تذييل
تمهيد
يكاد يكون العلم والأدب والفن قد انتهى في العالم العربي بانتهاء القرن الخامس وربما وجد شيء في القرن السادس الهجري من الابتكار والتجديد، أما بعد ذلك من ابتداء القرن السابع إلى النهضة الحديثة فيكاد يكون ترديدًا لما فات، وجمعًا لمتفرق، أو تفريقًا لمجتمع، إلا في القليل النادر الذي سنذكره في هذا القسم.
وهنا نتساءل: هل عقمت الولّادة عن ولادة المبتكر المجدد، أم أصيب الناس بالغباء بعد الذكاء؟ والحق أن ليس شيء من ذلك، وإنما هي التربية: فربّ الذكي تربيةَ غباءٍ يكن غبيًّا، وربّ الغبي تربية ذكاءٍ يخرج خير ما عنده. وأنت إذا أخذت مصباحًا كهربائيًّا قوته خمسون، ولكن لم تنظفه مما عليه من غبار، وما لم تلمعه وتهيئه تهيئة حسنة، كان خيرًا منه مصباح قوته خمس وعشرون أعدّ كل الإعداد، فالولادة لم تعقم، ولكن غلبت على عقول من تلدهم التربية والظروف، فما السبب في ذلك؟
- أولًا: أنَّ العنصر العربي الذي ينتج النتاج العربي قد اختفى تقريبًا، وغلب عليه العنصر الفارسي والتركي. قد كان العنصر الفارسي أول الأمر يتثقف الثقافة العربية؛ حتى يخرج ثقافته هو الفارسية إلى ثقافة عربية، كما فعل عبد الحميد الكاتب، وعبد الله بن المقفع وأمثالهما، وكما فعل البرامكة، أما بعد ذلك فقد أخذ الفرس يتعصبون للغاتهم وثقافتهم، وأعرض كثير منهم عن التثقف بالثقافة العربية كحال بني بويه الفارسيين، فقد كانوا يتعصبون للفارسية، إلا القليل النادر الذي يتقن العربية مثل عضد الدولة. وخلف الترك الفرس، فكانوا أبعد عن العربية، وعن الثقافة العربية، خصوصًا وأنَّ العلم والأدب العربيين كانا أرستقراطيين لا شعبيين، فالعلماء والأدباء يقصدون إلى بلاط الأمراء والولاة، والقواد يتكسبون منهم؛ إذ لا يستطيعون أن يتكسبوا من الشعب. فلما استعجم هؤلاء الولاة والأمراء، ولم يفهموا علم العلماء، ولا أدب الأدباء انحط شأن العلم والأدب، ولكن لا بد أن نلاحظ ملاحظة دقيقة، وهي أنَّ العلم والأدب ظلا مزدهرين بعد تغلّب الفرس والترك والأعاجم، وذلك بقوة الدفعة لا بقوتهم هم؛ إذ العلم والأدب لا يموتان سريعًا، ولكن يحتضران في زمن طويل، وهذا هو الذي يفسر استمرار النهضة العلمية والأدبية في القرن الخامس، وشيء منهما في القرن السادس، وبعد ذلك تَمَّ الاختصار.
- ثانيًا: كان المعتزلة حاملي لواء النهضة الفكرية، من أقوى مبادئهم: القول بسلطان العقل، حتى الحديث نفسه يعرض على العقل ليحكم بصحته أو وضعه، وصحة العقائد الدينية البحتة تعرض أيضًا على العقل، وتفسر تفسيرًا عقليًّا، ويحتج لها احتجاج عقلي، كما رأينا من قبل، وهذا في العادة هو الذي يُسْلِم للنهضة. وعلى العكس منهم كان المحدثون الذين يقولون بسلطة النقل، وعندهم أنَّ قوة السند مقدمة على معقولية المتن، فلما جاء المتوكل ونصر المحدِّثين على المعتزلة، وأدخل المعتزلة في جُحر بيوتهم سياسيًّا، وجاء الأشعري، وزاد في قمعهم دينيًّا حرم العالم الإٍسلامي المنهج العقلي، وتبعوا المنهج النقلي، وأصبح منهج المحدثين هو منهج التربية السائد في العالم الإسلامي كله. وطبيعي أنَّ المنهج النقلي لا يعد للتجديد والابتكار، وإنما يعدّ لرواية الخلف عن السلف، وكلما تقدم الزمن زاد عبء السلف على أكتاف الخلف، فشلَّ من ابتكارهم.
- ثالثًا: هجوم التتر على العالم الإسلامي، وكان هجومًا مُخَرِّبًا
مدمرًا من قوم لم ترقهم الحضارة، ولم تهذبهم الثقافة، شداد
غلاظ لا يفهمون معنى العاطفة، ولا تلين قلوبهم للرحمة، أحب
منظر إليهم الدم ينهار، أو الآثار العظيمة تصبح شعلة من نار،
كان بأسهم بينهم، فجمعهم جنكيز خان؛ فأزال خلافهم، ووحد
كلمتهم، فاتجهوا نحو الشرق الأقصى يفتحونه، فلما أتموا ذلك
هجموا على المملكة الإسلامية فيما وراء النهر، فاستولوا على
مملكة «شاه خوارزم»، ثم اكتسحوا بجيوشهم خراسان وفارس، يخرّبون
الحضارات، ويذبحون الناس حتى جاء هولاكو حفيد جنكيز خان، فاتجه
إلى الدولة العباسية سنة ٦٥٤ﻫ، وعرج على قلعة ألموت عش
الإسماعيلية التي ذكرناها من قبل ففتحها، وأخذها منهم، وقتل من
فيها، ثم استولى على الريّ، ثم قصد بغداد سنة ٦٥٥ﻫ، وكان
الخلاف فيها فظيعًا بين السنية والشيعة، فظن الوزير العلقمي
الشيعي أنه يغنم غنمًا كبيرًا للشيعة إذا هو مكَّن للتتار من
الاستيلاء على بغداد، وزلزلة الأرض تحت أرجل الخليفة المستعصم،
فلما هجم هولاكو استولى على بغداد، وأباح بغداد أربعين يومًا
لجنوده، وقتل منها — كما يقول — بعض المؤرخين أكثر من مليون
وثمانمائة ألف، وخرب عمرانها، ورمى كتبها في نهر دجلة. وكانت
هذه العمارات نتيجة حضارة قرون، والكتب نتيجة ثقافة قرون،
والحضارات والعلوم إنما تبنى على ما قبلها، وتؤسس على ما
سبقها، وهي كالماء للنبات الغض، فإذا حُرِم النبات الغض الماء
ذبل، وجَفَّ بعد قليل، وكذلك كان العلم والحضارة الإسلاميان،
هذا فضلًا عما أصيبت به الثقافة من نكبات للعلماء، فإنْ بقي
شيء من العلم فقليل يكفي للتقليد، ولا يبعث التجديد. يقول
الخميسي: وفي سنة خمس وخمسين وستمائة ثارت فتنة مهولة ببغداد
بين السنية والرافضة من الشيعة، أدت إلى نهب عظيم وخراب، وقتل
عدة من الرافضة؛ فغضب لها، وتنمر ابن العلقمي الوزير، وجسَّر
التتار على العراق ليشتفي من السنية.
وما كاد العالم الإسلامي يفيق من نكبته، ويسترد بعض قوته حتى جاء تيمورلنك فأكمل ما عصف به أجداده جنكيز خان وهولاكو، واجتاز بقية آسيا الصغرى، وأكثر القتل والتخريب والفساد، وأرعب الناس، وأفسد الشام، وكانت قد استعصت على من قبله، وخربها فيما خرب، وقتل علماءها فيمن قتل، ومات سنة ٨٠٧ﻫ بعد أن أكمل خنق البلاد.
فهل نعجب بعد ذلك إذا هدأت النهضة، وخمد العقل؟؟
- رابعًا: وسبب رابع: هو ما انتشر بين المسلمين من عصبية حادة، مذهبية وطائفية: ففقهاء ضد الصوفية، وصوفية ضد الفقهاء، ومعتزلة ضد السنية، وسنية ضد المعتزلة، وشيعة ضد السنية، وسنية ضد الشيعة، وشافعية ضد الحنفية، وحنابلة ضد غيرهم ممن شرحنا بعضه من قبل. ومن المؤسف أن هذه الخلافات لم تقتصر على الخاصة من العلماء، بل أشركوا فيها العوام، والعوام عادة ضيقو العقل، عديمو التسامح، فكانت البلوى من ذلك كبيرة، والنتيجة فظيعة.
- خامسًا: لما رأى العلماء ما حدث بالبلاد من خراب، وللعلم والعلماء من نكبات، ضعفت هممهم بالطبيعة، وانكسرت نفوسهم، فبعد أن كانوا يطمحون إلى شيء في العلم جديد أصبحوا يحمدون الله أن استطاعوا أن يحتفظوا بالقديم، وهذا هو الذي سمي «إقفال باب الاجتهاد»، فلم يكن هناك باب مفتوح أقفل، ولا مجمع من العلماء تجادلوا فيه، ثم قرروا محضرًا كتبوا فيه ذلك، لا لا، ولا شيء من ذلك، إنما هي حالة نفسية اعترتهم لم يأملوا معها في جديد، وكل أملهم انحصر في المحافظة على القديم، فاجتهدوا كل الجهد أن يحتفظوا بالبقية الباقية يرددونها ويكررونها، ويشرحونها أو يختصرونها؛ فانقلب المجتهد المطلق إلى مجتهد مذهب، والمؤلف المبتكر إلى مؤلف مفسر، ومن خرج عن الطريق المرسوم ولو قليلًا كان ملحدًا زنديقًا، فإن بدر شيء يعد ذا قيمة فواحة خضراء وسط صحراء جرداء على ضعف الواحة، وقلة سكانها، وضآلة خيراتها. وسنعرض في هذا القسم من الكتاب إلى وصف هذه الواحات، وما فيها من خيرات.
تأليف الموسوعات
كل هذه الأسباب قد عاقت الحركة العلمية، وأماتت النهضة الثقافية، حتى كان الزمان الذي يسمح بعشرات من فطاحل العلماء في وقت واحد لم يعد يسمح إلا بواحد بعد واحد في عصور متباعدة. وكان من نتيجة ذلك أن انتقلت زعامة الحركة العلمية من العراق إلى مصر؛ لأنَّ مصر قد حماها الله من التخريب التتري، وعاشت عيشة هادئة نسبية، والعلم لا يترعرع إلا في ظل الهدوء والأمان.
- (١)
في السماء والآثار العلوية، والأرض والعالم السفلي، ويشتمل على خمسة أقسام.
- (٢)
في الإنسان، وما يتعلق به، ويشتمل على خمسة أقسام.
- (٣)
في الحيوان الصامت، ويشتمل على خمسة أقسام.
- (٤)
في النبات، ويشتمل على أربعة أقسام، وذيله بقسم خامس في طبّ النبات.
- (٥)
في التاريخ، ويشتمل على خمسة أقسام، وقد مات النويري سنة ٧٣٢ﻫ.
وكذلك فعل القلقشندي إذ ألّف كتابًا سماه «صبح الأعشى» في أربعة عشر جزءًا، والقلقشندي هذا نسبة إلى قلقشندة بلدة في مديرية القليوبية، وقد عني فيه بما يحتاج إليه الكُتَّاب، إذْ كان هو رئيسًا لديوان الكتاب.
وألف ابن فضل الله العُمري، وكان معاصرًا للنويري موسوعته المسماة «مسالك الأبصار» في التاريخ والجغرافيا والتراجم، يقع في أكثر من عشرين جزءًا، ومن نعم الله أن وصلت إلينا هذه الكتب كلها، واستفاد العالم منها، وكانت مصدرًا للأدباء والعلماء، وحفظت لنا ثروة كبيرة من آثار الأقدمين.
هذا كتاب لم يسألني أحد تصنيفه، وإنما دعاني إلى ذلك أنه وقع في بعض الدروس ذكر مالك الحزين، والذبح المنحوس، فحصل بذلك ما يشبه حرب البسوس؛ فاستخرت الله سبحانه في وضع كتاب في هذا الشأن، ورتبته على حروف المعجم.
وقد انتقد الناس تأليفه هذا الكتاب مع أنه فقيه محقق في العلوم الدينية لا في علم الحيوان.
كما ألفوا جمع الأمثال، وتوسعوا في جمعها عما سبقهم، وهكذا، ولو أنهم جاءتهم فكرة ترتيب المسائل على حسب الحروف الأبجدية لكان كل كتاب من هذه الكتب الثلاثة يصح أن يكون دائرة معارف واسعة.
وربما كان من خير الأمثلة على ما نقول ما فعله السكاكي في كتابه «مفتاح العلوم»؛ فقد ركز على جملة علوم ومنها البلاغة، ولخصها مِنْ كتب مَنْ قبله ككتاب دلائل الإعجاز، وأسرار البلاغة لعبد القاهر الجرجاني، وقد أفقدها في تلخيصه روحها.
ثم تتابع على مفتاح العلوم التلخيص، وتلخيص التلخيص، حتى صارت على يد سعد الدين التفتازاني حجرًا جامدًا.
ولعل من الخير أن نذكر ملاحظاتنا على كل فن وحده.
(١) أولًا: الأدب
ربما كان الأدب والفن على العموم أكثر الأشياء تأثرًا بالبيئة، والبيئة المصرية خضعت بعد سقوط بغداد للمماليك، واستمرت تحت حكمهم إلى سنة ٩٣٢ﻫ، وفي عهد المماليك انتقلت الخلافة أيضًا من بغداد إلى القاهرة على يد السلطان بيبرس، وفي عهد المماليك نحي العرب عن السياسة وعن الجندية، فانصرفوا إلى الزراعة والصناعة، وكسب العيش، وجعلت الأمور السياسية والحربية بيد المماليك، وفي هذا من غير شك إضعافٌ للنفسية العربية، وإسلام لهم إلى الخمود، فكان هذا عاملًا كبيرًا من عوامل انحطاطهم.
- (١)
أخذ الكتاب والعلماء والصناع، وإرسالهم إلى القسطنطينية، وكان ذلك زبدة الحضارة الإسلامية المصرية.
- (٢)
إحلال اللغة التركية في الدواوين الرسمية محل اللغة العربية.
- (٣)
تحويل مصر إلى ولاية عثمانية بعد أن كانت سلطنة مستقلة، وتبع ذلك أن الولاة الذين كانوا يعينون من قبل السلطان العثماني كانوا يعينون إلى أمد، ويجتهدون في هذه الفترة أن يقتنوا لا أن يعدلوا وأن ينهبوا لا أن يهبوا، يضاف إلى ذلك ما عرف عنهم من التعصب والتعاظم.
كل هذا أثر في الحركة العلمية، وفي الأدب على وجه الخصوص أثرًا سيئًا حتى لقد قل أن نجد نتاجًا يتذوق.
ونجد الأدب منذ عهد الدولة الأيوبية، وقبله أدبًا يغرق في السجع والزينة البديعية على نمط مدرسة العماد الأصفهاني، وابن العميد، وابن عباد، والقاضي الفاضل.
والسبب في ذلك أن المقصد الذي كان يقصده الأدباء من أدبهم هو الملوك والأمراء، وهؤلاء إنما تقدم لهم في الماديات الطرف الجميلة الصنع، المزخرفة والمزركشة، والمملوءة باللآلئ، فكان لزامًا أن يكون الأدب على هذا النحو، فبدل اللآلئ المحسنات البديعية، وبدل الزركشة السجع، ولم يكن الشعب ذا قيمة ولا مال حتى يتجه إليه الأدباء، ولو اتجهوا إليه لكان سهلًا بسيطًا مجردًا من الزينة.
ثم قد يظن ظان أن الكتابة الأدبية المسجوعة والمحلاة بالبديع أصعب من الكتابة الفنية المرسلة غير المحلاة، وهذا خطأ محض؛ فالواقع أن الذي يلجئ إلى السجع والبديع الفقر في المعنى، فإذا عدم الأديب المعنى الغزير عوّض الأديب عن ذلك اللعب البهلواني الخارجي، ولكن لو وجد معنى غزير لكفى هذا المعنى بغزارته أن يكون جميلًا متى عبر عنه تعبيرًا مرسلًا فيه جمال البساطة، ألا ترى أن الحسناء يكفيها في الجمال أي حلية ولو بسيطة، بل يغنيها جمالها عن كل حلية، وأن القبيحة تحاول محاولة كبيرة أن تخفي قبحها بالغلو في زينتها، وهيهات مع ذلك أن تساوي الجميلة من غير حلية. وفي رأيي أن ابن خلدون الكاتب المرسل غير المتأنق أبلغ من القاضي الفاضل، والسبب في ذلك أنه وجد معنى غزيرًا، فعبر عنه تعبيرًا بسيطًا، والقاضي الفاضل لم يجد معنى غزيرًا فهوش بالسجع والبديع.
(١-١) صفي الدين الحلي
وقد يكون صفي الدين الحلي أول من يطالعنا في هذا العصر، وفيه مسحة خفيفة من التجديد، وهو عراقي الأصل، اسمه عبد العزيز بن سرايا، ولد بالحلّة من مدن الفرات سنة ٦٧٧ﻫ، وخدم الدولة الأرتقية نسبة إلى أرتق أحد مماليك السلطان ملك شاه السلجوقي، ثم جلبته القاهرة فيمن جلبت، فوصل إليها سنة ٧٢٦ﻫ في زمن السلطان الملك الناصر ابن قلاوون، ومدحه بقصيدة مطلعها:
وحتى في هذه القصيدة يقلد أبا الطيب المتنبي في قصيدته التي مطلعها:
غاية الفرق إمعان صفي الدين في الجناس بين ذوائبا وذوائبا، ومن إمعانه في البديع، مثلًا: إنشاؤه قصائد سميت «الأرتقيات» في مدح الملك المنصور بن أرتق صاحب ماردين، وهي تسع وعشرون قصيدة بعدد أحرف الهجاء، يلتزم في كل قصيدة حرفًا يبدأ كل بيت به، وينتهي به.
ومن أمثلة شعره الذي يتلاعب فيه بالبديع ما قاله في التضحية:
•••
والبيت الأخير لأبي نواس ضمنه صفي الدين الحلي. وترى الإمعان في الجناس بين الهوى والهوى، ونوى والنوى.
ويرد أحيانًا في شعره بعض تعبيرات تكاد تكون عامية، كقوله في المفاضلة بين الورد والزنبق:
فالمناداة بيا رفقتي، ويضحك الورد على شيبتي، تعبيرات تكاد تكون عامية، وفي الغالب يكون قد أخذها من القاهرة لما أقام بها، وربما عدَّ من خير تجديدات صرخته في الذين يستعملون الألفاظ الغريبة، يقصدون إليها، ويتباهون باستعمالها فيقول:
فهو يدعو إلى هجرة الألفاظ الوحشية، واستعمال المأنوس من الألفاظ، ولئن جاز للأصمعي الإغراب، فلا يجوز لمن أتى بعده في عصر مختلف كل الاختلاف إلا الإيضاح، وهي دعوة صحيحة تقيد بها، واستعملها غالبًا.
ومما ابتكره صفي الدين إنشاء بديعية في مدح الرسول ﷺ ضمنها كل أنواع البديع المعروفة في زمنه، ومطلعها:
وجعل في كل بيت نوعًا من أنواع البديع، ثم أنشأ معاصره ابن نباتة مثله بديعته التي مطالعها:
وجاء عز الدين الموصلي بعد ذلك سنة ٧٨٩ﻫ؛ فزاد على ذلك أن جعل البيت من القصيدة يحمل اسم النوع البديعي، وأولها:
وتبعه ابن حجة الحموي سنة ٨٣٧ﻫ؛ فأنشأ بديعيته على هذا المنوال، ومطلعها:
وهكذا تدفق الشعراء في هذا الباب؛ لأنه ناسب دروشة الشعر.
(١-٢) شعر للتسلية
ووجد شعراء بعد ذلك قالوا في المعاني التي سبقهم بها الشعراء، وأكثروا من المقطعات التي تصف الأشياء العارضة كسقوط مئذنة، وقتل زنديق، ووصف سجادة، ووصف سبحة. وتوالى على ذلك الشعراء أمثال الشاب الظريف، وسراج الدين الوراق، وابن الوردي، وغيرهم. وكان الذي يهمهم في ذلك النكتة كالتي نسمعها اليوم وكلما وفق الشاعر إلى النكتة أكثر كان بالشعر أشهر، مثل:
ومثل:
ومثل:
… إلخ.
وكثر اتهام الشعراء بعضهم لبعض بالسرقات، وأكثروا فيها الكلام، ويعجبني في ذلك قول محيي الدين بن تميم:
وأظن أن قوله بالنصف يحابي فيه نفسه.
ومن ظريف ما حدث في ذلك أن صلاح الدين الصفدي الشاعر بالشام لما أغار على معاني جمال الدين بن نباتة في مصر، ولم يترك له معنى إلا أخذه، اضطر ابن نباتة أن يؤلف كتابًا يجمع فيه هذه السرقات سماه «خبز الشعير»، واستهله بقوله: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا (نوح: ٢٨)، ومما ورد في هذا الكتاب من أمثلة السرقة قول ابن نباتة:
فقال الصَّفدي:
فقال ابن نباتة: لا إله إلا الله، سرق الصلاح من الحبتين حبّة.
وممن اشتهر بالشعر البوصيري، وسبب اشتهاره بالشعر مدائحه النبوية، كالبردة والهمزية، وقد اشتهرت البردة، وأعجب بها الناس حتى أصبحت نموذجًا في المدائح النبوية، والهمزية التي مطلعها:
والناظر في شعره يرى أنه في المدائح النبوية أرقى مما له من غيرها من قصائد لجلال موضوعها، وسمو روحها، وشبوب عواطفه فيها، أما غيرها من الشعر فخفيف فاتر.
ومع هذا، فقد كانت حالة الشعر في أيام المماليك خيرًا منها في العهد العثماني، كأن الانحطاط في الشعر والأدب حدث على درجات.
(١-٣) القصص والنثر
ومن ضروب الأدب في ذلك العصر القصص، وربما كان القصص الشعبي أحسن حظًّا؛ لأنه وجد استجابة له من الشعب، ومن آثار ذلك ما حدث من الزيادات على ألف ليلة وليلة في عهد الحروب الصليبية والمماليك، كقصة معروف وزوجته فاطمة، فإن حوادثها تدل على أنها وضعت أخيرًا، وكقصة أبي قير وأبي صير، فإنها من أحدث ما كتب، وبعض القصص تظهر فيها خصائص اللغة العامية الشامية، والبعض تظهر فيها خصائص المصرية. ومثل ذلك قصة عنترة، وقد ظلت تتداول على الألسنة عهدًا طويلًا، وقد ألفها القُصَّاص في أزمنة مختلفة، بعضها ألف في عهد الخليفة الفاطمي العزيز بالله، وبعضها ألف في القرن السادس الهجري. وألف ليلة وليلة وقصة عنترة أوسع خيالًا من مقامات الحريري، وأدخل في باب الفن، وإن لم تكن مثلها في البلاغة. وسيرة عنترة من أكبر القصص العربية، وينقصها جودة الحبكة، حتى إنك لو حذفت جزءًا منها ما شعرت بالخلل، كما ينقصها جودة الخيال، فخيالاتها ليست قوية، ومؤلفها قصير النفس، كثير الانتقال، لا يسير في خطة إلا تحول عنها، وشرع في غيرها، فإن قلنا: إن العرب لم يحسنوا القصص الطويل كما أحسنوا الحكايات القصيرة، والمقامات، والأحاديث، كأحاديث ابن دريد التي رواها القالي في الأمالي، لم نبعد عن الصواب.
وأما النثر، فقد انقسم في هذا العصر إلى قسمين: نثر رسمي، كالكتب التي تخرج من الدواوين، وكان لذلك ديوان خاص اسمه ديوان الإنشاء، يرأسه أكبر من عُرف بالأدب، ويختار رئيسه ممن عرف بالسياسة وبالأدب معًا؛ لاحتياجه إليهما، وقد تولى هذا المنصب فخر الدين بن لقمان، ثم محيي الدين بن عبد الظاهر، ثم ابنه فتح الدين، وعلاء الدين بن الأثير، وشهاب الدين الحلّي، وابن فضل الله العمري، والقلقشندي؛ وقد وردت من هؤلاء مكاتيب كثيرة عدت نموذجًا، وتحروا فيها الدقة في الألقاب، والمحافظة على الأسلوب، وهي مملوءة بالسجع، وأنواع البديع كما وصفنا من قبل.
والنوع الثاني: ما يسمى بالإخوانيات، كمكاتبة الأصحاب للأصحاب في الثناء والاستهداء، أو الإهداء، ونحو ذلك، وكلها قد استوت مع الشعر في الإغراق في البديع، لا ينقصها في ذلك إلا الوزن، حتى في تقديم الغزل أول الموضوعات، وقد اشتهر في ذلك كثيرون، ومن خير الأمثلة على ذلك كتاب «نسيم الصبا» لبدر الدين الحلبي، وهو فصول نحو الثلاثين في أصل الطبيعة والأخلاق والأدب وفصول العام إلخ. وهو مظهر من مظاهر النثر الفني في ذلك العصر.
(١-٤) ابن خلدون
ولا نريد أن نطيل في ترجمة الناثرين من هذا القبيل، وإنما نقف وقفة عند سيد هؤلاء الأدباء وهو ابن خلدون، وقد يعد عجيبًا أن نعده أديبًا كبيرًا، ومن قبلنا لمن يعدوه في هذا الباب، وإنما عدوه مؤلفًا اجتماعيًّا. ونحن نعده أديبًا كبيرًا أيضًا؛ لأنه نموذج للأدب الذي نرتضيه، غزارة في المعنى، وبساطة في الأسلوب، وأسلوبه من النوع الذي يعدونه في البلاغة مساواة، لا إيجاز ولا إطناب، فالعبارة على قدر المعنى.
وكما تطور النثر بعبد الحميد الكاتب تطورًا جديدًا، عماده الإطناب، وبسط الأسلوب، وتطور عند الجاحظ بجعله كل شيء موضوعًا للأدب، تطور على يد ابن خلدون بجعله مسائل الاجتماع موضوعًا للأدب.
وتكلم في العلوم وأصنافها، والتعليم وطرقه، وقد نقده بعضهم بأنه لم يطبق نظرياته التي وسعها في مقدمته على كتابه التاريخ، فهو فيه لم يحقق التحقيق الذي طالب به. وعلى كل حال، فقد نحا منحى جديدًا لم نعرف أنه سبق إليه.
ومما يمتاز به التزامه المنطق في كلامه، فهو يذكر النظرية، ثم يأخذ في شرحها، ثم يأخذ في التدليل عليها، حتى كأنها نظرية هندسية.
ومن المؤسف أن الشرق انطوى على نفسه، ولم يعد له صلة بالعالم الغربي منذ انتهاء القرون الصليبية، وقد بدأ العالم الغربي يستعد للنهضة، ولكن لم تدر ماذا كان يصنع، ولو درينا لأسسنا نحن أيضًا نهضة جديدة.
والحركات العلمية والأدبية عادة إنما تنهض بدخول عناصر جديدة فيها، تشع الحياة كما حدث في عهد الأمويين، إذ دخلت عناصر جديدة على الأدب العربي، وعلى العالم العربي فحيي من جديد، وكما حدث في عهد العباسيين إذ تسربت إلى العلم العربي، والأدب العربي الثقافات الهندية والفارسية واليونانية فنشط من جديد، بل وكما حدث في عصرنا هذا؛ إذ تسربت الثقافات الأجنبية إلى العلم والأدب العربيين، فاتجها اتجاهًا جديدًا، فلما حرم الشرق من اطلاعه على الآداب الأجنبية، والعلوم الأجنبية أصابه الركود، وظل راكدًا عصورًا طويلة إلى أن أتاه المدد في النهضة الحديثة.
(٢) ثانيًا: اللغة، والنحو والصرف
(٢-١) اللغة
أما اللغة، فكان عمل المتأخرين فيها ليس إلا جمعًا لمن سبقهم، أو اختصارًا في التعبير، أمَّا جديدًا فلا، وأشهر معاجم اللغة التي ألفت في هذا العصر كتاب «لسان العرب» لابن منظور، وقد ألفه في عشرين مجلدًا، جمع فيه كتاب التهذيب للأزهري، والمحكم لابن سيده، والصحاح للجوهري، والجمهرة لابن دريد، والنهاية لابن الأثير. وقد قال في مقدمته: «وإني لم أقصد سوى حفظ هذه اللغة العربية، وضبط فضلها؛ إذ عليها مدار أحكام الكتاب العزيز والسنة النبوية. وذلك لما رأيته قد غلب في هذا الأوان من اختلاف الألسنة والألوان، حتى لقد أصبح اللحن في الكلام يعد لحنًا مردودًا، وصار النطق بالعربية من المعايب معدودًا …» وهو من غير شك عمل ضخم، وجمع لمادة كان يصعب جمعها، وهو كتاب أدب بجانب أنه كتاب لغة؛ لما يشتمل عليه من نصوص وافية، ولكن إذا نحن نظرنا فيه إلى الابتكار، لم نجده.
وكذلك فعل صاحب القاموس المحيط وهو مجد الدين الفيروزآبادي، وقد ولد بكازرون إحدى بلاد فارس، وتعلم في واسط وبغداد ودمشق، ورحل إلى مصر، ثم إلى آسيا الصغرى، ولقي تيمورلنك في شيراز، ثم رحل إلى اليمن، فتلقاه سلطانها بالقبول، وعينه قاضي القضاة حتى مات.
ولقي كتابه القاموس شهرة كبيرة حتى سمى الناس كل كتاب في اللغة «قاموسًا»، وهي شهرة أكثر مما يستحق؛ إذ كل ميزته اختصاره الشديد المخل، ومحاولته التمييز بين الواوي واليائي، ونصه على صيغة المؤنث، وما عدا ذلك لا شيء.
وربما عد السيوطي أكبر مظهر للخصائص التي ذكرناها، فهو مؤلف كثير التأليف، كثير الجمع، قليل الابتكار، ألف في التفسير، والحديث، واللغة، والفقه، والنحو، والمعاني والبيان والبديع، حتى لقد عدّ من تأليفه ثلاثمائة كتاب.
وقد اتهمه رجال عصره كثيرًا بأنه يأخذ من تآليف غيره، ويحوّرها، وينسبها إلى نفسه، حتى لقد تنازع هو والقسطلاني على كتاب «المواهب اللدنية» لأيهما هو، وكلٌّ يدعيه، وأخيرًا نحاه السلطان طومان باي من منصبه لكثرة أعدائه، وادعائهم كثرة سرقاته.
نعم، إنَّ حركة التأليف كانت قوية في عصر المماليك، والعصر العثماني، حتى ليعجزنا حصر ما ألف في ذلك العصر، ولكنها قوية من حيث العدد لا من حيث القيمة، فلا تكاد تستطيع أن تعدّ كثيرًا من أمثال مقدمة ابن خلدون.
(٢-٢) النحو والصرف
وأمَّا النحو والصرف، فقد استمرا على النحو الذي وضعه سيبويه في الكتاب، وجرى على الأصول المألوفة في ذلك الزمان، وكل ما رأينا هو شرح لغامض، أو اختصار لمطوّل.
وأما ابن هشام، فكما قال عنه ابن خلدون: إنه «استوفى أحكام الإعراب مجمله ومفصله، وتكلم عن الحروف والمفردات، والجمل، وحذف ما في الصناعة — صناعة النحو — من المتكرر في أكثر أبوابها … وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها، وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها، فوقفنا منه على علم جم، يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة، ووفور بضاعته منها»، وهو كابن مالك منظم لا مجدّد.
(٣) ثالثًا: الفقه
وأما الفقه، فقد نبغ كثير من الفقهاء في كل مذهب، ولكن نلاحظ أن الاجتهاد الذي أقفل بابه، ظلت فيه بقايا ينتفع بها بعض الفقهاء، فيروي مثلًا عن بعض الفقهاء أنه كانت لهم أحكام في بعض مسائل اجتهدوا فيها حسب الكتاب والسنة، وخرجوا فيها عن المذاهب الأربعة، وما زال يضيق شيئًا فشيئًا بتوالي الزمان حتى سد الباب سدًّا محكمًا، ولم يبق إلا أن يقلّد كل الكبار من مشايخ مذهبه.
إنا نرى مثلًا أن ابن تيمية قال بعدم جواز التوسل بالميت ولو نبيًّا، وإن الطلاق الثلاث في لفظ واحد يقع طلقة واحدة، على غير ما يقول أتباع المذاهب.
ثم إن المقلدين حجروا على الفكر والفتيا، وقالوا: لم يبق في الأرض عالم منذ العصور المتقدمة، وليس لأحد أن يختار بعد أبي حنيفة، وأبي يوسف، وزفر، ومحمد بن الحسن من أصحاب أبي حنيفة، ولا مالك والشافعي وأصحابهم، وقالوا: لا يحل لأحد بعد هؤلاء الأئمة أن يستنبط الأحكام من كتاب الله، ولا من سنة رسوله، وأحالوا أن يوجد مجتهد يستطيع استنباط الأحكام من الكتاب والسنة.
وقالوا: إنا وجدنا آباءنا على أمةٍ، وإنا على آثارهم مقتدون، مع أن الأحاديث جمعت، وتحصيل العلوم سهل، وأقوال من تقدم عرضت، فأصبح الاجتهاد اليوم أيسر مما كان، ولكنها النفوس صغرت، والهمم اضمحلت، وربما كان اليمن بحكم مذهبه الزّيدي أكثر تسامحًا في الاجتهاد، حتى إن الإمام الشوكاني اليمني ادعى لنفسه الاجتهاد المستقل، وقاومه بعض أهل اليمن، وقالوا: إنه خرق الإجماع؛ فتألّب الزيدية عليه، وقيل: إنهم عادوا فسلموا له، وأذعنوا لما رأوا من علمه.
(٣-١) منزلة علماء الدين
ومثل ذلك مواقف لابن دقيق العيد والنووي، فهؤلاء كانت شهرتهم في قولهم الحق، وتمسكهم به، وعدم خشيتهم من الملوك اعتمادًا على تعلق الشعب بهم، إنما كانوا في الفقه مجتهدي مذهب أو مذهبين، لا مجتهدين مطلقين. ولما تقدم الزمن أصبحنا لا نرى مجتهدًا مطلقًا، ولا مجتهد مذهب، وكل همهم الأخذ من الكتب، وترجيح ما رجحوه. ومما أصيب به الفقه اتجاه العلماء إلى المختصرات، فكل عالم يرى أن يختصر ما قبله، ومن الغريب أنَّ عالمًا يأتي فيختصر، ثم يأتي عالم آخر فيشرح ما اختصره، حتى تكون لنا من ذلك ما هو أطول من المطولات.
ولم نكسب من ذلك إلا المجهود الضائع، وكل يوم يمر يزداد الحال سوءًا وركودًا.
يقول ابن خلدون: «ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق، والإنحاء في العلوم، يولعون بها … وحشوا القليل منها بالمعاني الكثيرة، وصار ذلك مخلًّا بالبلاغة، وعسِرًا على الفهم، وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون فاختصروها تقريبًا للحفظ، كما فعل ابن الحاجب في الفقه، وابن مالك في النحو، وهو فساد في التعليم، وفيه إخلال بالتحصيل، وذلك لأنَّ فيه تلخيصًا على المبتدئ، بإلقاء الغايات من العلم عليه، وهو لم يستعد لقبولها بعد، ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعلم بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها، وصعوبة استخراج المسائل من بينها؛ لأن ألفاظ المختصرات صعبة عويصة، ينقطع فهمها حظ صالح من الوقت، ثم بعد ذلك فالملكة الحاصلة من التعليم على تلك المختصرات ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة.
(٤) رابعًا: التاريخ
الحق أن المتأخرين لم يهملوا التاريخ، بل أتموا السلسلة التي بدأها أسلافهم، حتى لم يخل عصر من العصور من مؤرخين يؤرخون حاضرهم، ويربطونه بماضيهم، ونوّعوا التاريخ كما نوّعه من قبلهم من تراجم رجال إلى تاريخ مدن، إلى تاريخ الدول خاصة، إلى تاريخ عام.
فمن مؤرخي التراجم ابن خلكان، وهو من أوائل المؤلفين في هذه العصور، ترجم فيه للمشهورين من رجال العلم والأدب، والصناعة والمال غير الصحابة والخلفاء، واجتهد في تحرّي الحقائق بعين نافذة، في لغة سليمة بسيطة، متوقّيًا قدر الإمكان ألفاظ الفجور، وقد احتوى نحو ٨٢٦ ترجمة، وعني أشد العناية بتحقيق سنة وفاة كل مترجم، ومن أجل ذلك سمّى كتابه «وفيات الأعيان»، وربما ترك مشهورًا من مشاهير رجال العلم والأدب؛ لأنه لم يتحقق من تاريخ وفاته، وربما كان كتابه على هذا النحو أول كتاب من نوعه. وقد مات ابن خلكان سنة ٦٨١ﻫ، وقد ذيّل هذا الكتاب ابن شاكر الكتبي المتوفى سنة ٧٦٤ﻫ، ترجم فيه لبعض من تركه ابن خلكان، وزاد فيه من جاء بعده إلى عصره، وسماه: «فوات الوفيات».
وألف ابن طباطبا نزيل الموصل في عهد فخر الدين عيسى كتابًا نسبه إليه، وسماه «الفخري»، وقد عرض فيه لتاريخ الدولة الإسلامية من أول عهدها إلى آخر الدولة العباسية، وقد عني فيه بالأسلوب، ودقة التعبير، وحسن السبك، كما كانت له نظرات دقيقة في شئون السياسة العامة، وقواعد كلية يستشهد عليها بالأحداث الإسلامية الجزئية، وأتم ابن طباطبا تأليف كتابه في الموصل سنة ٧٠١ﻫ، وقد كان شيعيًّا فلوَّن تاريخه باللون الشيعي.
كما ألف أبو الفداء أمير حماة من قبل الملك الناصر كتابه الذي اعتمد فيه على تاريخ الطبري، وابن الأثير، وزاد عليهما إلى عصره، ولذلك كانت مزيته في تاريخ الفترة الأخيرة التي كانت بعد ابن الأثير، وكتابه «مختصر تاريخ البشر» مشهور، وقد ولد سنة ٦٧٢ﻫ، وتوفي سنة ٧٣٢ﻫ.
واشتهر بالتراجم، وخاصة تراجم المحدثين شمس الدين الذهبي، وقد ولد في دمشق، ورحل إلى بلاد كثيرة يلقى علماءها، ويؤرخ لهم، ويعدّل بعضهم، ويجرح بعضهم. وأشهر كتبه «طبقات الحفاظ» في تراجم رجال الحديث، وكتاب «تاريخ الإسلام»، كما كان من أكبر رجال التراجم خليل بن أيبك الصفدي، وقد اشتهر بكتابه الواسع في التراجم المسمى «الوافي بالوفيات» في ست وعشرين جزءًا.
ثم ابن كثير المتوفى ٧٧٤ﻫ، وقد ألف كتابًا كبيرًا سماه «البداية والنهاية» بدأه ببدء الخليقة، وانتهى إلى ٧٦٧ﻫ، وكان من المؤرخين في هذا العصر ابن الفرات المصري المولود سنة ٧٣٥ﻫ، وله كتاب كبير في جملة أجزاء، وأهمية كتابه في أنه مرجع عظيم القيمة في الحروب الصليبية، وتوفي ابن الفرات سنة ٨٠٧ﻫ.
ثم ابن خلدون، وقد أسس في مقدمته أصول علم التاريخ، ومكنته حياته ومناصبه الكبيرة، وسفارته بين الملوك من الاطلاع على بواطن الأمور، وربط الأحداث بعضها ببعض، ومعرفة أسبابها ونتائجها، وقد استطاع من هذا كله أن يستنتج من الجزئيات كليات ونظريات، يطبقها على الأحداث، وقد كتب هذا التاريخ سنة ٧٦٧ﻫ أولًا، ثم أخذ ينقحه طول حياته.
وجاء بعده تلميذه المقريزي، أصله من بعلبك، وتحول والده إلى القاهرة، وقد كتب كتبًا كثيرة في التاريخ، ألف في تاريخ الفسطاط، وفي الدولة الفاطمية، وفي المماليك، وفي سيرة النبي ﷺ، كما ألف في مسائل خاصة كتاريخ الأزمات الاقتصادية، والأوبئة، ونحو ذلك، ومن أشهر كتبه: خطط مصر المسمى «المواعظ والاعتبار»، وهو واسع الاطلاع، كثير النقل، وأحيانًا ينقل من غير عزو، قليل النقد، ومع هذا ترك لنا ثروة من المعلومات قيمة، ما كان يمكننا الوصول إليها لولاه، وقد استفاد كثيرًا من نظرات أستاذه ابن خلدون.
وألف ابن عرب شاه الذي عاش من سنة ٧٩١ﻫ إلى ٨٥٤ﻫ كتابًا في تيمورلنك اسمه «عجائب المقدور في أخبار تيمور»، وهو دمشقي الأصل، أخذ أسيرًا في غزو تيمورلنك للشام، وأرسل إلى سمرقند، ورحل من سمرقند إلى خوارزم، وغيرها من البلاد، فاستفاد من ذلك كله، واستطاع أن يؤلف كتابه هذا في أخبار تيمور، كما ألف كتابًا اسمه «فاكهة الخلفاء، ومفاكهة الظرفاء»، وهو كتاب في السياسة الرمزية ككتاب «كليلة ودمنة» كما يقول حاجي خليفة؛ لأنه يتضمن حكايات على ألسنة الوحوش.
وألف أبو المحاسن ابن تغري بردي المتوفى سنة ٨٧٤ﻫ كتابه «النجوم الزاهرة في أخبار مصر والقاهرة»، مرتبًا حسب السنين من فتح العرب لمصر إلى سنة ٨٥٧ﻫ، أي ١٤٥٣م.
وكتب المقري المتوفى ١٠٤١ هجرية كتابه «نفح الطيب في ترجمة لسان الدين ابن الخطاب»، وهو قسمان، القسم الأول: في تاريخ الأندلس ورجالها، والثاني: في ترجمة لسان الدين بن الخطيب ومشايخه، ومن يتصل به، وفي الكتاب معلومات قيمة عن الأندلس.
فنرى من هذا النشاط الكبير الذي نشطه المسلمون في التأليف في التاريخ على أنواع، وهناك كتب كثيرة غير التي ذكرناها قد ألفت في التاريخ موجزة وموسعة. وقد أكثروا فيه للذته، وسهولته نسبيًّا.
(٥) خامسًا: التصوف
ربما كان التصوف هو الفرع الوحيد الذي نما بعد سقوط بغداد أكثر مما كان قبلها. ولعل السبب في ذلك يرجع إلى أن التصوف لا يحتاج إلى عقل كبير، وبحث كثير، بل هو بالقلب والشعور أعلق، ولذلك كانت دائرته أوسع، ولأن الناس فقدوا الدنيا، فتطلعوا إلى الآخرة، ويئسوا من العدالة الاجتماعية في الأرض؛ فأمّلوها في السماء، ولم يجرءوا أن يثوروا في وجوه الحكام يطالبونهم بتحقيق العدل، فقنعوا بالسلامة، وضعفت عقولهم عن تمييز الحق من الباطل، وملئوها بالخرافات والأوهام. ولم تتجرد طبيعتهم من حب اللهو؛ فأدخلوه في التصوف، فكان فيه الغناء والموسيقى، والرقص وألعاب البهلوان، وعجزوا عن ربط المسببات بالأسباب؛ فهرعوا إلى المتصوفة يمنحونهم البركة، ويستقضون منهم حوائجهم، ويقرعون بهم أبواب السماء، فامتلأت البلاد بأرباب الطرق، ومشايخ الصوفية، ومدعي الولاية. وعلى الجملة، فكان في الحياة الصوفية ما يرضي النفوس ويطمئنها ويسليها.
ثم كان أن منحت البلاد متصوفين كبارًا جمعوا بين القدرة التصوفية، والملكة الأدبية، فغزوا الناس بتصوفهم وشعرهم أمثال ابن عربي، وابن الفارض في اللغة العربية، وجلال الدين الرومي في اللغة الفارسية.
(٥-١) فكرة الإنسان الكامل
ومن كلامه يتبين أنَّ الإنسان الكامل الذي هو روح محمد كائن في الأنبياء من آدم إلى محمد، وفي الأولياء والصالحين.
ويقول: «إن الإنسان الكامل هذا هو القطب الذي تدور عليه أفلاك الوجود من أوله إلى آخره، وهو واحد منذ كان الوجود أبد الآبدين، واسمه الأصلي محمد، وكنيته أبو القاسم، ووصفه عبد الله، ولقبه شمس الدين، وله في كل زمان اسم يليق به ويقول: «إن الإنسان الكامل مقابل لجميع الحقائق الوجودية، فيقابل الحقائق العلوية بلطافته، والسفلية بكثافته، وأول ما يبدو له في الحقائق الخلفية هو العرش، ويراه بقلبه، ثم يقابل الكرسي فسدرة المنتهى، ثم يقابل العلم الأعلى بعقله، واللوح المحفوظ بنفسه، والعناصر بطبعه، والهيولى بقابليته.
والإنسان الكامل نسخة من الله كما قال رسول الله: «خلق الله آدم على صورته.» والإنسان الكامل أيضًا مرآة الحق؛ لأن الحق أوجب على نفسه ألا ترى أسماؤه وصفاته إلا في الإنسان الكامل، وهو معنى قوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ (الأحزاب: ٧٢) … إلخ. وكما خلق الله على صورته خلقت الدنيا على صورة الإنسان، وكان الله قبل أن يخلق الخلق في نفسه، وكانت الموجودات مستهلكة فيه، ولم يكن له ظهور في شيء من الوجود، وفي ذلك يقول في الحديث القدسي: «كنت كنزًا مخفيًّا، فأحببت أن أعرف فبي عرفوني».
فأسلوب الكتاب — كما ترى — عويص غامض لا يستطيع أن يفهمه الإنسان بعقله.
وللجيلاني هذا قصيدة تسمى «النوادر العينية في البوادر الغيبية»، ضمنها نظرية الإنسان الكامل في خمسمائة وأربعة وثلاثين بيتًا منها:
ومنها:
ومنها:
وقد لعبت نظرية الإنسان الكامل هذه، والحقيقة المحمدية، والروح المحمدية دورًا كبيرًا في التصوف.
(٥-٢) ابن العربي وابن الفارض
أولهما: محيي الدين محمد بن علي، يلقب أحيانًا بالحاتمي، ويكنى بابن العربي، وأهل المشرق يكنونه ابن عربي للتفرقة بينه وبين أبي بكر بن العربي، وأما في الأندلس فيكنونه ابن العربي، وقد ولد سنة ٥٦٠ﻫ في مرسيه، وتعلم أول تعلمه في إشبيلية، ثم ارتحل إلى المشرق حاجًّا، ولم يعد بعدها إلى الأندلس. وأقام في الحجاز مدة طويلة، ثم دخل مصر ورحل إلى بغداد والموصل وبلاد الروم، وكان ذلك في عهد الحروب الصليبية، وأثر عنه أنه كان يحرض المسلمين على الجهاد.
وقد ألف في التصوف تآليف كثيرة من شعرٍ ونثر، من أشهرها «الفتوحات المكية»، و«فصوص الحكم»، و«ترجمان الأشواق»، ولقب عند كثير من الناس بلقب «الشيخ الأكبر»، وقد أودع في كتابه «الفتوحات المكية» أكثر نظراته التصوفية، وقسَّمه إلى ستة فصول، أولها في المعرفة، وثانيها في المعاملات، وثالثها في الأحوال، ورابعها في المنازل، والخامس في المغازلات، وآخرها المقامات، وكان يقول: إن ما يكتبه يأتي إليه بطريق الوحي في حالة الغيبوبة والمجاهدة.
ومن الغريب أنه كان على مذهب الظاهرية في الفقه، وكتاباته من أعمق الباطنية في التصوف، وقد قال: إن هذه الموجودات مكونة من صورة وروح، وعنده أن الصورة هي التي سماها أرسطو «مادة»، والروح ما سماها أرسطو «صورة». وأعلى هذه المقامات أو الصور هو الإنسان لما أودع فيه من القوى التي تتجلى فيها صفات الله وأسماؤه، فهو كالمرآة تنعكس عنها حقيقة الله وذاته، وله أقوال كثيرة في المواجيد والفناء.
ويروى عن ابن عربي أنه وقع يومًا عن حماره، فرضّت رجله، فجاءوا ليعالجوه، فقال: أمهلوني، فأمهلوه يسيرًا، ثم أذن لهم فعالجوه، فقيل له في ذلك فقال: راجعت كتاب الله تعالى فوجدت خبر هذه الحادثة في صورة الفاتحة. ومن ذلك ترى ما للصوفية من تصورات عجيبة، وخيالات بعيدة، ومثل ذلك: استخراج بعضهم من الفاتحة أيضًا أسماء سلاطين آل عثمان، وأحوالهم، ومدة سلطتهم، إلى ما شاء الله تعالى من الزمان.
وأما ابن الفارض فهو عمر الملقب بشرف الدين، وهو حموي الأصل، ولد في القاهرة سنة ٥٧٦ﻫ/١١٨١م، وتوفي سنة ٦٣٢ﻫ، ولقب بسلطان العاشقين وكان ميالًا إلى العزلة والزهد، وتعود الذهاب كل يوم إلى جبل المقطم، وقد بلغ الغاية في قصائده التي جمعت في ديوانه، وهو أشعر من محيي الدين، وشعره كشعر عصره مملوء بالمحسنات البديعية، والاستعارات، والمجازات، كما تعرض كثيرًا للمصطلحات الصوفية من حب وهوى، وشوق وسكر وصحو، ومن أشهر شعره: التائية الكبرى، وهي المسماة «نظم السلوك»، وقد أودع فيها كل مبادئه الصوفية.
وقد عرف عنه أنه يهيم بالجمال حيثما وجده من جمال طبيعة إلى جمال أصوات، ويصاب بالغيبوبة عند رؤيته، فيتواجد ويغيب عن نفسه ويرقص، يحب الخلوة والتقشف، والبعد عن الناس، والزهد في حطام الدنيا.
ثم يشير إلى الآيات القرآنية: وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ (الأعراف: ١٧٢) إلخ …»، وهي الآية التي يسميها الصوفية آية العهد.
ويقول ابن الفارض: «إنه أخذ ذلك العهد قبل أن تتلبس نفسه بطينة جسده»، ويقول: إن رؤيته المحبوب ليس إلا رؤيته لنفسه، وحبه إياه ليس إلا حبه لنفسه، وإن الحب الخالص ليس إلا الفناء في المحبوب:
وهو يصف الفناء بأنه الحال التي تتجرد فيها النفس عن رغباتها وميولها وبواعثها بحيث تتعطل إرادتها وتموت، فإذا ماتت الإرادة أصبحت النفس طوع الإرادة الإلهية:
ويقول: «إن أعلى درجات الصوفي الاتحاد مع الله؛ حيث ينعدم الفرق بين الخالق والمخلوق وفي سكر الفناء يغيب الصوفي عن جميع صفاته وآثاره … إلخ.»
وقد اتجه شراح التائية الكبرى إلى شرحها حسب نظرية ابن عربي في وحدة الوجود.
ولابن الفارض قصائد أجمل من التائية الكبرى من حيث الفن، مثل قصيدته اليائية الطويلة:
- (١)
ما حكاه المقريزي من أن ابن عربي بعث إلى ابن الفارض يطلب منه أن يضع شرحًا على التائية الكبرى فقال له: إن كتابك الفتوحات الملكية شرح لها.
- (٢)
أن كل الذين شرحوا التائية أغرقوها بنظريات ابن عربي في وحدة الوجود، ولكن يظهر أن بين ابن عربي وابن الفارض فرقًا كبيرًا؛ فابن الفارض شاعر متصوف، يسمو في حبه إلى أن يفنى في محبوبه وهو الله، فلا يرى في الوجود ولا نفسه شيئًا غير الله. وكما قال الأستاذ نللينو: «لم يكن ابن الفارض فيلسوفًا من فلاسفة وحدة الوجود، بل كان شاعرًا صوفيًّا، ليست قصيدته التائية الكبرى إلا تعبيرًا عن ذوقه الشخصي الذي كان سبيله إلى اتحاد بالذات الإلهية تارة، وبالحقيقة المحمدية تارة أخرى، أما وحدة الوجود عند ابن عربي فوحدة فلسفية، مزج فيها الدين بالفلسفة مزجًا غريبًا ليس له نظير».
وفرق كبير بين شاعرية ابن الفارض، وإحساسه بفنائه في محبوبه، واتحاده به وبين فلسفة ابن عربي ومذهبه في أن الله والعالم شيء واحد، فمن الخطأ دعوى أنَّ كليهما يقول بوحدة الوجود، والفرق دقيق بين حلول الحلاّج، والحب الإلهي عند ابن الفارض، ووحدة الوجود عند ابن عربي.
ومن أقواله في ذلك: «إن الاتحاد بين الخالق والمخلوق ممتنع؛ لأن الخالق والمخلوق إن اتحدا، فإما أن يكونا بعد الاتحاد اثنين كما كانا قبله، وهذا تعدد وليس باتحاد، وإما أن يستحيلا إلى شيء ثالث، كما يتحد الماء واللبن والنار والحديد، ونحو ذلك من تشبيهات الفرق النصرانية، فيلزم عن ذلك أن يكون الخالق قد استحال، وتبدلت حقيقته كسائر ما يتحد مع غيره، وهذا ممتنع على الله؛ إذ الاستحالة تقتضي عدم ما كان موجودًا، والله تعالى واجب للوجود بذاته، وصفاته اللازمة له التي هي كمال، والتي إذا عدمت كان ذلك نقصًا، يتنزه الله عنه …» إلى آخر ما ذكره من البراهين، ومناقشتهم بالعقل، مع أن أقوالهم ناشئة من الشعور، كمناقشة العقل للحب، كالذي يقول:
وألف ملّا علي القاري رسالة في وحدة الوجود، رمى فيها ابن عربي بالزندقة، وقال: إنه كفر بأربع وعشرين دعوة، منها قوله: إنَّ الإنسان من الله بمثابة البؤبؤ من العين، وعلى هذا يكون الله مفتقرًا رؤية خلقه، ورؤية نفسه إلى الإنسان، وكذلك قوله: نحن الفرق التي نصف بها الله، فإذا نحن تأملنا في حقيقته كنا في الحقيقة نتأمل في حقيقتنا، والله حين ينظر في شئوننا يكون ناظرًا في شئونه، وتاليًا قوله: إنّ الله هو عين المخلوقات، ثم قوله: إن كل الاعتقادات الدينية صحيحة؛ لأن كل طائفة فيها شيء من طبيعة الله فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ (البقرة: ١١٥)، وقوله: «إنَّ الأولياء خير من الأنبياء، والولاية هي العنصر الدائم السامي في النبوة، وادعى محيي الدين أنه خاتم الأولياء، كما أن محمدًا خاتم الأنبياء … إلخ.
ومن الطاعنين عليهم ابن حجر العسقلاني، فقد قال حين توفي سنة ٨٥٢ﻫ في ابن الفارض: «ينعق بالاتحاد الصريح في شعره، وهذه بلية عظيمة، فتدبر نظمه ولا تستعجل …. وما ثم إلا زي الصوفية، وإشارات مجملة، وتحت الزي والعباءة فلسفة وأفاعي، فقد نصحتك والله الموعد.»
وكذلك من الطاعنين عليهم البقاعي المتوفى سنة ٨٥٨ﻫ وقد ألف كتابين في تكفير ابن عربي وابن الفارض، وهما «تنبيه الغبي على تكفير ابن عربي»، و«تحذير العباد من أهل العناد ببدعة الاتحاد»، وكان شديد الطعن عليهما.
وممن طعن عليهما أيضًا عضد الدين الإيجي صاحب المواقف، فقال عن ابن عربي: «إنه كان كذابًا حشاشًا كأوغاد الأوباش، ولقد تبعه في ذلك ابن الفارض، ولا يخفى على الأقل أن شعره من الخيالات المتناقضة الحاصلة من الحشيش؛ إذ عندهم أن وجود الكائنات هو الله تعالى، فإذًا الكل هو الله تعالى، فلا نبي، ولا رسول، ولا مرسل، ولا مرسل إليه».
ويروي المقبلي صاحب العلم الشامخ أن ابن خلدون يقول بإيمان المتصوفة الأولين، وبتكفير الصوفية المتأخرين، ويرى إحراق كتبهم لما فيها من الضلال.
هؤلاء أهم الطاعنين عليهم، أما المؤيدون لهم فكثيرون، وكان هجوم الفقهاء سببًا في قتل صلاح الدين السهرودي كما قتل الحلاج، ولكن نجا ابن عربي، وابن الفارض من القتل؛ فيظهر أن السياسة كانت تستغل أقوال الفقهاء لقتل خصومهم، فإذا رضيت السياسة عنهم حمتهم ولم تقتلهم.
(٥-٣) الشعراني
وزاد بعد ذلك سيل التصوف في العالم الإسلامي، ومن أشهر من جاء بعدهما الشعراني، ولكنه كان صوفيًّا مدروشًا، وقد اختصر «الفتوحات المكية» لابن عربي في كتاب سماه «لوافح الأنوار القدسية المنتقاة من الفتوحات المكية»، ثم اختصر هذا المختصر، وسماه «الكبريت الأحمر من علوم الشيخ الأكبر»، وكان أيضًا لوجوده في ذلك العصر ضجة كبيرة من مؤيدين له، وناقمين عليه، ولأنه حمل على العلماء حملة شديدة، ولكي ينجو بنفسه أمر بإطاعة الولاة والقوانين، مع أنه كان يؤمن بظلم الحكام ويشعر بالظلم الذي يقع على الفلاح فيقول: «كان الفلاح عند موته يترك شيئًا من الدراهم لأولاده، ولكنه الآن لا يستطيع إلى ذلك سبيلًا، بل هو يبيع الحاصلات والبقرة والثوب لتسديد ما عليه من الضرائب، وإذا لم يسدد ضرب وسجن»، ويقول: «إنا لا نقتني الأراضي ولا الممتلكات؛ لأن ما يدفع عليها من الضرائب يفوق ثمنها وما تنتجه». ومن هجمات العلماء عليه كان لا يخرج كتابًا إلا إذا رضي عنه العلماء وأقروه، كما حكى ذلك عن نفسه، وبذل مجهودًا كبيرًا في التوفيق بين عقائد أهل الكشف، وعقائد أهل الفكر، ودافع عن ابن عربي كثيرًا، وأوَّل أقواله التي ظاهرها الكفر والإلحاد.
وانقلبت بعد ذلك الصوفية إلى دروشة، ومعنى درويش في الفارسية: الفقير المسكين. وانحط التصوف كثيرًا حتى قال بعضهم: كان التصوف حالًا فصار مالًا، وكان احتسابًا فصار اكتسابًا، وكان استتارًا، فصار اشتهارًا، وكان اتباعًا للسلف فصار ابتياعًا للعلف، وكان عمارة للصدور فصار عمارة للغرور، وكان تعففًا فصار تكلفًا، وكان تخلقًا فصار تملقًا، وكان سقمًا، فصار لقمًا، وكان قناعة، فصار فجاعة، وكان تجريدًا، فصار ثريدًا»، وكثرت التكايا والزوايا والطرق، وفيها كان الشيوخ لهم سلطة كبيرة على المريدين، يأمرونهم أن يكونوا كالريشة في مهب الريح، وكان لكل نوع من هذه الطوائف أذكار وأوراد، وامتزجت هذه الطرق بالشعوذة والاحتيال.
(٥-٤) جلال الدين الرومي
وهنا لا بد من كلمة عن مولانا جلال الدين الرومي، فإنه ذو أثر عظيم في التصوف الفارسي، وهو صاحب كتاب «المثنوي» الذي قال فيه الصوفي الكبير عبد الرحمن الجامي: «إن كنت عالمًا بالمعرفة فدع اللفظ، واقصد المعنى. إن المثنوي هو القرآن في اللسان الفارسي، وماذا أقول في وصف هذا العظيم؟ لم يكن نبيًّا، ولكنه أوتي الكتاب»، وقد عني المستشرقون بجلال الدين وشعره، ونقلوه إلى لغاتهم.
وقد كان جلال الدين معلمًا دينيًّا، ولكنه قابل الصوفي الكبير تبريزي، فأثر فيه، وقطعه للتصوف.
والمثنوي منظومة صوفية فلسفية عظيمة، تحوي ٢٥٧٠٠ بيت، وهو قويّ البيان، فياض الخيال، بارع التصوير، حتى لينظم القصة القصيرة في مئات الأبيات. وقلبه مفعم بالعشق الإلهي، مستغرق فيه كقوله: «أفكر في القافية، وحبيبي يقول: لا تفكر إلا في رؤيتي، ما الحق فتفكر فيه، إنه الشوق في جدار البستان، إني أمحق القول والحق والصوت لأناجيك بغير هذه الثلاث.»
خاتمة
استعرضنا في هذا الكتاب استعراضًا بسيطًا للمعتزلة في عصرهم الثاني، وما تعرضوا له من مسائل، وكيف زال سلطانهم بعد أن حكموا البلاد سنين، وكيف أن الأشاعرة اكتسحوهم. ورأينا أن الأشاعرة أنفسهم كانوا متأثرين لدرجة كبيرة بالمسائل التي أثارها المعتزلة، وأن الحرب بين الأشاعرة والمعتزلة بدأت عنيفة، ثم كان النصر للأشاعرة، وظلّ كذلك إلى اليوم.
وربما كان من ملاحظاتنا أنَّ أكثر البحوث من المعتزلة والأشاعرة كان فيما وراء الطبيعة، والبحث فيما وراء الطبيعة قلَّ أن يسلم إلى نتيجة … فكيف ندرك أن صفات الله غير ذاته، أو هي ذاته، ونحن لا ندرك ذلك من أنفسنا التي بين جنوبنا، وكيف ندرك الفروق الدقيقة بين علم الله وقدرته وإرادته؟ فهذه كلها مسائل بحثت عند أرسطو وقبل أرسطو، ثم بحثت بعد ذلك في الإسلام والنصرانية واليهودية، وهي هي لم تتقدم كثيرًا، من أجل ذلك ثار الغزالي، وفخر الدين الرازي في علم الكلام، وطلبوا تجنيبه العوام.
ثم رأينا تعاليم الشيعة، وكيف دافعوا عنها بقوة، وكيف أنّ كثيرًا منهم ضحّوا بأنفسهم في سبيلها، وكانوا يخرجون على العباسيين فيقتلون أو يسجنون، وكيف أن التشيع تطور، فبدأ بأحقية عليّ في الخلافة هو وأولاده، ثم بدأ على يد جعفر الصادق يأخذ شكل تقديس الأئمة، ثم عرضت فكرة الاختفاء والغيبة، وتبعها المهدي المنتظر، وما كان لذلك من آثار كبيرة في تاريخ المسلمين.
وأخيرًا عرضنا للصوفية، وهي منحى جديد غير منحى المتكلمين، فإذا كان اعتماد المتكلمين على المنطق والعقل، فاعتماد المتصوفة على الذوق والقلب، وإذا كانت نتيجة الاعتماد على المنطق والعقل هو الإيمان بالبرهان المنطقي، فالاعتماد على الذوق والقلب نتيجته الكشف.
وقد كانت كل هذه الحركات قوية عنيفة تتدافع ولا تتهادن، وتتقابل ولا تتسالم، فمؤرخو الإسلام لا يقتصرون على تسجيل الوقائع الحربية، وإنما يضيفون إليها الوقائع الاعتقادية والطائفية، وإذا نحن صفينا الحساب كما يفعل التجار عند انتهاء مرحلة كبيرة من مراحل تجارتهم ليعرفوا ماذا كسبوا وماذا خسروا، رأينا أننا كسبنا حركة العقول، وتمرينها على البحث، وكسبنا المران على الجدل كما كسبنا من وراء هذا الجدل وضوح المسائل المتجادل فيها، بعد أن تناولها كل من جهته، وكسبنا تربية كثير من العلماء في هذه الأجواء من النشاط، ولكننا خسرنا الحب والألفة بما ذاع من الإحن والبغضاء بين الطوائف المختلفة حتى بلغت حد القتل الكثير، وخسرنا قوى كانت تنفع لو تجمعت، فلما تفرقت فنيت.
وهذه القوى لو كانت وجهت وجهة خيرٍ لأنتجت نتاجًا باهرًا، فلما وجهت وجهة شر ضاعت، وأظن أن ما خسرناه أكثر مما كسبناه، وليس أدل على ذلك من حال المسلمين اليوم، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ملحق المرجئة والخوارج
أوضحنا في الجزء الثالث من ضحى الإسلام مذهب المرجئة والخوارج، ولم يكن لهما كبير خطر بعد عصرهما الأول، إلا أنَّ ابن حزم عقد في كتابه «الفصل في الملل والنحل» فصلًا سماه «شنع المرجئة»، والذي يقرؤه يرى أنَّ المرجئة من أوسع المذاهب صدرًا، لا تسرع إلى التكفير، عكس الخوارج الذين يكفرون كل من عداهم.
يقول ابن حزم: إن المرجئة طائفتان: طائفة تقول: إنَّ الإيمان قول باللسان، وأخرى تقول: بأن الإيمان عمل قلبي، وإن أعلن الكفر بلسانه، وإن عبد الأوثان، وإن لزم اليهودية والنصرانية، فهو مؤمن كامل الإيمان عن الله، يستحق دخول الجنة … وقالت طائفة منهم: من آمن بالله وكفر بالنبي ﷺ فهو مؤمن كافر معًا، ليس مؤمنًا على الإطلاق، ولا كافرًا على الإطلاق. وقال مقاتل بن سليمان، وكان من كبار المرجئة: لا يضر مع الإيمان سيئة جلت أو قلت، ولا ينفع مع الشرك حسنة أصلًا، ومن أجل توسعهم في الإيمان قالوا: إن الإمام إذا أخطأ لم تزل إمامته، وتجب طاعته، وتجوز الصلاة وراءه، ولم نعلم في التاريخ قيام حكومة كان شعارها الإرجاء.
وعلى الجملة، فقد حكمت عمان، وجزء من شمال إفريقيا بالإباضية، ولها مذاهب فكرية في العقائد والشرائع تخالف تعاليم الشيعة والسنة، وقد اختلفوا أيضًا فيما بينهم، وخاصة في شمال إفريقيا إلى فرق. ولقد حكمت أسرة إباضية تنتسب إلى رستمية في تاهرت أكثر من مائة وثلاثين عامًا، إلى أن أزالتهم الدولة الفاطمية. ولما سقطت تاهرت في أيدي الفاطميين تفرق شمل الإباضيين في صحراء تونس والجزائر، وفي جربا، ولا يزالون فيها إلى اليوم.
ولهم كتب في الفقه والحديث على مذهبهم، ويعتقدون أنهم وحدهم الفرقة الناجية، وليس بضروري أن يكون الإمام من قريش، بل يكفي أن يكون صالحًا ورعًا، وأن يحكم طبقًا للقرآن والسنة، ولن يرى الله في الجنة، والثواب والعقاب في الآخرة أبديان، والله يغفر الصغائر، أما الكبائر فلا تمحوها إلا التوبة.
وعلى الجملة، فلم يكن لهم خطر كبير في التاريخ بعد العصر العباسي الثاني.