سكان المملكة الإسلامية
عنصر الأتراك — في هذا العصر الذي نؤرخه، ظهر في المملكة الإسلامية عنصر كبير بجانب العنصرين العظيمين — الفرس والعرب — وهو عنصر الأتراك، وكان له أثر كبير في تاريخ الأمة الإسلامية وحياتها السياسية والاجتماعية.
- (١)
إن أهم عنصر في الجند كانوا إلى عهد المعتصم هم الخراسانين، وهو فُرس من خراسان، وكانوا عماد الدولة العباسية نحو قرن، من عهد إنشاء الدولة إلى المعتصم، كما كانوا حرس الخلفاء؛ وكان بجانب هؤلاء الجنود من الفرس جنود من العرب، من مضر واليمن وربيعة، ولكن هؤلاء العرب كانوا أقل شأنًا وأقل حظوة، وأقل عددًا من الفرس.
ضعفت ثقة الخلفاء بالعرب على ممر الأيام؛ إذ رأوهم لا يتحمَّسون للقتال لهم تحمُّس الفرس. وقد تقدم أن رجلًا تعرض للمأمون بالشام وقال له: «يا أمير المؤمنين، انظر لعرب الشام كما نظرت لعجم أهل خراسان!» ولكن المعتصم بدأ يشعر أيضًا بضعف ثقته بالفرس؛ وذلك أن كثيرًا من الجند لما مات المأمون كان هواهم مع ابنه العباس؛ لأن أم المأمون فارسية، فدعتهم عصبيتهم للمأمون — نصف الفارسي — أن يتعصبوا لابنه العباس أيضًا.
وذكر «الطبري» أن الجند شغبوا لما بويع لأبي إسحاق — المعتصم — بالخلافة، فطلبوا العباس ونادوه باسم الخلافة، فأرسل أبو إسحاق إلى العباس فأحضروه فبايعه العباس ثم خرج العباس إلى الجند فقال: ما هذا الحب البارد؟! قد بايعت عمي، وسلمت الخلافة إليه. فسكن الجند.٢لم تمر هذه الحادثة على المعتصم من غير أن تدعوه إلى التفكير العميق؛ حتى لا يتكرر مثل هذا الحادث، ففكر أن يستعين بقوم غير الفرس وغير العرب، فهداه تفكيره إلى الترك، وظل لا يصفو للعباس ولا العباس يصفو له حتى اتهم العباس بأنه يدبر مؤامرة لاغتيال المعتصم، فقبض على العباس وسجن ومنع عنه الماء حتى مات.
- (٢) وسبب آخر لاستدعاء المعتصم للترك، وهو أن أم المعتصم أصلها من هذه الأصقاع التركية، فقد كانت من السُّغد، واسمها ماردة، وكان في طباعه كثير من طباع هؤلاء الأتراك، من القوة والشجاعة والاعتداد بقوة الجسم؛ «كان يجعل زند الرجل بين إصبعيه فيكسره». ويقول أحمد بن أبي دُؤاد: «كان المعتصم يخرج ساعده إليَّ ويقول: عَضَّ ساعدي بأكثر قوتك. فأمتنع، فيقول: إنه لا يضرُّني! فأورم ذلك فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلًا عن الأسنان!»٣ فدعته العصبية التركية والتشابه الخلقي أن يفكر في استدعاء الأتراك ففعل.استكثر المعتصم من الأتراك حتى ملئوا بغداد وضايقوا أهلها، قال المسعودي: «كانت الأتراك تؤذي العوام بمدينة السلام بجريها بالخيول في الأسواق وما ينال الضعفاء والصبيان من ذلك، فكان أهل بغداد ربما ثاروا ببعضهم فقتلوه عند صدمه لامرأة أو شيخ كبير، أو صبي أو ضرير؛ فعزم المعتصم على النقلة معهم … فانتهى إلى موضع سامَرَّا، فأحضر الفَعَلَة والصناع وأهل المهن من سائر الأمصار، ونقل إليها من سائر البقاع أنواع الغروس والأشجار، فجعل للأتراك مواضع متميزة، وجاورهم بالفراغنة والأشروسنية … وأقطع أشْناس التركي وأصحابه من الأتراك الموضع المعروف بكرخ سامرَّا … إلخ».٤ كان من هؤلاء الأتراك مسلمون أسلموا على أثر فتح المسلمين لبلادهم في العصر الأموي، ومنهم مجوس وثنيون أخذوا يسلمون عند استقدام المعتصم لهم، وكانوا يتكلمون التركية، فأخذوا يتعلمون العربية، وقد عرفوا بالشجاعة والصبر على القتال كما عرفوا بخشونة البداوة وقسوة الطبيعة؛ وحافظ المعتصم على دمائهم أن تبقى متميزة، فجلب لهم نساء من جنسهم زوَّجهن لهم، ومنعهم أن يتزوجوا من غيرهم.
مكَّن المعتصم للأتراك في الأرض، وكانوا في أول أمرهم قوة للدولة، وبسببهم — على الأكثر — يرجع انتصارهم على الروم في وقعة عمورية سنة ٢٢٣ﻫ، فكانت القيادة العليا في يد الأتراك وعلى رأسهم أَشْنَاس.
من ذلك التاريخ دخل في نزاع العصبية عنصر قوي جديد، فقد كان النزاع قبلُ بين الفرس والعرب، فأصبح بين العرب والفرس والترك؛ وكان العرب قد ضعف أمرهم في نزاعهم مع الفرس، فجاءت قوة الترك ضغثًا على إبَّالة، وتوجَّهت قوة الترك أولًا — لإضعاف شأن هؤلاء الفرس المستبدين بالسلطان. وأخذ التاريخ الإسلامي يصطبغ بالصبغة التركية، وبعد أن كانت الأحداث تتصل بأعلام الفرس، كأبي مسلم الخراساني والبرامكة والحسن بن سهل والفضل بن سهل، وعبد الله بن طاهر وأمثالهم؛ ظهر التاريخ مرتبطة أحداثه بأشناس، وإيتاخ، وبُغَا الكبير، وبغا الصغير، وابن طولون وأمثالهم من الأتراك؛ إذ كانوا القابضين على زمام الدولة والمتصرفين في شئونها.
وهجا دِعْبِلٌ الخُزاعي المعتصم لتعصبه للأتراك وحمايته إياهم فقال:
ولا شك أن هذه الحادثة أيضًا أضعفت من شأن العرب وخاصةً في مصر.
وتولَّى المتوكل سنة ٢٣٢ﻫ، فكان قد مضى على مجيء الأتراك اثنتا عشرة سنة تمكنوا فيها من الأرض وعرفوا الناس والبلاد، وخدمتهم الحوادث في إعلاء سلطانهم؛ فرأينا إيتاخ التركي هو الذي بيده معظم الأمور.
أصبحت أمور الدولة في يد الأتراك، وأصبحوا مصدر قلق واضطراب، فهم يكرهون الفرس والعرب، وهم أنفسهم ليسوا في وفاق بعضهم مع بعض، وهم لا ينقطعون عن المؤامرات والدسائس، وتعصَّب كل فريق لقائد منهم، وهم كثيرو الطمع في الأموال لا يشبعون، وعلى الجملة فقد أصبحت «دار السلام» وما حولها ليست دار سلام.
كان قتل المتوكل أول حادثة اعتداء على الخلفاء العباسيين، فكل من كان قبله مات حتف أنفه «إلا الأمين فقد قتل بعد هزيمته في الحرب». ولم يكن قتل المتوكل اعتداءً على المتوكل وحده، بل هو قتل لسلطان كل خليفة بعده، ولم يكن قتله بيد باغر وحده بل بيد الأتراك. وكان في قتله حياة الأتراك وسلطانهم، وإنذار عام للبيت المالك أن من أراد أن يلي الخلافة فليذعن إذعانًا تامًّا للأتراك، ومن حدَّثته نفسه — من الخليفة فمن دونه — أن يناوئهم فليوطِّن نفسه على القتل.
لقد شهد البحتري مقتل المتوكل وكان نديمه وجليسه، وفزع لذلك، ووصف مقتله في قصيدته الرائية المشهورة، يقول فيها:
وفيها:
… إلخ.
بل يُخَيَّلُ إِليَّ أن البحتري هاله ما فعله الأتراك بسيده المتوكل وهو الذي مجَّده في كثير من قصائده، وأسبغ عليه فيها نوعًا من التقديس.
ولم يستطع أن يهجو الأتراك في صراحة وإقذاع، وهم الذين بيدهم السلطان، وآلمه ما آل إليه أمر الدولة وقد غلب عليها الأتراك، وما كانت عليه الدولة أيام كان السلطان سلطان الفرس، فحنق على الأولى، وحمد الأخرى. فيخيَّل إليَّ أنه قال «بمظاهرة» طريفة يرضي بها شعوره، وهي أنه حج إلى إيوان َكسرى رمز سلطان الفرس، ووقف أمامه شاكيًا باكيًا، وقال سينيته البديعة المشهورة يندب حظه ويبكي أمسه:
•••
•••
بل هو يصرح بعد ذلك أن الفرس ليسوا قومه، ولكن لهم فضل على العرب بما أيدوا من ملكهم، وما خدموا في دولتهم (أي وليس كذلك الترك). وفضلًا عن ذلك فإنه يألف الأشراف من كل جنس، ويحب الأصول من كل قوم:
فهذه القصيدة ليست نزعة شعوبية من البحتري كما يرى بعضهم، ولكنها — فيما أرى — حسرة على عهد الفرس بعد أن رأى عهد الأتراك، وبكاءٌ على عصر كان الفرس فيه يحتفظون بأبهة الخليفة وعظمته، ويعملون ما عملوا في خدمته، وألَمٌ من عصر الأتراك الذي محَوا فيه سلطة الخليفة وسلبوه سلطانه، وأخضعوه لإشارتهم، وجعلوه تابعًا لأمرهم ونهيهم، وأخيرًا فعلوا فعلتهم الشنعاء فقتلوه أشنع قِتلة، ولم يرعوا له ولا للخلافة أية حرمة.
وقد خلف لنا الجاحظ رسالة في موضوع العصبية عند مجيء الترك، وهي رسالة كتبها للفتح بن خاقان التركي في مناقب الترك، تمثِّل لنا أصدق تصوير العصبية بين الجنود المختلفة لمَّا جُند الأتراك، وما يقال عن الجنود يصح أن يقال عن غيرهم. وقد ذكر في هذه الرسالة أنه ألفها أيام المعتصم جالب الأتراك، وأنه أراد أن يوصلها إليه فلم تصل، لأسباب يطول ذكرها، ولم يبين لنا شيئًا من هذه الأسباب، والظاهر أنها لم تصل إليه؛ لأن من كان في قصر المعتصم من الفرس والعرب عملوا على ألا تقع في يده فتعظم عصبيته للترك.
ويظهر أنه أعاد كتابتها من جديد على ضوء ما كان من عظمة الترك، وقدَّمها للفتح بن خاقان وزير المتوكل، وكل قوم من الجند في ذلك العصر كان لهم أدباء وعلماء ومتحدثون، يتكلمون في مناقب قومهم وميزتهم عن غيرهم. أما الأتراك فلم يكن لهم شيء من ذلك، فتعاون الفتح بن خاقان والجاحظ على أن يسدَّا هذا النقص، ويبيِّنا مناقب الترك؛ فكتب الجاحظ رسالته في ذلك وحكى فيها بعض أقوال الفتح. وقد استعمل الجاحظ عقله وقلمه وفلسفته في إعلاء شأن الترك؛ تقربًا لذوي النفوذ، وإظهارًا لمزيته البلاغية، بقطع النظر عن كونه يعتقد ما يقول أو لا يعتقد.
والرسالة قيِّمة جدًّا من ناحية حكاية ما كان يجول بخاطر الجند على اختلاف أنواعهم ونوع عصبيتهم. ويقول فيها إنه لا يريد أن يذكر مناقب الأتراك ويتبعه بمعايب غيرهم، بل يكتفي بذكر المناقب قصدًا إلى الألفة وتوحيد القلوب، ولكنه بسط مناقب الترك وبالغ في إعلاء شأنهم، وأسبغ عليهم، بقلمه السيَّال وأسلوبه الواسع؛ عظمة وأبهة تكفيان في إشعار القارئ أن الترك أعظم جند، وأشجع قوم؛ فهو بهذا الأسلوب الماكر رفع من شأن الترك، ووضع من غيرهم تحت ستار الدعوة إلى الألفة.
وهو كلام جيد نظريًّا، ولم يكن واقعًا عمليًّا، فالدعوة الجنسية كانت بالغة أشدَّهَا، والعداوة بينهم متغلغلة في أعماق صدورهم.
ثم حكى الجاحظ عن «الفتح» أن هذا القائل ذكر مناقب لكل جنس من الجنود وألغى ذكر الأتراك، فذكر أن الخراسانيين يفخرون ويقولون: إنا دعاة الدولة العباسية ونحن النقباء والنجباء وأبناء النجباء، وبنا زال ملك بني أمية، ونحن الذين تحملوا العذاب وبُضعوا بالسيوف الحداد، ندين بالطاعة ونقتل فيها، ونموت عليها؛ ونحن قوم لنا أجسام وأجرام، وشعور وهام، ومناكب عظام، وجباه عراض، وسواعد طوال، وأبداننا أحمل للسلاح، ونحن أكثر مادة ونحن أكثر عددًا وعدة، ومتى رأيت مواكبنا وفرساننا وبنودنا التي لا يحملها غيرنا علمت أنَّا لم نخلق إلا لقلب الدول وطاعة الخلفاء وتأييد السلطان؛ ونحن أرباب النهى وأهل الحلم والحجى؛ وأهل النجابة في الرأي، والبعد من الطيش، وليس في الأرض صناعة عراقية ولا حجازية، من أدب وحكمة، وحساب وهندسة وارتفاع بناء، وفقه ورواية، نظرت فيها الخراسانية إلا فرعت فيها الرؤساء وبذَّت فيها العلماء … إلخ إلخ.
والعرب يفخرون بالأنساب وبالشعر الموزون الذي يبقى بقاء الدهر، ويلوح ما لاح نجم، وبالكلام المنثور والقول المأثور وتقييد المآثر، إذ لم يكن ذلك من عادة العجم — قالوا — ونحن أصحاب التفاخر والتنافر، والتنازع في الشرف والتحاكم إلى كل حَكَم مقنع، وكاهن شجاع، ونحن أصحاب التعاير بالمثالب والتفاخر بالمناقب، نقاتل رغبة لا رهبة. ثم ردُّوا على الخراسانيين بأن أكثر النقباء في الدعوة العباسية كانوا من العرب … إلخ.
وفخر الموالي بأنهم موضع الثقة عند الشدة، وأن شرف السادة راجع إليهم، إذ هم منهم، ثم لهم الطاعة والخدمة والإخلاص وحسن النية — قالوا — ونحن أشكل بالرعية، وأقرب إلى طباع الدهم، وهم بنا آنس، وإلينا أسكن، وإلى لقائنا أحنُّ، ونحن بهم أرحم، وعليهم أعطف … إلخ.
وقال البنوي: إنا أصلنا خرساني وهو مخرج الدولة، ومطلع الدعوة، ولنا بعدُ في أنفسنا ما لا ينكر، من الصبر تحت ظلال السيوف القصار، والرماح الطوال، ولنا مُعانقة الأبطال عند تحطم القنا وانقطاع الصفائح، ونحن أهل الثبات عند الجولة، والمعرفة عند الخبرة، مع حسن القدِّ، وجودة الخرط، ثم لنا الخطُّ والكتابة، والفقه والرواية، ولنا بغداد بأسرها تسكن ما سكنَّا وتتحرك ما تحركنا؛ ونحن تربية الخلفاء وجيران الوزراء، وُلِدْنا في أفنية ملوكنا، ونحن أجنحة خلفائنا، أخذنا بآدابهم، واحتذينا على مثالهم.
فأخذ الجاحظ بعدُ يشِيد بفضل الترك، فيزعم أن كل الأجناد يرجعون إلى شيء واحد كما قال «الفتح»؛ فالبنوي خراساني، والخراساني مولِي، والمولِي عربي بالولاء، والأتراك خراسانية (أي بحكم القرب والجوار)، فصار البنوي والخرساني والمولي والعربي والتركي شيئًا واحدًا، فصار فضل التركي إلى الجميع راجعًا، وصار شرفهم زائدًا في شرفهم، ورجا أنه إذا عرف سائر الأجناد ذلك تسامحت النفوس، ومات الضغن وانقطع سبب الاستثقال.
بدأ الجاحظ دفاعه عن الأتراك بحكاية قصَّها عن قوم أيام المأمون تذاكروا أي الاثنين أشجع: الخارجي أم التركي؟ وكان الخوارج معروفين بين الناس إذ ذاك بأنهم أشجع جند وأصبر الناس على قتال، وانتهى من هذه القصة بنتيجة هي أن التركي أشجع من الخارجي؛ لأن الخوارج عرفوا بعشر مزايا في القتال، والتركي يفضلهم فيها جميعًا؛ لأنه أثبت عزمًا حتى لقد عوَّد برذونه ألا ينثني، وهو أصدق رماية؛ فالتركي يرمي الوحش والطير والناس في سرعة وإصابة، والخوارج إذا ولَّوْا فقد ولَّوْا، ولكن التركي إذا ولَّى فهو السمُّ الناقع؛ لأنه يصيب بسهمه وهو مدبر كما يصيب بسهمه وهو مقبل.
والتركي في حال شدته معه كل شيء يحتاج إليه لنفسه ولسلاحه ولدابته، والتركي هو الراعي وهو السائس، وهو الرائض وهو النخَّاس وهو البيطار، وهو الفارس، وهو أصبر على السير وعلى الصعود في ذُرى الجبال، والتركي في بلاده لا يقاتل على دين، ولا على تأويل، ولا على مُلك، ولا على خراج، ولا على عداوة، ولا على وطن، وإنما يقاتل على السلب، فكيف إذا انضم إلى ذلك غضب أو تدين، أو عَرَض له بعض ما يصحب القاتل من العلل والأسباب، والأتراك قوم وُضع بنيتهم على الحركة وليس للسكون فيهم نصيب، وهم أصحاب توقُّد واشتعال وفطنة، وهم يرون الاكتفاء بالقليل عجزًا، وطول المقام بلادة، والراحة غفلة، والقناعة من قصر الهمة.
ويقول بعد: إن كل أمة امتازت بشيء، فأهل الصين في الصناعات، واليونان في الحكم والآداب، والفرس في المُلْك والسياسة؛ والعرب لم يكونوا تجارًا ولا صناعًا ولا أطباءً ولا حُسَّابًا، ولا طلبوا المعاش من ألسنة المكاييل والموازين، ولم يحتملوا ذلًّا قط فيميت قلوبهم، ويصغِّر عندهم أنفسهم، وكانوا سكان فيافٍ، وتربية عراء، فوجَّهوا قواهم إلى قول الشعر، وبلاغة المنطق، وتثقيف اللغة، وتصريف الكلام، وحفظ النسب، والاهتداء بالنجوم، والاستدلال بالآثار، والبصر بالخيل والسلاح، والحفظ لكل مسموع، والاعتبار بكل محسوس، وإحكام شأن المناقب والمثالب ومزية الأتراك في الحروب، وهم كذلك أصحاب عمد، وسكان فياف، وأرباب مواش، وهم أعراب العجم، كما أن هذيلًا أكراد العرب، لم تشغلهم الصناعات ولا التجارات، ولا الطبُّ والفلاحة والهندسة، ولا غراس ولا بنيان، ولا شقُّ أنهار، ولا جباية غلَّات، ولم يكن همُّهم غير الغزو والغارة والصيد، وركوب الخيل، ومقارعة الأبطال، وطلب الغنائم، وتدويخ البلاد، لذَّتهم في الحرب، وهي فخرهم وحديثهم وسمرهم، وقد اتصفوا بالصفات التي تستتبع النجدة والفروسية، من الكرم وبعد الهمَّة وطلب الغاية، والحزم والعزم والصبر.
وبذلك انتهت رسالته الطويلة التي أوجزناها إيجازًا تامًّا.
ومنها نستدل على أن العصبية في هذا العصر كانت شديدة قوية؛ كل عنصر يعدِّدُ مزاياه، ويُدل بها على من سواه؛ فعربي يفخر بلسانه وسيفه، وفارسي يفخر بسياسته ومُلكه … إلخ؛ وأن الأتراك كانت مزيتهم حسن القتال وما يستتبعه من صفات، فلم يفخروا بعلم ولا سياسة ولا بسابقة دين ولا شيء من ذلك، فلما كان هذا شأنهم في قوة القتال، غلبوا على كل سلطان.
أراد الفتح بن خاقان والجاحظ أن ينشرا عقيدة الوحدة بين الجنود وتناسي الأجناس، ولكن أنَّى لهما ذلك، والدين نفسه لم يستطع أن يمحو هذه العصبية، وعمل الأتراك أنفسهم باستبدادهم وطغيانهم يحيي العصبية ويجعلها وسيلة للدفاع عن النفس، بل وطريقة الجاحظ التي سلكها في مناقب الأتراك من شأنها أن تقوي العصبية لا أن تضعفها؟!
فلما مات المنتصر بعد خلافته بستة أشهر، وقبل أن يستخلف خليفة بعده، استُحلف القواد الأتراك والمغاربة والأشروسنية على أن يرضوا بمن يرضى به بغا الكبير وبغا الصغير وأتامش، وجميعهم أتراك، وهؤلاء قد اختاروا أحمد بن محمد المعتصم، ولقَّبوه المستعين فبايعه سائر الناس.
هذا إلى أن الأتراك أنفسهم انشق بعضهم على بعضهم، وتكونوا أحزابًا: هذا حزب داغر، وهذا حزب بغا ووصيف … إلخ، وقتلوا داغرًا، وحارب بعضهم بعضًا.
فلما لم يذعن لهم المستعين، بايعوا المعتز بالله، وانضم إليه أغلب الأتراك، وكان مركزه سامرا؛ وظل أهل بغداد على ولائهم للمستعين وبيعتهم له، ومعه ابن طاهر الفارسي الأصل وقليل من الأتراك، وكانت سنة شديدة على الناس عذبوا فيها عذابًا شديدًا من السلب والنهب والقتال.
وكان من حسن حظ الترك أن غَلبوا أخيرًا، ودخلوا بغداد منتصرين، وخلعوا المستعين ثم قتلوه، فكانت هذه خطوة أخرى في سبيل سيادة الأتراك، وفي ذلك يقول رجل من أهل سامرا — وقيل إنها للبحتري:
وقد أكثر الشعراء في ذلك العصر من وصف ما أصاب البلاد من سوء الحال، وتحكم الأتراك في الخلفاء، وما عمَّ الناس من الفوضى والاضطراب، فقال في ذلك بعض شعراء العصر في مقتل المعتز:
وقال آخر:
وقال آخر:
ويقول: عبد الله بن المعتز في أرجوزته التاريخية المشهورة:
•••
شعر الناس بسوء الحالة العامة من سلطة الأتراك، وحاولوا التخلُّص من سلطانهم، وقويت هذه الفكرة عند الخليفة المهتدي، وقد كان شجاعًا قويًّا، مثله الأعلى عمر بن الخطاب؛ فظن أنه يستطيع القضاء على سلطة الأتراك، وأن الشعب يؤيده، ولكنه لم ينجح.
دبَّر الأتراك مؤامرة لقتل المهتدي؛ لأنه لم يعجبهم في نزعته. وانتشر الخبر في العامة أنهم قد اتفقوا على خلع المهتدي والفتك به، وأنهم قد أرهقوه، فكتب العامة الرقاع ورموها في الطرق والمساجد مكتوبًا فيها: «يا معشر المسلمين ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا المضاهي لعمر بن الخطاب أن ينصره الله على عدوه، ويكفيه مؤنة ظالمه، ويتمَّ النعمة عليه وعلى هذه الأمة ببقائه، فإن الأتراك قد أخذوه بأن يخلع نفسه.»
ومع هذا فقد كانت لحركة المهتدي أثر في استرداد البيت العباسي بعض سلطانه، وكان من أسباب ذلك أيضًا انتقال الخليفة من سامرا — وهي حصن الأتراك — إلى بغداد، وفيها عناصر كثيرة تريد أن تحمي الخلافة من شرورهم؛ ولذلك رأينا سلسلة من الخلفاء بعده يقبضون على كثير من السلطان، ويموتون حتف أنوفهم، فقد تولَّى بعد المهتدي المعتمد؛ نعم إنه كان مسلوب السلطان محجورًا عليه، وقال في ذلك أبياته المشهورة:
ولكن الذي كان يحجر عليه هذه المرة هو أخوه الموفق، لانصراف المعتمد إلى لهوه وملذاته، والموفق في أيامه كان بطلًا، ترك لأخيه المعتمد الخطبة والسكة والتسمي بإمرة المؤمنين، وأمسك هو بزمام الأمر والنهي، وقوْدِ العساكر، ومحاربة الأعداء؛ ومرابطة الثغور، وترتيب الوزراء والأمراء، وكبح غير قليل من جماح الأتراك.
وقد نظم فيه «ابن المعتز» ابن عمه قصيدة طويلة هي صورة مصغَّرة لنمط الملاحم كالإلياذة والشاهنامه، سدَّت بعض النقص في الشعر العربي في هذا النوع، بدأها بذمِّ الأتراك وما جنوا على البلاد، ذكرنا طرفًا منه فيما سبق، ثم عدَّد أعمال المعتضد، وما قام به من حروب وما أتى به من إصلاح. وهي تعدُّ بجانب مزيتها الأدبية وثيقة تاريخية هامة للأحداث في عهد المعتضد.
واستبشر الشعراء بهمته، فقال ابن الرومي:
وقال ابن المعتز:
وعلى الجملة، فقد مات بعد نحو عشر سنوات من حكمه، خلف فيها الخلافة على حال أحسن بكثير مما كانت منذ وفاة الواثق.
وسار ابنه المكتفي بسيرة أبيه، ولكن الفتن التي بدأت في عهد أسلافه استفحلت، وعظم أمرها، من إسماعيلية، وقرامطة، وفاطمية، وانتهى القرن الثالث الهجري والفتن قائمة، والثورات مشتعلة، وعلى الخلافة المقتدر بن المعتضد، فعادت الخلافة إلى ضعفها الأول، وعاد الأتراك إلى قوتهم.
وحكى الصُّولي «أنه عُهد إليه بتربية الراضي بالله وأخيه هارون، فكان يلقاهما مرتين في الأسبوع وقد رآهما فطنَين عاقلَين، إلا أنهما خاليان من العلوم. قال الصولي: «فحبَّبت العلم إليهما، واشتريت لهما من كتب الفقه والشعر واللغة والأخبار قطعة حسنة، فتنافسا في ذلك، وعمل كل واحد منهما خزانة لكتبه، وقرآ عليَّ الأخبار والأشعار.» فكان مما قرأه لهما الصولي كتاب «خلق الإنسان» للأصمعي، فوشى الخدم، وقالوا: «إن الصولي يعلِّمهما أسماء الفرج والذكر.» فاجتهد الصولي في نفي هذه التهمة، وأراهم الكتاب.
فترى من هذا كيف كانوا يريدون الحجر على من يرشَّح للخلافة لينشأ جاهلًا غرًّا، فينصرف إلى لهوه ولذته، ويترك لهم زمام الأمور والتصرُّف في شئون الدولة.
وكان من المؤيدين لتولية هذا الطفل مؤنس الخادم، ومؤنس الخازن، وغيرهما من الأتراك.
كان المقتدر صبيًّا في الثالثة عشرة من عمره لا يعرف من أمور الدنيا شيئًا، ومع ذلك لقَّبوه بالمقتدر! ولما شبَّ عكف على لذائذه، وتوفَّر على المغنين والنساء، وترك أمور الدولة لغيره وعلى رأسهم مؤنس التركي، فبلغت الحال من بله الخليفة وسوء رجاله أقصى حدٍّ.
ومن الجانب الآخر الصورة بعينها، جالس في مجلسه كالمفكِّر المطرق. فقال الراضي: أما ترى صنع هذا الإنسان وما تسمو إليه همته، وما تحدِّثه به نفسه؟! فلم أجبه بشيء، وأخذت به في أخبار من مضى من ملوك الفرس وغيرها، وما كانت تلقى من أتباعها، وصبرهم عليهم، وحسن سياستهم لذلك حتى تصلح أمورهم، وتستقيم أحوالهم، فسلا عما عرض لنفسه، ثم قلت: يمتِّع الله أمير المؤمنين أن يكون كالمأمون في هذا الوقت حيث يقول:
فطرب وأخذته أريحية وقال لي: صدقت، ترْك الفرح في مثل هذا اليوم عجز!
هذا في إيجاز تام حال الأتراك من حيث علاقتهم بالخليفة والخلافة وشئونها.
كان هؤلاء الأتراك أقوياء أشدَّاء أصحاء كما تستلزمه طبيعة بلادهم، وبداوة معيشتهم. وقد ذكر لنا الجاحظ فيما سبق أن أطلق على الأتراك «أعراب العجم»، ويعني بالأعرابية البداوة، وهذه البداوة تكسبهم قوة في البدن وخشونة في الطبع، وقد تجلَّى هذا في معاملتهم الناس، فضجَّ منهم أهل بغداد في عصر المعتصم. ولكن مرور الأزمان عليهم، واستيلاءهم على البلاد المنعمة المترفة، وكثرة الأموال في أيديهم، حضَّرهم، وعلمهم النعيم والبذخ، وحمل بعضهم على العبث بالأخلاق. حكى التنوخي أن شيخًا من التجار كان له على بعض القواد مال جليل يماطله به، ولم يستطع الظلامة إلى الخليفة المعتضد؛ لأنه كان إذا جاء حجبه القائد واستخف به غلمانه، فدلُّوه على خياط في سوق الثلاثاء، فأمر الخياطُ القائد بدفع ما عليه للتاجر ففعل؛ فعجب التاجر من هذا الذي رأى، وألحَّ عليه في السؤال عن سبب خضوع القائد! فقصَّ عليه أنه مرّ مرة في الطريق فرأى تركيًّا على داره، وقد اجتازت امرأة جميلة عليه فتعلَّق بها وهو سكران ليدخلها داره، وهي ممتنعة تستغيث، وليس أحد يغيثها، وتقول: إن زوجي قد حلف بالطلاق ألا أبيت خارج بيته، فإن بيَّتني هذا، أخرب بيتي مع ما يرتكبه مني من المعصية، ويلحقه بي من العار.
قال الخياط: فجئت إلى التركي ورفقت به وسألت تركها، فضرب رأسي بدبوس كان في يده فشجَّني وآلمني، وأدخل المرأة داره، فجمعت جمعًا وجئنا فضججنا على بابه، فخرج إلينا في عدة من غلمانه فأوقع بنا الضرب، وذهبت إلى بيتي ولم أزل أفكر في هذه المرأة حتى انتصف الليل، فقلت: هذا التركي قد شرب طول ليلته ولا يعرف الأوقات، فإن أذَّنتُ لوقع له أن الفجر قد طلع، فيُطْلِق المرأة فتلحق بيتها قبل الفجر فتسلم من أحد المكروهَين، ولا يخرب بيتها مع ما قد جرى عليها.
فخرجْتُ إلى المسجد وصعدت المنارة فأذَّنت، وجعلت أتطلَّع منها إلى الطريق أترقب خروج المرأة فلم تخرج، وإذا الشارع امتلأ خيلًا ورجالًا ومشاعل، وهم يقولون: من هذا الذي أذَّن الساعة؟! ففزعتُ، ثم صحتُ من المنارة: أنا أذَّنتُ. فقالوا لي: انزل، فأجب أمير المؤمنين. ثم ذُهبَ بي إلى المعتضد، وقص عليه القصة، فأحضر التركي والمرأة، فلما تحقق من صحة قولي أمر بردِّ المرأة إلى زوجها، وأن يتمسَّك بها ويحسن إليها.
ورأينا كثيرًا من قواد الأتراك — عند استيلائهم على الدولة — شرِهين، وكان مظهر شرههم كثرة مطالبتهم للخلفاء بالأموال من حين لحين؛ فإذا نصَّبوا خليفة فسرعان ما ينقلبون عليه يطالبونه بالأموال، فإن أعطاهم سكتوا قليلًا ثم عادوا إلى المطالبة وإلا قتلوه؛ ومن أجل ذلك كثر إخفاء المال في سرداب أو حفرة في الأرض، أو بناء حوائط عليه أو نحو ذلك؛ خوفًا من إلحاحهم. نسوق مثلًا لذلك ما فعلوه مع المعتز، «فقد هجم قوادهم عليه وقالوا: أعطنا أرزاقنا، فطلب من أمه مالًا فأبت عليه، ولم يكن في بيوت المال شيء، فاجتمع الأتراك حينئذ على خلعه».
وكان كثير من أمراء البلدان في هذا العصر من الأتراك، كما هو الشأن في مصر؛ فمن سنة ٢٤٢ هجرية وحكام مصر أتراك، وذلك منذ وُلِّي على مصر يزيد بن عبد الله بن دينار التركي، وقبل ذلك بنحو عشرين عامًا كانت مصر تُمنح لحاكم تركي في الغالب يقيم في بغداد، ويستخلف عنه أميرًا يقيم في مصر ويديرها نيابة عنه كأشناس وإيتاخ، واستمرت سيادة الأتراك في مصر طول مدة الطولونيين الأتراك والإخشيديين الأتراك أيضًا، فكان بيد هؤلاء الولاة الأتراك السلطان والقوة والمال.
وهناك لون آخر مما لوَّنوا به الحياة الاجتماعية، وهو ما عرف عنهم من جمال ونظافة فكان ذلك سببًا في كثرة الجواري المماليك الأتراك في قصور الخلفاء والعظماء والأغنياء، حتى إن بعض الخلفاء أنفسهم في هذا العصر كانت أمه جارية تركية؛ فالمعتصم أمه تركية، والمتوكل كذلك أمه خوارزمية، والمكتفي بالله أمه تركية اسمها چيچك، والمقتدر بالله أمه أم ولد، قيل تركية، وقيل رومية … إلخ.
كما اشتهر في بيوت الأمراء جوار تركيات، واشتهرت سمرقند بأنها مركز هام لتجارة الرقيق الأبيض، وقد وصف ابن بطلان في رسالته في الرقيق الجواري التركيات فقال: إن «التركيات قد جمعن الحسن والبياض، ووجوههن مائلة إلى الجهامة، وعيونهن مع صغرها ذات حلاوة، وقد يوجد فيهن السمراء الأسيلة، وقدودهن ما بين الربع والقصر، والطول فيهن قليل؛ ومليحتهن غاية، وقبيحتهن آية؛ وهن كنوز الأولاد، ومعادن النسل، قلما يتفق في أولادهن وحش ولا رديء التركيب، فيهن نظافة ولباقة … لا يكاد يوجد فيهن نكهة متغيرة … وفيهن أخلاق سمجة، وقلة وفاء».
وروى أبو إسحاق الصابي أنه كان لمعز الدولة غلام تركي يدعى تكيز الجامدار، أمرد رومي الوجه، منهمك في الشرب لا يعرف الصحو ولا يفارق اللعب واللهو، ولفرط ميل معز الدولة إليه وشدة إعجابه به، جعله رئيس سَرِية جرَّدها لحرب بني حمدان، وكان المهلبي يستظرفه ويستحسن صورته، ويرى أنه من عُدَد الهوى لا من عُدد الوغى، فقال فيه:
وكان لسيف الدولة الحمداني مملوك تركي جندي اسمه يَماك، مات بحلب سنة ٣٤٠ﻫ فحزن عليه حزنًا شديدًا، وقال المتنبي قصيدة يعزِّيه فيها، مطلعها:
وفيها:
وفيها:
وقال أبو تمام، وقد أهدى له الحسن بن وهب غلامًا خزريًّا:
وأحب مهذب الدين الطرابلسي غلامًا مملوكًا له اسمه «تتر»، فبعث مرة هدايا إلى الشريف المرتضى نقيبِ الأشراف مع هذا الغلام، فتوهم الشريف أنه من جملة الهدايا، فأخذه، فساءت حال مهذب الدين وكان شيعيًّا، فقال قصيدته المشهورة التي مطلعها:
وفيها:
وقد كان مهذب الدين هذا شيعيًّا، فهدد الشريفَ بأنه إن لم يرسل الغلام يهجر التشيع، ويدخل في مذهب أهل السنة، وفي ذلك يقول:
وأخيرًا قال الشاعر:
- (١) إلغاء سلطان المعتزلة وإعلاء شأن المحدِّثين، فنهى المتوكل عن القول بخلق القرآن والجدال في الكلام، «وأظهر الميل إلى السنّة ونصر أهلها، ورفع المحنة، وكتب بذلك إلى الآفاق، وذلك في سنة ٢٣٤ﻫ، واستقدم المحدِّثين إلى سامَرَّا، وأجزل عطاياهم وأكرمهم، وأمرهم بأن يحدثوا بأحاديث الصفات والرؤية».٥١وكتب كتابًا على الأمصار يأمر بترك الجدال في القرآن، واضطهد رؤساء المعتزلة وضيَّق عليهم؛ فرئيس الاعتزال في مصر وهو محمد بن أبي الليث، جاء كتاب المتوكل بحلق رأسه ولحيته وضربه بالسوط، وحمْله على حمار بإكاف وتطوافه الفسطاط، ثم أخرج إلى العراق،٥٢ وأحمد بن أبي دؤاد رأس الاعتزال في العراق قد غضب عليه المتوكل، وعلى ابنه محمد وصادر أموالهما — وما أظن أن الجاحظ المعتزلي نجا من النكبة إلا لأنه مَرِن، وقد دفع عنه الشر بمرونته، وبما قدّم من رسالته في إعلاء شأن الأتراك، واتصال بالفتح بن خاقان — وفي الوقت نفسه أعلى المتوكل شأن المحدِّثين، فكرَّم أحمد بن حنبل، وفي عهده جلس أبو بكر بن أبي شيبة في جامع الرصافة يحدث الناس، فاجتمع إليه نحو من ثلاثين ألف نفس، وجلس أخوه عثمان في جامع المنصور، فاجتمع إليه أيضًا نحو من ثلاثين ألف نفس.٥٣وتبلور عداء الناس للمعتزلة في أبي الحسن الأشعري، فقد ولد بعد المتوكل بنحو اثني عشر عامًا، وتثقف ثقافة المعتزلة، ثم عاداهم وأعلن الحرب عليهم، ودعا إلى مذهب كلامي اعتنقه جمهور كبير من المسلمين، كما سيأتي، فالأشعري يمثل الموجة الحديثة التي أتت في عهد المتوكل تهاجم المعتزلة وتنصر المحدِّثين وأهل السنة، وهو ليس إلا معبِّرًا عن ميول عصره، وصدى لصوت زمانه. رجع عن الاعتزال «ورقي كرسيًّا في المسجد الجامع بالبصرة، ونادى بأعلى صوته: من عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني فأنا أعرفه بنفسي، أنا فلان بن فلان، كنت أقول بخلق القرآن، وأن الله لا تراه الأبصار، وأن أفعال الشر أنا أفعلها، وأنا تائب مقلع، معتقد للرد على المعتزلة، مخرج لفضائحهم ومعايبهم».٥٤ وقال أبو بكر الصيرفي: «كانت المعتزلة قد رفعوا رءوسهم حتى أظهر الله الأشعري فجحرهم في أقماع السمسم.» ولكن الحق أنه ما كان له هذا لولا ما كان من المتوكل من الحجر عليهم، والتنكيل بهم، وتأييد الجمهور — بتأثير المحدِّثين — لهذه الحركة.
والواقع أن هذه الحركة، وأعني بها اضطهاد المعتزلة ونصرة المحدِّثين، كان لها أثر كبير في حياة المسلمين من ذلك العهد إلى اليوم، فقد لوَّنت حياتهم بلون خاص، ظلُّوا يحافظون عليه طوال العصور المختلفة.
كانت طبيعة الاعتزال تدعو إلى التفلسف واتجاه العقل في مناح شتى من الحياة، وتحريره من كثير من القيود بعد الإيمان بالله ورسوله، والإيمان بالقرآن، وحصر الحديث في دائرة ضيقة — كما تقدم — وإشعار الإنسان بالمسئولية؛ لأن أعماله صادرة عنه، ولكنهم — مع الأسف — آمنوا بهذه الحرية وأرادوا أن ينفذوا الحرية بالقوة والسلطان، فكانت حرية بالإكراه.
وطبيعة المحدِّثين تدعو إلى الوقوف عند النصوص والتزامها، وتضييق دائرة العقل، واحترام الرواية إلى أقصى حدٍّ، والبحث وراء ألفاظ الحديث ومعانيه وأسانيده؛ وهذا — مع اعترافنا بما له من مزايا — يستتبع نمطًا في التفكير خاصًّا يسود فيه تقديس النقل أكثر من تقديس العقل، والتقليد دون الاجتهاد، والوقوف عند النصوص دون التعمُّق في مغازيها ومراميها، والنظر إلى الفلسفة والبحث العقلي في الكليات نظر البغض والكراهة، وعدَّ المفكر على هذا النمط ملحدًا أو زنديقًا … إلخ.
وهذا هو الذي ساد عقول كثير من المسلمين منذ خنق الاعتزال، فاحترمت نصوص الكتب أكثر مما احترم نقد العقل، واحترم العالِم واسع الاطلاع بالنصوص الدينية واللغوية، أكثر مما احترم قليل الحفظ واسع أفق العقل، وأكرم العالِم المقلِّد أكثر مما أكرم العالم المجتهد، ونظر إلى المحدث والفقيه بخير مما نظر إلى الفيلسوف والمفكِّر الناقد، وضاقت دائرة التفلسف إذا قيست بدوائر العلم في الفروع الأخرى.
كل هذا وأكثر منه كان نتيجة لهذه الحركة، وأعتقد أن الأتراك في ذلك العصر مسئولون لدرجة كبيرة عن هذا؛ فطبيعة عامتهم لا تقبل الجدل الكلامي، ولا كثرة المذاهب الدينية؛ فالأتراك في جميع عصورهم قلَّ أن نرى منهم من اعتنق مذهبًا في الأصول غير مذهب أهل السنّة، وفي الفروع غير مذهب أبي حنيفة، وقلَّ أن نرى بين علمائهم خصومة في المذاهب كالتي كنا نراها في العراق من خوارج وشيعة ومرجئة ومعتزلة ونحو ذلك، إنما هو مذهب واحد يسود — غالبًا — ويتوارث، ومع هذا فلسنا ننكر أن فيهم أفذاذًا في سعة النظر وقوة التفكير — كما سيأتي بيانه — ولكن هذا هو النظر العام.
- (٢) الإيقاع بالشيعة إيقاعًا بالغًا؛ ففي سنة ٢٣٦ﻫ «أمر المتوكل بهدم قبر الحسين بن علي، وهدم ما حوله من المنازل والدور، وأن يُبْذَر ويسقى موضع قبره، وأن يمنع الناس من إتيانه؛ فنادى بالناس في تلك الناحية: من وجدناه عند قبره بعد ثلاثة حبسناه في المطبق. فهرب الناس وتركوا زيارته، وخرب وزرع. وكان المتوكل شديد البغض لعلي بن أبي طالب ولأهل بيته، وكان يقصد من يبْلغه عنه أن يتولَّى عليًّا وأهله بأخذ المال والدم، وكان من جملة ندمائه عُبادة المخنَّث، وكان يشدُّ على بطنه تحت ثيابه مخدَّة، ويكشف رأسه وهو أصلع، ويرقص بين يدي المتوكل والمغنُّون يغنون: قد أقبل الأصلع البطين، خليفة المسلمين. يحكي بذلك عليٌّ — عليه السلام — والمتوكل يشرب ويضحك»،٥٥ «وقيل: إن المتوكل كان يبغض من تقدمه من الخلفاء — المأمون والمعتصم والواثق — في محبة عليٍّ وأهل بيته، وإنما كان ينادمه ويجالسه جماعة قد اشتهروا بالنصب والبغض لعليٍّ، منهم علي بن الجهم الشاعر الشامي … وعمرو بن فرج الرُّخَّجِي، وأبو السمط من ولد مروان بن أبي حفصة … وابن أترجة، وكانوا يخوِّفونه من العلويين، ويشيرون عليه بإبعادهم والإعراض عنهم والإساءة إليهم، ثم حسنوا له الوقيعة في أسلافهم الذي يعتقد الناس علوَّ منزلتهم في الدين، ولم يبرحوا به حتى ظهر منه ما كان، فغطَّت هذه السيئة جميع حسناته».٥٦ورووا أن المتوكل كان قد اتصل به يعقوب بن إسحاق النحوي المعروف بابن السكِّيت، فسأله المتوكل: أيما أحب إليك، المعتز والمؤيد — ابنا المتوكل — أو الحسن والحسين؟ فتنقص ابنيه، وذكر الحسن والحسين — عليهما السلام — بما هما أهل له، فأمر الأتراك فداسوا بطنه، فحمل إلى داره فمات.٥٧
وهذه الحوادث وأمثالها في التنكيل بالشيعة قد كان لها مثيل من قبل في العهدين الأموي والعباسي الأول، إلا أنا نريد أن نثبت هنا أن سلطان الأتراك لما ظهر صحبه عودة التنكيل بالشيعة، وكان قد هدأ في عهد المأمون والمعتصم والواثق.
وهذه الظاهرة أيضًا لازمت الأتراك طول عهدهم، فكل تاريخهم مملوء بكراهيَّتهم للتشيُّع والشيعة، وبالحروب المتصلة بينهم — وهم سنِّيُّون — وبين الفرس — وهم شيعة.
وكان تصرف المتوكل مع الشيعة سببًا كبيرًا من أسباب تدبير الشيعة للمؤامرات والدسائس، والفتن للخروج على الدولة العباسية في بغداد، وإقامة حكومات شيعية مستقلة عن خلفاء العراق كما سيأتي.
- (٣) المظهر الثالث: اضطهاد اليهود والنصارى؛ فقد «أمر المتوكل بأخذ النصارى وأهل الذمة كلهم بلبس الطيالسة العسلية والزنانير، وركوب السروج بركب الخشب، وبتصيير زِرَّين على قلانس من لبس منهم قلنسوة مخالفة لون القلنسوة التي يلبسها المسلمون، وبتصيير رقعتين على ما ظهر من لباس مماليكهم مخالف لونهما الثوب الظاهر عليه، وأن تكون إحدى الرقعتين بين يديه عند صدره، والأخرى منهما خلف ظهره، وتكون كل واحدة من الرقعتين قدر أربع أصابع ولونها عسَليًّا، ومن لبس منهم عمامة فكذلك يكون لونها لون العسل، ومن خرج من نسائهم فبرزت فلا تبرز إلا في إزار عسلي … وأمر بهدم بِيَعهم المحدَثة، وبأخذ العُشْر من منازلهم، وإن كان الموضع واسعًا صيَّر مسجدًا، وإن كان لا يصلح أن يكون مسجدًا، صير فضاء، وأمر بأن يجعل على أبواب دورهم صور شياطين من خشب مسمورة، تفريقًا بين منازلهم وبين منازل المسلمين، ونهى أن يستعان بهم في الدواوين وأعمال السلطان التي تجري فيها أحكامهم على المسلمين، ونهى أن يتعلم أولادهم في مكاتب المسلمين، ولا يعلِّمهم مسلم، وأمر بتسوية قبورهم مع الأرض؛ لئلا تشبه قبور المسلمين وكتب إلى عمَّاله في الآفاق بذلك».٥٨ وقد علَّل عمله هذا في كتابه بأنه يريد إعزاز الإسلام، وإذلال الكفر، وليجعل الله الفوز والعاقبة للمتقين، والخزي في الدنيا والآخرة على الكافرين، وقال علي بن الجهم في ذلك:العَسَليات التي فَرَّقَتْبين ذوي الرِّشدَةِ والغَيْوما على العاقل إن يكثروافإنه أكثر للفَيْ٥٩نعم، ربما كان هذا نتيجة لسوء العلاقة بين المسلمين والروم، ومهاجمة الروم لبلاد المسلمين من حين لحين، ولكن مهما كان الأمر فهي حالة سيئة تدلُّ على ضيق العقل، ومخالفته للنظر الواسع الحكيم الذي أمر به الإسلام، ونفذه خلفاء المسلمين الأولون، وعلى رأسهم عمر بن الخطاب في حكمة ورفق! وكان هذا أيضًا مما أفسد قلوب عدد كبير من الرعية كان يُستخدم من قبل في مصلحة الدولة، وحرَّك عددًا منهم للثورة، كثورة نصارى أرمينية على محمد بن يوسف عامل المتوكل على أرمينية وأذربيجان، وقتلهم إياه٦٠ ونحو ذلك.
وقد أراد بعض من أتى بعد المتوكل من الخلفاء أن يزيلوا هذه المظاهر أو بعضها، كالذي فعل المنتصر، فقد أراد أن يعيد الاعتزال إلى سلطانه، وأراد أن يحسِّن صلته بالبيت العلوي، ولكن لم تطل مدته، ولم يمكنه الزمان ولا حالة الناس من تنفيذ ما أراد.
لم يكن لهذا النوع من الأتراك مدنية وحضارة قديمة؛ إذ كانوا بدوًا أو أشبه بالبدو، فلم يكن شأنهم عندما اندمجوا في المملكة الإسلامية شأن الفرس؛ فالفرس عندما فتحت بلادهم، وأسلم كثير منهم واندمجوا في المملكة الإسلامية، أعطوا وأخذوا، وانتفع بهم المسلمون من ناحية الثقافة: بمثل الكتب التي نقلت من الفارسية إلى العربية، ومثل الألفاظ الفارسية التي نقلت إلى العربية، ومثل نظم الحكم التي أتقنوها في مملكتهم، إلى غير ذلك مما شرحناه قبل، كما أخذوا هم عن العرب اللغة والدين، وكان من الفرس رجال مثقفون ثقافات واسعة كالبرامكة، والفضل بن سهل، والحسن بن سهل، وابن المقفع، فأثَّروا في الثقافة الإسلامية أثرًا كبيرًا بما مزجوا من الثقافتين الفارسية والعربية. أما الأتراك فجاؤوا بشجاعتهم وقوة أبدانهم، وبعاداتهم وتقاليدهم لا بحضارتهم وثقافتهم، فكانوا من ناحية الحضارة والثقافة قابلين لا فاعلين، جاؤوا لا يعرفون اللغة العربية فتعلموها في بطء، ولم يتقنها بعضهم إلا بعد ذهاب الجيل الأول منهم، فكانوا يتخاطبون بترجمان.
ولم يتقنوها في سرعة ومهارة كما فعل الفرس، فما أتى الجيل الثاني والثالث على الفرس حتى رأيناهم قد أمسكوا بزمام الأدب شعرًا وكتابة وتأليفًا علميًّا، وليس كذلك الأتراك، فقلَّ أن نرى منهم شاعرًا أو ناثرًا بالعربية، وعلى الأخص في الأجيال الأولى من إسلامهم، وأسلم الأتراك الأولون فكان إسلامهم ذا لون خاص، فيه نواحي قوة ونواحي ضعف، فهو دين شديد لا يقبل جدالًا ولا مناقشة، ولا يقبل مذاهب مختلفة، وعلى العكس من ذلك الفرس، فكان إسلامهم فيه الجدل الشيعي وغير الشيعي، وفيه المقارنة بينه وبين المانوية والزرادشتية والمزدكية، وفي التزندق أحيانًا والتفلسف أحيانًا، وفيه المذاهب المختلفة التي ظهر أثرها في العراق أيام سلطانهم، أما مؤرخ الإسلام عند هؤلاء الأتراك فلا يرى مجال القول فسيحًا كما يراه عند الفرس، ولكل من هذين النوعين من التديُّن مزاياه ومضارُّه، كالفرق بين إيمان العجائز وإيمان الفلاسفة.
فإذا كانت ثقافة أحمد بن طولون هذه تعد ثقافة ممتازة بين الأتراك، استطعنا أن نستنتج ضيق ثقافة الأتراك عامة في هذا العصر.
ومع هذا فإنا نرى بعض الأتراك من أوائل هذا العصر، وبعده نبغوا في فنون مختلفة على قلة فيهم.
فنرى مثلًا «الفتح بن خاقان» التركي قال فيه ابن النديم: «كان في نهاية الذكاء والفطنة وحسن الأدب، وكان من أولاد الملوك، واتخذه المتوكل أخًا، وكان يقدمه على جميع أولاده، قتل مع المتوكل ليلة قتل بالسيوف لأربع خلون من شوال سنة ٢٤٧ﻫ.» وكانت له خزانة كتب لم ير أعظم منها كثرةً وحسنًا، وكان يحضر داره فصحاء العرب وعلماء الكوفيين والبصريين؛ وروى المبرِّد شيئًا من شعره، وكان يتعشَّق غلامًا له اسمه شاهك، وله فيه أشعار، منها:
ويروى له:
ونبغ من الأتراك أبو نصر الفارابي الفيلسوف الإسلامي الكبير، وأستاذ كل فيلسوف إسلامي بعده، فإنه من فاراب، وهي مدينة من مدن الترك نبغ منها جماعة كثيرة من العلماء. ونبوغ الفارابي من بين الأتراك مفخرة كبيرة لهم، فقد عني بفلسفة أرسطو، وأخرجها للمسلمين في شكل جديد، وكان له فضل على كل من اشتغل بالفلسفة من المسلمين بعده؛ فظهوره من الترك رجَّح من كِفَّتِهِمْ وكانت شائلة، وأثقل ميزانهم وكان خفيفًا. وسيأتي بسط لقيمته وفلسفته في موضعه من هذا الكتاب إن شاء الله، وقد مات بدمشق سنة ٣٣٩ﻫ.
كما نبغ من الأتراك في القرن الرابع إسماعيل بن حماد الجوهري الفارابي أيضًا، صاحب كتاب «الصحاح» من أهم كتب اللغة وأصولها، كان إمامًا في علم اللغة والأدب، كما كان يضرب به المثل في جودة الخط.
فقال: ما سمعنا بهذا في آبائنا الأولين.
فلما استكمل دراسته ومشافهته وضع في اللغة كتابه «الصحاح» الذي يعد — بحق — من أسس كتب اللغة.
وعلى الجملة، فلئن كان أكثر العنصر التركي في المملكة الإسلامية إنما يمتاز بالجندية والخشونة مع ضعف الثقافة؛ فقد نبغ منهم علماء في فروع مختلفة حصَّلوا ما كان من الثقافة في عصرهم، وابتكروا بعقولهم.
العنصر الفارسي
لم يهدأ الفرس منذ رأوا الأتراك تحتل مراكزهم في الدولة العباسية وتستبدُّ بالسلطان دونهم، وتقصيهم عن أماكنهم. لقد كان الفرس في العصر العباسي الأول هم عماد الدولة، وبيدهم تصريف شئونها، وكان الخليفة يعتمد عليهم في أهم الأمور، وهم يحتفظون له بمظهر الأبَّهة والجلالة، ثم ينشرون سلطانهم، فإذا أحسَّ الخليفة منهم استبدادًا أوقع بهم، كما فعل الرشيد بالبرامكة، والمأمون بابن سهل، ولكنهم سرعان ما يستردون نفوذهم، فلما جاء الأتراك أبعدوهم عن منزلتهم، وغَلبوا على الخليفة دونهم، فانكمش الفرس على حنق، ولعبت بهم العصبية الفارسية، وأخذوا يدسُّون الدسائس ويدبِّرون المؤامرات، ويحصِّنون أنفسهم بالرجال والسلاح، ويرمون إلى اقتطاع البلاد والاستيلاء عليها — وخصوصًا بلادهم الفارسية — والاستقلال بها عن خلفاء بغداد، فإذا سنحت لهم فرصة بعدُ فليستولوا على العراق وعلى الخليفة، وليتسلَّطوا هم عليه، ويقضوا على سلطة الأتراك، وكذلك كان.
نجح الفرس إلى حد كبير في اقتطاع أجزاء من الدولة والاستيلاء عليها، واستبدادهم بها، وقصر سلطة الخليفة على المظهر الاسميِّ؛ فمن قديم استولى الطاهرية على خراسان (٢٠٥–٢٥٩)، والصَّفَّارية على فارس (٢٥٤–٢٩٠)، والسامانية على فارس وما وراء النهر(٢٦١–٣٨٩)، والزِّيَارية على جرجان (٣١٦–٤٣٤)، ثم دولة بني بويه الفارسية أيضًا (٣٢٠–٤٤٧)، فقد استولوا على فارس ثم على العراق، وأخضعوا الخليفة لأمرهم، وأزالوا ولاية الترك عليه، وأقاموا سلطانهم، فكان شأن الخليفة منهم شأنه مع الترك قبلهم، مظهر ولا عمل، ولقب ولا أمر ولا نهي.
والواقع أن سلوك البويهيين الفرس مع الخلفاء لم يكن كسلوك آبائهم الفرس مع الخلفاء في العصر العباسي الأول. لقد كان الأوَّلون من الفرس يأتمرون بأمر الخليفة، ويرعون ولاءهم له وطاعتهم إياه، فلما جاء خلفهم من بني بويه لم يرعوا ولاءً ولا قلَّدوا سلفهم، إنما قلَّدوا الأتراك في التنكيل بالخليفة والاستهانة به، واستقلوا ضعفه فلم يعلوا شأنه بل زادوه ضعفًا.
فما أن استتبَّ أمر معز الدولة ببغداد وقوي أمره حتى حجر على الخليفة المستكفي، وقدَّر له كل يوم خمسة آلاف درهم لنفقته.
وأوجس معز الدولة خيفة من المستكفي، فدخل معز الدولة عليه فوقف والناس وقوف على مراتبهم، فتقدم اثنان من الديلم إلى الخليفة فمد يده إليهما ظنًّا أنهما يريدان تقبيلها، فجذباه من السرير حتى طرحاه إلى الأرض وجرَّاه بعمامته، وهجم الديلم على دار الخلافة إلى الحرم ونهبوها فلم يبق منها شيء. ومضى معز الدولة إلى منزله، وساقوا المستكفي ماشيًا إليه وخلع وسملت عيناه، وولوا المطيع لله خليفة، وقرر له معز الدولة كل يوم مائة دينار فقط لنفقته.
كان معز الدولة يخرج للقتال ومعه المطيع — كأسير — ولما ماتت أخت معز الدولة نزل المطيع إلى داره يعزيه.
ومات معز الدولة فأقيم ابنه باختيار مكانه، فكان مع المطيع كأبيه، وزاد على ذلك أنه صادر المطيع، فقال المطيع: أنا ليس لي غير الخطبة، فإن أحببتم اعتزلت، فشدد عليه باختيار حتى باع قماشه، وأخذ منه أربعمائة ألف درهم. وأخيرًا خلع المطيع نفسه، وولَّي ابنه الطائع.
فاستجمع الأتراك قوتهم، وتجمعوا حول سُبُكْتِكِينَ التركي، وتجمَّع الديلم والفرس حول معز الدولة، فقدم عضد الدولة البويهي بغداد لنصرة عز الدولة على سبكتكين، فتمَّ لعضد الدولة النصر، وملك بغداد. وأخيرًا خلع الطائعُ على عضد الدولة خلعة السلطنة، وتوَّجه بتاج مجوهر، وطوَّقه وسورَّه وقلَّده سيفًا، وعقد له لواءين بيده: أحدهما مفضَّض على رسم الأمراء، والآخر مذهَّب على رسم ولاة العهود، ولم يعقد هذا اللواء الثاني لغيره قبله، وكتب له عهدًا وقرئ بحضرته.
وجمع الطائع رجال الدولة ودخل عضد الدولة على الطائع وقبَّل الأرض بين يديه، ثم قبَّل وجلَّ الطائع، ثم أعلن الطائع إسناد الأمور كلها إلى عضد الدولة، فقال له: «قد رأيت أن أفوض إليك ما وكل الله إليَّ من أمور الرعية في شرق الأرض وغربها، وتدبيرها في جميع جهاتها سوى خاصَّتي وأسبابي.» فقال عضد الدولة: «يعينني الله على طاعة مولانا أمير المؤمنين وخدمته.»
وفي سنة ٣٧٠ﻫ خرج عضد الدولة من همذان يريد بغداد، فخرج الخليفة الطائع للقائه ولم تجر العادة بذلك.
بل قد جرى خلاف بين الطائع وعضد الدولة، فقطع عضد الدولة الخطبة للطائع في بغداد وغيرها، واستمر ذلك نحو شهرين، ثم سوَّي الخلاف وأعيدت الخطْبة للطائع.
وأخيرًا بعد كل هذا لم يرض البويهيون عن الطائع، فإن بهاء الدولة البويهي احتاج إلى مال فدبَّر خلع الطائع وأخْدَ أمواله، فأرسل إلى الطائع يسأله الإذن في الحضور ليجدِّد العهد به، فأذن له في ذلك وجلس له كما جرت العادة، فدخل بهاء الدولة ومعه جمع كثير، فلما دخل قبَّل الأرض وأجلس على كرسي، فدخل بعض الديلم كأنه يريد تقبيل يد الخليفة فجذبوه وأنزلوه عن سريره وهو يستغيث ولا يلتفت إليه أحد، وأخذوا ما في داره، ونهب الناس بعضهم بعضًا، ثم أمروه أن يخلع نفسه ففعل بعد أن نزل للبويهيين عن كل شيء.
وقد كان الشريف الرضي حاضرًا في المجلس الذي قبض فيه على الطائع، وقد خاف أن يعيد الفرس تمثيل دور الترك مع المتوكل فأسرع في الخروج، وكان أول خارج من الدار، ومكث من مكث من القضاة والأشراف فسلبوا ثيابهم وامتهنوا، وفي ذلك يقول قصيدته التي مطلعها:
وفيها يقول:
وجاء القادر بالله بعد الطائع فظل سلطان بني بويه على الخليفة كما كان، قال الذهبي: «في سنة ولايته عقد مجلس عظيم حَلف فيه القادر وبهاء الدولة (البويهي) كل منهما لصاحبه بالوفاء، وقلده القادر ما وراء بابه مما تقام فيه الدعوة.»
من كل هذا نرى أن البويهيين من الفرس سلكوا مع الخلفاء ما سلكه الأتراك من قبلهم، بل زادوا عليه أحيانًا، ولكن أكبر التبعة تقع على الترك، فإنهم هم البادئون بانتهاك حرمة الخلافة، فلم يكن من اليسير بعدُ إعادة ما لها من جلال.
وزاد الأمرَ سوءًا في عهد البويهيين النزاع بين الشيعة والسُّنَّة؛ فقد كان الخليفة سنيًّا، والبويهيون شيعيين، فاختلفت المظاهر وكثر النزاع. ففي سنة ٣٥١ﻫ في عهد المطيع — مثلًا — كتبت الشيعة ببغداد على أبواب المساجد بلعن معاوية، ولعن من غصب فاطمة حقها من فَدَك، ومَن منع الحسن أن يدفن مع جدِّهِ، ولعن من نفى أبا ذر، فمحاه أهل السنة بالليل فأراد معز الدولة أن يعيده فأشار عليه الوزير المهلبي أن يكتب مكان ما محي: لعن الله الظالمين لآل رسول الله ﷺ. وصرحوا بلعن معاوية فقط.
وفي سنة ٣٥٢ﻫ ألزم معز الدولة الناس يوم عاشوراء بغلق الأسواق، ومنع الطباخين من الطبخ، ونصبوا القباب في الأسواق، وعلقوا عليها المسوح، وأخرجوا نساء منتشرات الشعور يلطمن في الشوارع ويقمن المأتم على الحسين، وهذه أول مرة نيح فيها على الحسين ببغداد، واستمر هذا سنين، وفي ثاني عشر ذي الحجة من هذه السنة عمل عيد غدير خُمٍّ، وضربت الدبادب.
وفي سنة ٣٩٨ﻫ، وقعت فتنة بين الشيعة وأهل السنة في بغداد، فأرسل الخليفة القادر الفرسان الذين على بابه لمعاونة أهل السنة وهكذا.
وتعصب بعض شعراء الفرس في ذلك العهد لفارسيتهم، ومن أشهر هؤلاء مهيار الديلمي، فترى ديوانه قد ملئ بالتهنئة بيوم النيروز، ويوم المهرجان، وبمراسلة بعض البويهيين لقدوم بغداد والاستيلاء عليها، والعصبية الفارسية من مثل قوله:
وقد شرحنا أثر الفرس الاجتماعي في «ضحى الإسلام»، غير أننا نذكر هنا أن هذه الحروب بين الترك والبويهيين الفرس، وبين البويهيين بعضهم مع بعض، أثَّرت كثيرًا من الخراب في العراق وما حولها، حتى جاء عضد الدولة فاستقرت الأمور بعض الاستقرار، ومكَّنه ذلك وحبُّه للعمران أن يصلح بعض ما خرب.
كما أعاد الاطمئنان إلى أهل الذمة، وأذن للوزير نصر بن هارون في عمارة البِيَع والديرة، وإطلاق الأموال لفقرائهم.
وبعد نحو مائتي سنة من بنائه زاره ابن جبير الرَّحَّالة، وقال: إنه على نهر دجلة، وتتفقَّده الأطباء كل يوم اثنين وخميس، ويطالعون أحوال المرضى به، ويرتِّبون لهم أخذ ما يحتاجون إليه، وبين أيديهم قَوَمة يتناولون طبخ الأدوية والأغذية، وهو قصر كبير فيه المقاصير والبيوت، وجميع مرافق المساكن الملوكية، والماء يدخل إليه من «دجلة»، وعلى الجملة فكان مستشفى كبيرًا ومدرسة للطب، ولكن عاد الأمر بعده إلى الفساد والخراب.
أما الحركة العقلية والأدبية في دولة بني بويه، فبلغت الغاية في التحصيل والإنتاج، وسنتكلم فيها في محلها من هذا الكتاب إن شاء الله.
عنصر العرب
بجانب هذا النفوذ التركي والنفوذ الفارسي، كان هناك النفوذ العربي، وأظهر ما كان ذلك في الشام والجزيرة، فالعرب الذين هاجروا من جزيرة العرب إلى الشام والعراق كانوا — دائمًا — قوة سياسية تحسب الخلفاء حسابها. نعم إنهم كانوا كل شيء في العهد الأموي، وضعُف سلطانهم في العهد العباسي، ولكنهم كانوا في كل الأحوال قوة لا يستهان بها، ولما ضعفت القوة المركزية في بغداد شرعت هذه القبائل الهائمة في صحراء الشام ووادي الفرات تحطُّ رحالها، وتنشئ مستعمرات ثابتة، وتحتل المدن والقلاع، وتكون دويلات؛ فكوَّنت قبيلة تَغْلِب دولة الحَمْدَانيين في الموصل وحلب (٣١٧ﻫ–٣٩٤ﻫ)، وكوّنت قبيلة كِلَاب دولة المِرْداسيين في حلب (٤١٤–٤٧٢)، وكوَّن بنو عُقَيل العقيليين في ديار بكر والجزيرة (٣٨٦ﻫ–٤٨٩ﻫ)، وكوَّن بنو أسد دولة المزْيَديين في الحِلَّة (٤٠٣ﻫ–٥٤٥ﻫ).
وهؤلاء العرب مع استيلائهم على المدن والقلاع لم ينبذوا عاداتهم القومية من البداوة وما إليها، واعتزازهم ببداوتهم واحتقارهم لأهل الحضر، ومن طريف ما يروى في ذلك أن قرواشَا العقيلي صاحب الموصل (من الدولة العقيلية) قال مرة: «ما في رقبتي غير خمسة أو ستة من البادية قتلتهم، وأما الحاضرة فلا يعبأ الله بهم.»
وأهم هذه الدول العربية التي تجلَّت فيها العصبية العربية، واشتبكت مع العصبية التركية والفارسية هي دولة بني حمدان التغلبية؛ فقد عظم نفوذها بالموصل وحلب، وأرادت الاستيلاء على بغداد وطرد النفوذ التركي والفارسي، واستخلاص الخليفة لهم، وجرت في ذلك سلسلة حروب طويلة.
فالخليفة المتقي بالله، احتمى بناصر الدولة بن حمدان وقلَّده إمرة الأمراء، وخلع عليه وعلى أخيه سيف الدولة بن حمدان، ودخل ناصر الدولة بغداد باحتفال عظيم، ولكن ثورة الأتراك — على رأسهم «توزون» — تغلَّبت على ابن حمدان، وولَّي الخليفة إمرة الأمراء لتوزون، واستمر العداء والقتال بين العرب وعلى رأسهم ابن حمدان، وبين الترك وعلى رأسهم توزون.
فلما استولى البويهيون الفرس على بغداد لم ينقطع الخلاف والقتال بين الحمدانيين والبويهيين، ولما رأى ناصر الدولة بن حمدان استيلاء معز الدولة على بغداد، وسلبهم جميع حقوق الخليفة، جهَّز جيشًا لقتال البويهيين، وساعده على ذلك فرق من الجيش التركي، ودام القتال طويلًا، وتقدم الحمدانيون إلي بغداد واستولوا على جانبها الشرقي، وأخيرًا انهزم ناصر الدولة الحمداني وعاد إلى مقرِّه.
وكذلك اشتبك الحمدانيون في قتال مع البويهيين أيام عضد الدولة، فهُزم الحمدانيون أيضًا.
وكانت حياة بني حمدان مظهرًا من مظاهر الحياة البدوية المتحضِّرة: حب للحرب، واستبداد السادة بالرعية، وكرم ومروءة، وشهامة ونجدة، وعصبية للعربية ضد الفرس والترك، وعصبية للقبيلة ضد بني كلاب وبني عقيل، وعصبية للإسلام ضد الروم، وصف الأزدي سيف الدولة الحمداني فقال: «كان معجبًا برأيه، محبًّا للفخر والبذخ، مفرطًا في السخاء والكرم، شديد الاحتمال لمناظريه، والعجب بآرائه، سعيدًا مظفرًا في حروبه، جائرًا على رعيته، اشتد بكاء الناس عليه ومنه.»
ظهرت عصبية الحمدانيين لعربيتهم في قتالهم المتواصل للترك وللفرس في العراق، وتَغنِّي شعرائهم كالمتنبي في الاعتزاز بعربيته وعربيتهم، فيقول — وقد تساءلوا عن أيهم أفضل: العرب أم الأكراد:
ويقول ويأسف لحكم غير العربِ العربَ:
ويدلُّ على عصبيتهم القبلية ما فعله سيف الدولة من إيقاعه ببني كلاب وبني عقيل، وقُشَير وبني عجلان، وبطشه ببني حبيب حتى خرجوا بذراريهم إلى الروم في اثني عشر ألف فارس وتنصَّروا بأجمعهم، ووقوف المتنبي بجانبه يشيد بذكره في حروبه هذه، فيقول حينما أوقع ببني كلاب قصيدته المشهورة التي مطلعها:
ويذكر إيقاعه ببنى عقيل وقشير، وبني العجلان في قصيدته التي مطلعها:
ويدل على عصبيتهم الإسلامية قتالهم للروم، وصدُّهم عن بلاد الإسلام وحمايتهم للثغور، حتى غزا سيف الدولة الروم أربعين غزوة، ولولاه لاستولوا على الشام في غفلة العباسيين، وقد رووا أنه جمع من الغبار الذي أصابه في غزواته ما صنع منه لبنة بقدر الكفِّ أوصى أن يوضع خدُّه عليها في لحده.
بين هذه العصبيات الثلاث التركية والفارسية والعربية تقسمت المملكة الإسلامية؛ ولأجلها وقعت الحروب وسادت الفتن، فلا تكاد تخلو سنة من حروب بين فرس وترك وعرب، وأحيانًا ينضم بعض إلى بعض؛ فقد كان في جيش بني حمدان أحيانًا فرق من الجيش التركي، كما كان مع بعض بني بويه بعض الأتراك، والبلاد تخرب من القتال، والروم ينتهزون فرصة اشتباك أمراء المسلمين بعضهم مع بعض للإغارة على الثغور الإسلامية والتنكيل بها.
وقد اتخذت العصبيات في هذا العصر شكلًا واضحًا غير الذي كان في العصر العباسي الأول، فقد كان قبلُ عصبية فارسية وعصبية عربية، ولكنها كانت تعمل في الخفاء غالبًا، وكانت قوة الخلفاء تحول دون الطغيان، فإذا أحس الخليفة طغيانًا من الفرس نكل بهم، وردَّهم إلى حدودهم، فلما ضعفت الخلافة، وقتل المتوكل بيد الأتراك، لم يكن للخليفة من النفوذ ما يستطيع أن يصدَّ به هذا الطغيان، فانكشف العصبيات وأصبحت تعمل جهارًا، ووسيلتها الحروب.
وكان من نتيجة هذه العصبيات الثلاث، واستعمالها السيف في بسط نفوذها، وضعف الخلفاء عن كبح جماحها؛ انقسام المملكة إلى مناطق نفوذ، فلو نظرنا إلى المملكة الإسلامية في النصف الثاني من القرن الثالث وفي القرن الرابع الهجري، رأينا الأندلس يحكمها الأمويون وهم عرب، وبلاد المغرب يحكم بعضها الأدارسة وهم عرب، وبعض قبائل البربر، والفاطمية وهم عرب، ومصر والشام يحكمها الطولونيون والإخشيديون، وهم أتراك، ثم الفاطميون وهم عرب، والحمدانيون في الموصل وحلب وهم عرب، والعراق يحكمه الأتراك باسم الخليفة العباسي، وينازعهم السلطان عليه الحمدانيون وهم عرب، ثم يستولي عليه البويهيون وهم فرس، وفارس تتقسَّمها دول مختلفة: الدُّلَفِية في كردستان وهم عرب، والصَّفَّارية في فارس كلها وهم فرس، والسامانية في فارس وما وراء النهر وهم فرس، والزيارية في جرجان وهم فرس، والحسنوية في كردستان وهم أكراد، والبويهية في جنوبي فارس وهم فرس، والغزنوية بأفغانستان والهند وهم أتراك.
وكان كل جنس من هذه الأجناس يطبع البلاد التي يحكمها بطابعه الخاص، فطابع التركية حب للجندية والفروسية، والاستكثار من الجنود من جنسهم لتقوية حكمهم، ثم كثرة الخلافة فيما بينهم، وتعصب كل فريق لقائد كالبدو في تعصبهم للقبائل واعتزازهم بقبيلتهم، ونظرهم في شيء من الاحتقار إلى أهل البلاد المحكومة بهم، وانتصارهم لمذهب أهل السنة، وعدم ميلهم إلى الفلسفة والجدل في الدين، وتقريبهم علماء الدين وخاصة علماء التفسير والحديث، وحبُّهم للأموال يأخذونها من الرعية في غير حكمة وأناة ونظر بعيد، فبدل أن يعنوا بموارد المال من ريٍّ، ونظام ضرائب، وإصلاح أراض، وتنظيم تجارة، واستغلال منابع الثروة يجيلون أبصارهم في الناس، ويتعرَّفون ذوي الثروة، فينتهزون الفرصة لمصادرتهم أو التنكيل بهم أو نحو ذلك، ثم ينفقون ما تصل إليه أيديهم في الترف والنعيم، فإذا أسرفوا وخلت أيديهم من جديد ثاروا على من لديه المال، ترى تاريخهم في العراق في ذلك العهد سلسلة مطالبات للخليفة بالأموال، فإذا لم يعطهم خلعوه، وإن أعطاهم سكتوا عنه أن يفرُغ مالهم، ثم أعادوا الكرَّة، وهكذا فعلوا في الوزراء والكبراء والتجار، وهم مع كل هذا لا ينظرون إلى وسائل المال ليصلحوها؛ ولذلك سرعان ما ينضب معين الدولة لقد كان لدى الخلفاء ثروة هائلة تقدَّر بالملايين، فما زالوا يلحُّون عليهم في طلب المال، والخلفاء يفتدون أرواحهم بالعطاء حتى تركوهم ولا شيء في أيديهم، ومن أجل هذا نقرأ كثيرًا في تاريخ هذه العصور دفن الأموال في الأرض، وبناء الحوائط عليها، وتظاهر الأغنياء بالفقر، ونحو ذلك.
وطابع الفرس حب الفخفخة والظهور، قد ورثوا مدينة قديمة مملوءة بالتقاليد والأوضاع، فطُبعوا عليها بمحاسنها ومساويها؛ فلهم قدرة على تنظيم الحكم، ومعرفة واسعة بما يزيد الثروة ويَضْعَفُها، ولهم عقول مثقفة تتذوق الأدب والعلم وتهتز لهما، فهم يشجعون العلم لا بالمعنى الضيق الذي يشجعه التركي، ولكن بمعناه الواسع الذي يشمل الفلسفة بفروعها المختلفة، قد كثرت المذاهب الدينية القديمة عندهم من مانوية وزرادشتية ومزدكية، فكثرت في الإسلام مذاهبهم من زيدية واثني عشرية وسبعية وغير ذلك، وورثوا ما يرثه أبناء كل أمة تحضَّرت وهرمت من ميل إلى الترف والنعيم، وانهماك في اللذائذ، وأورثهم ضغط الدولة الأموية عليهم وتحقيرهم ميلًا كامنًا إلى الانتقام من العرب والأخذ بالثأر منهم في لين وهوادة، وعلَّمهم التشيعُ التقية، فمكروا وعملوا في الخفاء وتستَّروا، وأسسوا المؤامرات للقضاء على خصومهم بالثورات أحيانًا، وبالدعوة المقنَّعة بالعلم أحيانًا، إلى غير ذلك.
وطابع العرب ميل إلى البداوة، وحكم بالقبلية، واعتزاز بدمهم، واحتقار لغير جنسهم، وزهوهم بسيفهم ولسانهم، وقلقهم واضطرابهم، فإذا أحسُّوا ضعف رئيسهم فما أسرع ثورتهم! ثم هم أسرع ما يكون قبولًا للتأقلم والتحضر، فإذا تحضروا انغمسوا في النعيم، ومالوا إلى خصب العيش، وتأنَّقوا في المأكل والملبس والمشرب، كما كان شأن الفاطميين بعد انتقالهم من المغرب إلى مصر، وكما كان شأن من نزل من العرب في الأندلس، وكما كان شأن العرب الفاتحين لبلاد فارس والروم، وهم في أول أمرهم شجعان صرحاء بسطاء، فإذا انغمسوا في النعيم، وقعوا في سيئات الحضارة، ففقدوا صراحتهم وبساطتهم، أحب إليهم الأدب والشعر لا الفلسفة والعلم، إلا أن يستعينوا بغيرهم من الموالي في تجميل دولتهم بالفلسفة والعلم.
وكثيرًا ما كان يتعاقب على القطر الواحد هذه الأجناس الثلاثة أو جنسان منها، فتعاقب على العراق العرب والفرس والترك، وعلى مصر العرب والترك، وإذ ذاك يسقيه كل جنس بكأسه، ويتكوَّن لكل قطر مزاج هو نتيجة طبع الأمة مع من تعاقب عليها من الأجناس.
وهناك عنصران آخران كان لهما أثر في الحياة الاجتماعية في هذا العصر، وإن كان هذا الأثر في المنزلة الثانية، وأعني بهما الروم والزنج.
الروم
كان العرب يطلقون على المملكة البيزنطية «بلاد الروم»، ومن ثم أطلقوا على البحر الأبيض المتوسط «بحر الروم»، وعلى مرِّ الزمان كان أكثر ما يطلق اسم الروم على بلاد النصارى المتاخمين للمملكة الإسلامية؛ ولهذا كان أكثر ما يطلق على بلاد النصارى في آسيا الصغرى، وكانت تسمى الحدود التي بين الدولة الإسلامية والدولة البيزنطية «الثغور» ممتدة من ملطية إلى أعلى الفرات وإلى طرسوس، وكانت هذه الثغور محصَّنة من الجانبين، ومنقسمة إلى قسمين: ثغور الجزيرة، وثغور الشام، فمن الأول مَلْطية، وزِبَطْرة، وحصن منصور، والحَدَث، ومرعش، والهارونية، والكنيسة، وعين زَرْبَة، ومن الثاني: المصيصة، وأَذَنة، وطرسوس.
ومنذ فُتح الشام ومصر في عهد عمر بن الخطاب، والحروب قائمة بين المسلمين والروم، والذي نريد أن نعرض له الآن ما كان بين الروم والمسلمين في العصر الذي نؤرخه؛ فقد كثرت الحروب بين الفريقين، وكانت هذه الثغور بين حركتي مدٍّ وجزر باستمرار، فمن ابتداء هذا العصر حدثت وقعة عمورية المشهورة في عهد المعتصم، واستمرت بعد ذلك واشتدَّت بين الروم والحمدانيين، وعلى الأخصِّ أيام سيف الدولة الحمداني.
وليس يهمنا هنا تاريخ هذه الحروب، ولا جانبها السياسي، وإنما يهمنا ما كان لها من أثر اجتماعي أو عقلي.
فمنها أنها خلفت لنا أدبًا عربيًّا حربيًّا قويًّا، كقصيدة أبي تمام في فتح عمورية: «السيف أصدق أنباءً من الكتب»، وقصائد المتنبي في حروب سيف الدولة للروم، كقصيدته يذكر الوقعة التي نكب فيها المسلمون بالقرب من بحيرة الحدَث: «غيري بأكثر هذا الناس ينخدع»، وقصيدته لما سار سيف الدولة يريد الدمستق: «نزور ديارًا ما نحب لها مغنى» … إلخ إلخ، وكالقصائد الروميات لأبي فراس، وهي قصائد من غرر شعره، قالها — لما أسره الروم — في الحنين إلى أهله وأصحابه، والتبرُّم بحاله من أسر ومرض وغربة إلى غير ذلك.
ومنها ما كان من انتشار الروم من رجال ونساء وغلمان في بيوت الناس والخلفاء والأغنياء كمماليك، حتى إن بعض الخلفاء في هذا العصر كانت أمهم رومية؛ فالمنتصر بالله ابن المتوكل أمه رومية، والمعتز بالله أمه رومية اسمها «قبيحة»، وقد اشتهرت في التاريخ بغناها وثروتها وتغلُّبها على عقل المتوكل، والمعتمد على الله أمه رومية اسمها «فتيان»، والمقتدر بالله أمه رومية على بعض الأقوال، وكان لها في أيام ابنها سلطان في تدبير الأمور، حتى أمرت قهرمانتها أن تجلس للمظالم وتنظر في رقاع الناس، وأم الراضي بالله رومية اسمها ظلوم … إلخ.
واستكثر الخليفة المقتدر من الخدم والمماليك من الروم والسودان، حتى قالوا إنه بلغ عددهم أحد عشر ألفًا، وكانوا في أول عهده ألفًا ومائة.
كما كان في بغداد دار تسمَّى دار الروم بالشماسية، وكان لهم بهذا الحي كنيسة على مذهب النسطورية، ودير يسمى دير الروم.
وانتشرت الجواري الروميات في القصور، وكانت لهن ميزات. قال ابن بطلان: «الروميات بيض شقر، سباط الشعور، زرق العيون، عبيد طاعة وموافقة وخدمة، ومناصحة ووفاء وأمانة ومحافظة، يصلحن للخَزْن لضبطهن وقلَّة سماحتهن، لا يخلو أن يكون بأكفهن صنائع دقيقة.»
وقد أنجب هذا العنصر الرومي أدباء وعلماء، كان لهم في فنهم وعلمهم طابع خاص لم يكن مألوفًا في العقلية العربية والفارسية، من أشهر هؤلاء ابن الرومي الشاعر، وابن جني النحوي.
فابن الرومي من أصل رومي كما يدل عليه اسمه، فهو علي بن العباس بن جريج، وله في الشعر ميزات قلَّما اجتمعت لغيره من شعراء العربية، هي أشبه شيء بالروح الرومي؛ فهو طويل النفس في قصائده طولًا قلَّما يجارى، وهو يقع على المعنى فلا يزال يستقصي فيه حتى لا يدع فيه فضلة ولا بقية، وهو كثير التعليل لما يقول كما يفعل بالنظرية الهندسية والبرهان عليها من مثل قوله:
وقوله في مليح رمدت عيناه:
ومثل ذلك كثير لا نطيل به.
وهو يصوِّر المهجُوَّ صورة فنية تستخرج عجبك وتستثير ضحكك، كقوله في بخيل:
وقوله في ثقيل:
وقوله:
وقد قال هو نفسه في خصائصه:
•••
•••
ومنها في أصله الرومي:
فابن الرومي وابن جني وأمثالهما كانوا عربًا في المنشأ والمَرْبى، وكانوا رومًا بعقلهم الموروث، فجمعوا بين مزايا العقل المطبوع والعقل المصنوع، وأنتجوا منهما نتاجًا صالحًا ذا طعم خاص.
السود
ومن العناصر التي كثرت في هذا العصر، وكان لها أثر كبير؛ الزنج الذين كانوا يجلبون في الأكثر من سواحل إفريقيا الشرقية، ولا أدلَّ على كثرتهم وخطرهم من ثورتهم التي قاموا بها قرب البصرة، وهددوا بها الدولة العباسية، ودوَّخوها أربعة عشر عامًا وأربعة أشهر (من ٢٥٥ﻫ إلى ٢٧٠ﻫ)، وكانت حربًا بين الأجناس، بين السود والبيض، دعا إليها رجل ادَّعى نسبته إلى علي بن أبى طالب، فزعم أنه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب. وأكثر المؤرخين يرون أنه دعيٌّ وأن أصله عربي من عبد القيس، وقد توجه هذا الرجل إلى البصرة وحرَّض الزنوج «الذين كانوا يكسحون السباخ» في أراضيها، فإن ملَّاك هذه الأرضي كانوا يملكون سودًا من السودان يعملون لهم في أرضهم فيعزقونها ويرفعون عنها الطبقة المالحة؛ ليصلوا إلى الأرض الخالية من الأملاح الصالحة للزراعة، وهو عمل شاقٌّ جدًّا في هذه المنطقة، فاستطاع هذ الذي لقِّب بعد بصاحب الزنج أن يؤلِّب هؤلاء العمال الزنوج بعد أن درس حالتهم وبؤسهم وأجورهم ونفسيتهم فأتاهم من الناحية الدينية فهي أفعل في نفوسهم، فادَّعى أنه متَّصل بالله على نحو ما، فاجتمع إليه خلق كثير، فوصف لهم بؤسهم وظلم سادتهم لهم، ورثى لعيشهم على السويق والتمر، ودعاهم إلى الخروج على هؤلاء الظالمين، «ومنَّاهم ووعدهم أن يقودهم ويرئِّسهم، ويملِّكهم الأموال، وحلف لهم الأيمان الغلاظ ألا يغدِرَ بهم ولا يخذلهم ولا يدع شيئًا من الإحسان إلا أتى إليهم».
وقد سقنا هذا كله للدلالة على قوة هذا العنصر الزنجي وخطره في ذلك العصر، وبجانب هذا كانت لهم ناحية اجتماعية لها قيمتها … وكانوا يطلقون كلمة السودان على ما يشمل الأحباش، وقديمًا اتصل هؤلاء السودان بالعرب فكان منهم بلال الحبشي مؤذن رسول الله، ومنهم سعيد بن جبير سيد التابعين الذي قتله الحجاج، وكان من أشعر شعرائهم في العصر الأموي الحَيْقُطَان، وقد هجا جريرًا وفخر عليه بالزَّنج، فقال:
وكانت طائفة من الجند من الزنج كما رأينا قبل، وكان منهم الكثير في خدمة القصر. وقد نبغ منهم كافور الإخشيدي الذي ملك مصر والشام، وخطب له على المنابر بمكة والحجاز، وكان عبدًا أسود أتي به من بلاد السودان واشتراه الإخشيد بثمانية عشر دينارًا، وقد مدح المتنبي سواده فقال:
ثم ذم سواده حين هجاه فقال:
ومن قديم كان للبيض نساء من السود، فأعشى سليم كانت له «دنانير» بنت كعبوية الزنجي، وكانت زنجية، وقد رآها تكتحل فقال:
وقد تزوج الفرزدق أم مكية الزنجية، وترك ما عنده من النساء من أجلها. وقال فيها:
وكثر ذلك في العصر العباسي، فامتلأت بهن القصور وبيوت الأوساط والفقراء؛ فقد كانت الجواري البيض أغلى ثمنًا، فكانت ما تكون في بيوت الأغنياء، أما السود فكثيرات ورخيصات.
الزنجيات مساويهن كثيرة، وكلما زاد سوادهن قبحت صورهن، وتحددت أسنانهن، وقلَّ الانتفاع بهن، وخيفت المضرَّة منهن، والغالب عليهن سوء الأخلاق، وكثرة الهرب، وليس في خلقهن الغم، والرقص والإيقاع فطرة لهن، وطبع فيهن … ويقال: لو وقع الزنجي من السماء إلى الأرض ما وقع إلا بالإيقاع. وهم أنقى الناس ثغورًا لكثرة الريق، وكثرة الريق لفساد الهضوم؛ وفيهن جَلَد على الكدِّ، فالزنجي إذا شبع فصب العذاب عليه صبًّا فإنه لا يتألم له. وليس فيهن متعة لصنانهن وخشونة أجسامهن. أما الحبشيات فالغالب عليهن نعومة الأجسام ولينها وضعفها، يعتادهن السلُّ، ولا يصلحن للغناء ولا للرقص، دقاق لا يوافقهن غير البلاد التي نشأن فيها، وفيهن خيرية، ومياسرة وسلاسة انقياد، يصلحن للائتمان على النفوس … قصار الأعمار لسوء الهضم.
وكما تقاسمت المملكة الإسلامية العناصر الجنسية المختلفة، كذلك تقاسمتها المذاهب الإسلامية المختلفة والديانات المختلفة، ولنذكر في ذلك كلمة مجملة تصوِّر هذه الحال:
عمَّر هذا المشهد المبارك؛ ابتغاءً لوجه الله وقربةً إليه على اسم مولانا المحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب — الأميرُ الأجلُّ سيف الدولة أبو الحسن علي بن عبد الله بن حمدان.
محمد رسول الله، أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فاطمة الزهراء، الحسن، والحسين، جبريل.
أمير المؤمنين المطيع لله، الأميران الفاضلان ناصر الدولة وسيف الدولة، الأميران أبو تغلب، وأبو المكارم.
فهذا يرجح أن دولة الحمدانيين كانت شيعية.
وتقسمت البلاد الشيعة والسنِّية، بل تقسم البلد الواحد التشيُّع والتسنُّن: فبلدة نابلس في النصف الثاني من القرن الرابع كان نصفها سنيين ونصفها شيعيين، قال المقدسي المتوفى سنة ٣٧٥ﻫ: «ونصف نابلس وأكثر عمان شيعة.»
وهكذا سادت العالم الإسلامي هاتان النزعتان — السنِّية والشيعة — تتعاديان وتتقاتلان، هذا عدا ما قام به الشيعة من مؤامرات لقلب الدول والاستيلاء عليها، وسياتي الكلام على ذلك في حينه.
وهناك نزاع آخر، وهو النزاع بين المذاهب الفقية قد كان الخلاف أيام أصحاب المذاهب، كأبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل، خلافًا في الرأي والبرهان؛ غاية التعصُّب أن يعتقد أن مذهبه حق يحتمل الخطأ، ومذهب غيره خطأ يحتمل الصواب، وقلَّ أن نرى بين أئمة المذاهب عداءً حادًّا إلا قرع الحجة بالحجة والبرهان بالبرهان، وازداد بعض الشيء أيام أتباعهم، ولكنه قلَّ أن يتعدى ذلك إلى ضرب أو قتال، فلما انتهى هذا الطور أخذت العصبية تتزايد إلى أن بلغت القتال؛ ففي القرن الثالث والرابع نرى أن الحنابلة من حين لآخر يقومون بالثورات الكبيرة.
وأمثال هذه الحادثة كثير في كتب التاريخ.
ثم الخلاف الشديد بين الحنفية والشافعية، حتى كان يؤول الأمر في بعض الأحيان إلى خراب البلد من جرَّاء هذا الخلاف. يقول «ياقوت» عند الكلام على «أصفهان» بعد أن ذكر مجدها القديم: «وقد فشا فيها الخراب في هذا الوقت وقبله في نواحيها لكثرة الفتن والتعصّب بين الشافعية والحنفية، والحروب المتَّصلة بين الحزبين، فكلما ظهرت طائفة نهبت محلة الأخرى وأحرقتها وخربتها، لا يأخذهم في ذلك إلٌّ، ولا ذمَّة؛ ومع ذلك فقلَّ أن تدوم بها دولة سلطان أو يقيم بها فيصلح فاسدها، وكذلك الأمر في رساتيقها وقُراها التي كل واحدة منها كالمدينة.»
اليهود والنصارى
وربما كانت الدولة الإسلامية في هذا العصر أكثر الأمم تسامحًا مع المخالفين لها في الأديان، وخاصةً أهل الكتاب من اليهود والنصارى، رغم ما كان يبدو بعض الأحيان من ظلم وعسف كالذي كان في عصر المتوكل، وقد سبق ذكره؛ وربما وقع على المسلمين من هذا الظلم ما وقع على غيرهم.
وقديمًا كان الامتزاج بين المسلمين واليهود والنصارى حتى في الأسرة الواحدة بما أباح الله للمسلمين أن يتزوَّجوا بالكتابيات.
وانتشر اليهود والنصارى في نواحي المملكة الإسلامية وأطرافها وداخلها، فبلغ عدد اليهود في العراق وحدها حول سنة ١١٨٥م/سنة ٥٨١ﻫ على حسب تعداد بعض المؤرِّخين ستمائة ألف، وانتشروا في دمشق وحلب، وعلى شاطئ دجلة والفرات، وفي جزيرة ابن عُمَر والموصل والجلَّة والكوفة والبصرة وهمذان وأصفهان وشيراز وسمرقند. ويقول المقدسي: في خراسان يهود كثيرة، ونصارى قليلة. وكذلك يقول في همذان.
وانتشرت أديار النصارى في أنحاء المملكة، وكانت غنية ببساتينها وخمورها، واتصل الأدباء بها وأكثروا من القول فيها.
«وفي أيام العزيز نزار كان بمصر شاعر اسمه الحسن بن بشر الدمشقي، وكان كثير الهجاء، فهجا يعقوب بن كِلِّس وزير العزيز وكاتب الإنشاء من جهته أبا نصر عبد لله بن الحسين القيرواني:
ثم قال أيضًا وعرَّض بالفضل القائد:
وتولَّى الوزارة سنة ٤٣٦ﻫ للمستنصر بمصر «صدقة بن يوسف»، وكان يهوديًّا فأسلم، وكان معه أبو سعد التستري اليهودي يدبر الدولة، فقال بعض الشعراء:
هذه العناصر الجنسية من أتراك وفرس وعرب وروم وزنج وغيرهم، وما تستلزم من عصبيات؛ وهذه العصبيات المذهبية والطائفية من تسنَّن وتشيَّع، ومن حنابلة وشافعية وحنفية، ومن مسلمين ويهود ونصارى، وغير ذلك كانت كلها حركات تموج بها المملكة الإسلامية، تتعاون حينًا، وتتفاعل حينًا، وتؤثر في السياسة وفي الدين وفي العلم، وتنشأ عنها المؤامرات السرية أحيانًا؛ والقتال الصريح أحيانًا، وكان لها كلها أثر واضح في كل ناحية من النواحي الاجتماعية:
قد أثَّرت في الحالة المالية إما مباشرة وإما من طريق الحكم والسياسة، فعمَّرت في ناحية وخربت في أخرى، وعدلت في ناحية وظلمت في أخرى.
وأثَّرت في اللغة والأدب بدخول الأعاجم يتكلمون بلغاتهم، ويتعلمون اللغة العربية ويحمِّلونها أفكارهم وآدابهم.
وأثَّرت في المرأة بكثرة الأجناس المختلفة ذوات الخصائص المختلفة، وقد حمَل النساءُ من هذه الأجناس خصائص الجمال والقبح في المظهر وفي الأخلاق وفي العادات، وغزون البيوت بما كان يعرضه النخَّاسون منهن في سوق الرقيق، وبما كان يحمله الغزاة معهم في حروبهم مع الروم ومع الترك ومع الفرس ومع الزنج، وما كانوا يوزِّعونه على الجنود وعلى الأهل والأقارب، وما كانوا يتخلَّون عنه فيعرضونه في الأسواق.
وأثَّرت في الدين من كثرة الجدل بين الفقهاء، ومن إثارة مسائل يدعو إليها هذا الجدل لم تكن معروفة من قبل، ومن تدخُّل السياسة في الأمور الدينية والالتجاء إلى الفقهاء يسألونهم الحلول الفقهية فيما يعرض لهم من مشاكل سياسية واجتماعية، وبما أثاره النزاع الشديد بين السنية والشيعة، وغلبة التشيُّع في بعض الأماكن وتكوين دول شيعية لم تكن في العصور الماضية، فدعاها ذلك إلى أن تبلور التشيُّع وتستعمل عقولها في إيجاد نظام الحكم والدعوة التي تتفق وأصول الشيعة كما حصل ذلك في الدولة الفاطمية، وبما كان من الاحتكاك الشديد بين المسلمين واليهود والنصارى، وما كان بينهم من تسامح أحيانًا، وخصومة أحيانًا، وما كان من جدل ديني بين هذه الطوائف، وما أثارته هذه الظروف المختلفة من مسائل طائفية تعرض على الفقهاء، فيبدون فيها آراءهم في ضوء الحوادث الجديدة.
وأثّرت في العلم بما كان يحمله النصارى واليهود والفرس والهنود من علوم آبائهم، وجدهم في تقديم هذه الذخائر إلى الأمة الإسلامية باللغة العربية مما مكَّن الناطقين باللسان العربي أن يأخذ كل منهم حظه منها، ويهضمه ما استطاع ويزيد عليه ما استطاع، وتتعاون على الاستفادة منها وترقيتها العقولُ العربية والتركية والفارسية والرومية والهندية، ويؤلف بينها العلم بعد أن فرقت بينها العصبيات الجنسية والمذهبية؛ فيأخذ اليهودي والنصراني من العالم المسلم، ويأخذ المسلم من العالم اليهودي والنصراني، ويجلس الفارسي والتركي والهندي في حلقة العربي، ويتعاون الجميع في بناء الدولة العلمية غير آبهين بما كان من الساسة في تهديم الدولة من ناحيتها السياسية.
كل هذا وأمثاله كان من آثار هذه الحركات المختلفة، وكل ما ذكرته إشارة خاطفة لما كان لها من أثر قوي فعَّال سنحاول بعدُ شرحَ بعضه.