أهم المظاهر الاجتماعية والسياسية في ذلك العصر
(١) المظاهر الاجتماعية والسياسية
(١-١) انقسام الدولة
أهم مظهر يأخذ بالأبصار في ذلك العصر ما حصل للدولة الإسلامية من الانقسام؛ فقد كانت المملكة الإسلامية كلها في العصر العباسي الأول إذا استثنينا الأندلس وبعض بلاد المغرب تُكوِّن كتلة واحدة، وتخضع خضوعًا تامًّا للخليفة في بغداد، هو الذي يعين ولاتها، وإليه يجبى خراجها، وإليه تَرجع في إدارتها وقضائها وجندها وحل مشاكلها، وتدعو له على المنابر وتضرب السكة باسمه، ونحو ذلك من مظاهر السلطان. ثم أخذ هذا السلطان يقل شيئًا فشيئًا بضعف الخلافة حتى تمزقت المملكة كل ممزق.
وأخذت الأقطار الإسلامية تستقل عن بغداد شيئًا فشيئًا، وأخذ يخشى ولاتها وأمراؤها بعضهم بأس بعض، ويضرب بعضهم بعضًا؛ فصارت المملكة الإسلامية عبارة عن دول متعددة مستقلة، علاقة بعضها مع بعض علاقة محالفة أحيانًا وعداء غالبًا، وأصبح لكل دولة مالها وجندها وإدارتها وقضاؤها وسكتها وأميرها، إن اعترف بعضها بالخليفة في بغداد حينًا من الزمن، فاعتراف ظاهري ليس له أثر فعلي! وسودت صحف التاريخ بالقتال المستمر بين هذه الدول، وشغلوا بقتال أنفسهم عن قتال عدوهم؛ ومن أجل هذا طمع فيهم الروم يغزونهم كل حين ويستولون على بلادهم شيئًا فشيئًا، حتى الزنج والحبشة كانوا يغيرون على الدولة الفينة بعد الفينة فينهبون ويسلبون، ولم تعد المملكة الإسلامية مخشية الجانب كما كانت أيام وحدتها.
ففي سنة ٣٢٤ﻫ كانت البصرة في يد ابن رائق، وفارس في يد علي بن بويه، وأصبهان والري والجيل في يد أبي علي الحسن بن بويه، والموصل وديار بكر وربيعة في أيدي بني حمدان، ومصر والشام في يد الإخشيديين؛ وإفريقية في يد الفاطميين، وخراسان وما وراء النهر في يد السامانيين، وطبرستان وجرجان في يد الديلم، وخوزستان بيد البريدي، والبحرين واليمامة وهَجَر بيد القرامطة، ولم يبق للخليفة إلا بغداد وما حولها، وحتى هذه لم يكن له فيها إلا الاسم.
وهنا يصح لنا أن نتساءل سؤالين: الأول: هل كان انقسام المملكة الإسلامية إلى أقسام على النحو الذي أبنَّا في مصلحة الأقطار الإسلامية أو في غير مصلحتها؟ قد يبدو هذا السؤال غريبًا؛ لأن الناس اعتادوا أن يقيسوا رقي المملكة الإسلامية بوحدتها وضعفها بانقسامها، وبعبارة أخرى ربطوا رقي المملكة الإسلامية بحال الخليفة؛ فإذا كان الخليفة قويًّا باسطًا سلطانه على الأقطار كلها، فالدولة قوية، وإلا فهي ضعيفة.
وفي رأيي أن هذا مقياس غير صحيح؛ فقد يضعف الخليفة وتصلح الأقطار والعكس. وهذا ما حدث فعلًا، ففي رأيي أن كثيرًا من الأقطار الإسلامية كانت بعد استقلالها عن الخلافة في بغداد خيرًا منها قبله؛ فيظهر لي أن مصر تحت حكم الطولونيين والإخشيديين والفاطميين كانت حالتها أسعد منها أيام ولاة بغداد قبل الطولونيين، وكذلك حكم السامانيين لفارس وما وراء النهر كان خيرًا من حكم من سبقهم من ولاة العباسي، وربما كان شر أيام بغداد هو هذه الأيام التي كانت تخضع فيها للخلفاء، وما حولها مستقل عنها.
فإذا قسنا الأمور بمصلحة المحكومين لا الخلفاء — وهو في نظري أصح مقياس — كان هذا الانقسام في مصلحة الأقطار المستقلة في أغلب الأحوال، وعلى الأقل كان في مصلحتهم نسبيًّا؛ أعني بالنسبة للحالة السيئة التي كانوا عليها قبل استقلالهم؛ فالإدارة وانتفاع كل قطر بماله يصرفه في مصالحه والعدالة النسبية في توزيع الثروة ونحو ذلك؛ كلها كانت خيرًا منها أيام سلطة الخلفاء الضعفاء ومن يتولاهم من الأتراك الأقوياء.
والأندلس لما أتيح لها الاستقلال في بدء العصر العباسي، ومنعَتْها قوتُها وبُعدها من أن يُخضعها العباسيون لحكمهم، أزهرت وتمدَّنت وساهمت في بناء المدينة، في العلم والأدب والحضارة، وما أظن أنها كانت تبلغ هذا المبلغ لو عاشت في أحضان الدولة العباسية.
نعم! إنهم — وقد تفرقوا — أصبحوا أضعف أمام العدو الخارجي كالروم، وصار يحمل العبءَ كله دويلةٌ مستقلة كدولة الحمدانيين، وكان يحمل العبء قبلُ المملكةُ الإسلامية كلها، فمن هذه الناحية كان هذا مظهر ضعف للدولة، خصوصًا والدول المستقلة لم تستطع أن تتفاهم، وترتب بينها نظامًا مشتركًا يضمن دفع غارة الأعداء الخارجي؛ لأن هذا النظام يتطلب رقيًّا في الفكر، وضبطًا للعواطف، وتقديمًا للمصلحة العامة على الخاصة؛ وهي درجة لم يستطع المسلمون الوصول إليها حتى الآن! إنما كان علاقة كل دولة مسلمة بجارتها المسلمة علاقة عداء غالبًا، فلم يتمكنوا من التفاهم على مصالحهم الداخلية فضلًا عن المصالح الخارجية، ولو استطاعوا — مع استقلالهم — أن ينظموا شئونهم مع من بجوارهم، وينظموا صفوفهم أمام عدوِّهم الخارجي لبلغوا الغاية. ولكني مع هذه الشرور كلها أرى أن حالة كثير من البلدان الإسلامية نالت باستقلالها من الطمأنينة والرخاء ما لم تنعم به في الأيام الأخيرة لتبعتها بغداد.
والسؤال الثاني: ما موقف العلم والأدب بعد هذا الانقسام؟ هل أثر فيهما أثرًا حسنًا أو سيئًا؟ وهل انحطَّ العلم والأدب بانحطاط خلفاء بغداد أو رَقِيَا باستقلال الأقطار؟
أرى أن العلم والأدب رقيا عما كانا عليه قبل، وأنه لم يؤثر فيهما كثيرًا ضعف خلفاء بغداد؛ ذلك أن حركة الترجمة التي نقلت ذخائر الأمم المختلفة وخصوصًا الأمة اليونانية، وضعت أمام أعين المسلمين ثروة علمية هائلة باللسان العربي، فكانت الخطوة الثانية أن تتوجه إليها الأفكار العربية تفهمها وتشرحها وتهضمها وتبتكر فيها وتزيد عليها؛ وهذا ما فعله عصرنا هذا كما سيأتي بيانه. ومن جهة أخرى كان وضع السلطة كلها في يد الخليفة يجعل بغداد المركز العلمي الوحيد، أو على الأقل المركز العلمي والأدبي الهام، وما عداه فاتر ضعيف؛ فكان من تفوق في علم أو أدب فلا أمل في شهرته ونبوغه، وذيوع صيته وثروته، إلا إذا رحل إلى بغداد وتقرب بعلمه وأدبه إلى خلفائها وأمرائها.
فلما استقلت الأقطار أصبحت كل عاصمة قطر مركزًا هامًا لحركة علمية وأدبية، فأمراء القطر يعطون عطاء خلفاء بغداد، ويُحَلُّون عاصمتهم بالعلماء والأدباء، ويفاخرون أمراء الأقطار الأخرى في الثروة العلمية والأدبية، كما يتفاخرون بعظمة الجند وعظمة المباني. فبدل أن كان للعلم والأدب مركز واحد هام أصبحت لهما مراكز هامة متعددة، وأصبح علماء مصر — مثلًا — يساجلون علماء بغداد، وأدباء الشام يفخرون على أدباء العراق، وهذا من غير شك يشجع الحركة العلمية والأدبية ويقويها ويرقيها.
وحتى نرى الأمراء الأتراك الذين لا يحسنون العربية يحبون أن تزَّين قصورهم بالعلماء والأدباء.
ولعله بهذا القول يعبر عما في نفس كل أمير في كل إقليم.
ومن أجل هذا كان مؤرخ العلم والأدب قبل الاستقلال يجد نفسه أمام ثروة كبيرة علمية وأدبية في العراق، ثم لا يجد إلا نتفًا قليلة منها في تاريخ غيره، أما بعد الانقسام فلكل إقليم شخصية متميزة في علمها وأدبها.
على أنَّا إن سلَّمنا فرضًا أن الحياة السياسية بعد الانقسام كانت شرًّا منها قبله، فلا نسلِّم ذلك في العلم والأدب. والتاريخ يرينا أن الحالة العلمية لا تتبع الحالة السياسية ضعفًا وقوة؛ فقد تسوء الحالة السياسية إلى حدٍّ ما وتزهر بجانبها الحياة العلمية؛ ذلك لأن الحياة السياسية إنما تحسن بتحقيق العدل ونشر الطمأنينة بين الناس، ومع هذا فقد يحمل الظلم كثيرًا من عظماء الرجال وذوي العقول الراجحة أن يفروا من العمل السياسي إلى العمل العلمي؛ لأنهم يجدون العمل السياسي يعرِّضهم لمصادرة أموالهم، وأحيانًا إلى إزهاق أرواحهم، على حين أن العمل العلمي يحيطهم بجو خاص هادئ مطَمْئن، ولو كان الجو العام مائجًا مضطربًا، وكذلك كان الحال في تاريخ كثير من علماء المسلمين، جرَّبوا الوزارة وولاية الأعمال فتعرَّضوا للخطر فهربوا إلى العلم فنجحوا.
وأيضًا فقد وقر في نفوس الخلفاء والأمراء حرمة العلماء، متى لم يتعرضوا للسياسة من قريب ولا بعيد، وهذا يمكنهم من بحثهم العلمي في هدوء وطمأنينة على الرغم مما يحيط بهم من فوضى واضطراب. لقد كان الفارابي مثلًا في جو سياسي مضطرب سواء كان في حلب بين الحمدانيين، أو في بغداد في حكم الأتراك، ومع ذلك خلق لنفسه، ولمن حوله من تلاميذه حمى يُرقَّى فيه علمه وبحثه، وإذا عصفت العواصف كانت حول حماه ولا تغشاه، لا يهمه في حياته إلا علمه، أما ما عداه من أفانين السياسة وألاعيبها، وشئون الدنيا وشهواتها فلا يأبه بها ويقول:
وأبو العلاء المعرِّي يترك الدنيا مضطربة في المعرة وما حولها، وفي بغداد وما حولها، ويخلق لنفسه جوًّا علميًّا فكريًّا هادئًا لا نزاع فيه إلا على مسأله علمية أو مشكلة لغوية أو فكرة فلسفية، لا علاقة له بأمير إلا أن يتشفع عنده في بلده فيشفع، ولا علاقة له بوزير إلا أن يستفتيه في مسألة علمية فيجيب، وهكذا سيرة كثير من العلماء، فلم لا يرقى العلم في هذه الأجواء الهادئة مهما أحاط بها من ظروف عاصفة؟!
وحتى الذين اكتووا بالسياسة من قرب أو بعد، كالصُّولي والصابي وابن العميد، قد أفادوا العلم والأدب بانغماسهم في الحياة السياسية، وإن احترقوا بنارها.
وما لنا نذهب بعيدًا، وهذا عصر النهضة العلمية والأدبية في أوروبا، كانت الأفكار فيه تبحث وتنتج وتبتكر، والجو السياسي حولها أسوأ ما يكون نزاعًا وفسادًا وظلمًا، فلما خطت الأفكار العلمية والأدبية خطواتها كانت هي التي تصلح الجو السياسي، لا أن الجو السياسي يخنقها.
والخلاصة أن الحالة العلمية في أواخر القرن الثالث وفي القرن الرابع، كانت أنضج منها في العصر الذي قبله: أخذ علماء هذا العصر ما نقله المترجمون قبلهم فشرحوه وهضموه، وأخذوا النظريات المبعثرة فرتبوها؛ وورثوا ثروة من قبلهم في كل فرع من فروع العلم فاستغلُّوها، وسيأتي بيان ذلك إن شاء لله.
(١-٢) الترف والبؤس
واللهو والجدُّ حيثما نظرنا إلى كل قطر من أقطار العالم الإسلامي في ذلك العصر رأينا الثروة غير موزعة توزيعًا عادلًا ولا متقاربًا، ورأينا الحدود بين الطبقات واضحة كل الوضوح، فجنة ونار، ونعيم مفرط، وبؤس مفرط، وإمعان في الترف يقابله فقدان القوت.
وهذا الترف والنعيم حظُّ عدد قليل، هم الخلفاء والأمراء ومن يلوذ بهم من الأدباء والعلماء، وبعض التجار، ثم البؤس والشقاء والفقر لأكثر الناس. وحتى غِنى الأغنياء في كثير من الأحيان ليس محصَّنًا بالأمان، فهو عرضة لغضب الأقران أو غضب ذي السلطان الأعلى، فيصادَرون في أموالهم، ويصبح حالهم أشدَّ بؤسًا من فقير نشأ في الفقر، وقد مرَّت بنا أمثلة من هذا القبيل.
والآن نصور بعض صور توضح الحالين.
فقصور الخلفاء والأمراء وأمثالهم واسعة كل السعة، مترفة كل الترف؛ فابن المعتز يصف في ديوانه أبنية للخليفة المعتضد اسمها الثريا فيقول:
•••
•••
واشتهر من الأبنية كذلك قصر «التاج» ابتدأ في بنائه المعتضد أيضًا، ثم عدل عنه وبنى «الثريا»، فلما تولى ابنه المكتفي أتمَّ بناء «التاج»، واستعمل في بنائه الآجرَّ من قصر كسرى الذي بقي منه إلى الآن إيوانه. وكانت وجهة التاج مبنية على خمسة عقود كل عقد على عشرة أساطين، وكانت غاية في السعة والضخامة.
ولم يبن أحد من الخلفاء بِسُرَّ من رأى من الأبنية الجليلة مثل ما بناه المتوكل، فمن ذلك القصر المعروف بالعروس أنفق عليه ثلاثين ألف ألف درهم؛ والجعفري عشرة آلاف ألف درهم، والغريب عشرة آلاف ألف درهم، والشيدان عشرة آلاف ألف درهم، والبرج عشرة آلاف ألف درهم، والصبح خمسة آلاف ألف درهم، والمليح خمسة آلاف ألف درهم، وقصر بستان الإيتاخية عشرة آلاف ألف درهم.
إلى آخر ما ذكر، إلى أن قال: فذلك الجميع مائتا ألف ألف وأربعة وتسعون ألف درهم. وقد قال علي بن الجهم في وصف الجعفري أحد قصور المتوكل:
وللبحتري قصائد في وصف بركتها ومحاسنها.
وبلغت سامرَّا في الحضارة شأوًا بعيدًا حتى أفسدها وخرَّبها الخلاف والعصبية بين أمراء الأتراك، وتحول عنها الخلفاء إلى بغداد، وكان أول من فعل ذلك المعتضد بالله، فقد حول العمران إلى بغداد وبنى بها الثريا والتاج.
وقد وصف الخطيب البغدادي قصر المقتدر بالله، الذي تولى من (٢٩٥ﻫ–٣٢٠ﻫ)، بمناسبة زيارة رسول من الروم له، فقال: إنه كان للمقتدر أحد عشر ألف خادم خصي، وكذا من صقلبي ورومي وأسود — وهذا جنس واحد ممن تضمه الدار، فدع الآن الغلمان الحجرية وهم ألوف كثيرة والحواشي من الفحول. وقد أمر المقتدر أن يطاف بالرسول في الدار … وفتحت الخزائن، والآلات فيها مرتبة كما يفعل لخزائن العروس. وقد علقت الستور، ونظم جوهر الخلافة في قلايات على دُرُج غشيت بالديباج الأسود، ولما دخل الرسول إلى دار الشجرة ورآها كثر تعجبه منها؛ وكانت شجرة من الفضة وزنها خمسمائة ألف درهم، عليها أطيار مصنوعة من الفضة تصفِّر بحركات قد جعلت لها فكان تعجُّب الرسول من ذلك أكثر من تعجبه من جميع ما شاهده …
وكان عدد ما عُلق في القصور من الستور الديباج المذهبة بالطرز الذهبية الجليلة، المصورة بالجامات والفيلة والخيل والجمال والسباع والطرد، والستور الكبار البضغائية والأرمنية والواسطية والبهنسية السواذج والمنقوشة والديبقية المطرزة ثمانية وثلاثين ألف ستر …
وأدخل رسل صاحب الروم إلى الدار المعروفة بخان الخيل، وهي دار أكثرها أروقة بأساطين رخام، وكان فيها من الجانب الأيمن خمسمائة فرس عليها خمسمائة مركب ذهبًا وفضة بغير أغشية، ومن الجانب الأيسر خمسمائة فرس عليها الجِلال الديباج بالبراقع الطوال، وكل فرس في يد شاكري بالبزة الجميلة، ثم أدخلوا دار الوحش، وكان فيها من أصناف الوحش التي أخرجت إليهم قطعان تقرب من الناس وتتشممهم وتأكل من أيديهم، ثم أخرجوا إلى دار فيها أربعة فيلة مزينة بالديباج والوشي، على كل فيل ثمانية نفر من السند والزراقين بالنار، فهال الرسل أمرها؛ ثم أخرجوا إلى دار فيها مائة سبع: خمسون يمنة وخمسون يسرة …
ثم أخرجوا — بعد أن طيف بهم ثلاثة وعشرين قصرًا — إلى الصحن التسعيني، وفيه الغلمان الحجرية بالسلاح الكامل.
ولعل هذه الصورة خير وصف لقصور الخلفاء في ذلك العصر.
والخلفاء من أول العصر العباسي يعلو كل خليفة ما قبل درجة أو درجات في الترف والنعيم والإمعان في فنون الحضارة، والأغنياء يتبعونهم في ذلك على قدر مواردهم، سائرين على حكم الزمان.
ولذلك لما جاء المهتدي بالله (٢٥٥ﻫ–٢٥٦ﻫ)، ونزع نزعته إلى الزهد استغرب منه ذلك، ولم يطاوعه الناس وسئموا سيرته، وأدى الأمر إلى قتله.
ذلك أنه جعل مَثَلَه الذي يجب أن يحتذى عمر بن عبد العزيز، فحرم الشراب ونهى عن القيان، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرب العلماء ورفع من منازل الفقهاء، وأحسن معاملة الطالبيين، وقلل من اللباس والفرش والمطعم والمشرب، وأخرج آنية الذهب والفضة من خزائن الخلفاء فكسرت وضربت دنانير ودراهم، وعمد إلى الصور التي كانت في المجالس فمحيت، وذبح الكباش التي كان يناطح بها بين يدي الخلفاء، وكذلك فعل في الديوك، وكانت الخلفاء قبله تنفق على موائدها كل يوم عشرة آلاف درهم، فأزال ذلك، وجعل لمائدته وسائر مؤنه في كل يوم نحو مائة درهم.
وكان يتهجد في الليل ويطيل الصلاة، ويلبس جبة من شعر.
قال المسعودي: «فثقلت وطأته على العامة والخاصة بحمله إياهم على الطريقة الواضحة، فاستطالوا خلافته وسئموا أيامه، وعملوا الحيلة عليه حتى قتلوه.»
ولم يدم في خلافته إلا أحد عشر شهرًا.
وهكذا كان تيار الترف شديدًا جارفًا حتى ليكتسح من وقف في سبيله.
٤٤٥٥٤٧ | دينارًا ذهبًا عينًا |
٣٢٠٢٣٧ | درهمًا عينًا |
٤٣٩٧٠ | مثقالًا وزن الأواني الذهبية |
١٩٧٥ | رطلًا وزن الأواني الفضية |
٤٤٢٠ | مثقالًا من العود المُطَرَّى |
٥٠٢٠ | مثقالًا من العنبر |
٨٦٠ | نافجة من نوافج المسك |
١٦٠٠ | مثقال من المسك المنثور |
١٣٩٩ | مثقالًا من البرمكية (نوع من الطيب) |
٣٦٦ | مثقالًا من الغالية (نوع من الطيب) |
٨٨ | ثوبًا من الثياب المنسوجة من الذهب |
١٣ | سرجًا |
٢ | حجرين عظيمين من الياقوت |
٧٠ | حبة من اللؤلؤ |
١٣٥ | رأسًا من الخيل |
١١٤ | من خدم السوادن |
١٢٨ | من الغلمان البيض |
١٩ | خادمًا من الصقالبة والروم |
٤٠ | غلامًا بآلاتهم وسلاحهم ودوابهم |
٢٠٠٠٠ | دينار قيمة أصناف من الكسوة |
١٢٨ | رأسًا من المهاريِّ والبغال |
١٢٥ | خيمة من الخيام الكبار |
١٤ | هودجًا |
١٤ | صندوقًا من الغضائر الصيني والزجاج المحكم الفاخر |
وتفننوا في الصناعات الجميلة من أنواع الحلي والدقة في النسج وزركشة الثياب وأنواع العطور، والنقش والتصوير، وأصناف الأزياء والمأكول والمشروب، والحدائق والبساتين، والغناء والموسيقى مما يطول شرحه، وكلها يستمتع بها طبقة الأشراف والموسرين.
وبلغوا من الأناقة في المعيشة أن جعلوا للظرف والظرفاء قوانين متعارفة من خرج عليها كان غير ظريف، وألَّفوا في ذلك الكتب ﮐ «الموشَّى» للوشاء، و«حدود الظرف» له أيضًا، و«ما يقدم من الأطعمة وما يؤخر» للرازي، و«ترتيب أكل الفواكه» له أيضًا، و«آداب الحمام» له أيضًا، و«الزينة» لحنين بن إسحاق، و«الهدايا والسنَّة فيها» لإبراهيم الحربي، و«النبيذ وشربه في الولائم» لقسطا بن لوقا … إلخ، فقال الموشي: «اعلم أن من كمال أدب الأدباء، وحسن تظرف الظرفاء، صبرهم على ما تولدت به المكارم، واجتنابهم لخسيس المآثم، فهم لا يداخلون أحدًا في حديثه، ولا يتطلعون على قارئ في كتابه، ولا يقطعون على متكلم كلامه، ولا يستمعون على مُسِرٍّ سره، ولا يسألون عما وُرِّي عنهم علمه، ولا يتكلمون فيما حجب عنهم فهمه.» … إلخ. ووضعوا قوانين الظرف تفصيلًا كما وضعوها إجمالًا، فقوانين الظرف في الزي، وفي التعطر، وفي الشراب، وما هو ظرف في الرجال لا في النساء، وما هو ظرف في النساء لا في الرجال، وهكذا.
فإذا نحن جاوزنا العراق إلى غيره من الأقطار رأينا في الشام مثلًا آل حمدان، وعلى رأسهم سيف الدولة مترفين ممعنين في الترف.
ودخل عليه شاعر وطرح من كمه كيسًا فارغًا ودرجًا فيه شعر استأذنه في إنشاده فأذن له، فأنشده قصيدة أولها:
وكان الملوك والأمراء في مصر في منتهى الترف والنعيم؛ ففي العهد الطولوني كان الحي الذي فيه الآن جامع ابن طولون وما حوله من القلعة إلى «زين العابدين» يزخر بالمباني الضخمة، وفيها هذا المسجد الفخم والمستشفى الكبير، والقصور الشامخة، والميادين الفسيحة، وآيات الفن؛ فقد كان بجوار جامع ابن طولون ميدان فسيح، فجعله خمارويه بن أحمد بن طولون كله بستانًا بديعًا، زرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر، وحمل إليه من البلدان المختلفة كل صنف من الشجر المطعَّم وأنواع الورد.
وكان من بِدْعه أنه كسا أجسام النخل نحاسًا مذهبًا، وجعل بين النحاس والنَّخل مواسير من الرصاص يجري فيها الماء، فكان الماء يخرج من النحاس الملبس في النخل فينحدر إلى فساقي، ويفيض الماء من الفساقي إلى مجار تسقي سائر البستان.
وهندس البستان هندسة بديعة، فعمل من الرياحين كتابة مكتوبة في البستان يتعاهدها البستاني بالمقاريض حتى لا تزيد ورقة على ورقة، وعمل في البستان برجًا من خشب الساج منقوشًا ومطعّمًا، وسرَّح فيه أصناف الحمام وأصناف الطيور المغرِّدة، وجعل في البرج أوكارًا لأفراخها، وعيدانًا مثبتة في جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت، حتى يجاوب بعضها بعضًا بالمناغاة، وسرَّح في البستان الطواويس والدجاج الحبشي ونحو ذلك، وعمل فيه مجلسًا سمَّاه دار الذهب، طلى حيطانه كلها بالذهب واللازورد، وجعل في حيطانه مقدار قامة ونصف من خشب صوِّرت فيه صورته، والمغنِّيات التي تغنيه في أحسن تصوير وأبهج تزويق، ولوِّنت أجسامها بألوان تشبه ألوان الثياب من الأصباغ العجيبة، فكان هذا القصر من أعجب ما بني في الدنيا.
وعمل فيه فسقية ملئت من الزئبق، وطُرح عليه فرش ملئ بالهواء وشدَّ بزنانير من حرير في حلق من الفضة؛ فينام أحيانًا عليه فيرتج ارتجاجًا ناعمًا، وكان يرى له في الليالي المقمرة منظر عجيب إذا ائتلف نور القمر بنور الزئبق.
وجعل في ناحية من نواحي القصر دارًا للسباع، لكل سبع بيت، ولكل بيت باب يفتح من أعلاه، ولكل بيت طاقة صغيرة يدخل منها الرجل الموكل به، وفرش بيوت السباع وما حولها بالرمل يجدد من حين إلى حين.
وأكثر من الخدم، ودرَّب كثيرًا منهم على التفنن في الطهي وتنويعه، واشتهر عبيد مصر إذ ذاك بحسن الطهي كما عودهم خمارويه؛ فكان الناس يأتون من مختلف الأقطار لشرائهم لحسن سمعتهم في هذا الباب.
ولعل أكبر ما يوضح هذا الترف والنعيم زواج «قَطْر الندى» بنت خمارويه، وقد خطبها خليفة المسلمين في بغداد المعتضد بالله العباسي، فتفنن خمارويه وأنفق خزائن الدولة في جهازها يحمله من مصر إلى بغداد، حتى تضعضعت حالة مصر المالية بعد ذلك الإسراف.
فكان من بين هذا الجهاز دَكَّة تتألف من أربع قطع من الذهب، عليها قبة من ذهب مشبك، في كل عين من التشبيك قرط معلَّق فيه حبة من جوهر لا يُعرف لها قيمة، وكان في الجهاز مائة هاون من ذهب، وقد عمل حساب نفقات الجهاز، فكانت دفعة من نفقاته أربعمائة ألف دينار.
وفي العهد الفاطمي كان الترف أنعم وأضخم وأفخم، تقرأ في «خطط المقريزي» وصف خزائن الفاطميين وحياتهم في القصور، وتفننهم في أدوات الترف والنعيم فيأخذك العجب العجاب، فيقول: «إنه كان للخليفة خزانتان: ظاهرة؛ وفيها الملابس التي ينعم بها على الناس، وباطنة؛ وهي الخاصة بلباس الخليفة، ويتولاها امرأة تنعت بزين الخُزَّان، وبين يديها ثلاثون جارية، فلا يغير الخليفة أبدًا ثيابه إلا عندها … وكان برسم هذه الخزانة بستان من أملاك الخليفة على شاطئ الخليج يعنى أبدًا فيه بالنسرين والياسمين، فيحمل في يوم منه شيء في الصيف والشتاء لا ينقطع أبدًا برسم الثياب والصناديق.
ورووا أن المعز لدين الله فاتح مصر لما خرج من بلاد المغرب أخرج معه أموالًا كانت له بها، وأمر بسبكها أرحية كأرحية الطواحين، وكان معه مائة جمل عليها هذه الطواحين من الذهب، وأمر المعز بها حين دخل إلى مصر فألقيت على باب قصره، ولم تزل على باب القصر إلى أن كان زمن الغلاء في أيام المستنصر، فلما ضاق الناس بالأمر أذن لهم أن يبردوا منها بمبارد، وغرَّهم الطمع حتى ذهبوا بأكثرها، فأمر بحمل الباقي إلى القصر، فلم تر بعد ذلك.
ومهما بالغ المقريزي ومن نقل عنهم في وصف غناهم، فإن الأساس صحيح وهو غنى القوم، وإمعانهم في الترف إمعانًا يزيد عما وصل إليه العباسيون أيام الرشيد.
ويصف لنا عمارة اليمني دارًا بناها ابن رُزِّيك الوزير الفاطمي فيقول:
•••
… إلخ.
وبعد؛ فقد كان المال وفيرًا كثيرًا، والترف والنعيم بالغًا أقصاه في بلاط الخلفاء وقصور الأمراء والخاصة، أما الشعب فأكثره بائس فقير.
قد كان هناك طبقتان متميزتان كل التميز، فالخليفة ورجال دولته وأهلوهم وأتباعهم طبقة الخاصة، وهم عدد قليل بالنسبة لمجموع الأمة، وبقية الناس — وهم الأكثر — طبقة العامة من علماء وتجار وصناع ومزارعين ورعاع، وأغلب هؤلاء فقراء إلا من اتصل منهم بالخلفاء والأمراء.
لهذا كله كانت كل أنظار الناس موجَّهة إلى الخلفاء والأمراء، فالعلماء إن أرادوا الغنى لم يجدوه إلا في خدمتهم، والشعراء إن أرادوا العيش لم يجدوه إلا في مديحهم، والتجار إن وقع شيء ثمين في يدهم من جوهر أو جوار لا يجدون نفاقًا لها إلا في قصورهم، والصناع إذا أحسنوا صناعة شيء فهم مقدصهم، أما سائر الشعب ففقير بائس قلَّ أن يجد الكفاف! فالعلماء إذا بعدوا عن القصور عزَّ قوتهم، والشعراء لا يشعرون لأنفسهم ولا لعواطفهم، وإنما يشعرون للمال يَنْشدونه من يد الخلفاء والأمراء؛ ولهذا كان أكثر شعرهم مديحًا، والفنانون والتجار كذلك. وكان أكثر مديح الخلفاء والأمراء بالكرم والسخاء، لا بالعدل والحزم وضبط الأمور.
كان بجانب هذا الغنى المفرط، والإمعان في اللذائذ، فقر مدقع يقع فيه العلماء وعامة الشعب ممن لم يتصلوا بالخلفاء والأمراء ومن إليهم.
هذا «عبد الوهاب البغدادي المالكي» فقيهٌ أديبٌ شاعرٌ له المصنفات الرائعة في الفقه، لم يكن في المالكيين أفقه منه في زمنه، ولما نزل معرَّة النعمان في رحلته أضافه أبو العلاء وقال فيه:
هذا كله تضيق به المعيشة في بغداد حتى لا يجد قوت يومه، ويخرج عنها طالبًا للرزق، ولما شيَّعه أكابرها قال لهم: «لو وجدت بين ظهرانيكم رغيفين كل غداة ما عدلت عن بلدكم.» ثم أنشأ يقول:
ولما أعيته الحيل تحوَّل طلبه وملقه ورياؤه ونفاقه إلى غيظ من الناس وحقد عليهم، فأحرق في آخر أيامه كتبه، وقال: «إني جمعت أكثرها للناس ولطلب المثالة منهم، ولعقد الرياسة عندهم، ولمدِّ الجاه عندهم، فحُرمت ذلك كله.»
وقد ملأ كتابه «الإمتاع والمؤانسة» شكوى من الفقر ومن سوء الحال، ورفع صوته إلى الوزراء والأغنياء، فعاد من ذلك كله صفر اليدين.
وهذا أبو سليمان المنطقي، أعقل عقلاء بغداد وأوسعهم نظرًا، وأعمقهم فكرًا، ومن اطلع على الفلسفة اليونانية، فأدرك أسرارها، وعرف مراميها وأغراضها، مع استقلال في الفكر، وشخصية ممتازة في الحكم، وكان أعور، وكان به برص منعه من الاتصال بالناس، وحمله على لزومه منزله، فلم يتصل به إلا تلاميذه الذين عرفوا قدره، ولم يجدوا بغيتهم عند غيره — كان فقيرًا، وقال فيه أبو حيان، وهو من تلاميذه: «إن حاجته ماسة إلى رغيف، وحولُه وقوتُه قد عجزا عن أجرة مسكن، وعن وجبة غدائه وعشائه.» فلما منَّ عليه الوزير ابن سعدان بمائة دينار، سرَّه ذلك غاية السرور، وترفَّل وتحنَّك.
وهذا أبو علي القالي البغدادي، ضاقت به الحال قبل أن يرحل إلى الأندلس، حتى اضطر أن يبيع بعض كتبه، وهي أعز شيء عنده، فباع نسخته من كتاب «الجمهرة» وكان كَلِفًا بها، فاشتراها الشريف المرتضى، فوجد عليها بخط أبي علي:
وهذا أبو العباس المعروف بابن الخباز الموصلي، كان من كبار النحويين والأدباء، قال في خطبة كتابه المسمى «بالفريدة في شرح القصيدة»: «ومن علم حقيقة حالي عذرني إذا قصرت، فإن عندي من الهموم ما يزع الجنان عن حفظه، ويكف اللسان عن لفظه:
وأنا أسأل الله العظيم أن يكفيني شر شكواي، وألا يزيدني على بلواي، فإني كلما أردت خفض العيش صار مرفوعًا، وعاد بالحزن سبب المسرة مقطوعًا، والله المستعان في كل حال، ومنه المبدأ وإليه المآل.»
وهذا الزمخشري يقول:
وهذا الأبيوردي الشاعر الفقيه، حكى الخطيب البغدادي عنه أنه مكث سنتين لا يقدر على جُبَّة يلبسها في الشتاء، ويقول لأصحابه: «بي علَّةٌ تمنعني لبس المحشو.» يريد بالعلَّة: علَّة الفقر.
وهذا الخطيب التبريزي كان له نسخة من كتاب «التهذيب في اللغة» للأزهري في عدة مجلدات أراد تحقيق ما فيها، وسماعها على عالم باللغة، فدُلَّ على أبي العلاء المعري، فجعل الكتاب في مخلاة وحملها على كتفه من تبريز إلى معرَّة النعمان، ولم يكن له من المال ما يستأجر به ما يركبه، فنفذ العرق من ظهره إليها فأثَّر فيها البلل، ومن شعره:
وحكى لنا أبو حيان التوحيدي حادثة انتحار فظيعة فقال: «شاهدنا في هذه الأيام شيخًا من أهل العلم ساءت حاله، وضاق رزقه، واشتد نفور الناس عنه، ومقتُ معارفه له، فلما توالى عليه هذا دخل يومًا منزله، ومدَّ حبلًا إلى سقف البيت واختنق به، فلما عرفنا حاله جزعنا وتوجَّعنا وتناقلنا حديثه وتصرفنا فيه كل متصرف.»
كل هذا سبَّب فساد النظام المالي، واستتبع فقر الشعب واضطرابه وكثرة ثوراته.
وظاهرة أخرى نراها في الفنون، وهي أنها كانت لا تنمو إلا في بلاط الخلفاء والأمراء، فلم يكن الشاهر يشعر لنفسه إلا قليلًا، ولا الفنان يتفنَّن لنفسه إلا نادرًا، فكلهم يقصد خليفة أو أميرًا يعرض عليه سلعته من شعر أو فن؛ ولذلك تلوَّن الشعر والنثر والفن بلون الاستجداء كثيرًا؛ لأن العصر لم يكن عصرًا ديمقراطيًّا يستطيع فيه أن يعيش الفنان لنفسه أو للشعب، كما هو الشأن في العصور الحديثة، بل كان عصرًا أرستقراطيًّا لا ينعم فيه إلا الأرستقراطيون ومن شاء أن يعيش على موائدهم، بل من شاءوا هم أن يؤكلوه من موائدهم؛ ولذلك إذا أحصيت الأدب الذي قيل في المديح، رجحت كفَّته جدًّا على الأدب الذي قيل لباعث نفساني.
وكذلك العلماء كانوا قسمين: قسمًا يتصل بالخلفاء والأمراء أو يشتغلون في مناصب الدولة كالخطابة والقضاء، وهؤلاء ميسورون نسبيًّا؛ ولذلك نرى كثيرًا من تآليف العلماء في هذا العصر إنما أُلفت بأمر وزير أو أمير أو نحوه، وصدَّره باسمه، ونَوَّه فيه بذكره، وأما من بعدوا عن القصور فكانوا فقراء غالبًا لا يكادون يجدون ما يسد رمقهم كما رأينا.
نشأ عن هذه الحالة الاجتماعية مظاهر متعددة: ترف لا حدَّ له في بيوت الخلفاء والأمراء وذوي المناصب، وفقر لا حدَّ له في عامة الشعب والعلماء والأدباء الذين لم يتصلوا بالأغنياء، ثم المظاهر التي تنتج عادةً من الإفراط في الترف كالتفنن في اللذائذ والاستهتار والنعومة وفساد النفس، وكل المظاهر التي تنشأ عن الفقر كالحقد والحسد والكذب والخبث والخديعة. وكان من أثر هذا الفقر أيضًا انتشار نزعة التصوف، فالفشل في الحياة قد يُسْلم صاحبه إلى الزهد، وإقناع النفس بأن نعيم الدنيا زائل، وإذا حُرِم الدنيا فليطلب الآخرة. كما كان من آثاره انتشار الدجل والتخريف، وتعلق الناس بالأسباب الموهومة في الحصول على الغنى لعجزهم عن تحصيله بالوسائل المعقولة؛ فتنجيم واعتقاد في الطوالع التي تسعد وتشقي، وانصراف إلى الكيمياء التي تقلب النحاس والقصدير ذهبًا، والالتجاء إلى دعوات الأولياء لعلَّ دعوتهم تتحقق فينقلب فقرهم غنى، وهذا إلى الاعتقاد في السحر والطِّلَسمات، والبحث عن الكنوز المخبوءة، ونحو ذلك.
وعلى الجملة فالحياة المالية مضطربة أشد الاضطراب، فمع سوء التوزيع والاختلاف الشديد بين درجة الغنى والفقر، والبذخ وشدة الحجة، نرى عدم الطمأنينة على المال من عدم احترام المِلْكية؛ وذلك بسبب شهوات الحكام وطمعهم فيما في أيدي الناس؛ فالوزير إذا عُزل صادر أمواله من يخلفه، والتاجر الكبير الثَّري عرضة لمصادرة الوالي له طمعًا في ماله، والغني إذا مات كانت أمواله عرضة للسلب والنهب، إما بادعاء أن ليس له ورثة معروفون ووضع العقبات في سبيل إثبات الوراثة، أو المجابهة بالمصادرة من غير ذلك أسباب. فالإخشيد في مصر كان إذا توفي قائد من قواده أو كاتب من كتَّابِه تعرض لورثته، وأخذ منهم وصادرهم، وكذلك كان يفعل مع التجار المياسير.
والوزير المهلبي لما مات قبض معز الدلة تركته وصادر عياله، وكذلك فُعل بابن العميد، وهكذا. ثم إن اضطراب الحالة المالية وعدم أمن الناس على أموالهم يُنتج حتمًا عدم انتظام الدخل والخرج فتسوء حالة الدولة، فيعالجونها بفرض الضرائب القاسية، والإمعان في المصادرات والنهب لكثرة ما يُطلب من نفقات الجيوش وأمثالها، فيكون ذلك علاجًا يضاعف المرض، وهو ما حدث فعلًا، وكلما ساءت الحال كثر العزل والتولية، وقُرِّب إلى الخلفاء والسلاطين مَن ضمن تعادل الميزانية، وإنما يضمن ذلك بالعسف الذي يئول إلى الخراب.
كان الناس طبقات مختلفة: طبقة تعتز بشرفها نسبها ودمها، من ذلك العلويون والعباسيون، وكلاهما معتز بالقرابة لرسول الله ﷺ؛ فالأوَّلون يعتزون بالنسبة لأولاد عليٍّ من فاطمة؛ والآخرون للعباس، وبينهما حزازات غالبًا.
ويفخر الأولون بأنهم أقرب نسبًا ويعتز الآخرون بالخلافة في أيديهم؛ وكان ذلك كله — على كل حال — مصدرًا للاعتزاز ومبعثًا لتقدير الناس، وكانت تُجْرَى عليهم أرزاق خاصة، وتُسند إليهم بعض المناصب الرفيعة كنقابة الأشراف.
ومن المعتزين بالنسب من كان يعتز بأصله من أنه من البيوتات القديمة، كأولاد المهلب بن أبي صفرة الأمير الأموي الكبير، وكانت لهم في هذا العصر العباسي دُور بالبصرة، وتولَّى الوزارة منهم لعضد الدولة البويهي الوزير المهلبي، وسيأتي ذكرُه، وكأولاد البَنويِّين وهم أبناء الخراسانيين الذي حاربوا لإسناد الدولة إلى بني العباس، ومنهم من كان يعتز بنسبه الفارسي إلى بيت من بيوت الملك أو البيوتات العظيمة في الفرس كآل بويه، وقد يكون من هذه الطبقة الأغنياء، وقد يكون منهم من أخنى عليه الدهر بعد العزِّ، فكان فقيرًا يكتفي بالاعتزاز بالنسب.
وهناك طبقة تعتز بمناصب الدولة كالوزراء ورؤساء الدواوين ونحو ذلك، ويعتز بذلك أسرهم وأقاربهم، وهؤلاء في هذا العهد كان اعتزازهم وقتيًّا، فيكونون في القمة حينًا، ثم لا يلبثون أن يكونوا في الحضيض حينًا آخر لكثرة ما يعرض لهم من عزل ومصادرة أموال وقتل وتشريد، ثم طبقة الأغنياء من الإرث والتجارة والأعمال، وقد كانوا نسبيًّا عددًا محدودًا.
وهؤلاء المعتزون بالمنصب يعيشون في ترف مفرط، وهم الذين نعثر في كتب الأدب والتاريخ على وصف بذخهم وترفهم وإسرافهم، ولكنهم لا يمثلون الشعب، ويتبعهم الأوساط يقلدونهم على قدر استطاعتهم، ويطمحون إلى أن يحذوا حذوهم ما أمكنهم دخْلُهم.
وبجانب ذلك اعتزاز بالعلم أو الدين، ولكنه اعتزاز في أوساط خاصة؛ فالعلماء يعتز بهم أمثالهم وتلاميذهم ووسطهم المحدود، وهم يتعزون عن فقرهم بهذا الاعتزاز الأدبي. ورجال الدين من الصوفية والوعاظ والفقهاء كذلك يعتزون في أوساطهم الخاصة، وعند العامة الذين يلتمسون منهم البركة. ثم سائر الشعب بعد ذلك فقير لا يعتز بمال ولا نسب ولا جاه، ويصفهم ابن الفقيه بأنهم «زَبَد جُفاء، وسيل غثاء، لُكَع ولُكَاع، وربيطة اتضاع، همُّ أحدهم طعامه ونومه».
وليسوا كما قال، بل هم عماد الأمة وسوادها الأعظم، ومقياس الرقي الحقيقي لها، وما ذنبهم أن همَّهم طعامهم ونومهم وهم يجدُّون ثم لا يَجِدُون! لقد كان التوازن الاجتماعي في هذا العصر مختلًّا من الناحية المالية، فلا تقارب، وما نجده من وصف الإمعان في الحضارة والإسراف في الترف والتفنُّن في النعيم، إنما هو وصف فئة قليلة العدد، وهي قد أسرفت في الترف على حساب إمعان السواد الأعظم في البؤس، وفي الناحية الخلقية انحلال بين الأغنياء، وتكبُّر وتجبُّر من الساسة وأولي الأمر، وذلَّة وضعة في الفقراء البائسين، وما يروى لنا من عزَّة وإباء، وتمسُّك بالحق وبالفضيلة، فصفات الأقلِّين النادرين.
(١-٣) الرقيق
كثر الرقيق في هذا العصر كثرة بالغة، وامتلأت القصور به، وكان له أثر كبير في الحياة الاجتماعية، فكثر نسل الجواري واختلطت الدماء حتى الخلفاء أنفسهم كانوا في هذا العصر من نسل السراري، قال ابن حزم في «نقط العروس»: «لم يلِ الخلافة في الصدر الأول مَن أمُّه أَمَة حاشا يزيد وإبراهيم ابني الوليد، ولا وليها من بني العباس من أمه حرة حاشا السفاح والمهدي والأمين، ولم يلِها من بنى أمية بالأندلس من أمه حرَّة أصلًا.»
وهذه المحالُّ العامة للمغنيات كان يتردد عليها الناس للسماع، ولم يتحرَّج منها حتى العلماء والأدباء والقضاة والأعيان والصوفية، فابن فهم الصوفي يسمع مغنية اسمها «نهاية» جارية ابن المغني، وابن غيلان التاجر يسمع غناء «بلور» جارية ابن اليزيدي، وأبو الحسن الجراحي القاضي يسمع غناء «شعلة»، وأبو سليمان المنطقي الفيلسوف الكبير وشيخ أبي حيان يسمع غناء صبي موصلي فتن الناس في عصره، وهكذا.
والظاهر من قولهم أن محالَّ الغناء كان منها المتهتِّك الذي يناسب المعربدين، ومنها المتحفظ بعض الشيء الذي يناسب المتحفِّظين.
وما روي لنا يدل على أن الغناء في هذا العصر كان بالشعر العربي السهل القريب المعنى السائغ اللفظ والوزن؛ فقد روي أن قِنْوَة البصرية كانت تغني مثلًا:
و«سندس» تغنِّي:
و«درة» تغنِّي:
وإذا بلغت: «كانت وكنا» زلزلت الأرض «فرأيت الجيب مشقوقًا والدمع منهملًا، ومكتوم السرِّ باديًا».
و«عَلْوة» تغني في «درب السِّلْق» ببغداد:
و«روْعة» جارية ابن الرضى تغني في الرصافة:
وهكذا شعر سهل ومعان قريبة كلها تدور حول العشق والغرام والهجر والوصال.
ومن هؤلاء القيان من كن يتاجرن بالعشق والغناء، فيوقعن في أحبالهن الشبان الموسرين حتى يستنزفن مالهم ثم يلفظنهم. وقد وصف واصف هذه الحالة أدق وصف فقال: «إن القينة منهن إذا رأت في مجلس فتى له غنى وكثرة مال ويسار وحسن حال مالت إليه لتخدعه … ومنحته نظرها وأشارت إليه بكفها، وغمزته بطرفها، وغنَّت على كاساته، ومالت إلى مرضاته، حتى توقع المسكين في حبالها، وتحويه بلطف تملُّقها، وتستعين بالمكر والخداع، ثم ترسل إليه من يخبره عن سهرها وقلقها، وتعبث إليه بخاتمها، وخصلة من شعرها، وكتاب قد نمَّقته بظرفها، ونقطت عليه قطرات من دمعها، وختمته بالغالية والعنبر … حتى إذا حوت عقله، وسلبت قلبه، أخذت في طلب الهدايا من ثياب وحلي، وشكت من غير ألم؛ لتتوالى عليها هداياه، حتى إذا نفد اليسار، وتلق المال، وأحسَّت بالإفلاس أظهرت الملل، وأعلنت البدل، وتبرمت بكلامه، وضجرت بسلامه، وأخذت في الجفاء والعتاب، وصرفت عنها هواه، ومالت إلى سواه.»
وقد قال أحد الشعراء في مثل هذا الوصف:
ونشأ عن هذا جدل في أيهما خير: عشق القيان أو عشق الحرائر؟ فيقول بعض الظرفاء:
ويقول غيره: «عليك بالقيان فإن لهن فطنًا وعقولًا ليست لكثير من النساء.»
كما فلسفوا الكلام في الحُسن، وحاولوا وضع قواعد للجمال، ووجد من يسمَّى «جهابذة النقد» وهم الخبراء في الجمال، قال أبو الفرج: «أكثر البصراء بجواهر النساء الذين هم جهابذة النقد، يقدمون المجدولة التي تكون بين السمينة والممشوقة، ولا بد أن تكون كاسية العظام …» إلخ.
كما تفنَّنوا في دقَّة الفروق بين المغنيات، وفلسفة الغناء، «فَعَلْوَة» أحسن ما تكون إذا رفعت عقيرتها، و«نهاية» إذا اندفعت في شدوها، و«بلُّور» إذا رجَّعت، و«قَلَم» إذا تنوأت في استهلالها، وتضاجرت على ضجْرتها، وتذكرت شجوها الذي قد أضناها وأنضاها، و«سندس» إذا تشاجَت وتدللت وتفَتَّلت وتقَتَّلت وتكسَّرت.
وكان الرقيق صنفين متميزين: صنف أبيض، وصنف أسود ويشمل الحبْشان؛ فالصنف الأبيض كان من الترك والصقالبة، والأرمن واليونان، وكانت أكثر أسواقه سوق سمرقند ويأتي إليها رقيق تركستان وما وراء النهر والبلغار، وسوق شرق أوروبا وهو يخترق ألمانيا إلى الأندلس، وإلى موانئ إيطاليا وفرنسا إلى الشرق، والصنف الأسود كان يجلب من السودان والحبشة وما إليهما.
وكان الرقيق الأبيض أغلى ثمنًا وأكثر قابلية لتعلُّم الفن والموسيقى، وكلما مهرت في فنِّها بولغ في ثمنها، وكانت هناك أسواق في كل مدينة كبيرة للرقيق، سوق كبيرة فيها حُجَر يسكنها الرقيق المعرَّض للبيع، وهذا شأن الرقيق الشعبي، أما الرقيق الخاص الممتاز فيعرضه التجار على الأمراء والأغنياء، أو يعرضونه في بيوتهم الخاصة، كما كان أصنافًا من نساء وفتيان ورجال.
وقد قام هذا الرقيق على اختلاف أنواعه بأعمال كثيرة، وتغلغل في الحياة الاجتماعية؛ فمنهم من كانوا جنودًا وقوادًا تستعين بهم الدولة في حروبها، حتى لقد بلغ بعضهم أرقى المناصب، مثل مؤنس في العراق، وجوهر الصقلي في المغرب ومصر، وكافور الإخشيدي بمصر، وسبكتكين في الأفغان.
ومنهن القيان في محال الغناء العامة، ومنهن أمهات الأولاد، وملك اليمين، يتغلغلن في بيوت الخلفاء والأمراء، والأغنياء والأواسط، ومنهن من يقمن في الخدمة في البيت، وقد يبلغن منزلة عالية.
ومن الرجال الأرقَّاء من يقوم بالأعمال الصناعية والتجارية لسادته، ومنهم طبقة الخصيان، وقد انتشرت في هذا العصر انتشارًا كبيرًا.
وكان الخصاء في البيض والسود، وقلَّ أن كان المسلمون يقومون بالخصاء، ولكنهم يشترونهم بعد أن يُخْصَوا، وقد ارتفعت أثمانهم لتعرُّضهم للموت من هذا العمل.
وكثر في عصرنا الذي نؤرخه استخدامهم في بيوت الخلفاء والأغنياء، حرصًا على النساء، ومنهم من نبغ في القيادة الحربية، كمؤنس القائد، وفائق قائد السامانيين، وبلغ بعضهم منزلة عالية في الإشراف على القصور والحظوة عند الأمراء، كشكر غلام عضد الدولة.
وتفننوا في أسماء الغلمان بما يدل على مقصدهم، فسموا ﺑ «فاتن»، و«رائق»، و«نسيم»، و«وصيف»، و«ريحان»، و«جميلة» — هكذا بأداة التأنيث — و«بشرى».
ومن هذا نرى كيف أثَّر الرقيق أثرًا كبيرًا من الناحية الاجتماعية والحربية والمالية والأخلاقية.
(٢) الأدب وتصوير الحياة الاجتماعية
كان النتاج الأدبي في هذا العصر من نظم ونثر صورة صحيحة للحياة الاجتماعية في غناها وترفها من جانب، وفقرها وبؤسها من جانب، وفي اضطراب الشئون السياسية والحياة الاجتماعية، وفي حياة اللهو وحياة الجد، وفي انحلال الأخلاق، وانغماس الأدباء فيها، ونعي بعضهم عليها، إلى غير ذلك من المظاهر، ولعل خير ما يمثل أدب هذا العصر كتاب «يتيمة الدهر» للثعالبي.
وربما كان أكبر من يمثل كُتَّاب النثر: ابن العميد، وابن عباد، والخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني، وأبو حيان التوحيدي، كما كان أكبر من يمثل الشعر: المتنبي، وابن حجاج، والشريف الرضي، وأبو العلاء المعري، والصنوبري.
لقد كان من أعلام الكتَّاب من هم من الطبقة العليا في المجتمع، كابن العميد، وابن عباد، والوزير المهلبي، والخصيبي، والإسكافي وزير السامانيين، ويلحق بهم أمثال إبراهيم بن هلال الصابي الذي كاد يكون وزيرًا.
فهؤلاء — بحكم جاههم وعزِّهم وترفهم — كان نتاجهم الأدبي مترفًا يتأنق في فنه؛ فأناقة الملبس والمأكل والمعيشة جديرة بأن تحمل أصحابها على التأنق في الأدب، فأدب هذا العصر تقدم خطوات في السجع والمحسنات اللفظية، والمبالغة البلاغية، فالصابي وابن عباد أفرطا في السجع، وكادا يلتزمانه، وغيرهما يسجع وإن كان لا يلتزم، هذا إلى الإمعان في الاستعارات والمجازات والتشبيهات، وتفننوا في تزيين الكتابة تفنن أصحاب الطُّرف فيما يصنعون من حليٍّ وأدوات زينة، وإذ كانوا في مركز رئيسي في الحياة الاجتماعية كان طبيعيًّا أن يكون نتاجهم هو المثل يقلَّد ويحتذى، فمن كان أديبًا فقيرًا تشبه بهم وحذا حذوهم، وهم بذلك قد خلقوا ذوقًا عامًّا في الأدب يستحسن طريقتهم، فجارى الأدباء هذا الذوق، كما تراه عند الثعالبي في كتبه فيما يُنْشِئ وفيما يَرْوي.
وأبو حيان يصف الصاحب ابن عباد بقوله: «كان كلفه بالسجع في الكلام والقلم، عند الجدِّ والهزل، يزيد على كلف كل من رأيناه في هذه البلاد. قلت لابن المسيبي: أين يبلغ ابن عباد في عشقه للسجع؟ قال: يبلغ به ذلك لو أنه رأى سجعة ينحل بموقعها عروة الملك، ويضطرب لها حبل الدولة، ويحتاج من أجلها إلى غرم ثقيل، وكلفة صعبة، وتجشم أمور، وركوب أهوال، لما كان يخف عليه أن يفرج عنها ويخليها، بل يأتي بها ويستعملها، ولا يعبأ بجميع ما وصفت من عاقبتها.»
هذا إلى الإمعان في المبالغة كقول الصابي: «وصل كتاب قاضي القضاة بالألفاظ التي لو مازجت البحر لأعذبته، والمعاني التي لو واجهت دجى الليل لأزاحته وأذهبته.»
ويقول بديع الزمان الهمذاني لرجل طلب إليه نسخة من رسائله: «ولو قدرت جعلت الورق من جلدي، بل من صحن خدي، والقلم من بناني، والمداد من أجفاني.»
وإلى السجع والمبالغة ضروب من التزاويق، ككثرة التشبيه والاستعارة من مثل قول الصاحب في وصف مجلس: «قد تفتحت فيه عيون النرجس، وتوردت فيه خدود البنفسج وفاحت مجامر الأترج، وفتقت فارت النارنج، وانطلقت ألسنة العيدان، وهبَّت رياح الأقداح، ونفقت سوق الأنس، وامتدت سماء الند.»
هذا إلى مثل عمل قطع أدبية خالية من بعض حروف الهجاء، أو تقرأ طردًا وعكسًا … إلخ.
فهذه التزاويق اللفظية صدى للتزاويق في الحياة الاجتماعية، ونرى كثيرًا من الأدب في هذا العصر شكلًا تنقصه الروح، كما كانت الحياة الاجتماعية المترفة كذلك شكلًا بلا روح.
ويتصل بهذا شيوع المقطوعات الشعرية القصيرة بجانب القصائد الطويلة، ويقابله في الموسيقى الميل إلى ما نسميه «الطقاطيق» بجانب «الأدوار».
هذه ناحية، وناحية أخرى وهي قوة أثر الرقيق في الناحية الاجتماعية، وانعكاس صورتها في الأدب؛ فقد ملئ أدب ذلك العصر بوصف القيان والجواري البيض والسود والغلمان، حتى لا نكاد نجد شاعرًا إلا وله شعر في هذا الباب.
فقيل الكثير في وصف الجواري البيض وحسنهن، وكان هذا شيئًا مألوفًا، وسموا النساء البيض الحسان الحُمْر، وقال شاعرهم:
وشبهوهن بالنار من أجل ذلك، ولكن هَامَ بعض الشعراء بالجواري السود ودافعوا عن حبهنَّ، فأكثر من ذلك الشريف الرضي، فقال من قصيدة:
وله قصيدة أخرى في هذا المعنى منها:
وقبله استوفى هذه المعاني ابن الرومي في قصيدة طويلة منها:
وقال السَّلَامي:
وقد قالوا: إن ابن سكرة الشاعر قال في قينة سوداء اسمها «خمرة» عشرة آلاف بيت … إلخ إلخ.
كما تفننوا في وصف القيان وغنائهن وأكثروا، وزعيمهم في ذلك ابن الرومي، كقصيدته في «وحيد» المغنية:
… إلخ.
ويقول في وصف قينة مغنية وراقصة:
وتبعه الشعراء في هذا العصر الذي نؤرخه، وتفننوا في وصف القينات، فقال ابن زريق الكوفي في قينة تسمى «دبسية» حسنة الغناء قبيحة المنظر:
… إلخ إلخ.
والطامة الكبرى ما غشي المجتمع من حب للغلمان ظهر صداه في الأدب.
لقد كان أبو نواس يغنِّي في هذا الباب وحده أو مع فئة قليلة، فلما جاء هذا العصر كان أكثر الشعراء يطرقون هذا الباب، ويفيضون فيه في تحفظ حينًا، وفي استهتار أحيانًا، كأبي تمام والبحتري والصنوبري، وكُشاجم وأبي الفتح البستي وابن حجاج، وابن سكرة، والقاضي التنوخي، والثعالبي، وأبي فراس، والصابي كلهم له أشعار كثيرة في هذا الباب تفننوا فيها، حتى الوزير المهلبي لم يمنعه منصبه أن يقول في مملوك تركي جميل قاد جيشًا لمحاربة بني حمدان:
وكان هؤلاء الغلمان مملوكين كما تملك الجواري، يقومون بالخدمة في البيوت وفي الأعمال التجارية، وهؤلاء الشعراء يتغزلون فيمن يملكون أو يملكه غيرهم. ومن أشهر قصائد ذلك العصر قصيدة سعيد الخالدي التي يصف فيها غلامه بأنه معشوقه، وخازن داره، ومدبر ماله، وناقد شعره، وطاهيه ونديمه، وغدت القصيدة مضرب المثل في هذا الباب:
•••
… إلخ.
بل نرى من هذا ظاهرة غريبة، وهي عدم تحرج ذوي المناصب الكبيرة كالوزراء والقضاة من كثرة القول في هذا الباب، مما يدل على أن الرأي العام قد فتر استنكاره له، وعده من باب الظرافة والمجون إلا في الأوساط المتشددة، كالذي ذكر أبو حيان التوحيدي من أن أبا عبد الله البصري كان يسمع غلامًا يغني:
وظاهرة أخرى وهي أن كثرة المجون، والخلاعة، واللهو واللعب في هذه الأوساط الاجتماعية أنتجت شاعرين يمثلان هذا أشنع تمثيل، وهما: ابن حجاج وابن سكَّرة؛ فابن حجاج قال فيه الثعالبي: «إنه في شعره لا يستتر من العقل بسجف، ولايبني جلَّ قوله إلا على سخف … يمد يد المجون فيعرك بها أذن الحزم، ويفتح جراب السخف فيصفع بها قفا العقل.» وقد استعمل في شعره بعض ألفاظ العوام، وشبَّه أفظع التشبيهات وأشنعها، ومع هذا كله راج شعره رواجًا كثيرًا، فكان يباع ديوان شعره من خمسين دينارًا إلى سبعين، ونفق شعره عند العامة والخاصة «فكانت تتفكه الفضلاء بثمار شِعره، وتستملح الكبراء ببنات طبعه، وتستخفُّ الأدباء أرواح نظمه، ويحتمل المحتشمون فرط رفثه وقذعه … ولقد مدح الملوك والأمراء والوزراء والرؤساء، فلم يُخل قصيدة فيهم من سفاتج هزله، ونتائج فحشه، وهو عندهم مقبول الجملة، غالي مهر الكلام، موفور الحظ من الإكرام والإنعام».
ومثله ابن سكَّرة، قال فيه الثعالبي أيضًا: «فائق في قول المُلَح والظرف، أحد الفحول الأفراد، جار في ميدان المجون والسخف ما أراد.»
ولم يتحرجا من أن يقولا أقبح المعاني في أصرح لفظ، ومع ذلك جرى شعرهما في الناس، واختار الثعالبي منه أخفَّه، وهذا الأخف مقذع شنيع؛ فرواج هذا الشعر أكبر دليل على ما وصل إليه الانحلال الخلقي في هذا المجتمع.
هذه الصورة للأدب تصور الحياة الاجتماعية في نعيمها وترفها، ولهوها ومجونها. وثَمَّ وجه آخر هو الفقر والبؤس والتحايل على كسب العيش انعكست صورته على الأدب أيضًا.
من ذلك أن جماعة رأوا حياة الأغنياء والتجار والأدباء والعلماء في حرج وشدَّة، فالأغنياء يصادَرون، والتجار ترهقهم الضرائب، والأدباء والعلماء لا يجدون ما يأكلون إلا إذا اتصلوا بأمير، فاتخذوا وسيلتهم في كسب العيش التسول عن طريق الأدب الشعبي أحيانًا، والنصْب والاحتيال أحيانًا، ووُجدت طائفة كبيرة من هذا القبيل سُمُّوا الساسانيين أو بني ساسان، أو أهل الكُدية.
وساسان هذا قد رووا فيه أقوالًا مختلفة، فمن قائل إنه ساسان بن أسفندريار، كان من حديثه أنه لما حضر أباه الوفاة فوَّض أمر الحكم إلى ابنته، فأنف ساسان من ذلك، واشترى غنما وجعل يرعاها، وعُيِّر بأنه راعي الغنم، فقيل ساسان الراعي، وساسان الكردي، ثم نسب إليه كل من تكدَّ «تسوَّل» فيقال فلان بن بني ساسان. وقيل كان ساسان ملكًا من ملوك العجم حاربه دارا ملك الفرس، ونهب كل ما كان له، واستولى على ملكه فصار رجلًا فقيرًا يتردد في الأحياء ويستعطي، فضرب به المثل. وقيل إنه كان رجلًا فقيرًا بصيرًا في استعطاء الناس والاحتيال، فنسبوا إليه.
وكانت طائفة يتجول أفرادها في البلاد يستجدون ويحتالون، وكان عند بعضهم مقدرة أدبية يحتالون بها على الناس كشأن ما نسميهم في مصر «الأدباتية»، وعند بعضهم دهاء وحيل لابتزاز المال.
هذه الطائفة كان من صداها في هذا العصر ظهور نوع من الأدب جديد هو مقامات بديع الزمان الهمذاني، ثم الحريري، وكلها حكايات قصيرة تدور كل منها حول حيلة يحتالها رجل لكسب شيء من المال عن طريق التكدي، صيغت في أسلوب أدبي. وكل مقامات البديع بطلها أبو الفتح الإسكندري، وكل مقامات الحريري بطلها أبو زيد السروجي، والبطل يحتال لقنص المال في كل مقامة.
وقد ورد ذكر الساسانيين في مقامات بديع الزمان، وأوضح لنا الحريري في مقامته المسماة بالمقامة الساسانية كثيرًا من البواعث الدافعة على التسول، فقال: «سمعت أن المعايش إمارة، وتجارة، وزراعة، وصناعة، فمارست هذه الأربع؛ لأنظر أيها أوفق وأنفع، فما أحمدت منها معيشة، ولا استرغدت عيشة، أما فرَص الولايات، وخُلَس الإمارات، فكأضغاث الأحلام، والفيء المنتسِخ بالظلام، وناهيك غصة بمرارة الفِطام، وأما بضائع التجارات فعرضة للمخاطرات، وطُعمة للغارات، وما أشبهها بالطيور الطائرات، وأما اتخاذ الضياع، والتصدي للازدراع، فمنهكَة للأغراض، وقيود عاتقة عن الارتكاض، وقلما خلا ربها عن إذلال، أو رُزق رَوْح بال، وأما حِرَف أولي الصناعات فغير فاضلة عن الأقوات، ولا نافقة في جميع الأوقات … ولم أر ما هو بارد المغنم، لذيذ المطعم، وافي المكسب، صافي المشرب؛ إلا الحرفة التي وضع ساسان أساسها، ونوَّع أجناسها، وأضرم في الخافقين نارها، وأوضح لبني غبراء منارها … إذ كانت المتجر الذي لا يبور، والمنهل الذي لا يغور … وكان أهلها أعز قبيل، وأسعد جيل، لا يرهقهم مسُّ حيف، ولا يقلقهم سلُّ سيف … ولا يرهبون ممن برق ورعد، ولا يحفلون بمن قام وقعد … أينما سقطوا لقطوا، وحينما انخرطوا خرطوا، لا يتخذون أوطانًا، ولا يتقون سلطانًا.»
ثم بيَّن شروط النجاح فيها، وقال: إنها تحتاج إلى النشاط والحركة، وإلى الفطنة، وإلى القحة، وإلى المكر والحيلة، وروى أنه كان مكتوبًا على عصا شيخنا ساسان: «من طَلَب جَلَب، ومن جال نال.» كما أنها تحتاج إلى الخَلْب بصوغ اللسان، وسحر البيان، والصبر، وعدم اليأس، وتفضيل الذَّرة المنقودة على الدرة الموعودة … إلخ.
واشتهر من شعراء بني ساسان في القرن الرابع شاعران كبيران يعاصران البديع، ويسبقان الحريري، وهما الأحنف العكبري، وأبو دلف الخزرجي. فالأحنف كان آدب بني ساسان ببغداد، وقد اشتهر بالظرف والشعر الرقيق في الحرفة الساسانية، كقوله:
ووضع قصيدة دالية في هذه الحرفة يقول فيها:
وأبو دلف كان من الواردين على الصاحب بن عباد في الري، وقد طوَّف البلاد مكديًّا، وحاكى الأحنف العكبري في داليته الساسانية برائية مثلها مطلعها:
ومنها:
… إلخ.
وقد استعمل في هذه القصيدة الألفاظ الاصطلاحية لبني ساسان، وأبان كثيرًا من أنواع حيلهم، وطريقة ابتزازهم أموال الناس، فمن باب استعمال الألفاظ — مثلًا — استعماله دَوَّر إذا دار على السكك والدروب وسخر بالنساء، ورَعَّس بمعنى طاف على حوانيت الباعة، فأخذ من هنا جوزة ومن هنا لوزة؛ «والكَذَّابات» بمعنى العصابات يشدونها على جباههم يوهمون بها أنهم مرضى … إلخ.
واستعمال الحيل مثل إيهام الناس أنه يجمع الصدقة للخروج إلى الغزو، أو يحتال على من أصيب بوجع الضرس فيجعل دود الجبن فيما بين أسنانه ثم يخرجه ويوهم أنه أخرجه بالرقية، أو يتعامى وهو بصير، أو ينظر في الفال والزجر والنجوم، أو يعطي قومًا دراهم حتى يأتوا ويسألوا عن نجمهم تحميسًا للناس أن يحذوا حذوهم … إلخ.
ولهم لغة خاصة وأدب خاص واصطلاحات لا يكاد يفهمها غيرهم، وتسمى «مناكاة بني ساسان».
ولعلَّ المناكاة مفاعلة من نكى بمعنى أتى عملًا لإغضاب الغير وقهره، ومنه «ضعيف النكاية أعداءه»، فيظهر أنه كان من حيلهم أنهم يتهاجون ويتسابون ويتخاصمون تصنعًا حتى يستلبوا مال الناس؛ ولعلَّ المقامة الدينارية في مقامات البديع — التي تمثل رجلين يتسابَّان بأقبح السباب من هذا الضرب — وقد جمع فيها كل سب كان في عصره من مثل: يا برد العجوز، يا وسخ الكوز، يا درهمًا لا يجوز، يا سَنَة البوس، يا كوكب النحوس … إلخ. فردَّ عليه الآخر بقوله: يا قَرَّاد القرود، يا لَبود اليهود، يا عدمًا في وجود … إلخ. وقد ذكر البديع في هذه المقامة أنهما كانا من بني ساسان.
فترى من هذا أن الضرب من الحفاة الذي جرَّ إليه سوء الحالة الاقتصادية، وعدم التوازن الاجتماعي، والإفراط في البؤس بجانب الإفراط في الترف، قد انعكست صورته على الأدب، فأخرج المقامات وغيرها من أدب التكدي، كما أخرج شعرًا كثيرًا في شكوى الزمان وسوء الحال، من مثل ما نراه في شعر ابن لَنْكَك البصري كقوله:
وقوله:
وقوله:
… إلخ إلخ.
وله في ذلك الشيء الكثير بين جدٍّ وهزل.
•••
وكانت في هذا العصر مجموعة من الشعراء تمثل صور الحياة الاجتماعية المختلفة؛ فالصَّنَوْبري الحلبي يمثل الترف والنعيم والعيش الرغد، ينعم بالقصر الفخم والحديقة الغناء، ويتغنى بجمال الأزهار وجمال الطبيعة، فله شعر في الورد، وشعر في حديقة يعتز بها ويقول فيها:
وقطع في وصف الورد والنرجس والأقحوان والنمام والسوسن والشقيق والبنفسج والياسمين … إلخ، ثم غزل قليل.
ويقيم مناظرة بين الورد والنرجس فيقول:
والذي مكَّن له في هذا غناه؛ فقد كان له بمدينة حلب قصر فخم حوله الغروس والرياحين وشجر النارنج، إلى ذوق فني يغني في جمال الأزهار.
يقابله الشاعر ابن لنكك الذي يصور البؤس والفقر وعبث الأقدار، وقد قال فيه الثعالبي: «كانت حرفة الأدب تمسه وتجمشه، ومحنة الفضل تدركه فتخدشه، ونفسه ترفعه، ودهره يضعه.» فأفاض في شكوى الزمان، وجوده، وعجائبه:
وقد سبق أن ذكرنا بعض شعره في هذا الباب.
وإذا كانت الحياة الاجتماعية بين بائس ومجدود، غنى ذلك نغمةً مرحة في ترفه ونعيمه وزهوره، وغنى هذا نغمة حزينة في بؤسه وفقره وخذلان زمانه له.
والمتنبي يمثل في مجتمعه ما كان من أحداث في الحروب بين الحمدانيين والروم؛ فقد كان شاعر سيف الدولة، وكان شاعرًا فارسًا يغشى الحروب مع سيف الدولة، ويسجل حوادثها تسجيلًا أدبيًّا في النصر والهزيمة، والضرب والطعان والأسر والسبي، فشعره في هذا لمعمعة القتال والمعيشة الحربية.
ثم هو يمثل الأدب الأرستقراطي، فهو يمثل الأدب الذي يعيش على موائد الملوك، فلم يكن يمدح إلا ملكًا أو شبه ملك، وقد ترفع عن مدح الصاحب بن عباد وهو ما هو في منزلته وجاهه. فشعره ينقسم إلى سيفيات في سيف الدولة، وكافوريات في كافور، وعضديات في عضد الدولة؛ ولكنه في مديحه هذا يرفع نفسه إلى مرتبة من يمدحه، فيكون صديقًا أو حبيبًا لا عبدًا مستجديًا؛ فيقول في كافور:
ويقول في ابن العميد:
وفي سيف الدولة:
•••
ونَقَد المجتمع نقدًا مرًّا؛ ولكن لا من ناحية أنه لم يجد ما يأكل كابن لنكك، ولا من ناحية أن مجتمعه في نفسه فاسد كأبي العلاء، ولكن من ناحية أنه وازن بين نفسه وكفايتها في الحرب والأدب وطلب المجد، وبين ملوك زمانه وأمرائه، فرأى أنه أحق بالملك أو بالإمارة منهم، فهجا المكان والزمان والدنيا:
•••
•••
•••
•••
ويرى علة فساد المجتمع فساد ملوكه، ولا يصلح للعرب إلا ملوك من العرب، وهو يرشح بذلك لنفسه:
•••
فهو بذلك كله ينقد المجتمع ويذم الدهر من ناحيته الشخصية، وهو أنه لم يُنله مقصده.
كما أنه يمثل مجتمعه من ناحية أخرى دقيقة؛ فقد كان في الشام والعراق ومصر بدو وحضر، وتثقف المتنبي ثقافة بدوية وحضرية، وأقام في البدو حينًا وعاش عيشتهم واستفاد من ألفاظهم وأساليبهم، ثم خالط سيف الدولة وكافورًا وعضد الدولة، وأكل على موائدهم، ورأى ترفهم نعيمهم، فكان لذلك صدى في شعره؛ فهو بدوي حضري: بدوي في لفظه وأسلوبه وقوته وجزالته، وفي كثير من معانيه وأوصافه كوصف الخيل والسلاح، حضري في بعض معانيه كوصف الفازة من الديباج عليها صورة ملك الروم وصور وحش وحيوان، ويصف بطيخة من الند في غشاء من خيزران عليها قلادة لؤلؤ وعلى رأسها عنبر قد أدير حولها … إلخ.
ويحن إلى الأعرابيات، ويتشبب بهن، ويفضلهن على الحضريات:
•••
فهو يمثل أيضًا ما كان في عصره من بداوة وحضارة، وبساطة في العيش وتركيب.
وابن حجاج، وابن سكَّرة يمثلان الأدب الشعبي، وحالة العصر في مجونه وهزله، وفساده وانحطاطه، وأدبه المكشوف الذي لا يرعى خلقًا ولا ذوقًا، فكل لفظة مهما تعرَّت وسقطت صالحة لأن تكون في الشعر، وأن تقال في حضرة الملوك والوزراء والقضاة، وتختار فيما يختار للمتأدبين، كما فعل الثعالبي في اليتيمة، وقد سبق بعض القول فيهما.
والشريف الرضي يمثل طبقة الأشراف المثقفة الواسعة العلم، المعتزة بجاهها ونسبها ومنصبها، تعيش عيشة الترف، وتجالس الخلفاء والوزراء من ناحية، وتتصل بحكم منصبها بالشعب — إذ كان نقيب الأشراف — من ناحية أخرى.
فيقول الشعر اعتزازًا بالجاه والنسب، ويخاطب الخليفة القادر:
وهو لمركزه يقيد كثيرًا من أحداث التاريخ العظمى التي شاهدها، وقد شاء القدر أن يكون في مجلس الخليفة الطائع يوم فتك الفرس به، كما كان البحتري في مجلس المتوكل يوم فتك الترك به، وخرج هذا — كما خرج ذاك — هائمًا، وقال «الشريف» في ذلك قصيدته التي مطلعها: «لواعج الشوق تخطيهم وتصميني» وقد تقدمت نبذة منها. وله في ذلك قصيدة أخرى منها:
•••
وقال قصيدته الأخرى:
•••
•••
… إلخ.
وقد كانت ثورة البحتري أقوى وأصرح وأعنف، إذ لم تكن النفوس اعتادت «التقية» من كثرة ما أصابها من ظلم.
هذا إلى ما يسجله من أحداث كثيرة من رجال الدولة البويهية.
كما أنه كان شاعر الشيعة يشكو الزمان لعدم إنصافهم، ويعدد مزاياهم واستحاقهم، ويرثي لما أصابهم، ويرثي الحسين … إلخ، فهو لسان العلويين والطالبيين، وباعث الأمل فيهم في استرداد حقوقهم، ونيل ما فاتهم.
ثم له الناحية الخاصة في حياته، التي يمثل في شعره فيها حياة الأدباء والظرفاء الموسرين من غزل في الحرائر والإماء، من مثل قوله:
وفي الغلمان على عادة عصره، مثل قوله في غلام لا يحسن التكلم بالعربية:
وله الأبيات الكثيرة في وصف الزهور، والسماء والنجوم، وحمامة وفرخيها، والبرق والفجر … إلخ.
ويظهر أنه كان ضعيف الصحة، مصابًا بالأمراض، ومعرَّضًا للأخطار، فارتاع من الشيب وأكثر من وصفه، وأجاد في مراثي أصدقائه وأقربائه إجادة فائقة، وقد كان صديقًا لكثير من علماء عصره وأدبائهم سبقوه إلى الموت، فخلَّد عواطفه نحوهم في شعر رقيق.
وأبو العلاء المعري في لزومياته ناقد للمجتمع لا لما جناه المجتمع على شخصه كما فعل المتنبي، ولكن لما جناه المجمتع على نفسه.
فالملوك في وضعهم الحقيقي خدَّام الرعية، ولكنهم بالفعل ظالموها ومستغلُّوها:
وهؤلاء الولاة المسيطرون على الناس لا عقل لهم، ولا عدل عندهم، شياطين في ثياب ولاة، لا يهمهم جوع الناس إذا ملئت بطونهم، وخَمِرت رؤوسهم:
وحول هؤلاء الولاة بطانة قد جمدت عواطفهم كأنها الحجارة أو أشد قسوة، لا يرحمون دمعة مظلوم، ولا يجيبون صرخة مستغيث:
والقضاة لا عقل ولا عدل:
وفقهاء، صناعتهم الكلام ولا روح ولا أحلام:
ووعَّاظ، يقولون ما لا يفعلون، ويأتون ما ينكرون:
وشعراء، ليسوا إلا لصوصًا يعدُون على من قبلهم في سرقة أقوالهم، ويعدون على الأغنياء بمديحهم لسلب أموالهم:
وقوم تسودهم الخرافة فيلجئون إلى المنجِّمين والعرَّافين والمعزِّمين، وما لهؤلاء من علم، ولكنها شباك تنصب لاستدرار الأموال من المغفَّلين والمغفَّلات:
•••
•••
وبعد أن نقدهم طبقات، من الملوك إلى القضاة إلى الوعاظ إلى التجار إلى النساء، نقدهم جملة، فكل الناس في كل زمان ومكان لا يصلحون إلا للفناء:
•••
•••
وسبب فسادهم أنهم منحوا العقل فلم يُصغوا إليه ولم يلتفتوا له، وتجاذبَهم عقلٌ يُرْشد وطبعٌ يُغْوِي، فجروا وراء طبعهم وأهملوا عقلهم:
•••
•••
•••
•••
وهكذا أفاض في نقد المجتمع ومظاهره ونظمه وأخلاقه، وكان في كل ذلك موفقًا كل التوفيق، ومظهر توفيقه أنه استطاع في مهارة أن يدرك عيوب المجتمع في جملتها وتفصيلها، ويعالج ظواهرها، ويعمق في النفس الإنسانية في دقة وتحليل، فيصل إلى دخائلها.
وأبو حيان التوحيدي يمثل في أدبه وكتابته علاقة الأدباء والعلماء بالولاة والوزراء والأغنياء، فإن أُعطوا حسنت حالهم، وإلا ساء عيشهم، إذ لا مورد آخر لهم. وقد كان أبو حيان غير موفق في استجدائه؛ ولعل سبب ذلك أنه لم يكن لبقًا ولا ماكرًا إلى طول لسان، وإقذاع في الهجو لمن لا يعطيه، فعاش بائسًا فقيرًا، ومثَّل ذلك في أدبه فيقول: «فقدت كل مؤنس وصاحب، ومرفق ومشفق، ووالله لربما صليت في المسجد، فلا أرى إلى جنبي من يصلي معي، فإن اتفق فبقال أو عصار أو نداف أو قصاب، ومن إذا وقف إلى جانبي أسدرني بصنانه، وأسكرني بنتنه؛ فقد أمسيت غريب الحال، غريب النحلة، غريب الخلق، مستأنسًا بالوحشة، قانعًا بالوحدة، معتادًا للصمت، ملازمًا للحيرة، محتملًا للأذى، بائسًا من جميع ما ترى، متوقعًا ما لا بد من حلوله، فشمس العمر على شفا، وماء الحياة إلى نضوب، ونجم العيش إلى أفول.»
وقد خاب ظنُّه فيمن أملهم من مثل ابن العميد، وابن عباد، وابن سعدان، وأبي الوفاء البوزنجاني، فملأ كتبه: «الصداقة والصديق»، و«الإمتاع والمؤانسة»، و«المقابسات» بالشكوى منهم، ثم لم يحظ بطائل.
هذا هو الأدب في ذلك العصر يصور المجتمع في شتى نواحيه.