خاتمة
من هذا نرى أن الحركة العلمية في القرن الرابع كانت على أشد ما يكون، وأنه لم يشهد مثلها القرن الذي قبلها، ولا الذي بعدها، وأنه لم يخل فرع من فروع العلم المعروفة في زمنهم من علماء يبحثون فيه ويوسعونه، وأن الفقر كان نصيب العلماء إلا من اتصل بالقصور، وأنه رغم انحطاط السياسة لم يتأثر العلم بها، فكان العلم والسياسة في ذلك الزمان ككفَّتي ميزان رجحت إحداهما، وهي كفة العلم، وشالت الأخرى، وهي كفة السياسة، وربما كان السبب في ذلك أن السياسة تحتاج إلى زمن طويل، حتى يظهر أثر ضعفها في الحياة العامة، وهذا ما كان لأنها أثرت في العلم أثرًا سيئًا في القرون التي بعد هذا القرن، بل ربما كانت السياسة في قرننا هذا سببًا غير مباشر لرقي العلم من جهتين: الأولى: أن العلماء لما رأوا سوء السياسة، وظلمها، وعنتها، واضطرابها، كرهوها، وانصرفوا إلى العلم، وهو الملجأ الآمن المطمئن، حتى كان بعضهم يأنف كل الأنفة أن يتصل بأمير أو وزير، ويتعفف عن زيارة السلطان وأعوانه، ويفضل العيش النَّكد مع السلامة، على العيش الرغد مع الخوف، والثانية: اتخاذ الأمراء، والوزراء العلماءَ زينة يزينون بها مملكتهم، فلفت ذلك نظر بعض الناس أن يتعلّموا ليتصلوا بهم، وينتفعوا مما في أيديهم، فكان هذا السبب سببًا في كثرة العلم، سواء المعرِضون عن الولاة، أو المقربون إليهم.
- (١)
الارتقاء الطبيعي مع مرور الزمن.
- (٢)
فساد الدنيا، فحمل بعض الناس على أن يتركوها لأصحابها، ويطلبوا الله والآخرة.
- (٣)
ما كان من قيام الفقهاء على الصوفية، وتحريض الأمراء على التنكيل بهم، كالذي رأينا من قصة غلام الخليل والحلاج، فدعا إلى ذلك إلى اضطهاد الصوفية، والناس دائمًا أعطف ما يكونون على المضطهد، والفكرة إذا اضطهدت كان اضطهادها علامة حياتها.
ورأينا في هذا العصر كثرة المذاهب، وكثرة الاحتكاكات بينها، كالاحتكاك بين المذاهب الفقهية المختلفة، والاحتكاك بين الشيعة والسنية، والاحتكاك بين الفقهاء والصوفية، والاحتكاك بين المحدثين والفلاسفة، وهذه الاحتكاكات المختلفة سببت نشاطًا عجيبًا في الحركة العلمية؛ إذ كان كل فريق يرى أن يتسلح أمام الخصوم بكل الوسائل ليتغلب عليهم.
ولعلّ ذلك كان من الأسباب التي روجت الفلسفة اليونانية بين المسلمين؛ لأن منطقها أقوى سلاح يتسلح به.
وربما كان هذا العصر خاتمة العلم الإسلامي، نعم كان بعده علم، ولكن ليس إلا ترديدًا لعلم القرن الرابع.
وربما كان السبب في ذلك إقفال باب الاجتهاد في هذا العصر، فشمل الخمود والجمود كل علم، وكل أدب، وانتشر في العلماء قلة الثقة بأنفسهم، وزعمهم أن ليس للآخرين ما كان للأولين، وربما كان من الأسباب أيضًا السياسة الفاسدة بعد أن طال زمنها، ووصل تأثيرها السيئ إلى العلم، ثم جاءت نكبة التَّتار، فذهبت بالبقية الباقية من هذه الحركة العلمية.
ومما يؤسف له أن نرى العلماء في ذلك العصر الزاهر انطووا على أنفسهم، وتركوا الظالمين من غير أن يقفوا في سبيلهم، ولم يستطيعوا أن يضحوا، فيجهروا بالحق أمام الظالمين، والأدباء الذين ارتفع صوتهم ارتفعوا بمدح الظالم لا بردعه، وتحريضه لا قمعه، ولم يكن عندهم شعور بأنهم مسئولون عن ظلم الظالم، والصوفية الذين كانوا مظنة الجهر بالحق انطووا أيضًا على أنفسهم، وغسلوا أيديهم من هذا العالم، والوعاظ الذين كانوا يعظون، كانوا يعظون الشعب بتحمّل الظلم، ولا يعظون الظالم بالارتداع عن الظلم …!
وكان إحساس الناس بالظلم والعدل ليس إحساسًا مرهفًا، بل قد يعدون الظلم فضيلة، فنحن نرى أن الزجاج النحوي المشهور كان يفرض جعلًا على أصحاب المظالم؛ ليرفع الرقاع إلى الوزير، والوزير هو الذي مكنه من ذلك، والناس يصفونه بالصلاح والتقوى، والشعراء يمدحون إذا أعطوا، ويهجون إذا لم يعطوا، وقلَّ أن يمدحوا أميرًا بالعدل، أو يهجوه للظلم، والقصيدة في المدح أو الهجاء يصلح أن تنطبق على كل أحد سواء من استحق المدح أو الذم، وليس فيها تحليل دقيق لنفسية الممدوح أو المهجو.
والناس يحترمون العالم ويوقرونه؛ لأنه زهد فيما في أيديهم، لا لأنه سعى في خيرهم أو كشف الغمَّة عنهم.
على كل حال، لو سار العلم على طول الخط، كما سار في القرن الرابع الهجري؛ لكان شأننا غير شأننا اليوم، ولكان منا المخترعون المبتكرون، ولكن الجمود من جانب، والظلم من جانب؛ أماتا النفوس، وجعلا اليقظة صعبة.
ثم من الأسف أيضًا أن أقبل الناس كثيرًا على النظريات المجردة، أكثر من إقبالهم على العمليات المجربة، مما نرى في مثل فلسفة الفارابي، والإمعان فيما وراء الطبيعة التي هي عبارة عن خيال في خيال، فأما نَمَط أمثال ابن الهيثم في ابتكاراته، فقد مات تقريبًا.
وانصب الأدب في قوالب هي عبارة عن زينة لفظية، لا معنى غزير، ووقفوا عند المنهج الذي رسمه من قبلهم، فلا وزن يخترع، ولا نوع يبتكر، إلا أنواعًا سخيفة كالغزل بالمذكر الذي اخترعه أبو نواس، او الفحش الفاجر الذي أفاض فيه ابن حجاج، وابن سكرة، أو استجداء وحيل لكسب، كالذي اخترعه بديع الزمان، والحريري.
وغلب منهج المحدثين في كل شيء، بما فيه من خير أو شر، فما فيه من الخير، هو الدقة في الرواية، ونقد الرواة، والحرص على السند والإجازة، والشر في الاعتماد على النقل دون العقل، وتقديس ما في الكتب، وتخريج عبارات المؤلفين، وإن كانت تصرخ بالخطأ إلى غير ذلك، وظل هذا المنهج يُعمل به في الأوساط الشرقية، وأخيرًا فقد ظل العالم الإسلامي طوال القرون العديدة يتغذى بعلم القرن الرابع، وأدبه، ومنهج علمائه إلى اليوم.
- (١)
امتزاج العلوم والثقافات لم يكن تمَّ نضجه إلا في عصرنا هذا.
- (٢)
أن العلماء المسلمين وجدوا أساسًا صالحًا، فكان من نشاطهم أن بنوا عليه.
- (٣)
أن المعتزلة كانت فرقة جادة مفكرة، أثمرت ثمارها في هذا العصر، ولكن مع الأسف لم يمض هذا العصر حتى أخذ نجمهم في الأفول، وبحر العلوم في الانحسار.
- أولًا: غزوة التتار، وما أعقبته من تخريب ودمار، حتى أهلكت الأنفس، وأُغرقت الكتب.
- وثانيًا: سد باب الاجتهاد لما رأى العلماء أنهم عاجزون عن بلوغ شأو من قبلهم، وكان كل ما يأملون أن يسيروا على منهجهم، ويجروا على منوالهم.
- وثالثًا: اضطهاد المعتزلة على يد المتوكل ومن بعده، حتى خفت صوتهم، وقد كانوا دعاة الحرية والتفكير، والتحذير من الخرافات والأوهام، وغلبهم المحدثون، وهم دعاة النقل، والرواية، والوقوف عند النص.
- ورابعًا: غلبة الأتراك، وهم — والحق يقال — عنصر لم يكن مثقفًا ثقافة تامة، ولا مشجعًا للثقافة، وقد كانت العصور الماضية على العموم يعتمد علماؤها وأدباؤها على الولاة والأمراء الذين يفهمون علمهم وأدبهم، فلما عزَّ من يفهم، لم يتشجع العلماء على أن يظهروا علمهم، فظللنا من آخر القرن الرابع تقريبًا، ونحن في عماء، ومصداق ذلك ما نراه من الموسوعات «كالمسالك والممالك»، و«صبح الأعشى»، و«نهاية الأدب»، فكلها تقريبًا ليست إلا جمعًا لأشتات المتشابهات من غير تجديد.
ومن ملاحظتنا أن الأدب قد نما وترعرع أكثر من العلم بالمعنى الدقيق، فقد بلغ الأدب ذروته، وكانت الفوضى السياسية التي بدأت من قديم تعمل عملها، وتظهر نتائجها؛ وكان الأدب في الجاهلية أسلوبًا أكثر منه موضوعًا، وكان في العصر الأموي أدب أحزاب أكثر منه أدب أمة، وجاء العصر العباسي الأول ثم الثاني، فانتقلت معاني الفرس، والهنود، وفلسفة اليونان إلى اللغة العربية، وكانت غذاء صالحًا للأدب، وجاء أمثال ابن المقفع، والجاحظ، وجعلوا للأدب موضوعًا، وجعلوا له أسلوبًا، وجاء بشار وأبو نواس، فعبرا التعبير الصادق عن الحياة الاجتماعية الجميلة، لا الحياة الجاهلية القديمة، وجرى الشعراء على أثرهما، فلما جاء القرن الرابع، كان قد نضج كل ذلك، وأخذ الكتاب والشعراء يدخلون المعاني الجديدة في الأدب الجديد، فكان النثر والشعر يعبران تعبيرًا صادقًا عنه في الغالب. هذا إلى أن كثرة الأموال في الدولة، وعيشة الترف والنعيم عَدَتِ الأدب، فأخذ هو الآخر، يتزين ليعجب المترفين، وأخذ ما كان يُبنى على الذوق الفطري من نقد يتحول إلى علم ذي قوانين، وكان القرن الرابع نهاية المطاف.
إنك لتقرأ تاريخ كثير من الأدباء فتراهم نكبوا؛ لأنهم ناصروا بعض البويهيين، فلما انتصر عليهم خصومهم، أُهينو أشد أنواع الإهانة، وابن سينا الفيلسوف الكبير لعبت به السياسة لعبًا كبيرًا حتى فرَّ أحيانًا، وإذا كان الخلفاء والأمراء يقتلون أحيانًا، وتُسمل أعينهم أحيانًا، ويستجدون الناس على أبواب المساجد أحيانًا، فما بالك بالعلماء والأدباء؟ إن هؤلاء كلهم لو عاشوا في جو هادئ لأنتجوا خيرًا مما أنتجوا، ولاستفاد الناس منهم أكثر مما استفادوا، فسلسلة الاضطرابات السياسية قطعت سلسلة العلم والأدب، فقد ظلا نائمين خادمين إلى النهضة الحديثة، حتى لو أننا فقدنا نتاج القرون الماضية من القرن الخامس إلى عصر النهضة لم نكن فقدنا كثيرًا.
والعلم والأدب عادة في أشد الحاجة إلى هدوء بال، وطمأنينة نفس، وراحة في الرزق، فما لم توجد هذه الثلاثة لا يستوي لهما طريق، ولا يؤمل لهما نجاح، شأنهما شأن الزهرة الناعمة؛ إذا عصفت بها العواصف، ولم تُرو في أوقاتها ذبلت، أو ضعفت.
وقد أخرج هذا العصر كثيرًا من الأمراء والوزراء الذين شجعوا الحركة العلمية، إما لرغبتهم في العلم، وإما لتزيين مجالسهم بالعلماء، كما تزين بالتحف الطريفة؛ ذلك أنهم فيما مضى من العصور العباسية، كانت بغداد وحدها هي مقصد العلماء، والشعراء، والأدباء؛ لأنها عاصمة المملكة الإسلامية كلها، فلم يك ينبغ نابغ في أي قطر، ويحب أن يشتهر إلا ويقصد بغداد لينال هذه الشهرة.
فلما انقسمت الدولة الإسلامية إلى دول ودويلات صغيرة، تعددت العواصم، وتعددت رحلات العلماء والأدباء، فمنهم من كان يقصد القاهرة، ومنهم من كان يقصد حلب، ومنهم من كان يقصد الري، أو شيراز، أو بغداد، أو غيرها من البلاد، وكانت هذه المدن تتنافس في اجتذابها للعلماء، واشتهر في هذا العصر من الأمراء البويهيون في العراق، والفاطميون في القاهرة، والحمدانيون في حلب والجزيرة، والسامانيون فيما وراء النهر، وكل هؤلاء قربوا العلماء والأدباء إليهم، وأنفقوا على العلوم العربية، والآداب العربية، حتى إن بني بويه مع فارسيتهم، شجَّعوا اللغة العربية، والأدب العربي أكثر مما شجعوا الأدب الفارسي، واللغة الفارسية. ومن غريب أمرهم أنهم عدوا البلاغة وسيلة الوزارة؛ ذلك لأن الأدباء كانوا هم السياسيين، يتثقفون في السياسة ثقافة عامة مع الأدب، ولم تكن السياسة قد أصبحت علمًا كما هو اليوم، إنما كانت تدرك بالذوق الفطري، وتستفاد من التجارب، ومن كتب التاريخ؛ لهذا رأينا من أشهر الوزراء ابن العميد، والوزير المهلبي، والصاحب ابن عباد، وفي القاهرة يعقوب بن كلس، وغيرهم، وكلهم علماء أدباء، ولذلك تجد في كتبهم ورسائلهم كثيرًا من المعلومات السياسية العامة، فابن العميد كان أديبًا كبيرًا، وله مذهب في الأدب معروف، مؤسس على السجع والجناس، وسائر أنواع البديع، وله كذلك شهرة كبيرة في السياسة، وقصده الناس والعلماء من كل ناحية، فهو يملي عليهم، ويقترح على الأدباء موضوعات يقولون فيها الشعر. وهذا الوزير المهلبي كان فقيرًا وبائسًا، وكان من قوله:
فلما ظهر أدبه استوزر، وعاش عيشة مترفة ناعمة، وكان يُجلس الأدباء والشعراء في مجلسه، ومن جلسائه أبو الفرج الأصفهاني، وهذا الصاحب ابن عباد يقول الشعر وينقده، ويقود حركة فكرية رائعة، ومن حبه للعلم والأدب أنه كان يرسل إلى بغداد كل عام خمسة آلاف دينار تفرَّق في الأدباء والفقهاء، وكان يطمح أن يتملك العراق، فيستكتب أبا إسحاق الصابي.
ومن العجيب أن آل بويه هؤلاء شُهروا بالظلم، وكثرة المصادرة للأموال، والنهب من الأغنياء، حتى إنا نجد بعض الرسائل التي وصلت إلينا من هذا العهد البويهي مملوءة بالشكوى من الظلم، فيقول الصابي مثلًا في بختيار البويهي: «فما زال بختيار يسيء الاختيار، ويتنكب الصواب، ويتجنب الإصلاح، ويمزق الأموال، ويعرض الدولة للزوال، ويهرج الأولياء أشد الإهراج، ويحملهم على أعوج المنهاج، ويخرب الأوطان، ويشتت الأقران، ويقتل الكُفاة، ويستكفي الغُواة؛ إلى أن بلغ من فاسد سيرته، وضال طريقته، أن استكتب محمد بن بقية، المحيط بكل خلة دنية»، وربما كان هذا الوصف ينطبق على أكثر البويهيين وعمالهم.
ويقول أبو بكر الخوارزمي في وصف سيرة حاكم: «فما زال يفتح علينا أبواب المظالم، ويحتلب فينا ضرع الدنانير والدراهم، ويسير في بلادنا سيرة لا يسيرها السِّنور في الغار، ولا يستجيزها المسلمون في الكفار، حتى افتقر الأغنياء، وانكشف الفقراء، وحتى ترك الدِّهقان ضيعته، وجحد صاحب الغَلَّة غلَّته، وحتى نشَّف الزرع والضرع، وأهلك الحرث والنسل، وحتى أخرب البلاد، بل أخرب العباد، وحتى شوَّق إلى الآخرة أهل الدنيا، وحبب الفقر إلى أهل الغِنَى … والله ما الذئب في الغنم بالقياس إليه إلا من المصلحين، ولا السوس في الخز في الصيف عنده إلا من المحسنين»، ويصف بديع الزمان الهمذاني أحد قضاتهم فيقول: «يا للرجال، وأين الرجال؟ ولي القضاء من لا يملك من آلاته غير السباب، ولا يعرب من أدواته غير الاختذال، وما رأيك في سوس لا يقع إلا في صوف الأيتام، وجراد لا يسقط إلا على الزرع الحرام، ولص لا ينتقب إلا على خزانة الأوقاف». ويقول بعض الشعراء:
ومع ذلك؛ كانوا يغدقون على العلماء إغداقًا كبيرًا، فهم على الجملة نهابون وهّابون.
فإن نحن تجاوزنا بني بويه في العراق، وما حوله وجدنا في القاهرة الفاطميين الذين شجعوا العلم والأدب أكبر تشجيع، فهذا الحاكم بأمر الله ينشئ «دار الحكمة»، وهؤلاء العلماء يجتهدون في كل أنواع العلوم، وهذا وزيرهم — مثلًا — يعقوب بن كلس الذي كان من أصل يهودي وأسلم، قال فيه ابن خلكان: «كان يحب أهل العلم، ويجمع عنده العلماء، ورتب لنفسه مجلسًا في كل ليلة جمعة، يقرأ فيه مصنفاته على الناس، ويحضره القراء والفقهاء، والنحاة، وغيرهم من وجوه الدولة، فإذا فرغ من مجلسه قام الشعراء ينشدونه المدائح، وكان في داره قوم يكتبون القرآن، وآخرون يكتبون كتب الحديث، والفقه، والأدب، حتى الطب، وكان يقيم كل يوم خوانًا لخاصته من أهل العلم والكتابة، وخاصة أتباعه»، ولعل خير ما يمثل ميلهم إلى العلم بناؤهم للأزهر الخالد إلى اليوم.
وهذا سيف الدولة في حلب والجزيرة، كان مجلسه مملوءًا بالشعراء والأدباء، وفيه بعض الفلاسفة كالفارابي، وبعض النحويين كابن خالويه.
وكان أيضًا حاكمًا ظالمًا كالبويهيين، سهل له قاضيه كل مظلمة، حتى قال القاضي يومًا: «من هلك فلسيف الدولة ما ملك»، فكان سيف الدولة أيضًا نهابًّا وهّابًا، يصادر الناس في أموالهم، ليمنحها للمتنبي وأمثاله، فيصوغون له قلائد المدح؛ وينطبق عليه الحديث: «ليتها ما زنت، ولا تصدَّقت».
لهذا كله أنتج القرن الرابع هذا كثيرًا من العلماء في كل علم، مثل: إبراهيم المروزي، والقدوري، والطحاوي، وابن السريج في الفقه، والدارقطني، والنيسابوري، وغيرهما في الحديث؛ وأبي على الفارسي، وابن دريد، والنحاس، وابن فارس، وابن جني، والزجاج، وابن درستويه، وابن السراج في النحو واللغة؛ والمتنبي، وأبي فراس، والناشئ، والنامي، وابن حجاج، وابن سكّرة، وابن طباطبا، والخالديين في الشعر، وأبي هلال الصّابي، والخوارزمي، وجحظة البرمكي، وبديع الزمان الهمذاني، وعلي بن عبد العزيز الجرجاني في الأدب؛ والطبري وابن زولاق، والشابشتي، والمسبِّحي في التاريخ، وابن جنزابة، والإصطخري، وغيرهما في الجغرافية، وابن مقلة في الخط، والجبَّائي، والحسن الأشعري، والكعبي، والبلخي في علم الكلام، وابن نباتة في الخطابة، فكل هؤلاء نشطت حركتهم، وكثر علمهم وأدبهم، مما لا أظن أن عصرًا من العصور أخرج مثلهم، حتى جاءت الحركة الحديثة التي نشأت من الاحتكاك بالأجانب، والاقتباس من مدينة تغاير المدينة الإسلامية في كل ناحية من نواحي العلم والفن والحضارة، فأخذنا عنهم، وسرنا سيرهم، وتفتحت عيوننا بعض الشيء، فأخذنا نُغربل القديم وننقده بأعيننا الجديدة، وصار أمامنا مدينتان مختلفتان: لعل المدينة الغربية منهما أوفر علمًا بمعنى العلم الحديث، وعلى أثر ذلك بدأت الحياة العلمية في الشرق تدب من جديد، وأمامها مادة وفيرة من المدنية الإسلامية، ومادة وفيرة من المدنية الغربية.
والمتأمل فيما يجري يرى أننا متجهون إلى اقتباس العلم والمخترعات بقدر كبير من المدنية الغربية، ومقتبسون الروحانية، والتصوف، والأسلوب، ونحو ذلك من المدنية الإسلامية؛ فنحن نمثل في الحقيقة الإسكندرية أيام كانت تقتبس من الشرق دينه، وروحانيته، وإلهامه، ومن اليونانية طبيعتها، وكيمياءها، وطبها، ونحو ذلك، أو كما فعل المسلمون في العصر العباسي الأول؛ إذ أخذوا الثقافة الهندية، والفارسية، واليونانية، والرومانية، ومزجوها بعضها ببعض، وكوَّنوا ثقافة هي مزيج من كل ذلك، وصدق التعبير المشهور: «التاريخ يعيد نفسه»، ولكن قد يختلف شكل الإعادة حسب اختلاف الهيئات والظروف، وحقيقة الجوهر لا تختلف.
ونحن نؤمل أن العالم يسير إلى الأمام على العموم، قد تختلف بعض الأمم فتموت، وقد تتخلف بعض الأمم في بعض النواحي؛ ولكن العالم في جملته يسير إلى الأمام دائمًا؛ فعالم اليوم خير من عالم الأمس، قد كان العالم محكومًا بحفنة من الملوك المستبدين، لا يرعون للشعوب حقًّا، وكانت تكفي الكلمة لقتل من شاءوا، ومصادرة من شاءوا — كما رأينا — ثم أصبح للشعوب حقوق، وللشعوب قوة، تعزل بها، وتولي، وتشرع، ولم يصل العالم إلى منتهاه بعدُ، فلا تزال فيه حفنة من قادة السياسة تقوم مقام الملوك، تعلن الحرب، وتخرب الممالك، ونحو ذلك، من أفعال سيئة، ولكن العالم سيتقدم، والعلم سيتقدم، والنظريات الغامضة ستتضح، ويفهم العالم في المستقبل القوانين التي تحكم العالم، والحقوق التي لهم على رؤسائهم، وستكون الشعوب هي التي تتحكَّم في أمورها، وترعى مصالحها … قد يكون ذلك قريبًا، وقد يكون بعيدًا، ولكنه سيحدث على كل حال.
وهناك مسألة أخرى، وهي النظر إلى نوع ما شاع بين المسلمين كما رأينا من عظمة الثقافة الأدبية، دون العلمية، ونعني بالثقافة الأدبية، الأدبية بالمعنى الواسع الذي استعملت فيه كلمة الآداب، فتشمل الدراسة الأدبية، الشعر والنثر، والجغرافيا والتاريخ، وآداب اللغات؛ كما نعني بالثقافة العلمية المعنى الذي استعملت فيه كلمة كلية العلوم، من طبيعة وكيمياء، ورياضة، وجيولوجيا، ونحوها.
والناظر في هذا العصر الذي نؤرخه، والذي قبله وبعده، يرى طغيان الثقافة الأدبية على الثقافة العلمية، وعناية الشعوب بالآداب أكثر من العلوم، ومصداق ذلك أننا لو دخلنا مكتبة عربية رأينا ما يساوي واحدًا في المائة منها علمًا، والباقي أدبًا، فلو حصرنا كتب التراجم مثل ابن خلكان، وجدنا أن أكثره أدباء، بالمعنى الواسع، وأقله علماء، خصوصًا إذا ضممنا المفسرين، والمحدثين، والفقهاء إلى باب الأدب، فنجد مئات الأدباء، بينهم قليل من أمثال ابن الهيثم، وأبي الوفاء البوزجاني.
نعم، إن لكل نوع من هذين النوعين مزايا وعيوبًا، فمن ميزات الثقافة الأدبية توسيع الذهن، وتربية العواطف، وفهم الحياة الاجتماعية على وجهها، ومن أضرارها عمومها، وعدم دقتها، واستعداد من يتثقف بها الجدل، وقدرته عليه، واستطاعته إقامة البرهان على الشيء ونقيضه.
ومزية الثقافة العلمية التحديد والدقة، إذ كلها تقريبًا مثل: ١ + ١ = ٢، أو مضاعفات ذلك. ومن ميزاتها أن أصحابها لا يقبلون الجدل الكثير، فالمسألة إما صحيحة، وإما خطأ، وليس هنالك وسط، ومن عيوبها خلوها من العواطف، واقتصار أصحابها على دائرة معينة لا يسبحون في غيرها إلا إذا تثقفوا ثقافة أدبية، ولذلك ترى أنه إذا تزحزحوا عنها قيد شعرة، كانوا أشبه بالعوام.
والثقافتان معًا لازمتان لكل أمة؛ إذ لا يمكن أن تخلو أمة حية من ثقافة أدبية تغذي العواطف، وثقافة علمية تغذي العقل.
وقد حرصت كل الأمم تقريبًا على أن يكون لها كلية آداب، وكلية علوم، كلية آداب تحيي النثر والشعر، وتدرس التاريخ اتِّعاظًا بالماضي، والجغرافيا لمعرفة شئون العالم؛ وكلية علوم تضبط الذهن، وتقوي العقل.
وربما كان السبب في غلبة الميل إلى الأدب أكثر من العلم أن الأدباء بطبيعة أدبهم، وبطبيعة طول لسانهم كانوا أقرب إلى قلوب الملوك والأمراء، يمدحونهم، ويتزلفون إليهم، بينما رجال العلم لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا من ذلك، إذ هم قصيرو اللسان لا يتكلمون إلا بقدر … هذا إلى أن الأدباء عادة أقدر على السمر اللطيف، والحديث الممتع، والنكت الطريفة، على حين أن العلماء متزمتون، غير قادرين على المرح والنكت.
وكان ذلك تقريبًا ظاهرًا في كل العصور الإسلامية من مبدأ عصر الإسلام إلى قرب عهدنا بقليل، فلما جاءت المدنية الحديثة، وكانت قد أسست أكبر ما يكون على العلم، وعلى الاختراعات والصناعات اقتبسنا منها، ونحونا نحوها.
نعم، إن المدنية الحديثة لم تهمل الأدب، ولكنها مع ذلك قوَّمت العلوم تقويمًا كبيرًا، فأخذنا نؤسس حياتنا على العلم أيضًا، حتى لا يكون عالة على غيرهم، وكان من نتيجة كثرة عنايتهم بالأدب كثرة كلامهم، وكثرة جدلهم، حتى لا يتناسب محصول فعلهم مع محصول كلامهم، ومجالسهم مملوءة بالجدل والمناقشة، ومشروعاتهم مملوءة بالبحث النظري من غير نتيجة.
بل نرى أن اتجاه الغربيين إلى العلوم، وتوسعهم فيها جعلهم يلونون أدبهم بلون العلم، وكان دائمًا لأدبهم موضوع، على عكس ما نرى، ما نرى عند الخوارزمي، والعماد الأصفهاني، والقاضي الفاضل من كلام كثير لا موضوع له.
بل أظن أن الثقافة الأدبية تجعل صاحبها أقدر على الميوعة في الأخلاق، والقدرة على التأويل، وكما قال البوصيري في إحدى قصائده:
ونحن لو درسنا الشرق لرأينا فيه من الكفايات ما يكفي العلم والأدب جميعًا، فالجو الذي أخرج ابن الهيثم يستطيع أن يخرج أمثاله من العلماء لولا أن الشعب لظروفه وجَّه ناشئيه إلى الأدب، ولو وجِّهوا إلى العلم، لكانوا بحسن استعدادهم نابغين، فعلى الشرق الآن عبء ثقيل هو أن يعوض عن القصور في العلم فيما مضى، النهوض بالعلم في الحاضر، ونحن إن فعلنا ذلك ملئت كتب تراجمنا بالعلماء والأدباء على السواء، والله الموفَّق.