مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

وعدت عند ظهور الجزء الأول من هذه السلسلة — وهو الخاص بالحياة العقلية في الأندلس من فتح العرب لها إلى خروجهم منها، وتكلمت فيه عن الحركات الدينية، واللغوية، والنحوية، والأدبية، والفلسفية، والتاريخية، والفنية — أن أكتب الجزء الرابع والأخير في المذاهب الدينية وتطورها، وسألت الله أن يعينني عليه كما أعانني على سوابقه، ولم يخيب الله سؤالي؛ إذ انقطعت لكتابته حتى أنجزته، جاريًا على النسق عينه الذي نهجته في الجزء الأول والثاني والثالث.

تكلمت في الجزء الأول عن وصف الحياة الاجتماعية في القرن الرابع، إذ لا يمكن فهم الحياة العقلية إلا بفهم بيئتها التي نشأت فيها، والعوامل التي ساعدت عليها، وطبيعة الناس الذين أنتجوها، كما تعرضت لوصف مراكز الحياة العقلية في مصر، والشام، والعراق، وجنوب فارس، وخراسان، وما وراء النهر، والحركات العلمية والأدبية التي ظهرت في كل إقليم، وأشهر رجالها.

وتكلمت في الجزء الثاني عن تاريخ العلوم، والآداب، والفنون في القرن الرابع الهجري، كالتفسير، والحديث، والفقه، والتصوف، واللغة، والأدب، والنحو، والصرف، والبلاغة، والفلسفة، والأخلاق، والتاريخ، والجغرافيا، والفنون المختلفة.

أما الجزء الثالث، فأفردته للأندلس ليكون وحدة مستقلة بذاته، ولم أكتف في ذلك الجزء بتأريخ القرن الرابع وحده، بل رأيت أن حضارتها وحياتها العقلية تكاد تكون وحدة، ففضَّلت في شأنها أن أنهج منهجًا جديدًا، فلا ألتزم القرن الرابع، بل أؤرخ حياتها متسلسلة من وقت فتح المسلمين لها إلى وقت خروجهم منها، أي نحو ثمانية قرون.

وقد رأيت أن أنهج في الجزء الرابع هذا المنهج، فلا أقف عند القرن الرابع، وبخاصة لأن العقائد والمذاهب ليست كالآداب، والعلوم، والفنون سريعة التغير والتطور. وتكلمت عن المذاهب الرئيسية من معتزلة، وأشاعرة، وشيعة، وسنة، ومتصوفة، وقد أفردت للمتصوفة بابًا خاصًّا، مع أنهم ليسوا فرقة إسلامية لاستشهار أمورهم، وقوة أثرهم في العقيدة الإسلامية، وبخاصة بعد القرن الرابع.

وإذا كنت قد بدأت بالاعتزال في المقدمة؛ فذلك أني أريد أن يكون هذا الجزء مترابطًا لا يحتاج قارئه أن يرجع إلى «ضحى الإسلام» لمعرفة تفصيل هذا المذهب ونشأته، وبذلك يكون هذا الكتاب عرضًا عامًّا للعقيدة الدينية في شتى صورها عند المسلمين منذ ظهور الإسلام حتى العصور المتأخرة.

والله أسأل أن يحسن ختامنا مع ختام هذا الجزء على دينه الذي ارتضاه، وأن يعيد إلى المسلمين وحدتهم، ويقرب شقة الخلف بين مذاهبهم، ويرفع من شأنهم، ويجدد مجدهم إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (النحل: ١٢٨).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤