراض النفسية بين الأغنياء أنفسهم، كما نرى الآن في الولايات المتحدة حيث يزيد عدد الأَسِرَّةِ الخاصة بالأمراض العصبية والنفسية في المستشفيات على عدد الأَسِّرَّة الخاصة بأمراض الأجسام.

في نظام المباراة الحرة، الفقير متعب جائع ذليل مريض بالحرمان، والغني متخم بالثراء والغذاء مرهق بالهموم، وكلاهما عدوٌّ للآخر.

وما دام الإنسان يطلب الكسب، وزيادة الكسب، فإنه لا يبالي كيف يكسب، فقد يؤسس بيتًا للدعارة، أو للمقامرة، أو للخمور، أو ربما يتجر بالمخدرات المهلكة، أو — وهنا أفدح الخطر — قد يتجر بآلات الحرب، وهو حين ينتهي إلى ذلك سيحرض على الحرب التي ربما تنتهي بقتل الملايين من الناس.

لما ظهر مدفع كروب في ألمانيا حوالي ١٨٧٠ حاولت مصانع كروب بيع إنتاجها منه لألمانيا، فرفضت الحكومة الألمانية، فعرضته على بعض حكومات أوربا فرفضت أيضًا، وعندئذ بعثت بمندوبها إلى مصر حيث كان الخديو إسماعيل، وكانت له نيات إمبراطورية في أفريقيا فاشترى بعض هذه المدافع.

وعندئذٍ قصد المندوب إلى تركيا، وأفاض في النيات الإمبراطورية التي يحتضنها إسماعيل والتي ربما تحمله على محاربة السلطان؛ أي إنه مشي بالوقيعة بين الخديو والسلطان، فاشترى سلطان الأتراك بعض هذه المدافع، بل حرص على أن يشتري أكثر مما اشترى إسماعيل، ثم قصد إلى روسيا، ومشى بالوقيعة بين تركيا وروسيا، وأفهم وأوهم الوزراء بأن هذه المدافع تحقق النصر لتركيا إذا حاربت روسيا، فاشترت روسيا مقدارًا كبيرًا من هذه المدافع، وعندئذ خشيت ألمانيا هذا الجار الروسي المسلح فاشترت، وخشيت فرنسا ألمانيا فاشترت … إلخ.

هذا مثال من النظام الانفرادي في الإنتاج، نظام المباراة الحرة الذي لا يبالي سوى الكسب، ولو كان الموت هو السبيل إلى الكسب.

ولكن النظام الاشتراكي لا يهدف إلى الكسب وإنما إلى الخدمة؛ إذ لمن يكسب؟

هل الحكومة، وهي تؤدي خدمة عامة بالتعليم أو المواصلات أو الجيش تريد الكسب؟ ومن يحصل على هذا الكسب؟

هل الحكومة الإنجليزية بعد أن أمَّمت مهنة الطب تريد الكسب؟

وهل هي حين أمَّمت المناجم كانت تريد الكسب؟ ولمن تعطي هذا الكسب؟

•••

الاشتراكية في قصة قناة السويس هي التأميم، هي أن يملك الشعب المصري هذه القناة المصرية ويخدم بها العالم كله، بلا قصد إلى الكسب، كما يخدم الشعب المصري.

الانفرادية في قصة قناة السويس هي أن تستبد شركة بإدارته، وتزيد أجور العبور فيه كما تشاء بلا أي رقابة، وتعطي المساهمين الكسب الذي يطمعون فيه، فإذا طلبت الحكومة المصرية التأميم حرضت الشركة حكومتي فرنسا وبريطانيا على قتالنا.

جميع الحروب، بل جميع الاستعمار، هي نظام انفرادي في الكسب باستغلال العمال داخل بلادهم أولًا، ثم استغلال العمال في الشعوب الأخرى المستضعفة مثل الهند ومصر وكينيا والجزائر … إلخ.

وأخيرًا نظام المباراة، النظام الانفرادي للكسب، هو نظام الأزمات المتواترة التي تُحدث التعطل للعمال؛ فإن أزمة ١٩٣٠ التي عمَّت العالم الانفرادي، والتي سبقتها ثم لحقتها أزمات قد أشاعت التعطل بين نحو ستين أو سبعين مليون عامل في أوربا وأمريكا، وكان معنى التعطل هنا الجوع والعري والمرض والموت؛ إذ لم تكن الشعوب الغربية قد عمَّمت الضمانات ضد هذه الأزمات، وهي ضمانات مع ذلك لا تكفل سوى الحد الضروري للبقاء؛ أي لا تكفل للمتعطلين الحياة المتمدنة المثقفة.

وعلة التعطل أنَّ أصحاب المصانع والمزارع والعقارات يجمعون بتوالي السنين مقدارًا كبيرًا من أجور العمال وإيجارات الأرض والعقارات، وتنتهي الحال بفقر الشعب الذي يتألَّف ٩٥٪ من أفراده من العمال المأجورين أو التجار أو الساكنين المستأجرين، وعندئذ يعجزون عن شراء السلع التي تنتجها المصانع أو عن استهلاكها جميعًا، وينتج من هذه الحال أخيرًا الاستغناء عن العمال، وإقفال المصانع، أو الإقلال من الإنتاج بتعطيلها يومين أو ثلاثة أيام كل أسبوع، وهذه هي الأزمة، إنتاج كثير من المصانع والمزارع وعجز في الشعب عن الشراء، ثم تعطيل الإنتاج وطرد العمال، ثم الجوع والعري والمرض.

والنظام الانفرادي في قصة البترول العربي هو تسليمه لشركات شل وأرامكو وفاكييوم، الإنجليزية الفرنسية الأمريكية الهولندية، واستخدام العمال العرب بأتفه الأجور لاستخراجه، ثم توزيع الأرباح على المساهمين في لندن وباريس ونيويورك وأمستردام، مع بقاء العرب في الفقر والمرض والجهل.

والنظام الاشتراكي للبترول العربي هو التأميم، حتى يملك العراقيون بترولهم، ويملك السعوديون والكويتيون بترولهم، ويبيعون بعضه لأقطار العالم ويستعملون بعضه لإدارة مصانعهم.

أكتب هذه الكلمات والطائرات الإنجليزية تلقي الموت على اليمنيين لأنهم يعارضون الإنجليز في احتلال منابع البترول.

ولو كانت الحكومة الإنجليزية اشتراكية لما فعلت ذلك.

إن حزب العمال في بريطانيا — وليس جميع أعضائه اشتراكيين، وإن يكن كثير منهم كذلك — حمل الإنجليز على الجلاء عن الهند، ووقف في صف مصر ضد حكومة المحافظين حين جن إيدن وضرب بورسعيد وسائر مدننا بالقنابل من أجل التشبث بحقوق، أي بسرقات، المساهمين في قناة السويس.

الاشتراكية هي العدل والشرف في السياسة الدولية، وهي التي حملت روسيا والصين الاشتراكيتين، كما حملت نهرو الاشتراكي، على مساعدتنا في أزمة قناة السويس.

•••

الاشتراكية هي مذهب برنارد شو.

وينبعث الاشتراكيون إلى هذا المذهب بالإنسانية، ولكن ليست الإنسانية هنا هي كل شيء؛ أي إنهم لا يقولون بالرحمة للفقراء ورفع مستواهم الاقتصادي والعناية بصحتهم وزيادة أجورهم، بالنظام الاشتراكي فقط.

وإنما هم اشتراكيون أيضًا لأن الإنتاج العالي، الإنتاج الوفير يحتاج إلى الاشتراكية.

لقد استطاعت دولة الاتحاد السوفيتي أن تصلح في السنوات الخمس الماضية (آخرها ١٩٥٥) ثلاثين مليون فدان، كانت قاحلة فأصبحت الآن تُزْرَعُ بالقمح والذرة والقطن، وهذه المساحة تزيد خمسة أضعاف مساحة الأرض المزروعة في مصر.

وما كان يمكن أن يقوم بهذا المجهود فرد أو شركة، وإنما استطاعته الحكومة السوفيتية لأنها حكومة اشتراكية تتوافر لها الموارد المادية البشرية في شعب يبلغ ١٨٠ مليونًا.

فالذي يبرِّر الاشتراكية، بعد عامل الإنسانية، هو عامل الاقتصاد، عامل الإنتاج الوفير بتعبئة الشعب كله لزيادة رفاهيته وحضارته وثقافته.

•••

ما هي العوامل التي عيَّنت المذهب السياسي لبرنارد شو ووجهته؟

نشأ شو أرلنديًّا، فرأى استبداد الإنجليز ببلاده، وكره الفكرة الإمبراطورية وقاومها طيلة حياته، والمذهب الاشتراكي هو العدو الأصيل للفكرة الإمبراطورية الاستعمارية؛ لأن الأساس في الاشتراكية هو محو الاستغلال. الاستغلال للعمال داخل البلاد، والاستغلال للشعوب الضعيفة التي أخضعها الاستعمار.

ولم تكن أرلندا تزيد في نظر الإنجليز الاستعماريين على الهند أو مصر، وتاريخهم في هذه الجزيرة هو تاريخ الجزارة البشرية، وقد مرت بأرلندا أوقات كان عدد الأرلنديين المهاجرين إلى الولايات المتحدة الأمريكية أكبر من عدد الأرلنديين داخل أرلندا. وذلك فرارًا من فظاعة الاستعمار البريطاني.

ولكن برنارد شو يستعمل عقله ولا يستسلم قلبه حين يتحدث عن أرلندا؛ فإنه يجحد سلطة الكهنة الذين يستغلون تديُّن الشعب الأرلندي، هو يزيد على ذلك ويقول إن الأرلنديين قد اكتسبوا باحتلال الإنجليز لبلادهم شيئًا لا يُقَدَّرُ بثمن هو اللغة الإنجليزية التي تصل بينهم وبين الثقافة العالمية، وهو يجحد محاولة الوطنيين الأرلنديين إحياءهم للغتهم الميتة.

وهو يكاد يبرر الفتوحات الإمبراطورية في حالات معينة؛ فإنه يقول إن مكافحتنا للمبدأ الإمبراطوري، وإخضاع شعب لشعب آخر يستغله، يجب ألَّا يعمينا عن حق العالم كله في الثروات المعطلة عند الشعوب المتأخرة؛ إذ ليس من حق شعب ما أن ينام على كنوز أرضه من بترول أو فحم أو حديد، فلا هو يستغلها ولا هو يترك غيره لاستغلالها، ثم يقف خلف هذا الجمود يدافع عن نفسه بحق استقلاله.

وهذا كلام جد يبدو خاليًا من الرحمة، ولكنه لا يخلو من العدل؛ فإنه ليس من حق اليمنيين مثلًا أن يحجموا عن استغلال البترول في بلادهم ثم يمنعون غيرهم من استغلاله.

وقُلْ مثل هذا وأكثر منه عن سائر الشعوب الشرقية المتخلِّفة التي تغري المستعمرين بغزوها لجمودها.

•••

ليس هذا الكتاب عن الاشتراكية، وإنما احتجت إلى قليل من الشرح لهذا المذهب؛ لأن شو قبل كل شيء اشتراكي، والاشتراكي ليس له فقط سياسة حزبية معينة وإنما له أيضًا أخلاق يكتسبها من هذا المذهب، فهو إنساني يضع القيم الإنسانية فوق القيم الاجتماعية، وهو داعية مساواة، فلا يقول بأنه يجب علينا أن نكافح حتى نتفوق على غيرنا في الثراء أو غير الثراء، ثم لا يبالي الكسب إلا بمقدار ما يحصل منه على العيش المطمئن وليس على الترف، هو بكلمة مفردة: شريف.

وكانت الاشتراكية فيما بين ١٨٨٠ و١٩٠٠ مذهبًا ثوريًّا قد ألصق به المحافظون والأحرار في إنجلترا نزعات شاذة كاذبة، مثل الإلحاد وقتل الأثرياء ونحو ذلك.

وكان شو يعرف أن جهره بهذا المذهب سيؤذيه في تخصصه للتأليف المسرحي؛ لأن المتفرجين في الدور المسرحية كانوا في ذلك الوقت أو تسعة أعشارهم على الأقل، من الأثرياء وأبناء الطبقات المتوسطة، الذين كانوا ينفرون من هذا المذهب، وكان يعرف أنه لو ألَّف المسرحيات المسلية لوجد الإقبال المفرد والنجاح العظيم. ولكنه لم يفعل؛ فإن أُولى دراماته تنصب على موضوع الإثراء الملوث من الاتجار بالبغاء، مع شرح مسهب عن ألوان الثراء الأخرى، وأنها لا تختلف كثيرًا عن الإثراء عن طريق البغاء.

وهذا موقف شريف يجب أن نعترف به لبرنارد شو، ولكن يجب ألَّا نترك برنارد شو بلا نقد بشأن الاشتراكية.

فإن المذهب الاشتراكي يقول بأن الحكم للشعب على يد الشعب، ولكن برنارد شو في النصف الأخير من حياته التأليفية نزع إلى لون فاشي مع استبقائه لإيمانه الاشتراكي، فقد مدح موسوليني وألَّف درامات يقول فيها بأن الجمهور يمكن خداعُه وغشُّه، وأن الحكم يجب أن يبقى في أيدي الأقلية الممتازة بالذكاء والخبرة، وهو هنا يعكس الحال التي عاينها في إنجلترا فيما بين ١٩٠٠ و١٩١٩ حين استطاع الأحرار والمحافظين أن يخدعوا الشعب الإنجليزي ويوقعوه في الحرب الكبرى الأولى، بل ويورطوه في خطط استعمارية هي غاية في السفالة والخسة والدناءة.

ثم هو كان يؤمن بأن الاشتراكية المتدرجة، التي كانت تدعو إليها الجمعية الفابية، كانت تكفي لتنوير الشعب وحمله على اختيار حكومة اشتراكية، ومع أنه يعزو ظهور حزب العمال إلى تعاليم هذه الجمعية (وإن يكن هذا مما يُشَكُّ فيه)؛ فإن هذا الحزب لم يحقق كل ما كان يصبو إليه برنارد شو من تحقيق النظام الاشتراكي.

وانحياز برنارد شو نحو الفاشية يعود إلى يأسه من تعليم الشعب، وأعظم مظاهر العجز في الشعب الإنجليزي، بل في كل شعب آخر، هو جهله؛ فإن «الديلي إكسبرس» مثلًا تعكس لنا — بتفاهة أخبارها وسخافة آرائها — عقلية الشعب الإنجليزي أكثر مما تعكسه لنا جريدة «التيمس»؛ فإن الأولى — وهي للشعب — تطبع في اليوم نحو أربعة ملايين نسخة حين لا تطبع الثانية — وهي للخاصة — أكثر من ربع مليون.

ولكن هذه الأمية الصحفية تعود في النهاية إلى إهمال تعليم الشعب، ولو أن حكومات المحافظين والأحرار والعمال عُنُوا العناية الكبيرة بتعليم الشعب لَمَا أمكن خداعُه. وحسبنا مثلًا أن نقول إن روسيا قد جعلت العلوم في أساليبها وموادها أساسًا لتعليم خمسة ملايين عالم أو رجل علمي، ومثل هذه الوثبة ستكفُل للشعب الروسي — أو بالأحرى للشعوب السوفيتية — مرتبة عالية من الثقافة العلمية الجديدة التي تحول بينها وبين الإيمان بالخرافات المقدَّسة، كما تحول بينها وبين الخدَّاعين والنصَّابين في السياسة.

ولكنَّا مع كل ما قلنا هنا لا نستطيع أن نتهاون أو نتسامح في هذا الانحياز نحو الفاشية في برنارد شو.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤