الفصل الأول

مصر والشام

توالى على مصر والشام في هذا العهد الدولة الطولونية (٢٤٥ﻫ–٢٩٢ﻫ)، ثم الإخشيدية (٣٢٣ﻫ–٣٥٨ﻫ)، والدولة الحمدانية في حلب والموصل (٣١٧ﻫ–٣٩٤ﻫ)، والفاطمية من (سنة ٣٦٢ﻫ–٥٦٧ﻫ).

وكانت الحركة العلمية فيها تنمو تبعًا لسنَّة النشوء والارتقاء.

وأظهر الحركات العلمية فيهما الحركة الدينية من تفسير وحديث وفقه وقراءات؛ إذ كانت هي الحركة العلمية الغالبة في المملكة الإسلامية، وكان رجالها أنشط العلماء، وأميلهم إلى الرحلة للإفادة والاستفادة؛ للوازع الديني القوي عندهم، فكان يرِد على مصر والشام كثيرون من العلماء الدينيين من العراق وفارس والحجاز والمغرب، فينشرون علمهم ويأخذون ما ليس عندهم، فكان مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط، ومسجد أحمد بن طولون، والأزهر فيما بعد مصدرًا لثقافة دينية واسعة. كما كان المصريون والشاميون يرحلون إلى الأقطار الأخرى لأخذ العلم من علمائها.

فكان من أشهر المحدِّثين والفقهاء في العهد الطولوني وقبله: الربيع بين سليمان المرادي بالولاء، وقد امتاز بسعة الحفظ وجمع الرواية، وإن لم يمتز بالذكاء، له الفضل الأكبر في حفظ مذهب الشافعي وروايته؛ فقد كان تلميذه، وكان مقرَّبًا إليه، وقد نفعته قلة ذكائه في اعتماده على الضبط والتثبُّت أكثر مما يعتمد على الذكاء والاستنتاج، وأدرك الشافعي هذه الميزة فيه فقرَّبه إليه، وعني بتحميله علمه، وأفاد مصر كثيرًا فإنه عُمِّر طويلًا، إذ عاش نحو ست وتسعين سنة (١٧٤ﻫ–٢٧٠ﻫ)، فيكون قد عمر في العهد الطولوني نحو ستة عشر عامًا. وكان يدرِّس في جامع الفسطاط، ثم استدعاه أحمد بن طولون إلى التدريس في مسجده لما بناه، وقد نشر في مصر أحاديث الشافعي وفقهه، كما روى أحاديث كثيرة رواها عن غير الشافعي كعبد الله بن وهب، ويحيى بن حسان، وأسد بن موسى، وكان قبلة أنظار المحدِّثين من الأقطار المختلفة، فيرحلون إلى مصر يأخذون عنه وعن أمثاله، فروى عنه من جامعي الكتب الصحيحة أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجَة، وغيرهم، وعلى الجملة فكان الربيع بن سليمان مصدر حركة علمية دينية كبيرة.

وكما كان الربيع بن سليمان إمام الشافعية في مصر، كان أبو جعفر الطحاوي إمام الحنفية فيها، وكان من طحا وهي بلدة قديمة كانت في الوجه القبلي من أعمال «المنيا». كان الطحاوي من عرب الأزد الذين نزلوا بها، وتفقه على خاله المزني صاحب الشافعي، ثم تحول إلى مذهب أبي حنيفة، وتعلم على من كان بمصر من العلماء، ومن دخلها من الغرباء، وكان مجتهدًا في المذهب يضارع أبا يوسف ومحمدًا، استفاد من جمعه بين فقه الشافعية والحنفية، فكان يجتهد، ويخالف أبا حنيفة عند قيام الدليل، وينقد الحديث نقد معنى وإن صح السند في نظر المحدِّثين، فكانت شخصيته غير شخصية الربيع بين سيلمان، إذ كان هذا عمدة في الرواية، وذاك عمدة في الدراية. وكان من أسبق المؤلفين المصريين في فنون مختلفة: ألف «معاني القرآن»، و«مشكل الآثار»، وشرح بعض كتب محمد بن الحسن، وألف في التاريخ والنوادر الفقهية. عاش من سنة ٢٢٩ﻫ–٣٢١ﻫ، فعاصر الدولة الطولونية كلها، وترك في مصر حركة حنفية تساير حركة الربيع الشافعية، وتمتاز بإعمال العقل في التشريع بجانب النقل.

كما اشتهر من المالكية روح بن الفرج أبو الزنباع الزبيري المتوفى سنة ٢٨٢ﻫ، وأحمد بن الحارث بن مسكين المتوفى سنة ٣١١ﻫ. وأمثال هؤلاء كثيرون لا نطيل بذكرهم.

وهذه الدراسة كانت تعتمد على تفهُّم معاني القرآن ورواية الحديث، وأقوال الأئمة، واستنباط الأحكام، كل على أصول مذهبه، وكانت على نمط الدراسة في العراق موضوعًا ومنهجًا؛ إذ كانت رحلة العلماء في حركة مستمرة كأن المملكة الإسلامية كلها على اتساع رقعتها بقعة واحدة.

وكان النابغون في مصر من علماء الدين إما من أصل عربي يرجع نسبه على القبائل العربية الفاتحة أو الوافدة، أو من أصل مصري أصله قبطي وأسلم هو أو أسلم أجداده، كما نرى في عثمان بن سعيد الملقب بوَرْش أحد القراء المشهورين؛ فأصله قبطي، وانتهت إليه رياسة الإقراء بالديار المصرية، وقد مات بمصر سنة ١٩٧ﻫ، وخلَّف من حمل عَلَم القراءة بعده، واستمرت حركته إلى هذا العصر الذي نؤرِّخه.

وربما كان أكبر من يمثل الثقافة الدينية في هذا العصر أيضًا أبو بكر بن الحداد، فقد وصفوه بأنه عالم بالقرآن والحديث، والأسماء والكنى، والنحو واللغة، وسِيَر الجاهلية، والشعر والنسب، واختلاف الفقهاء، وكان أعلم أهل وقته، وولي القضاء للإخشيد، وعاش تسعًا وسبعين سنة، ومات سنة ٣٤٤ﻫ، وكان يلقَّب بفقيه مصر وفصيحها وعابدها، وكان يدرِّس في جامع عمرو، وأخذ عنه أعلام الجيل الذي بعده.

ويصف ابن زولاق سيبويه المصري، فيقول: «كانت فيه صفات تشبه المتصدِّرين: يحفظ القرآن، ويعلم كثيرًا من معانيه وقراءاته، وغريبه وإعرابه وأحكامه، عالمًا بالحديث وبغريبه ومعانيه وبالرُّوَاة، ويعرف من النحو، والغريب ما لقِّب بسببه سيبويه، ويعرف صدرًا من أيام الناس، والنوادر والأشعار، وتفقَّه على قول الشافعي.»

فيكاد يكون هذا برنامجًا عامًّا لهذا النوع من الثقافة الدينية.

ولم تكن هناك مدارس في العهد الطولوني والإخشيدي، إنما تلقى الدروس في المساجد كمسجد عمرو، وابن طولون، وفي بيوت الأمراء والوزراء والعلماء، وكانت هناك سوق تسمى «سوق الورَّاقين» تباع فيها الكتب، وأحيانًا تدور في دكاكينها المناظرات.١
وكان بجانب الحركة الدينية حركة تعنى بتدوين أحداث مصر وتاريخها، وتسلك في منهجها مسلك المحدِّثين، غاية الفرق أن المحدِّثين يجمعون ما روي عن رسول الله والصحابة والتابعين فيما يتعلق بالأحكام الدينية ونحوها، وهؤلاء يروون ما قيل في أحداث التاريخ، إنما الأسلوب واحد في الرواية؛ رجلًا عن رجل «حدثنا فلان عن فلان قال»، وقد لا يدقِّقون في هذا الباب دقَّتهم في باب الأحاديث الدينية؛ ولذلك نرى من تخصص في التاريخ أيضًا ممن كانت دراستهم أساسها الحديث والفقه، ولْنَسُق مثلًا لذلك: «حدثنا أبو الأسود النضر بن عبد الجبار، قال: حدثنا ابن لهيعة عن يزيد بن أبي حبيب قال: كان عمر بن الخطاب قد أشفق على عمرو بن العاص عند فتحه لمصر فأرسل الزبير في أثره في اثني عشر ألفًا، فشهد معه الفتح.»٢ والمؤرخون من هذا النوع أوثق فيما نقلوه عن الفتح الإسلامي وبَعده؛ منهم فيما نقلوه عن تاريخ قبل الفتح، فهذا مملوء بالخرافات لجهلهم بالمصادر الصحيحة في تاريخ اليونان والرومان ومن قبلهم إلى قدماء المصريين.
وقد اشتهر من هؤلاء ثلاثة مؤرخين في هذا العصر:
  • (١)
    ابن يونس: وهو أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى من بيت عرف بالحديث والفقه، عربي الأصل من قبيلة الصَّدِف، كان جده من أصحاب الشافعي، وقد قال فيه الشافعي: «ما رأيت بمصر أعقل من يونس.» وانتهت إليه رياسة العلم بمصر، فجاء حفيده هذا يعنى بتاريخ مصر بعد أن تثقَّف بالفقه والحديث، وقرأ ما كتبه مؤرِّخو مصر قبله كابن عبد الحكم وغيره، وقد عاش في العهد الطولوني والإخشيدي، عاش من (٢٨١ﻫ–٣٤٧ﻫ)، ووُجدت عنده العصبية لمصر يؤرِّخها ويعنى بحوادثها ورجالها، وقد جمع لها تاريخين: أحدهما — وهو الأكبر — يختصُّ بالمصريين منشأ، والآخر صغير فيمن ورد على مصر من الغرباء، وقد عني بجمع أحوال الناس، مطَّلعًا على ما ألِّف فيها لعصره، واشتهر بين المصريين بذلك، فقد قال أحد شعرائهم في رثائه:
    ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبه
    حتى رأيناك في التاريخ مكتوبًا
    نشرت عن مصر من سكانها عَلَمًا
    مبجلًا بجمال القوم منصوبا
    كشفت عن فخرهم للناس ما سجعت
    وُرْق الحمام على الأغصان تطريبا
    أعربت عن عَرَب، نقبت عن نخب
    سارت مناقبهم في الناس تنقيبا
    أنشرت ميتهم حيًّا بنسبته
    حتى كأنْ لم يمت إذ كان منسوبًا

    ومهما كان هذا الشعر ضعيفًا، ففيه دلالة على تقدير هذا المؤرخ واتجاهه في نشر مفاخر مصر ورجالها.

  • (٢)
    الكندي: محمد بن يوسف من كندة، كان من أعلم الناس بتاريخ مصر، وأهلها وأعمالها وثغورها، وهو مصري نشأ بمصر ومات بها (٢٨٣ﻫ–٣٥٠ﻫ).

    وقد ثقف ثقافة محدِّثين، وكان أشهر أساتذته ابن قُدَيد، والنَّسائي أحد مؤلفي الصحاح، وقد زار النسائي مصر إذ كان عمر الكندي سبعة عشر عامًا، وأقام بها زمنًا فأخذ عنه الكندي، ثم عني بتاريخ مصر، وألف في ذلك كتبًا كثيرة، فألَّف في ولاة مصر وقضاتها — وقد وصل إلينا هذا الكتاب — وألف في خطط مصر، وكتابًا في موالي مصر، وقد كانت هذه الكتب مما اعتمد عليها المقريزي في خِطَطه. وكتابه الذي وصل إلينا عن قضاة مصر وولاتها يلقي لنا ضوءًا كبيرًا على حالة مصر السياسية والاجتماعية والأدبية، إذ يعرض للأحداث التي حدثت في عهد كل والٍ، وكيف تصرف فيها، وما قيل فيها من الشعر.

  • (٣)
    ابن زولاق: وهو الحسن بن إبراهيم الليثي بالولاء. عني كذلك بتاريخ مصر، فأكمل أخبار قضاة مصر للكندي إلى سنة ٣٨٦ﻫ؛ أي قبل وفاته بسنة، فقد مات سنة ٣٨٧، وعني بخطط مصر فألف فيها، وكانت خططه أساسًا لمن أتى بعده من مؤلفي الخطط كالقضاعي، وابن بركات، ثم المقريزي.

    كما ألف لنا كتابًا في أخبار سيبويه المصري أحد عقلاء المجانين، فروى لنا طرفًا من جيد أقواله، وغريب أحداثه، وأفادنا به فوائد كثيرة عن الحالة الاجتماعية في العهد الإخشيدي.

    وجاء مصر في العصر الإخشيدي المؤرخ المشهور «المسعودي» بعد أن رحل إلى فارس والهند، وسيلان والصين، وطاف المحيط الهندي، ورحل رحلة أخرى إلى ما وراء أذربيجان وجرجان، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر، ونزل الفسطاط وأقام بمصر نحو سنتين إلى أن توفي سنة ٣٤٦ﻫ، وكان مؤرخًا ممتازًا على من سبقه بكثرة تجاربه من رحلاته ومشاهداته، ودقة نظره، وسعة اطلاعه، والتفاته إلى آفاق واسعة في التاريخ، كالحياة الاجتماعية والاقتصادية، والمذاهب الدينية، وأصول الحضارة، وغير ذلك، وقد بَعُد في التاريخ عن أسلوب المحدثين، فانتقل به خطوة أخرى، ولا شك أن وجوده بمصر ونشر كتبه فيها كان له أثر كبير في الثقافة التاريخية.

وانتقلت من العراق إلى مصر صورة من خلافات المتكلِّمين، وذلك على أثر أمر المأمون بأخذ العلماء والقضاة بالقول بخلق القرآن، وإرسال منشور لولاة الأمصار بتنفيذ ذلك، فجاء المنشور مصر في جمادى الثانية سنة ٢١٨ﻫ، فامتحن والي مصر قاضيها، فقال بخلق القرآن، وامتحن الشهود والمحدثين، وكانت الحركة عنيفة عذِّب فيها خلق كثير، وخاصة في عهد الواثق. قال الكندي: «إن أمر المحنة — محنة خلق القرآن في مصر — كان سهلًا في ولاية المعتصم، لم يكن الناس يؤاخذون بها شاءوا أو أبوا حتى مات المعتصم، وقام الواثق سنة ٢٢٧ﻫ فأمر أن يؤخذ الناس بها، وورد كتابه على محمد بن أبي الليث — قاضي مصر — بذلك، وكأنها نار أضرمت … فلم يبق أحد من فقيه ولا محدث، ولا مؤذن ولا معلم، حتى أخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس، وملئت السجون ممن أنكر المحنة. وأمر ابن أبي الليث بأن يكتب على المساجد: «لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق»، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المسجد، وأمرهم ألا يقربوه.»

وكان طبيعيًّا أن تثير هذه المسألة في الجو المصري الجدل في الاعتزال وأصوله، واعتنقه قوم ورفضه آخرون. ولما جاء المتوكل وأغلق هذا الباب ظل قوم يعتنقون مذهب الاعتزال، ويدعون إليه في العصر الطولوني والإخشيدي، ولكن في شيء من الخفية، فيذكر ابن زولاق أن أبا علي محمد بن موسى القاضي الواسطي كان وجه المتكلمين بمصر، وكان يعلِّم الاعتزال، وأنه كان بها أبو عمران موسى بن رباح الفارسي أحد شيوخ المعتزلة،٣ وأن سيبويه المصري كان معتزليًّا، وكان يتكلم على أصول المعتزلة، ويقول بخلق القرآن، والناس يحتملون منه ما لا يحتملونه من سواه للوثة كانت فيه.

وكل ذلك في العهد الإخشيدي.

ثم ظهر في جو مصر مظهر ديني من نوع جديد على يد ذي النون المصري أحد مؤسسي التصوُّف، والذي أحدث ضربًا من الكلام لم يعرف قبل في مصر، أصله من إخميم من صعيد مصر من أبوين نوبيَّين، وأخذ العلم المعروف في مصر من حديث وفقه، ووصف بأنه كان يعرف الكيمياء، ويقرأ الخط الهيروغليفي على البرابي، ورحل إلى بلاد كثيرة كتاهرت بالمغرب، وبيت المقدس وأنطاكية، واليمن وبغداد، ومكة والمدينة، وقابل الرهبان وتحدث إليهم، ثم طلع على الناس في مصر بكلام لم يألفوه، من الكلام في الأحوال والمقامات والحب الإلهي، وأن مصادر المعرفة العقل والنقل، وشيء آخر زاده هو وهو الكشف، وأن هناك علمًا ظاهرًا، وعلمًا باطنًا، ويعرض هذه الأقوال في أسلوب شعري جذاب.

وطبيعي أن تلاقي هذه التعاليم معارضة من الفقهاء الذين لا يؤمنون إلا بالنقل فإن تجاوزوه فبالعقل، أما الكشف وعلم الباطن والحب والفناء فشيء لم يسمعوا به فعارضوه، وكان على رأس المعارضين عبد الله بن الحكم شيخ المالكية، وابن أبي الليث قاضي مصر الحنفي القوي الجبار، فكلاهما لم يرض عن ذي النون وتعاليمه، فاضطهد واتهم بالزندقة، وأخيرًا أرسل إلى دار الخلافة ببغداد فسجن في المطبق، ولكن مساعي الصوفية ببغداد واتاصلهم برجال المتوكل جعلت المتوكل يستدعيه ويسمع منه ويتأثر بمواعظه، فيرسله إلى مصر مكرَّمًا، ويعيش بعد ذلك تسع سنوات ينشر فيها تعاليمه آمنًا مطمئنًّا حتى يموت سنة ٢٤٥ﻫ.

ومن ذلك الحين وجدت بمصر الحركة الصوفية، وقويت حتى كان لها دخل في عزل بعض الولاة. وتتابع في مصر بعد ذي النون أقطاب الصوفية، مثل أبي الحسن بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد الجمال، أصله من واسط، وصحب الجنيد ووفد على مصر، ورأس الحركة الصوفية، وأنكر على ابن طولون تصرفاته، وأمَره بالمعروف ونهاه عن المنكر في غير مبالاة، فرووا أنه قدمه لأسد فلم يؤذه فشاع ذكره في مصر، ولما مات خرج في تشييع جنازته أكثر أهلها. ومن كلامه: «أجَلُّ أحوال الصوفية الثقة بالمضمون، والقيام بالأمر، والمراعاة للسر، والتخلي من الكونين، والتعلق بالحق.» مات بمصر سنة ٣١٦ﻫ.

هذه هي الحركة الدينية في مظاهرها المختلفة، وبجانبها كانت حركة لغوية ونحوية عني بها؛ لأنها مفتاح لفهم القرآن والسنة، وأداة لفهم الأحكام، وقد نبغ في هذا العصر ابن ولَّاد، وأبو جعفر النحاس.

فأما ابن ولَّاد أحمد بن محمد بن الوليد فمصري أصله من تميم، وكان من أسرة عرفت بالنحو هو وأبوه وجدُّه، وقال عنه المبرد: إنه شيخ الديار المصرية في العربية، وقد درس النحو ببغداد على الزجَّاج، ثم أتى مصر ينشر النحو على طريقة العراق، وألف كتاب «الانتصار لسيبويه»، وكتاب «المقصور والممدود»، وهو يذكر فيه ما ورد من الكلام مقصورًا وممدودًا، فيقول — مثلًا: الأُنَى: واحد ساعات الليل، مقصور يكتب بالياء … وإنَى الشيء: بلوغه وإدراكه، كذلك مقصور، قال تعالى: إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ؛ أي بلوغه وإدراكه … وأما الأناء بفتح أوله فممدود، وهو الانتظار والتأخير، قال الحطيئة:

وآنيت العشاء إلى سُهَيل
أو الشِّعرى فطال بي الأناء

والأناء: واحد الآنية، والأناة: من قولهم: رجل ذو أناة. وهي التؤدة، قال النابغة: «الرفق يُمْن والأناة سعادة.»

ويقال: امرأة أناة، وهي التي فيها فتور عند القيام، والأصل: وناة؛ لأنها من ونَى يني، قال تعالى: وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي.

وهكذا يأتي بكل الكلمات اللغوية التي ورد فيها القصر والمد، ويشرحها ويستشهد لهُ ويصرِّفها، وهو اتجاه لغوي طريف.

مات سنة ٣٣٢ﻫ في الدولة الإخشيدية.

وأما أبو جعفر النحاس فمصري عربي الأصل من مُرَاد، وقد تعلَّم النحو كذلك في العراق، وأخذ عن الأخفش الصغير والمبرِّد والزجَّاج، وكان هو وابن ولاد متعاصرين، زميلين في التعلم ببغداد وفي التعليم بمصر. وقد ألف «إعراب القرآن»، و«معاني القرآن»، و«المبهج في اختلاف البصريين والكوفيين»، و«وشرح المعلقات»، و«شرح المفضليات»، و«شرح أبيات الكتاب» — كتاب سيبويه — و«الاشتقاق»، و«أدب الكُتَّاب» … إلخ.

فكانا بعلمهما مصدرًا لحركة قوية لغوية ونحوية في مصر، وتعلَّم عليهما كثيرون. وقد مات النحاس سنة ٣٣٨ﻫ بعد ابن ولاد بست سنوات.

وقد ذكر لنا المتنبي في شعره في كافور أنه كان يدرَّس بمصر فن «الأنساب»، وعدَّ من مضحكات مصر أن الذي كان يدرِّس أنساب العرب نبطي من أهل العراق، فقال:

بها نبطي من أهل السواد
يدرِّس أنساب أهل الفلا

وقد ذكروا أنه يريد ابن حِنْزَابه، وهو متحامل عليه، فابن حنزابه هذا من أفضل الناس وعلمائهم، وهو ابن وزير العراق الخطير ابن الفرات. وكان ابن حنزابه وزيرًا للدولة الإخشيدية، وكان عالما محبًّا للعلماء يقربهم ويشجعهم ويصلهم بماله، حتى قصده من علماء الأقطار الأخرى كثيرون، وكان يملي الحديث بمصر وهو وزير، ويقصد إليه المحدِّثون يسمعون روايته، وله تآليف في أسماء الرجال والأنساب. وقد أراد المتنبي أن يمدحه فعمل فيه قصيدته «بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا»، ولكنه لم ينشدها، فلما غضب على كافور، وغضب على وزيره وخرج من مصر حوَّلها في مدح ابن العميد، وعرَّض بابن حنزابه.

أما الحركة الأدبية فقد كان الشعر فيها هزيلًا، ومنذ الفتح الإسلامي إلى هذا العهد الطولوني والإخشيدي لم تُخرج مصر شاعرًا كبيرًا يضاهي شعراء العراق أمثال أبي تمام والبحتري وابن الرومي، وهي ظاهرة تستحق النظر، فقد كانت الفنون راقية، كما يتجلى ذلك في عمارة الفسطاط ومسجد ابن طولون، وكما كان فن الغناء لا بأس به، كما يتجلى في وصف القيان في العهد الطولوني، وكانت هناك العناية بالبساتين والأزهار، ولكن مع هذا كله لم تنبغ الشاعرية لا في العرب الذين وفدوا إلى مصر وأبنائهم، ولا في المصريين الصميمين ممن تعلموا العربية؛ فنجد الفقيه المصري الذي يضاهي أئمة العراق كالليث بن سعد، ونجد المحدِّث الذي يشابه أكبر محدثي العراق كابن لهيعة، والنحوي الذي يضاهي نحويي البصرة والكوفة كابن ولاد، ونجد أتباع الأئمة في هذه العلوم يشبهون الأتباع في العراق، ولكن لا نجد الشاعر النابغ هنا الذي يساوي الشاعر النابغ هناك؛ فهل هذا لأن الشعر كان لا يرقى إلا في بلاط الخلفاء؟ أو أن نبوغ الشعراء كنبوغ العظماء والزعماء خاضع لقوانين لم تستكشف بعد؟ أو لغير ذلك من أسباب؟

على كل حال كان أشهر شعراء مصر في العهد الطولوني الحسين بن عبد السلام المعروف بالجمل، لم يصلنا شعره كاملًا، وإنما هي نتف هنا وهناك، في مديح أحمد بن طولون:

له يد كم خَلَّدت من يدٍ
سحابة عمت بأنوائها
وهو لدى الهيجاء ليثٌ إذا
ما ثقلت قامت بأعبائها
انظر إلى مصر بسلطانه
تر الهدى فاض بأرجائها

وربما تظهر مصريته في ميله إلى الفكاهة، كقوله في ابن المدبِّر صاحب خراج مصر، وكان الشاعر إذا مدحه ولم يرتض شعره أمر من يحمله إلى المسجد، ويفرض عليه أن يصلي عددًا معلومًا من الصلاة، فقال الجمل:

قصدنا في أبي حسن مديحًا
كما بالمدح تُنْتَجع الولاة
فقالوا يقبل المدحات لكن
جوائزه عليهن الصلاة
فقلت لهم وما تغني صلاتي
عيالي؟ إنما الشأن الزكاة
فيأمر لي بكسر الصاد منها
فتصبح لي الصَّلاة هي الصِّلاتُ

وله شعر رواه الكندي في أخبار القضاة، كان يقوله في المناسبات عندما يحدث في مصر بعض الأحداث.

كما كان هناك شعراء آخرون في العهد الطولوني والإخشيدي في مثل منزلة الجمل؛ ولذلك لما جاء المتنبي مصر في عهد كافور ابتلعهم كما يبتلع الحوت الكبير السمك الصغير، ولم يستطع أن يجاريه منهم أحد.

وربما كان حظ النثر الفني أكبر من حظ الشعر، كما يتجلَّى ذلك فيما بقي لنا من رسائل «ابن عبد كان» ككتابه الذي كتبه على لسان أحمد بن طولون لابنه لما خرج عليه، ففيه المسحة العراقية، جمعت بين طول نَفَس الجاحظ، وجزالة عمرو بن مسعدة، مع ميل إلى السجع كثيرًا، والمزاوجة دائمًا، وإطناب في اللفظ، وتكرار للمعنى من مثل قوله: «واعلم أن البلاء بإذن الله قد أظلَّك، والمكروه إن شاء الله قد أحاط بك، والعساكر بحمد الله قد أتتك كالسيل في الليل، تؤذن بحرب وويل، فإننا نُقسم، ونرجو ألا نجور ونظلم، ألا نثني عنك عنانًا، ولا نؤثر على شأنك شانًا، … منفقين كل مال خطير، ومستصغرين بسببك كل خطب جليل، حتى تستمرَّ من طعم العيش ما استحليت، وتستدفع من البلايا ما استدعيت … إلخ.»٤

وكما يتجلى في كتاب «المكافأة» لأحمد بن يوسف المعروف بابن الداية، فقد ألَّفه في العهد الطولوني، وبناءً على قصص لمن عملوا الجميل فكوفئوا عليه بالجميل، فموضوعه طريف، وعَرْضه في أسلوب قوي جزل متين.

إلى جانب هاتين الحركتين الدينية والأدبية، كانت حركة العلوم الفلسفية التي تشمل الطب والنجوم والإلهيات وما إليها، وهي بقية من بقايا مدرسة الإسكندرية، وقد كانت لا تزال باقية في مصر، وإن ضعفت بالفتح الإسلامي، وإقبال الناس على الثقافة العربية يتعلمون لغتها، ويبحثون فيما أتت به من دين، فاتجهت أكثر الثقافة إلى الاشتغال بالدين الإسلامي وعلومه، واللغة العربية وعلومها، وبقيت بقية قليلة للفلسفة وما إليها، كان أكثرها من رجال الدين النصارى لامتزاج النصرانية بالأفلاطونية الحديثة، عندما اختلف النصارى في عقائدهم، وتجادلوا في مذاهبهم، والتجأ كل مذهب إلى الاستعانة بالفلسفة اليونانية في تأييد رأيه.

وكان أمراء مصر وولاتها يحتاجون إلى الأطباء والمنجمين، وقل أن يجدوهم إلا في النصارى، والطب والتنجيم فرعان من فروع الفلسلفة اليونانية، كان من اشتغل بهما مضطرًّا أن يقرأ الفلسفة اليونانية في إلَهِيَّاتها وطبيعتها وكيميائها.

فاشتهر من هؤلاء سعيد بن نوفل النصراني طبيب ابن طولون، كما اشتهر سعيد بن البطريق، «وكان طبيبًا نصرانيًّا من أطباء فسطاط مصر، وكانت له دراية بعلوم النصارى ومذاهبهم … وقد عين بطريركًا على الإسكندرية، ومات سنة ٣٢٨ﻫ، وله كتب في الطب، والجدل بين المخالف والنصراني … إلخ».٥

وقد ترجم كتاب «الحيوان» لأرسطو، وكتاب «السماء والعالم» لأرسطو أيضًا.

على أن بعض علماء المسلمين المصريين كان يتصل بهذه الحركة ويتصل برجالها ويقرأ كتبها، فابن الداية الذي سبق ذكره كان — كما يقول ياقوت — «أحد وجوه الكتَّاب الفصحاء والحسَّاب والمنجِّمِين، مجسطي، إقليدسي، حسن المجالسة، حسن الشعر». ونجده ينقل في كتابه «المكافأة» عن أفلاطون، ونجد ذا النون المصري الصوفي المشهور يتحدث عن الرهبان، ويروون في ترجمته أنه كان يعرف: السحر، والطلسمات، والكيمياء. ويعقد الأستاذ نيكلسون ما في بعض أقواله من شبه بينها وبين أقوال «الأفلاطونية الحديثة».

من هذا نفهم أنه كانت هناك حركة فلسفية في مصر من أثر مدرسة الإسكندرية، ومن أثر الوافدين من العراق، بما ترجموا من كتب، وأن بعض العلماء المصريين اشتغل بها وتأثر وتثقف، وإن كان ذلك في دائرة ضيقة إذا قيست بدائرة علوم الدين واللغة.

وكانت الحركة العلمية في الشام في العهد الطولوني والإخشيدي صورة للحركة في مصر، وربما كانت أصغر منها؛ لأن مركز الولاة الطولونيين والإخشيديين في مصر؛ ولأن مصر كانت أغنى، وكثيرًا ما كان يزدهر العلم في ظل البلاط وتشجيع الأمراء وكثرة المال، إلا فن الشعر فقد كانت في الشام أرقى منه في مصر، كما سيأتي.

فكان في الشام طائفة كبيرة من المحدِّثين والفقهاء والصوفية والقراء — أمثال إخوانهم في مصر، فالإمام الأوزاعي البيروتي المتوفى سنة ١٥٧ﻫ كان له من الأثر في الشام في الحديث والفقه ما لليث بن سعد والشافعي بمصر، واشتهر بها كثير من المحدثين والفقهاء في هذا العصر كزكريا بن يحيى السِّجْرِي المتوفى سنة ٢٨٩ﻫ، وكان يعرف بخياط السنَّة، ومحمد بن عوف الطائي الحمصي المتوفى سنة ٢٦٩ﻫ، وكان أعرف الناس بالأحاديث التي رويت في الشام، وأبي بكر محمد بن بركة الحميري اليحصبي القنسريني وأمثالهم كثير.

وانتشرت حركة التصوف من مصر إلى الشام عن طريق ذي النون المصري وأصحابه، فظهر في الشام طاهر المقدسي، أخذ التصوف عن ذي النون المصري وغيره، وسماه الشبلي «حبر الشام»، ورويت عنه أقوال كثيرة في التصوف كقوله: «المفاوز إليه منقطعة، والطرق إليه منطمسة، والعاقل من وقف حيث وقف العوام.» كما ظهر أبو عمرو الدمشقي أخذ التصوف عن أصحاب ذي النون وغيرهم، مات سنة ٣٢٠ﻫ، وكان يقول: التصوف غض الطرف عن كل ناقص؛ ليشاهد من هو منزَّه عن كل نقص. وأبو إسحاق الرقِّي كان من أكبر مشايخ الشام ومتصوِّفيها، مات سنة ٣٢٦ﻫ … إلخ.

ويكاد يكون الطابع لحركة الحديث والفقه والتصوف في مصر والشام، طابعًا واحدًا لقرب القطرين، وتبادل العلماء الزيارة والرحلة، حتى كان كثير منهم يصعب عدُّه مصريًّا أو شاميًّا لتوزُّع عمره وحياته العلمية بين القطرين.

•••

وكما كان لمصر فضل في اتجاه بعض العلماء لتدوين تاريخها وخططها على يد ابن عبد الحكم ثم ابن يونس ثم الكندي ثم ابن زولاق، وكان للشام فضل من نوع آخر على يد أبي عبد الله محمد بن أحمد المقدسي (٣٣٦ﻫ إلى نحو سنة ٣٨٠ﻫ)، فقد رأى أن المملكة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لم توصف وصفًا كافيًا لا من ناحيتها الجغرافية، كوصف المفاوز والبحار والبحيرات والأنهار والمدن والأمصار والنبات والحيوان، ولا من الناحية الاجتماعية كاللغات والألوان والمذاهب والنقود والمزايا والعيوب، والسعة والخصب والضيق والجدب، ولم يعجبه ما كتبه مَن قبله، وشعر بقصور المؤلفات في ذلك فجرد نفسه لهذا وطاف أكثر البلاد الإسلامية، وكتب كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، وكان فيه من أصدق الرحَّالين ملاحظة، وأدقهم نظرًا، وأحسنهم لموضوعه ترتيبًا، وقد عمل كل حيلة والتحق بكل صناعة وتحمل كل مشقة، وأنفق فوق عشرة آلاف درهم، وعرض نفسه لكل خطر في سبيل الحصول على المعرفة، وجاءته فكرة «الخرائط» فعملها في كتابه هذا، بل جاءته فكرة الخرائط الملونة، واختيار الألوان المناسبة؛ فالحدود والطرق بالحمرة، والرمال بالصفرة، وبالبحار بالخضرة، والأنهار بالزرقة، والجبال بالغبرة.

وقد ساح في جزيرة العرب والعراق والشام ومصر والمغرب، ثم بلاد فارس والسند والهند، وألف كتابه هذا بعد هذه الرحلة سنة ٣٧٥ﻫ، فكان له الفضل الأكبر في هذا الباب.

ولكن لعل أكبر حركة في الشام وأعظمها في الأدب واللغة وعلومها، كانت في ذلك العصر في بلاط الأمراء الحمدانيين في حلب، وخاصة أيام سيف الدولة؛ فقد فاقت حركة الشعر واللغة والنحو ما إليه نظيرتها في مصر، وربما في العراق أيضًا، قال الثعالبي: «لم يزل شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها — في الجاهلية والإسلام — والكلام يطول في ذكر المتقدمين منهم، فأما المُحْدَثون فخذ إليك منهم: العَتَّابي، ومنهور النَّمَري، والأشجع السُّلَمي، ومحمد بن زرعة الدمشقي، وربيعة الرَّقِّي، على أن في الطائيَّيْن — يعني أبا تمام والبحتري — اللذين انتهت إليهما الرياسة في هذه الصناعة كفاية، وهما هما، فأما العصريون ففيما أسوقه من غرر أشعارهم أعدل الشهادات على تقدم أقدامهم والسبب في تبريز القوم قديمًا وحديثًا في الشعر قربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم.

ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة البداوة، وحلاوة الحضارة، ورزقوا ملوكًا وأمراء من آل حَمْدان وبني ورقاء، هم بقية العرب والمشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين آداب السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد يحب الشعر وينقد، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل، انبعثت قرائحهم في الإجادة فقادوا محاسن الكلام بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا.

وأخبرني جماعة من أصحاب الصاحب ابن عَبَّاد أنه كان يُعْجَب بطريقتهم المثلَى التي هي طريقة البحتري في الجزالة والعذوبة، والفصاحة والسلاسة، ويحرص على تحصيل الجديد من أشعارهم، ويستملي الطارئين عليه من تلك البلاد ما يحفظونه من تلك البدائع واللطائف حتى كتب دفترًا ضخم الحجم عليها، وكان لا يفارق مجلسه، ولا يملأ أحد منه عينه غيره، وصار ما جمعه فيه على طرف لسانه، وفي سن قلمه، فطورًا يحاضر به في مخاطباته ومحاوراته، وتارة يحله أو يورده كما هو في رسائله.٦ وقد ذكر أنه تخرج في هذه المدرسة الحلبية الحمدانية أبو بكر الخوارزمي، والقاضي أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني مؤلف «الوساطة بين المتنبي وخصومه».

كانت ميزات سيف الدولة — وإن شئت فقل: وعيوبه أيضًا — مشجعة على النهوض بالشعر والأدب والعلم إلى غاية بعيدة؛ فهو عربي من تغلب يعتز بنسبه ومجد بيته، وفيه الطباع العربية التي في البيوتات الكبيرة، يطمح كل الطموح لحسن الأحدوثة؛ ولذلك كان يهمه أن يكون حوله أعاظم الشعراء يشيدون بذكره ويسير شعرهم في الآفاق مدحًا فيه، ثم هو فارس فيه صفات الفروسية من إباء وفخر ونصرة للضعيف، ومعونة للبائس والفقير، يرى المجد والمروءة في الزهادة في المال للاعتزاز بالمجد، والإغداق على الأصدقاء والشعراء وسيلة للمطمح؛ يهمه جانب الإنفاق كيف يغدق أكثر مما يهمه جانب العدل في تحصيل المال كيف يجمع، ولهذا يوم مات كثر البكاء منه والبكاء عليه، كما وصفه بعضهم: الصفتان البارزتان فيه هما مجد العرب؛ الشجاعة والكرم، وهما عنصر المروءة التي كثر تمدُّح العرب بها، إلى ملكة جيدة في تقدير الشعر وتذوقه، والإعجاب بجيده إعجابًا لا قيمة للمال بجانبه.

عرف الشعراء والأدباء والعلماء ذلك كله منه فقصدوه من كل جانب، وبالغوا في تحسين بضاعتهم وتجويد فنِّهم، وإحسان عرضهم، فنالوا منه ما تمنوا، وكان ذلك نعمة على الفنون والعلوم، وثروة بقيت على الزمان، وإن ضاعت به ثروة آل حَمْدان.

فهو يصوغ دنانير خاصة للصلات وزن كل دينار عشرة مثاقيل، عليها اسمه وصورته، ويعطي منها البَبَّغاء الشاعر فيقول:

نحن بجود الأمير في حَرَم
نرتع بين السعود والنِّعَم
أبدعُ من هذه الدنانير لم
يَجْر قديمًا في خاطر الكرم
فقد غدت باسمه وصورته
في دهرنا عُوذة من العَدَم

فيعطيه سيف الدولة عشرة أخرى.

ولما عزم أبو إسحاق الصابي على الرحيل من حلب طُلب إليه أن يقول شيئًا في سيف الدولة، فقال ثلاثة أبيات، فأعطاه كيسًا مختومًا بختم سيف الدولة فيه ثلاثمائة دينار،٧ وجاء إليه القاضي أبو نصر محمد النيسابوري، فطرح من كمه كيسًا فارغًا ودرجًا فيه شعر استأذنه في إنشاده فإذن له، فأنشد قصيدة أولها:
حباؤك معتاد وأمرك نافذٌ
وعبدك محتاج إلى ألف درهم
فأمر له بألف دينار فجعلت في الكيس الفارغ الذي كان معه.٨

ولما أنشده المتنبي قصيدته التي يقول فيها:

يا أيها المحسن المشكور من جهتي
والشكر من قِبَل الإحسان لا قِبَلي
أقِلْ أنِل أَقْطِع أجملْ عَلِّ سَلِّ أَعِدْ
زِدْ هَشَّ بَشَّ تَفَضَّلْ أَدْنِ سُرَّ صِلِ
وقَّع سيف الدولة تحت كل كلمة من هذه، فوقع تحت أَنِلْ: نحمل إليك من الدراهم ما تحب. وتحت «أقطع»: أقطعناك ضيعة كذا بباب حلب. وتحت سر: قد سررناك. فقال المتنبي: إنما أردت من التسري، فأمر له بجارية٩ … إلخ.

وذاع صيته بالعطاء والجود في سائر الأقطار الإسلامية، فقصده الفقراء والمُعْوِزون، فكان يُكْتب إليه في حوائج المحتاجين من العلماء ومن نكبهم الدهر بعد عزة. ووضع بديع الزمان الهمذاني مقامة من مقاماته سمَّاها المقامة الحمدانية، أسسها على أن سيف الدولة قد حضر مجلسه جماعة من الأدباء. وقد عرض عليه فرس جميل، فقال سيف الدولة للأدباء: «أيكم أحسَنَ صفته جعلته صلته.» فوصفه أبو الفتح الإسكندري — بطل مقامات البديع — فأعطاه له، والقصة بالضرورة خيالية، ولكنها تمثل صورة سيف الدولة في أذهان الأدباء.

ثم كان مجلسه مجلسًا ممتازًا؛ فقد منح ذوقًا وقدرة على فهم الأدب وإدارة الحديث في المجالس، واستخراج أفضل ما عند العلماء والأدباء بالعطاء والتنافس، فأحيانًا يقول البيت ويطلب من الشعراء أن يجيزوه، فيقول مرة: من يجيز هذا البيت:

لك جسمي تُعِلُّهُ
فدمي لِم تُحلُّه؟

فيجيزه أبو فراس:

أنا إن كنت مالكًا
فليَ الأمر كله

وينقد المتنبي مرة في قوله:

وقفت وما في الموت شك لواقفٍ
كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كَلْمَى هزيمة
ووجهك وضَّاح وثغرك باسم

ويفضل سيف الدولة أن يكون نظام البيتين هكذا:

وقفت وما في الموت شك لواقف
ووجهك وضاح وثغرك باسم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة
كأنك في جفن الردى وهو نائم
ثم يتجادلان في ذلك، كلٌّ يؤيد وجهة نظره.١٠

وسأل جماعة من العلماء بحضرته يومًا، هل تعرفون اسمًا ممدودًا وجمعه مقصور؟ فقال ابن خالويه: إني أعرف اسمين لا أقولهما إلا بألف درهم؛ لئلا يؤخذا بلا شكر، وهما: صحراء وصحارى، وعذراء وعذارى.

وكتب الأدب فيها الكثير مما دار في مجلس سيف الدولة بين المتنبي وخصومه مما سبب رحيله.

فلا عجب أن يكون بلاطه أزهى بلاط في عصره. يقول الخوارزمي؛ حنينًا لأيام قضاها فيه: «وقد رأيت في هذه الحضرة — حضرة أبي محمد العلوي بأصبهان — أقوامًا كنت شاهدتهم على باب سيف الدولة ومنهل الصفا عذب، وعود الشباب رطب، وذكرت بهم مآرب هنالك، وأيامًا سُلبتها سلبًا، ونزعت من يدي غصبًا، ودهرًا كأني كنت أقطعه وثبًا.»١١

فالمتنبى قال فيه أحسن شعره وأقواه وأصدقه عاطفة؛ لأن سيف الدولة كريم يغدق على الشعراء كما قال الشاعر:

لئن جاد شعر ابن الحسين فإنما
لأجل العطايا، واللَّها تفتح اللَّها

ولأن أبا الطيب وجد في سيف الدولة إلى جانب كرمه فروسية واعتزازًا بالعربية وحياة حربية، وطموحًا إلى المجد، وكلها صفات ينزع إليها المتنبي ويراها مَثَله، فكان المتنبي يتغنى بمَثَله محققًا في سيف الدولة، ولو لم يكن سيف الدولة لكان المتنبي شيئًا آخر. وشعره بعد أن فارقه شعر صناعة إلا ما كان من عتبه على الزمان وحديثه عن نفسه، وقد صدق إذ قال بعد أن مدح سيف الدولة:

لا تطلبنَّ كريمًا بعد رؤيته
إن الكرام بأسخاهم يدًا خُتموا

وهذا أبو فراس ابن عم سيف الدولة والذي يصغره بنحو عشرين عامًا، قد نشأ في حضانة سيف الدولة ورعايته بعد أن قتل أبوه، وتعلم في ساحته وغزا معه بعض غزواته ولقد قال أبو فراس: «غزونا مع سيف الدولة وفتحنا حصن العيون في سنة ٣٣٩ﻫ، وسنِّي إِذ ذاك تسعة عشر عامًا.» وقد أخذ أسيرًا في إحدى غزواته للروم وأرسل إلى القسطنطينية، وبقي فيها أربع سنوات قال فيها أحسن شعره، وقد أرسل أكثره إلى سيف الدولة طالبًا منه أن يفديه، عاتبًا أحيانًا، شاكيًا أحيانًا، وإنما كان أحسن شعره لأن وقوعه في الأسر وبعده عن وطنه أهاج شاعريته ورقق عاطفته، فامتلأ شعره برقة الحنين، وحلاوة الحب، وذل الأسر:

دعوتك للجفن القريح المسهد
لديَّ وللنوم القليل المشرَّد
وما ذاك بُخلًا بالحياة وإنها
لأَولُ مبذول لأول مُجتدي
ولكني أختار موت بني أبي
على سروات الخيل غير موسَّد
وآبى وتأبى أن أموت موسدًا
بأيدي النصارى موت أكمد أكبد

•••

فلا تقعدنْ عني وقد سيم فديتي
فلست عن الفعل الكريم بمُقعد
فكم لك عندي من أيادٍ وأنعم
رفعت بها قدري وأكثرت حُسَّدي

•••

أقلني أقلني عثرة الدهر إنه
رماني بنصل صائب النحر مُقصد
ولو لم تنل نفسي ولاءك لم أكن
لأوردها في نصره كل مورد
ولا كنت ألقى الألف زُرقًا عيونها
بسبعين، فيها كل أشام أنكد
وإنك لَلمولى الذي بك أقتدي
وإنك لَلنجم الذي بك أهتدي
وأنت الذي عرفتني طرق العلا
وأنت الذي أهديتني كل مَقصد

… إلخ.

ويرثي لحال أمه في قصيدته:

مصابي جليل والعزاء جليل
وظني بأن الله سوف يُزيل

ويبكي وطنه:

ومن مذهبي حب الديار وأهلها
وللناس فيما يعشقون مذاهب

… إلخ إلخ.

فإن استخرج سيف الدولة من المتنبي مديحًا رائعًا، فقد استخرج من أبي فراس أسًى رائعًا.

وكان في بلاط سيف الدولة أبو العباس النامي، وكان من خير الشعراء، وكانت منزلته عند سيف الدولة تلو منزلة المتنبي، يقول في سيف الدولة:

إذا ما عليٌّ أمطرتك سماؤه
رأيت العلا، أنواؤها تتحلَّب
يرجَّى ويُخشى ضره وهو نافع
كذا البحر في أزَّاته متهيَّب
يروع ويبدو الأنس منه كأنه الـ
ـهوى لذعه بين الجوانح يَعْذُب
وأزهر يبيض الندى منه في الرضا
وتحمر أطراف القنا حين يغضب

ثم كذلك أبو الفرج الببغاء أمضى شبابه وزهرة عمره في بلاط سيف الدولة، ثم آخر عمره في بغداد.

كذلك كان من شعرائه الوأواء الدمشقي، وهو شارع مطبوع، عذب العبارة حسن الاستعارة، جيد التشبيه.

ومن شعره في سيف الدولة:

من قاس جدواك بالغمام فما
أنصف في الحكم بين الاثنين
أنت إذا جُدت ضاحك أبدًا
وهو إذا جاد باكيَ العين
ومن شعرائه «الخالديَّان»١٢ أبو بكر محمد بن هاشم، وأبو عثمان سعيد بن هاشم، وهما أخوان، وقد كانا قيِّمَين على مكتبة سيف الدولة، قال ابن النديم: «قال أبو بكر — وهو أحد الخالدِيَّيْن — وقد تعجبت من كثرة حفظه وسرعة بديهته ومذاكراته: إني أحفظ ألف سمر، كل سمر في نحو مائة ورقة. وكانا مع ذلك إذا استحسنا شيئًا غصباه صاحبه حيًّا أو ميتًا، لا عجزًا منهما عن قول الشعر، ولكن كذا كانت طباعهما.»١٣ وقد ألفا في اختيار شعر بشار، وابن الرومي، والبحتري، ومسلم بن الوليد.

كما كان من شعرائه ابن نُباته السعدي، وله فيه مدائح كثيرة.

ويطول بنا القول لو عددنا كل ما كان في بلاطه من شعراء، وحسبنا أن نقول: إن هذا الجو الذي خلقه سيف الدولة حثَّ كل من كان عنده شاعرية على قول الشعر والإجادة فيه، فقيِّما المكتبة — وهما الخالديان — صارا شاعرين، وبائع البطيخ — وهو الوأواء الدمشقي — صار شاعرًا كبيرًا، وكشاجم — «وهي كلمة مركبة من: الكاف من كاتب، والشين من شاعر، والألف من أديب، والجيم من جواد، والميم من منجِّم» — قالوا: إنه كان طباخ سيف الدولة، ومع هذا كان شاعرًا ظريفًا، له ديوان، وله كتاب «أدب النديم»، و«خصائص الطرب»، و«المصايد والمطارد».

ثم كان من أشهر خطباء سيف الدولة ابن نُباتة الفارقي صاحب الخطب المشهورة — وهو غير ابن نباتة السعدي الذي تقدم ذكره — وامتلأت خطبه بالدعوة إلى الجهاد ليحث الناس على نصرة سيف الدولة في غزواته للروم.

ثم كان في بلاطه من يعد من أشهر اللغويين والنحويين في زمانه، أبو علي الفارسي، وابن خالويه، وابن جني، فأما أبو علي الفارسي فكان أكبر نحوي عالم بالعربية في زمنه، عاش في حلب مدة وفي العراق مدة، ويعد هو وتلميذه ابن جني مؤسسي مدرسة في النحو الصرف تستخدم القياس إلى أقصى حد ولا تقف عند النص، فالفرق بينها وبين غيرها كالفرق بين الحنفية في اعتمادهم الكبير على القياس، والمالكية في الاعتماد على الحديث.

لقد رحل أبو علي إلى حلب سنة ٣٤١ﻫ، ونزل في ساحة سيف الدولة وشارك في اجتماعاته الأدبية، وكان بينه وبين المتنبي مناظرات في مسائل نحوية ولغوية.

وابن جني تلميذ أبي علي الفارسي، وموسِّع مبادئه النحوية والصرفية، وإذا عبرنا في النحو والصرف تعبيرنا في الفقه، قلنا: إنه مجتهد فيهما، له آراء مبتكرة واتجاهات انفرد بها.١٤

وقد توثقت الصلة بين ابن جني والمتنبي في بلاط سيف الدولة، فكان يناظره فيما يرد في شعره «المتنبي» مما يشبه أن يكون خروجًا على النحو أو اللغة، حتى قال فيه المتنبي: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس.» وقد شرح ديوان المتنبي شرحًا استفاد منه كل من شرح الديوان بعده؛ لاتصاله بالمتنبي ومعرفته بظروف شعره التي كثيرًا ما تحدد المعنى، وتمنع التأويلات.

وابن خاوليه من أكبر الأئمة في زمنه في اللغة والنحو والأدب وعلوم القرآن، وقد دخل حلب في أيام سيف الدولة، وكان إمام مجلسه، وله مع المتنبي مناظرات كانت في بعضها حادة، ولم تكن العلاقة بينهما حسنة، فالمتنبي لم يقدر علمه التقدير الجليل، وابن خالويه لم يقدر شعره التقدير الواجب، ثم كان يتحاسدان ويتغايران على قرب المنزلة من سيف الدولة، فكان في القصر حزبان: حزب للمتنبي منه ابن جني النحوي وأبو الفرج الببغاء الشاعر، وحزب عليه منه ابن خالويه اللغوي وأبو فراس الشاعر.

ثم كان في بلاط سيف الدولة الفيلسوف الكبير الفارابي، درس في بغداد، ثم جذبته شهرة بلاط سيف الدولة في حلب، فرحل إليه، وأقام في كنفه لا يأخذ منه من المال إلا ما يسد رمقه «أربعة دراهم في اليوم» ويعيش عيشة التصوف، ويعلِّم طلابه في الحدائق التي حول حلب، ويكتب كتبه في المنطق والإلهيات والسياسة والرياضة والكيمياء والموسيقى، وقد بقي في الشام إلى أن مات سنة ٣٣٩ﻫ.

وكان حوله أطباء يعنون بالطب والفلسفة، إذ كان الطب فرعًا من فروعها، ويذكر ابن أبي أصيبعة في «طبقات الأطباء» أن سيف الدولة كان له أربعة وعشرون طبيبًا منهم عيسى الرَّقِّي، وكان سيف الدولة يعطي عطاء لكل عمل، وكان عيسى الرقي يأخذ أربعة أرزاق، رزقًا بسبب الطب، ورزقًا بسبب ترجمة الكتب من السرياني إلى العربي، ورزقين بسبب علمين آخرين.١٥

•••

هذا بلاط سيف الدولة يزخر بالشعر والمناظرات اللغوية والنحوية، ويزينه الفارابي بفلسفته، ويشع هذا النتاج في المملكة الإسلامية كلها وخاصة الشام.

ومنه يستنشق أبو العلاء المعري أول عهده بالدراسة؛ فقد ولد بالمعرَّة سنة ٣٦٣ﻫ وهي بلدة تابعة لحلب، ولئن كان سيف الدولة قد مات قبل ولادة أبي العلاء بثماني سنين، فإن الحركة العلمية والأدبية بها لم تكن ماتت، فشعر الشعراء يُروى، وتلاميذ ابن خالويه وابن جني يروون علمهما باللغة والأدب والنحو والصرف، وتلاميذ الفارابي يروون فلسفته، فلما انتقل أبو العلاء من المعرَّة إلى حلب للدرس وجد لكل ذلك مهيَّأ فاستفاد منه، وجد الناس يروون شعر أبي الطيب ويعجبون به فسمع منهم، وسمع محمد بن عبد الله بن سعد النحوي راوية أبي الطيب، وسمع من تلاميذ ابن خالويه، فيقول في بعض رسائله: «حدَّثني أبو القاسم المبارك عن ابن خالويه.» ولا بد أن يكون لقي بعض تلاميذ الفارابي وأخذ عنهم.

وقد أقام أبو العلاء في حلب نحو عشر سنوات ينهل من موارد العلم، فحركة الأدب واللغة والفلسفة التي أحياها سيف الدولة لها فضل على أبي العلاء وغيره من العلماء والأدباء.

•••

ثم جاءت الدولة الفاطمية فبسطت سلطانها على مصر والشام، والحق أنها أتت بحركة علمية عظيمة نشيطة، وقدَّمت العلم والأدب والفنَّ في مصر والشام خطوات، حتى لا يعد شيئًا بجانبها ما كان في العهد الطولوني والإخشيدي، ويصح أن تقارن وتساوى بما كان في العراق، وخاصة العلوم العقلية والفلسفية فإنها نبغت فيها، ويرجع ذلك إلى أمور:

أولها: أن الفاطميين جاءوا بمذهب شيعي له أسس ودعائم تخالف ما كان عليه أهل السنة في مصر والعراق، كعصمة الأئمة ونحو ذلك، وتأتي بشعائر ظاهرة مخالفة لشعائر السنيين كذلك، كالأذان: بحي على خير العمل، والاحتفاء بعاشوراء وعيد الغدير، فإتيان الفاطميين بهذا أوجد حركة عنيفة للتأييد من جهة والتفنيد من جهة، فهب علماء من مصر يفنِّدون هذه الآراء، وكان العراقيون أجرأ لأنهم غير خاضعين لسلطانهم كالمصريين والشاميين، ولجأ الخليفة العباسي إلى العلماء يستحثهم على القول بفساد النسب الباطني، كما لجأ إلى الغزالي يستدعيه لتأليف كتاب «فضائح الباطنية»، وهكذا كل هذه العقول تتحرك وتجتهد وتؤلف وتجادل وتناضل، فكان من هذا النشاط العقلي الكبير، واستتبع ذلك نشاط الفاطميين في إيجاد المكاتب ومجالس الدعاة في القصر والمساجد وبيوت العظماء وتأليف الكتب، وتنظيم الدعوة وغير ذلك.

وكان أن التجأ الفاطميون إلى الفلسفة اليونانية يستعينون بها على تأييد الدعوة الشيعية، ويستمدون الآراء من أقوال أفلاطون وأرسطو، وسائر حكماء اليونان، كما فعلت الأديان الأخرى عند اشتداد الجدل، كالنصارى واليهود عند افتراقهم فرقًا، وكما فعل المعتزلة عند جدالهم مع اليهود والنصارى، وهذا سبب من أسباب تشجيع الفاطميين للفلسفة.

ثم كان أن رأينا عهد الفاطميين في مصر والشام مصحوبًا بتسامح شديد مع اليهود والنصارى، واستخدامهم في أدق شئون الدولة، وتسلطهم على كثير من أمورها، ولعل أسَّ دعوتهم كان توحيد العالم الإسلامي تحت سلطانهم من غير مراعاة عصبية دينية ولا جنسية، فكانوا يخاطبون كل قوم بما يقربهم إلى الدعوة، وكان من ذلك تسامحهم مع اليهود والنصارى واستخدامهم، وإطلاق الحرية لهم إلا إذا أحسوا ثورة من الشعب لهذا التسامح فيتراجعون؛ كل هذا لأن أغراضهم السياسية والاجتماعية كانت أقوى من أغراضهم الدينية، فيعقوب بن كلس يهودي الأصل، ماهر ماكر، مثقف ثقافة واسعة، حسن التدبير، واسع الحيلة، باذل للمال، راغب في الجاه، لمع اسمه في العهد الإخشيدي، وأسلم وتعلم القرآن والحديث والأدب العربي، وسافر إلى المغرب واتصل بجوهر القائد مولى المعز لدين الله، وبذل له علمه عن مصر، وأعانه بآرائه في وسائل فتحها، ورجع بصحبة الجيش الفاتح، وخدم المعز وارتقى حتى كان وزيرًا للعزيز بن المعز، وهو الذي وضع قواعد الدولة ونظَّمها، وكان له إلى هذا الجانب السياسي الإداري جانب علمي، فشجع العلماء، ورتب المجالس، وبذل العطاء لكل فروع العلم، وربط بين العلم والتشيع، وبين التشيع والفلسفة، وله مجالس لعامة العلماء ومجالس لخاصة من العلماء وهؤلاء هم الذين يفلسفون هذه الأمور، ووضع كتابًا في فقه الشيعة يقول: إنه مما سمعه من المعز والعزيز، كان يقرؤه في المسجد، ويقرؤه العلماء ويفتون منه، وكان يكون كل شيء في الدولة، يوجه سياستها وإدارتها، ولما مات صلَّى عليه العزيز بنفسه، وألحده بيده، وأمر بغلق الدواوين أيامًا بعده.١٦

فيظهر لي أنه كان له دخل كبير في تأسيس الحركة العلمية على هذا النمط، وإدماج الفلسفة فيها وتوجيهها الجهة التي توجهتها، وتشجيعه اليهود والنصارى على الاشتغال العلمي والمشاركة في الإدارة وفلسفة الدعوة.

وكانت زوجة «العزيز» نصرانية على مذهب الملكية، وكان لها أخوان أحدهما اسمه «أرميس» صيَّره بطركًا على بيت المقدس، والآخر «أرسانيس» صيره بطركًا للملكية على القاهرة ومصر، وكان لهما من العزيز جانب لأنهما أخولة ابنته.١٧

وكان لهذه السيدة نفوذ عظيم على العزيز في تسامحه مع النصارى والسماح بإعادة بعض الكنائس.

وقد ولدت هذه الزوجة النصرانية من العزيز بنتًا هي المسماة بست الملك، وكانت — كما يصفها النويري — قوية العزم بصيرة بالأمور، وكان لها أثر كبير في أبيها، وفي توجيهه نحو سياسة التسامح مع النصارى، كما كانت في عهد أخيها الحاكم بأمر الله ذات أثر فعَّال فيما وقع من أحداث.

وقد سمح العزيز هذا لبطريرك الأشمونيين أن يناظر رجال الدين مثل القاضي ابن النعمان في العقائد الدينية.

وفي السنتين الأخيرتين لحكم العزيز تولَّى الوزارة بعد يعقوب بن كلِّس عيسى بن نسطورس النصراني.

ثم مما شجع على اشتغال الفاطميين بالفلسفة ما كان لهم من رأي في أن للدين ظاهرًا وباطنًا، ومعنى صريحًا ومعنى مؤولًا، فهذا يترك للخيال المجال، ويجعل الفكر يسبح في الفلسفة يأخذ منها ويلصقها بالدين، كما نرى ذلك بوضوح في رسائل إخوان الصفا — وهم شيعيون باطنيون — ولذلك كانت الفلسفة ألصق بالتشيع منها بالتسنن، نرى ذلك في العهد الفاطمي، والعهد البويهي؛ وحتى في العصور الأخيرة كانت فارس أكثر الأقطار عناية بدراسة الفلسفة الإسلامية ونشر كتبها، ولما جاء جمال الدين الأفغاني مصر في عصرنا الحديث — وكان فيه نزغة تشيع، وقد تعلم الفلسفة الإسلامية بهذه الأقطار الفارسية — كان هو الذي نشر هذه الحركة في مصر.

ثم إن المقريزي يقول: كان الفاطميون يتدرجون في دعوتهم؛ فإذا تمكن المدعو من التعاليم الأولى «أحالوه على ما تقرر في كتب الفلاسفة من علم الطبيعيات وما بعد الطبيعة والعلم الإلهي وغير ذلك من أقسام العلوم الفلسفية؛ حتى إذا تمكن المدعو من معرفة ذلك كشف الداعي قناعه، وقال: إن ما ذكر من الحدوث والأصول رموز إلى معاني المبادئ، وتقلب الجواهر، وإن الوحي إنما هو صفاء النفس، فيجد النبي في فهمه ما يُلقى إليه ويتنزل عليه فيبرزه إلى الناس، ويعبِّر عنه بكلام الله الذي ينظم به النبيُّ شريعته بحسب ما يراه من الملصلحة في سياسة الكافة، ولا يجب حينئذ العمل بها إلا بحسب الحاجة من رعاية مصالح الدهماء … ثم قال: ومن جملة المعرفة عندهم أن الأنبياء النطقاء أصحاب الشرائع إنما هم لسياسة العامة، وأن الفلاسفة أنبياء حكمة الخاصة … ثم يقول: إن لهم في هذا مصنفات كثيرة اختصرت منها ما تقدم ذكره».١٨

ويروي صاحب «الفرق بين الفرق» أن عبيد الله بن الحسن القيرواني أحد زعماء الإسماعيلية، كتب إلى أحد دعاة المذهب سليمان بن الحسن أبي سعيد الجنابني يقول: «وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به، فعلى الفلاسفة معولنا.» ويقول الشهرستاني: «إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج.» ويفيض في بيان ذلك، ويقول دوزي: «إن ابن ميمون — وهو واضع الأساس للتعاليم الباطنية والإسماعيلية — لم يكن يبحث في أنصاره المخلصين بين الشيعة الخلَّص، إنما كان يبحث عنهم بين الثنوية والوثنيين، وتلاميذ الفلسفة اليونانية، وخاصة الأخيرين، فإليهم وحدهم أفضى بسره، وكنه عقيدته، وهو أن الأئمة والأديان والأخلاق ليست إلا ضلالًا وهزؤًا، وأن العامة ليسوا أهلًا لفهم هذه المبادئ، إلا أنه كان يستعين بهم، ولا يصدمهم، وكان دعاته يظهرون في أثواب مختلفة، ويحادثون كل طبقة باللغة التي يفهمونها.

والواجب ألا يلصق هذا بكل الشيعة، ولا كل الفاطمية، ولا كل قواد الحركة، وإنما يصح أن يلصق بفئة من زعمائهم استغلَّت التشيع لأغراض في أنفسهم، وعلى كل حال كان هذا سببًا آخر لاشتغال الخاصة بالفلسفة وتعليل انتشارها في العهد الفاطمي مع ضعف الاشتعال بها قبلهم في العهد الطولوني والإخشيدي وبعدهم في العهد الأيوبي، ثم كثرة المال في العهد الفاطمي؛ وميل الخلفاء إلى الإمعان في الترف والنعيم، شجعت الفنون على الرقي، فما خلَّفه الفاطميون من صناعة راقية، وفنٍّ دقيق، قلَّ أن يُبَارى.

على كل حال نشطت الحركة العقلية في العصر الفاطمي في مصر والشام نشاطًا كبيرًا، وكان أهم الحركات الحركة الدينية؛ إذ أراد الفاطميون تشييع المصريين والشاميين، وكان هؤلاء يريدون أن يتمسكوا بالسنية، فجد الفاطميون في دعوتهم جدًّا كبيرًا.

لقد حرص المصريون أول الأمر على البقاء على سنيتهم، واشترطوا عند المفاوضة في تسليم القطر المصري هذا الشرط، وكتب لهم جوهر بأمر المعز كتابًا يتضمن التزام حرية العقيدة، فلا يجبرون على التشيع، وجاء فيه: «ثم إنكم ذكرتم وجوهًا التمستم ذكرها في كتاب أمانكم، فذكرتها إجابة لكم وتطمينًا لأنفسكم، فلم يكن لذكرها معنى، ولا في نشرها فائدة، إذ كان الإسلام سُنَّة واحدة، وشريعة متينة، وهي إقامتكم على مذهبكم، وأن تُتركوا على ما كنتم عليه من أداء المفروض في العلم، والاجتماع عليه في جوامعكم ومساجدكم، وثباتكم على ما كان عليه سلف الأمة من الصحابة — رضي الله عنهم — والتابعين بعدهم، وفقهاء الأمصار الذين جرت الأحكام بمذاهبهم وفتواهم، وأن يجري الأذان والصلاة، وصيام شهر رمضان وفطره وقيام لياليه، والزكاة والحج والجهاد، على ما أمر الله في كتابه، ونَصَّه نبيُّه في سُنَنه.» … إلخ.١٩
ولكن لما دخل الجيش وتمكَّن من مصر، وانتقل المعزُّ إلى القاهرة، لم يعمل بهذا العهد، وجدَّ الفاطميون في تشييع المصريين، فزيد في خطبة الجمعة: «اللهمَّ صل على محمد النبي المصطفى، وعلى عليٍّ المرتضى، وعلى فاطمة البتول وعلى الحسن والحسين سِبْطَيِ الرسول، الذي أذهبت عنهم الرجس وطهَّرتهم تطهيرًا، اللَّهُمَّ صلِّ على الأئمة الراشدين آباء أمير المؤمنين الهادين المهديين.»٢٠
«وفي يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الأولى سنة ٣٥٩ﻫ، صلَّى جوهر الجمعة في جامع ابن طولون، وأذن المؤذن حيَّ على خير العمل، وهو أول ما أُذِّن به في مصر».٢١
«ولما وصل المعز إلى القصر خرَّ ساجدًا، ثم صلى ركعتين وصلى بصلاته كل من دخل معه — وكان ذلك سنة ٣٦٢ﻫ — وفي غد هذا اليوم خرج جماعة الأشراف والقضاة والعلماء والشهود ووجوه أهل البلد وسائر الرعية؛ لتهنئة المعز، وأمر المعز بالكتاب على المشايخ في سائر مدينة مصر: خير الناس بعد رسول الله أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام».٢٢
«ولثماني عشرة من ذي الحجة من هذه السنة وهو يوم «غدير خم»٢٣ تجمَّع خلق من أهل مصر والمغاربة للدعاء، فأعجب المعز ذلك، وكان هذا أول ما عمل عيد الغدير بمصر».٢٤

ثم اتخذوا يوم عاشوراء يوم بكاء على الحسين، وكانوا يجتمعون عند قبر كلثوم بنت محمد بن جعفر بن محمد الصادق، وقبر نفيسة.

وضُربت الدنانير في أيام المعز، وعلى أحد وجهيها «لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. عليٌّ أفضل الوصيين، وزير خير المرسلين.» وفي أيام العزيز أبطل سنة ٣٦٣ﻫ صلاة التراويح من جميع مساجد مصر.

وكانت تحدث فتن ومصادمات بين المصريين السنيين والشيعة في المناسبات المختلفة.

فقد روي أنه قطعوا لسان من احتجَّ على منع صلاة التراويح، وفي سنة ٣٨١ﻫ ضرب رجلٌ من أهل مصر، وطيف به في المدينة؛ لأنهم وجدوا عنده كتاب «الموطأ» لمالك بن أنس.٢٥
وفي سنة ٣٩٣ﻫ عوقب رجل بدمشق وطيف به في المدينة، ونادوا عليه: «هذا جزاء من يحب أبا بكر وعمر.»٢٦

ولكن هذه السياسة لم تكن ثابتة مطردة، بل كانت قلقة مضطربة كاضطراب سياسة الفاطميين؛ فأحيانًا يبالغون في اضطهاد أهل السنَّة، وأحيانًا يسمحون لهم بحريتهم، كما كانوا أحيانًا يضطهدون اليهود والنصارى إلى أقصى حد، وأحيانًا يبالغون في إكرامهم إلى أقصى حد.

وقد رتَّب الفاطميون الدعوة، وقووها وأحكموها وجعلوا عليها رئيسا سموه «داعي الدعاة»، ومنزلته تلي قاضي القضاة، ويتزيا بِزِيِّهِ، واشترطوا فيه أن يكون عالمًا بجميع مذاهب أهل البيت، وتحته اثنا عشر نقيبًا، وله نواب كنواب الحكم في سائر البلاد، ويحضر ما يقال في الدعوة ويقره داعي الدعاة، ثم يقره الخليفة، ويتلى ما يحضر يوم الاثنين والخميس على الرجال في مكان، وعلى النساء في مكان. وهناك مجالس للعامة، ومجالس للخاصة، وكانت تسمى مجالس الدعوة، مجالس الحكمة.٢٧

واتخذت المساجد الكبيرة مركزًا لهذه الدعاية كمسجد عمرو في الفسطاط، ومسجد ابن طولون، والأزهر، والمساجد الكبري في البلدان.

وبجانب هذه الدعوات الظاهرة دعوات سرية لا تقال إلا لخاصة المخلصين، يقول الخليفة لداعي الدعاة في كتاب له: «واتل مجالس الحكم التي تخرج إليك في الحضرة على المؤمنين والمؤمنات، والمستجيبين والمستجيبات في قصور الخلافة الزاهرة، والمسجد الجامع بالمعزية القاهرة، وصن أسرار الحكم إلا عن أهلها، ولا تبذلها إلا لمستحقها ولا تكشف للمستضعفين ما يعجزون عن تحمله، ولا تستقل أفهامهم بتقبله.» ويقول: «ولا تُلْقِ الوديعة إلا لحفَّاظ الودائع، ولا تلق الحبَّ إلا في مزرعة لا تُكْدِي على المزارع، وتوخ لغرسك أجَلَّ المغارس.» … إلخ.٢٨
وجاء قوم من العلماء المغاربة في ركب المعز، وهم ماهرون في الدعوة، واقفون على أسرار تعاليم أهل البيت، لعل من أشهرهم النعمان بن محمد بن حَيُّون الذي تولى القضاء في مصر على مذهب أهل البيت هو وأولاده وأسرته عهدًا طويلًا في الحكم الفاطمي؛ وكانت هذه الأسرة تقوم بالقضاء وبالدعوة وبالتأليف في المذهب الشيعي. وكان النعمان هذا مالكى المذهب، ثم انتقل إلى مذهب الإمامية، وألف فيه تصانيف كثيرة، قال ابن زولاق: إنه ألَّف لأهل البيت من الكتب آلاف أوراق بأحسن تأليف وأملح سجع، وكان في غاية الفضل من أهل القرآن والعلم بمعانيه، وعالمًا بوجوه الفقه، وعلم اختلاف الفقهاء، واللغة والشعر والمعرفة بأيام الناس، مع عقل وإنصاف، وله ردود على المخالفين له، رد على أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن سريج.٢٩ ثم إن محمد بن النعمان قاضي المعز والعزيز، وكان واسع العلم في الفقه والتاريخ والنجوم، يقضي بين الناس، ويقرأ في القصر علوم آل البيت، ويزدحم الناس على سماعه حتى يموت بعضهم من الزحام، كما كان من أشهرهم عبد العزيز بن محمد بن النعمان، كان من أعلم الناس بفقه الإمامية. قال ابن كثير: إنه ألف في العقائد الشيعية الكتاب المسمَّى «البلاغ الأكبر والناموس الأعظم». وقد ردَّ على هذا الكتاب أبو بكر الباقلاني.

كان في مصر والشام كثير من الفقهاء الشافعية والمالكية والحنفية، وكانوا لا يرون التشيع، فكانوا يستنكرون تعاليمهم، ولكن في تحفظ؛ لأن الدولة للتشيع.

ولهذا نرى قلة الفقهاء المالكية والشافعية والحنفية في مصر والشام في هذا العصر، — وخاصةً في أول عهد الفاطميين أيام قوتهم — ومع هذا نرى أمثال أبي بكر محمد النِّعَالي المالكي إمام المالكيين في عهده، كانت حلقته في جامع الفسطاط تدور على سبعة عشر عمودًا لكثرة من يحضرها، توفي سنة ٣٨٠ﻫ. ولا بد أن يكون ذلك في فترة فترت فيها حدة التشيع.

ولكن على كل حال أنتجت هذه الحركة حياة فكرية نشيطة. وكما ذكرنا كانت الحركة الفلسفية تشايع التشيع، فامتزجت الفلسفة بالدعوة الشيعية.

واستتبعت الدعوة للتشيع تنظيم وسائل الدعاية من إنشاء المساجد ودور الكتب. فالمساجد كانت لهذا العهد هي المدارس وهي المحاريب، وهي أمكنة العبادة وهي مكان الخطب السياسية فيما يجدُّ من الأحداث، فكانت تقوم بوظائف اجتماعية أكثر جدًّا مما تقوم به الآن.

فلما كان المسجدان الكبيران في مصر — مسجد الفسطاط ومسجد ابن طولون، وكانا مركزي التعليم السُّنِّي من قَبْل الفاطميين — دعا الأمرُ عند إنشاء القاهرة إلى إنشاء مساجد تقام فيها الصلوات، وتنشر منها الدعوة الشيعية بجانب تلوين مسجدي مصر بالتشيع أيضًا، وتكون أيضًا مركزًا لنشر المبادئ السياسية والاجتماية التي يراد نشرها، فأُسِّس الأزهر لهذا الغرض؛ بناه جوهر قائد المعز، وأقيمت فيه أول جمعة في شهر رمضان سنة ٣٦١ﻫ، وكان الخليفة الفاطمي يخطب فيه بنفسه كل جمعة إلى أن أنشأ الحاكم جامعه سنة ٣٨٠ﻫ، فوزعت الخطبة على المساجد الأربعة؛ وكان الخليفة يخطب في الجامع الحاكمي خطبة، وفي الأزهر خطبة، وفي جامع ابن طولون خطبة، وفي جامع عمرو بن العاص خطبة، محفوفًا بالوزير والقاضي وداعي الدعاة.

واتخذ الأزهر كغيره مدرسة لدراسة المذهب الشيعي، قال المقريزي: «إن أول ما درس بالأزهر الفقه الفاطمي على مذهب الشيعة، فإنه في شهر صفر سنة ٣٦٥ﻫ جلس علي بن النعمان القاضي بجامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر، وأملى مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت، ويعرف هذا المختصر «بالاقتصار» وكان جمعًا عظيمًا، وأثبت أسماء الحاضرين.» وألف يعقوب بن كلس الوزير السابق الذكر كتابًا في الفقه يتضمن ما سمعه من المعز، وهو مبوب على أبواب الفقه يشتمل على فقه الطائفة الإسماعيلية، وكان له مجلس في يوم الثلاثاء يجتمع فيه الفقهاء وجماعة من المتكلمين وأهل الجدل، وكان يجلس أيضًا في يوم الجمعة فيقرأ مصنفاته على الناس بنفسه، وأجرى العزيز بالله الأرزاق لجماعة من الفقهاء يحضرون مجلس الوزير، وأمر العزيز أيضًا لهؤلاء الفقهاء ببناء دار إلى جانب الجامع الأزهر؛ فإذا كان يوم الجمعة تحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى صلاة العصر، وكان عدتهم خمسة وثلاثين رجلًا.

وبقي الأزهر مركز الفاطمي إلى أن بنى الحاكم جامعه، فتحلَّق فيه الفقهاء الذين يتحلَّقون في الجامع الأزهر.

ووقَّف الحاكم الأوقاف على الأزهر، وعلى جامع راشدة، وجامع المقس، وعلى دار الحكمة، من عقار وكتب.

ثم عنيت الدولة الفاطمية بالكتب عناية كبيرة، فكان من أشهر خزائن القصور الفاطمية خزانة الكتب، وقد نقل المقريزي عن المسبِّحي — مؤرخ الدولة الفاطمية، والذي عاش في كنفها — أنه كان بخزانة العزيز نيف وثلاثون نسخة من كتاب «العين» للخليل بن أحمد، وما ينيف على عشرين نسخة من «تاريخ الطبري»، ومائة نسخة من «الجمهرة» لابن دريد — ثم قال: إنه كان في سائر العلوم بالقصر أربعون خزانة من جملتها خزانة فيها ثمانية عشر ألف كتاب من العلوم القديمة — يعني: الفلسفة والطب والإلهيات وما إليها — هذا إلى العناية بالناحية الأثرية من اقتناء الكتب بخطوط المؤلفين، وما عني فيها بحسن الخط والتجليد، وينقل المقريزي أيضًا عن ابن الطوير أن كل خزانة تحتوي على عدة رفوف، والرفوف مقطَّعة بحواجز، وعلى كل حاجز باب مقفل بمفصلات وقفل، وفيها من أصناف الكتب ما يزيد على مائتي ألف كتاب من المجلَّدات ويسير من المجردات، فمنها الفقه على سائر المذاهب، والنحو واللغة، وكتب الحديث، والتواريخ وسير الملوك، والنجامة والروحانية والكيمياء — من كل صنف النسخ — ومنها النواقص التي ما تُمِّمت — كل ذلك بورقة مترجمة ملصقة على كل باب خزانة.٣٠

وقد ذكر المقريزي أيضًا أنه دخل هذه المكتبة «مكتبة الفاطميين» أحد السياح، فرأى فيها مقطعًا من الحرير الأزرق غريب الصنعة فيها صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومساكنها، وجميع المواطن المقدسة مبيَّنة للناظر، مكتوبة أسماء طرائقها ومدنها وجبالها وبلادها وأنهارها وبحارها بالذهب، وغيرها بالفضة والحرير.

ثم أسَّس الحاكم بأمر الله دار الحكمة سنة ٣٩٥ﻫ، وقد اختار هذا الاسم رمزًا إلى الدعوة الشيعية؛ لأن مجالس الدعوة كانت تسمى مجالس الحكمة،٣١ وكانت تسمى هذه الدار أيضًا دار العلم، وصفها المسبِّحي فقال: «فتحت الدار الملقبة بدار الحكمة بالقاهرة، وجلس فيها الفقهاء، وحملت إليها الكتب من خزائن القصور المعمورة، ودخل الناس إليها، ونسخ كل من التمس نسخ شيء مما فيها ما التمسه، وكذلك من رأى قراءة شيء مما فيها، وجلس فيها القراء والمنجِّمون وأصحاب النحو واللغة والأطباء، بعد أن فرشت هذه الدار وزخرفت، وعلقت على جميع أبوابها الستور، وأقيم قوام وخدام وفراشون وغيرهم وسُموا بخدمتها، وحصل في هذه الدار من خزائن أمير المؤمنين الحاكم بأمر الله من الكتب التي أمر بحملها إليها من سائر العلوم والآداب والخطوط المنسوبة ما لم ير مثله مجتمعًا لأحد قطُّ من الملوك، وأباح ذلك كله لسائر الناس على طبقاتهم ممن يؤثر قراءة الكتب والنظر فيها … وحضرها الناس على طبقاتهم؛ فمنهم من يحضر لقراءة الكتب، ومنهم من يحضر للنسخ، ومنهم من يحضر للتعلم، وجعل فيها ما يحتاج الناس إليه من الحبر والأقلام والورق والمحابر … وفي سنة ٤٠٣ﻫ أحضر «الحاكم» جماعة من دار العلم من أهل الحساب والمنطق وجماعة من الأطباء إلى حضرته، وكانت كل طائفة تحضر على انفراد للمناظرة بين يديه، ثم خلع على الجمع وصرفهم … ووقف الحاكم بأمر الله أماكن في فسطاط مصر عليها، وقد استمرت على هذا الوضع إلى سنة ٥١٦ﻫ؛ حيث كثرت فيها المناقشات الدينية التي سببت فتنًا، فأغلقت ثم أعيد فتحها.»٣٢

فهي بهذا الوصف مكتبة قيمة، ومدرسة تدرَّس فيها العلوم المختلفة وقاعة مناظرات.

كان بجانب الحركة الدينية من سنية وشيعة حركات أخرى مدنية، من ذلك حركة تاريخية، فقد نبغ من مؤرخي هذا العصر الشابُشْتِي، وهو أبو الحسن علي بن محمد، وكان في عهد العزيز بن المعز، وكان نديمه وجليسه، والقيِّم على خزانة كتبه، اشتهر بكتابه «الديارات»، ذكر فيه كل دير بالعراق والموصل والشام والجزيرة ومصر، وجميع الأشعار التي قيلت في كل دير وما جرى فيه، وكان من حسن الحظ بقاء هذا الكتاب إلى عصرنا هذا مخطوطًا ينتظر من ينشره. توفي سنة ٣٨٨ﻫ.

كما نبغ من المؤرخين في العصر الفاطمي «المسبِّحي»، وهو عزُّ الملك محمد بن عبد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الحرَّاني الأصل، المصري المولد، وكان من أقطاب مصر في العلم والسياسة والإدارة؛ تولَّى للحاكم بأمر الله بعض ولايات الصعيد ثم تولى ديوان الترتيب، وعني بتاريخ مصر، وألَّف فيها تاريخه الكبير، قال هو فيه: «إنه التاريخ الجليل قدره، الذي يُسْتغنى بمضمونه عن غيره من الكتب الواردة في معانيه، وهو أخبار مصر ومن حلَّها من الولاة والأمراء والأئمة والخلفاء، وما بها من العجائب والأبنية، واختلاف أصناف الأطعمة، وذكر نيلها، وأحوال من حلَّ بها إلى الوقت الذي كتبنا فيه تعليق هذه الترجمة، وأشعار الشعراء، وأخبار المغنِّين، ومجالس القضاة والحكام والمعَدلين «الشهود»، والأدباء والمتغزِّلين وغيرهم، وهو ثلاثة عشر ألف ورقة.»٣٣ فكان ينظر إلى التاريخ نظرة اجتماعية، ومن الأسف أن لم يصلنا من هذا الكتاب إلا قطعة مخطوطة، وفقد مع ما فقد من آثار الفاطميين الجليلة ويدلنا ما نقله المقريزي و«النجوم الزاهرة» عن هذا الكتاب أنه جليل القدر، دقيق النظر، مفيض في الوصف، جميل التعبير.

وله كتب أخرى كثيرة، منها: كتاب «درك البغية» في وصف الأديان والعبادات ٣٥٠٠ ورقة، وكتاب «الأمثلة للدول المقبلة» يتعلَّق بالنجوم والحساب في ٥٠٠ ورقة.

إلى كثير من الكتب الأدبية في النوادر والغزل، والأغاني ومعانيها وغير ذلك، عاش المسبِّحي من (٣٦٦ﻫ–٤٢٠ﻫ).

ثم القُضَاعي؛ أبو عبد الله محمد بن سلامة تولَّى القضاء بمصر، وقد اشتهر بوضعه كتابًا في خطط مصر سمَّاه «المختار في ذكر الخطط والآثار» كان عونًا للمقريزي على خططه، وقد أوفده المستنصر الخليفة الفاطمي إلى تيودورا إمبراطورة القسطنطينية سنة ٤٤٧ﻫ ليتحدث في الصلح بينهما، وقد مات سنة ٤٥٤ﻫ.

ثم كانت حركة أخرى طبية فلسفية رياضية علمية؛ اشتهر فيها محمد بن أحمد بن سعيد التميمي، أصله من بيت المقدس، ودخل مصر في العهد الفاطمي، واشتهر بالطب وخاصةً في خواص العقاقير وتركيب الأدوية؛ وصحب يعقوب بن كلِّس والخليفة العزيز، وصنَّف له كتابًا كبيرًا في عدة مجلدات سماه «مادة البقاء بإصلاح فساد الهواء، والتحرز من ضرر الأوباء»، ولقي الأطباء بمصر وحاضرهم وناظرهم، واختلط بأطباء الخاص القادمين من أرض المغرب في صحبة المعز عند قدومه، والمقيمين بمصر من أهلها، وكان منصفًا في مذكراته، غير رادٍّ على أحد إلا بطريق الحقيقة، وكان التميمي هذا موجودًا بمصر في حدود سنة ٣٧٠ﻫ.٣٤
ثم أبو الفتح منصور بن سهلان بن مقشر، كان نصرانيًّا، وكان طبيب الحاكم بأمر الله، ومن الخواص عنده، وكان متقدمًا في الدولة، وتوفي في أيام الحاكم، فاستطب بعده إسحاق بن إبراهيم بن نسطاس.٣٥

وعلي بن سليمان، وكان طبيبًا للعزيز بالله وولده الحاكم، وقد نقل بعض الكتب في الطب لأبقراط وجالينوس، كما ألَّف فيما بعد الطبيعة.

وأبو علي بن الهيثم، وأصله من البصرة، ثم انتقل إلى مصر في أيام الحاكم بأمر الله وأقام بها إلى آخر عمره، برع في الرياضيات والطبيعيات، وله مشاركة في الطب، وقد أتى مصر باستدعاء الحاكم لما بلغه أن له نظرية هامة في توزيع مياه النيل، ولكنه لما حضر وسافر إلى الشلال وخبر النيل هناك ودرسه أدرك خطأ نظريته، واعتذر للحاكم، ولكنه كان مصدر حركة فلسفية كبيرة وخاصة في الطبيعيات والرياضيات، وكان لا يهمه المال والجاه بجانب ما يهمه العلم والوقوف على الحقيقة، قال في كتبه: «إني لم أزل منذ عهد الصبا مُرَوِّيًا في اعتقادات الناس المختلفة، وتمسك كل فرقة منهم بما تعقتده من الرأي، فكت متشككًا في جميعه، موقنًا بأن الحق واحد، وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه، فلما كملت لإدراك الأمور العقلية انقطعت إلى طلب معدن الحق، ووجَّهت رغبتي وحرصي إلى إدراك ما به تنكشف تمويهات الظنون وتنقشع غيابات المتشكك المفتون.» … إلخ.

وقد ألف نحو مائتي كتاب في الرياضيات والطبيعة والفلسفة ظلَّت عماد الناس في الشرق والغرب، وخاصة كتاب «المناظر» — وما زال يؤلِّف ويلخص ويشرح في حركة دائبة مستمرة، وفي كل مرحلة من عمره يقيد أسماء ما ألَّف، ويقول: «وإن أطال الله لي في مدة الحياة، وفسح في العمر، صنفتُ وشرحتُ ولخَّصت من هذه العلوم أشياء كثيرة تتردد في نفسي، ويبعثني ويحثني على إخراجها إلى الوجود فكري.» وظلَّ وفيًّا لهذا العهد حتى مات حول سنة ٤٣٠ﻫ بعدما ملأ الدنيا تآليف في الهندسة والحساب والفلك والمساحة، ومنطق أرسطو، وكتابه في الشعر والنفس، وفي الطب، وفي البصر، ووقوع الإبصار به، والضوء، والبصريات، والمرايا المحرقة … إلخ، يعكف على عمله هذا في قبَّة على باب الجامع الأزهر.٣٦

وكان للمبشر بن فاتك؛ وهو أمير من أمراء مصر في العهد الفاطمي، ولع بالعلوم الفلسفية يقتني كثيرًا من كتبها، ويتبحر فيها؛ ويستفيد ابن الهيثم من علمه في الهيئة والرياضة.

واشتهر من هذه الطائفة علي بن رضوان رئيس أطباء الحاكم، وهو مصري الأصل من الجيزة، وكان أبوه فرَّانًا، ولاقى في تعلمه أهوالًا حتى برع في الطب، وصار له الذكر والسمعة العظيمة، والثراء الواسع، وقد قامت بسببه حركة فكرية نافعة تحركت بها الأفكار في مصر وبغداد؛ إذ دخل ابن رضوان المصري في مناظرة حادة مع ابن بطلان الطبيب النصراني البغدادي، وتُبُودِلَتْ بينهما الرسائل «ولم يكن أحد منهما يؤلف كتابًا، ولا يبتدع رأيًا إلا ويرد الآخر عليه»، وكان ابن رضوان طويل اللسان يكثر التشنيع على من يخالفه، وتعدَّت المناظرة من المسائل العلمية إلى التعبير بقبح الشكل، وكان ابن رضوان قبيح الشكل، فتناظرا أيضًا في أيهما خير أن يكون الطبيب جميلًا أو لا، ولما طالت المناظرات سافر ابن بطلان من بغداد إلى مصر ليرى مناظره، وأقام بها ثلاث سنين، واستمرت بينهما المناظرات. ويقول ابن أبي أصيبعة في المقارنة بينهما: كان ابن بطلان أعذب ألفاظًا، وأكثر ظرفًا، وأميز في الأدب وما يتعلق به، وكان ابن رضوان أطب وأعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها، وقد ألف ابن رضوان كتبًا كثيرة في الطب والفلسفة.

وكانت في مصر أيضًا حركة في النحو، من أشهر رجالها أبو بكر الأدفوي تلميذ أبي جعفر النحاس الذي تقدم ذكره، برع في علوم القرآن والنحو، له كتاب في علوم القرآن في مائة وعشرين مجلدًا مات، سنة ٣٨٨ﻫ.

ثم ابن بابشاذ، أحد أئمة النحو والأعلام في فنون العربية وفصاحة اللسان، ورد العراق تاجرًا في اللؤلؤ، وأخذ عن علمائها ورجع مصر، واستخدام في ديوان الإنشاء والرسائل مراجعًا يراجع ما يخرج من الديوان من الإنشاء، ويصلح ما يراه من الخطأ في الهجاء والنحو واللغة، ثم تزهد، وقد ألَّف شرحًا على كتاب «الجُمل» للزَّجاجي، و«المحتسب في النحو»، وتعليق في النحو يقارب خمسة عشر مجلدًا. مات سنة ٤٦٩ﻫ.

ثم كانت الحركة الأدبية؛ وفي الحق أن الشعر في العهد الفاطمي في مصر كان أول شعر مصري قيم من عهد فتح العرب لمصر؛ إذ كان قبل ذلك ليس له من قيمة إلا للوافدين على مصر من الخارج، أما شعر المصريين أنفسهم فكان محاولات أوَّلية، حتى إذا جاء الفاطميون جاء الشعر وجاد، ويرجع ذلك إلى أمور:
  • الأول: أن العصر الأول لفتح مصر كان عصر دهشة أعقبت الفتح، فلما استقرَّت الأمور وبدأ الشعر ينهض، تولَّى الحكم أتراك من مثل الطولونيين والإخشيديين، وليس لهم من الذوق العربي الراقي ما يستسيغون به الشعر، والشعر العربي بطبيعة موضوعاته التي كانت من مديح ونحوه لم يكن يزهر إلا على باب قصور الخلفاء والأمراء، فإن تذوقوه وشجعوه نما وازدهر، وإلا ضعف وانحدر، فلما جاء الفاطميون — وهم عرب لهم الذوق العربي، والثقافة العربية، وخاصة في أول عهدهم؛ إذ كان فيهم أيضًا الذوق البدوي — نما الشعر على بابهم، ولما جاءوا مصر جاءوا بذوقهم وشعرائهم، وتتابعت الموجات.
  • والثاني: أن الدولة الفاطمية كان أساسها الدعوة والدعاية بأوسع ما تدل عليه هذه الكلمة، حتى قلَّ أن نرى لها مثيلًا في تنظيم دعوتها سرًّا وجهرًا، والدقة في اختيار الأساليب المختلفة التي تناسب العامة والخاصة، والجاهل والعالم، والمتدين والملحد، والغبي والفيلسوف؛ فرأت بصائب نظرها أن الشعراء من أصلح الدعاة لمذهبهم؛ إذ هم يقومون في زمنهم مقام الجرائد السيارة في عصرنا، فاحتضن الخلفاء الفاطميون ووزراؤهم وأمراؤهم الشعراء ينفحونهم بالمال الكثير، والعطاء الوفير؛ ليطلقوا ألسنتهم بالقول في مدحهم ومدح مذهبهم.

وقد وضع ابن هانئ الأندلسي أول خطة لذلك وهو بالمغرب عندما اتصل بالمعز فاتح مصر ومؤسس القاهرة، فمدحه بغرر المدائح وعيون الشعر، وبالغ المعز في الإنعام عليه، ولم يكن هناك ممدوح أعز شاعره كما أعزَّ المعز ابنَ هانئ، فلما أنشده بالقيروان قصيدته التي أولها:

هل من أعقة عالج يبرين
أم منهما بقر الحدوج العين
أمر له بدست قيمته ستة آلاف دينار، فقال له: يا أمير المؤمنين! ما لي موضع يسع الدست إذا بسط، فأمر له ببناء قصر غرم عليه ستة آلاف دينار، وحمل إليه آلة تشاكل القصر والدست قيمتها ثلاثة آلاف دينار. ولما بلغه خبر وفاته وهو بمصر تأسف عليه كثيرًا، وقال: «لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا الرجل كنا نرجو أن نفاخر به شعراء المشرق فلم يقدر لنا ذلك.»٣٧

وقد أسس ابن هانئ في شعره عقائد الإسماعيلية، وصاغها صياغة شعرية، وعلَّم الشعراء كيف يمدحون الخلفاء الفاطميين من ناحية عقائدهم، كما يمدحونهم من ناحية خلائقهم، فيقول مثلًا:

أنت الورى فاعْمُر حياة الورى
باسم من الدعوة مشتق٣٨

ويقول:

قد كان ينذر بالوعيد لطول ما
أصغى إليك ويعلم التأويلا٣٩

•••

أهل النبوة والرسالة والهدى
في البينات وسادةٌ أطهار
والوحي والتأويل والتحليل والتـ
ـحريم لا خلف ولا إنكار

ويقول:

ماذا تريد من الكتاب نواصب
وله ظهور دونها وبطون

وهو بذلك يؤكد عقيدة الشيعة في أن للشريعة ظاهرًا وباطنًا، وأن التأويل لا يعلمه إلا الله ورسوله وخلفاؤه المنصوبون من قبله، إمامًا بعد إمام إلى آخر الأئمة المعصومين، يعلِّم الماضي منهم من يأتي بعده، وسائر الناس يستفيدون علم التأويل منهم بقدر استعدادهم.

ويقول مؤيدًا لهذه التعاليم:

إذا كان أمنٌ يشمل الأرض كلها
فلا بد فيها من دليل مقدَّم

ويقول:

لولاك لم يكن التفكر واعظًا
والعقل رشدًا والقياس دليلا
لو لم تكن سكن البلاد تضعضعت
وتزايلت أركانها تزييلا
وهكذا يؤسس في شعره الدعوة، ونظرية الإمامة وعصمة الأئمة، وعلم الإمام بالحقائق، وأنه مظهر نور الله، فعلم الشعراء كيف يمدحون، وكيف يقولون.٤٠

فلحاجة الفاطميين للدعوة قربوا الشعراء، فكثر الشعر وحسن وجاد، فرأينا شعراء ممتازين في هذا العصر لم يكن مثلهم في مصر، شعراء أتوا من المغرب مع المعز وبعده، وشعراء وافدون من العراق والشام واليمن، وشعراء من المصريين أنفسهم، وراج الشعر لكثرة الدوافع وقوتها، فنوع الشعر الغالب على الأدب العربي — وهو شعر المديح — إنما يكثر ويزدهر على باب القصور السخية، والفاطميون كانوا من أسخى الناس في هذا الباب ثم هم أكثروا من الحفلات العامة، مما لم يكن له نظير في مصر لا قبلهم ولا بعدهم، وهذه الحفلات والأعياد كانت في غاية من الفخامة والضخامة، قد أقروا الأعياد التي كانت قبلهم، وزادوا عليها: فموسم رأس السنة، ويوم عاشوراء، ومولد النبي، ومولد علي، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد فاطمة، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وأول شعبان ونصفه، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وعيد الفطر، وعيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وفتح الخليج، ويوم النيروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس … إلخ، مما بقي أثر بعضه عند المصريين إلى اليوم.

وكان في كثير من هذه الأعياد، يركب الخليفة بزيه المفخم، وهيئته المعظمة، وتوزع الخلع والجوائز، وتمد الأسمطة، فتكون كل هذه المظاهر حافزة للشعراء على أن يقولوا ويكثروا ويجيدوا في هذا الباب من القول الذي يعده الفاطميون دعاية لهم لا بد منها.

روى المقريزي عن الشريف أبي عبد الله الجواني، أن الخليفة الآمر بأحكام الله بنى منظرة من خشب مدهونة، فيها طاقات تشرف على خضرة بركة الحَبَش، وصور فيها الشعراء كل شاعر وبلده، واستدعى من كل واحد منهم قطعة من الشعر في المدح، وكتب ذلك عند رأس كل شاعر، وبجانب صورة كل منهم رفٌّ لطيف مذهَّب، فلما دخل الآمر وقرأ الأشعار، أمر أن يحطَّ على كل رفٍّ صُرَّة مختومة فيها خمسون دينارًا، وأن يدخل كل شاعر ويأخذ صرته بيده، ففعلوا ذلك، وأخذوا صررهم، وكانوا عدة شعراء.٤١

وقد أسس هذه الخطة — خطة الاحتفاء بسماع الشعر ورعايته والمكافأة العظيمة عليه — الخليفة المعز ووزيره يعقوب بن كلِّس، ثم صارت تقليدًا فاطميًّا متبعًا بالمعز أسس له ابن هانئ منهج الشعراء في المديح، ويعقوب بن كلس قرَّب الشعراء وشجعهم وأغناهم، وكان من أولهم في ذلك الشاعر أبو حامد الأنطاكي المعروف بأبي الرَّقَعْمَق، وأكثر شعره وقف على مدح المعز والعزيز والحاكم بأمر الله، وجوهر القائد، وخاصة الوزير ابن كلِّس من مثل قوله فيه:

كل يوم له على نوب الدهـ
ـر وكر الخطوب بالبذل غاره
ذو يدٍ شأنها الفرار من البخـ
ـل وفي حومة الندى كرَّاره
هي فلت عن العزيز عداه
بالعطايا وكثَّرت أنصاره
هكذا كل فاضل يده تُمـ
ـسي وتضحي نفَّاعة ضرَّاره
فاستجره فليس يأمن إلا
من تفيَّا ظلاله واستجاره
وإذا ما رأيته مطرقا يعـ
ـمل فيما يريده أفكاره
لم يدع بالذكاء والذهن شيئًا
في ضمير الغيوب إلا آثاره
لا ولا موضعًا من الأرض إلا
كان بالرأي مدركًا أقطاره
زاده الله بسطة وكفاه
خوفه من زمانه وحذاره
وقد أفرد العماد الأصفهاني في كتابه «خريدة القصر وجريدة العصر» جزءًا خاصًّا لشعراء مصر، بلغ عددهم نحو المائة، ترجم لكل منهم وذكر شيئًا من شعره.٤٢

ويمكننا أن نقسم الشعر المصري الفاطمي أقسامًا ثلاثة: قسم في المديح وهو أكبر الأقسام كعادة الشعر العربي، وكما رأيت في شعر أبي الرقَعْمَق، ويمتاز عما قبله من شعر مصر بالجزالة والقوة للأسباب التي ذكرناها، ومن أشهر هؤلاء المهذب بن الزبير، وكان أكثر مديحه في الصالح بن رُزِّيك، ومن أشهر قصائده فيه قصيدة نونية يمدحه بها بعد انتصار أسطول مصر على أسطول الروم، مطلعها:

أعلمت حين تجاور الحيَّان
أن القلوب مواقد النيران

ومثل المهذَّب المَوْصِلي، وعُمَارة اليمني.

ويصح أن نلاحظ أن هذا الشعر الذي قيل في مديح الفاطميين شعر فرح مغتبط؛ إذ كان الشيعة لأول أمرهم قد نجحوا في تأسيس دولة ضخمة، وتبوءوا فيها كرسي الخلافة بعد أن طال أمدهم في اضطهاد وتعذيب على يد الأمويين والعباسيين، فكان شعر شعرائهم حزينًا آسفًا كشعر السيد الحِمْيَري، والكميت ودِعْبل الخزاعي.

ثم شعر تعليمي في الدعوة، وقد بدأه ابن هانئ الأندلسي في بعض شعره، وقد عرضنا قبلُ نماذجَ منه، وبلغ قمته المؤيد الشيرازي داعي الدعاة، فأكثر من الشعر في هذا الباب وأفاض، وله ديوان في ذلك، منه في تأييد علم الباطن.

ورب معنى ضمَّه كلام
كمثل نور ضمَّه ظلام
باق بقاء الحَبِّ في السنابِلِ
في معقل من أحرز المعاقل
وإنما باب المعاني مُقْفل
وأكثر الأنام عنه غُفَّل
مفتاحه أضحى بأيدي خَزَنَه
بهم إلهي علمه قد خزنه
كما يلوذ الخلق طرًّا بهمُ
خصوا لهذا العلم من ربهمُو
فما أبو حنيفة والشافعي
— حيث همُ قد نفقوا — بنافع
أولئك الأبرار آل المصطفى
ومن بهم مَرْوَةُ عزَّت والصَّفَا
هم البدور والنجوم اللُّمَّعُ
وللهدى وللعلوم المنبع
هم الثقاتُ والنفاة للشُّبَه
والمنقذون الناس من كل عَمَه
لهم سمعنا ولهم أطعنا
فبدَّلونا بعد خوف أمنا
فما علينا مشكلٌ بمشكل
بهم كُفِينا كل خط معضِل
وأرشدونا سبل الصواب
وعلَّمونا علم ذا الكتاب
مبرَّأ من هجنه التناقض
مسلَّمًا من خوض كل خائض
وهكذا كل ديوانه في الدعوة وما إليها.٤٣

ثم شعر هو أرقى أنواع الشعر وأصدقه، ينبع من مشاعر الشاعر، ويتدفَّق في رقَّة وسلاسة، وكان على رأس الشعراء من هذا النوع شاعران فاطميان: تميم بن المعز، والعَقِيلي.

فأما تميم، فهو ابن الخليفة المعز فاتح مصر؛ ولم يل الخلافة لأن المعز جعل ولاية عهده لابنه العزيز نزار دون تميم، فحُرم الخلافة، ولكنه تبوأ عرش الأدب فكان شاعرًا ماهرًا لطيفًا ظريفًا، يشعر بخلجات نفسه، ونبضات قلبه، ولم تر مصر شاعرًا من هذا القبيل قبله مثله، يصف حياته اللاهية من حبه وعشقه وليالي غرامه ونحو ذلك في قولٍ عذب، وفي أعماقه شعور بالحزن؛ إما لطبيعة مزاجه ورقة جسمه، أو لخروج الخلافة من يده وهو يرى أنه أولى بالفضل، أو لأنه عذبه الحب فأضناه، أو لكل ذلك مجتمعًا، فمن قوله:

أما والذي لا يملك الأمر غيرُه
ومن هو بالسر المكتَّم أعلم
لئن كان كتمان المصائب مؤلمًا
لَإعلانها عندي أشد وآلم
وبي كل ما يُبكي العيونَ أقلَّه
وإن كنت منه دائمًا أتبسم

وتميم بن المعز أشبه شيء بابن المعتز في قرابة الكنية، والنشأة في بيت الملك، وقوة الشاعرية، وسوء الحظ في دنيا المناصب، وإن تخالفا في أن ابن المعتز سُني عباسي يدعو للعباسيين ويرد على الشيعة، فيرد عليه ابن المعز في مثل قوله وعلى رويِّ قصيدته. يقول ابن المعتز في الإشادة بالعباسيين وردِّ دعوة الشيعة قصيدة مطلعها:

أي رسم لآل هند ودار
دَرَسا غير ملعب ومنار

يقول فيها:

هاشمي إذا نسبت ومخصو
ص ببيت من هاشم، غير عار
أخْزن الغيظ في قلوب الأعادي
وأُحِلُّ الجَبَّار دار الصَّغار
أنا جيش إذا غدوت وحيدًا
ووحيد في الجحفل الجرَّار

… إلخ.

فيرد تميم بن المعز بقصيدته:

يا بني هاشم ولسنا سواء
في صغار من العلا وكبار
إن نكن ننتمى لجد فإنا
قد سبقناكمو لكل فخار
ليس عبَّاسكمْ كمثل عليٍّ
هل تقاس النجوم بالأقمار؟!

… إلخ.

ولكن دعنا من هذا، فمزية تميم الكبرى في رقة شعره، وصدق شعوره وسلاسته، فكان في ذلك أستاذ البهاء زهير بعده، كقوله:

يا دهر ما أقساك من متلوِّن
في حالتيك وما أقلك منصفا
أتروح للنكس الجهول ممهِّدًا
وعلى اللبيب الحر سيفًا مرهفا
فإذا صفوت كدرت شيمة باخل
وإذا وفيت نقضت أسباب الوفا
لا أرتضيك وإن صفوت لأنني
أدري بأنك لا تدوم على الصفا
زمن إذا أعطى استرد عطاءه
وإذا استقر بدا له فتحرَّفا
ما قام خيرك يا زمان بشرِّه
أولى بنا ما قلَّ منك وما كفى

وقوله:

قالت وقد نالها للبين أوجعه
والبين صعب على الأحباب موقعه
أجعل يديك على قلبي فقد ضعفت
قواه عن حمل ما فيه وأضْلُعه
كأنني يوم ولَّت حسرة وأسى
غريق بحر يرى الشاطي ويُمْنَعه

وله الأوزان الشعرية الظريفة كقوله:

دم العشاق مطلول
ودَين الحب ممطول
وسيف اللحظ مسلول
ومُبْدي الحب معذول
وإن لم يُصْغِ للائم
وأحورَ ساحر الطرْفِ
يفوق جوامع الوصف
مليح الدَّل والظرف
جنت ألحاظه حتفي
فمن يُعدي على الظالم؟
يعنِّفني على حبِّي
ويهجرني بلا ذنب
كأني لست بالصب
لقهوة ريقه العذب
أما في الحب من راحم؟

… إلخ.

وقد مات سنة ٣٧٤ﻫ في خلافة أخيه، ولم يعمر طويلًا؛ إذ كان عمره يوم وفاته نحوًا من سبع وثلاثين سنة، وهذه سُنَّة القلب المحترق.٤٤

وأما العَقيلي، فهو أبو الحسن علي بن الحسن بن حَيْدرة العقيلي، كان في المائة الخامسة، وكان من الأشراف، وكان له متنزهات بجزيرة الفسطاط، ولم يغنِّ لخليفة أو أمير، بل غنَّى لنفسه في حبِّه ومتنزهاته، وكان يعد من أئمة المدرسة التي تعنى بالتشبيه وتجيده، أمثال ذي الرمة أولًا، وابن المعتز أخيرًا، ثم سلك مسلك أبي نواس في الخمر وتوليد المغاني منها، وأولع بالطبيعة الجميلة يستجليها ويستمتع بها، كقوله:

الروض في ديباجة خضراء
والجو في فَرَجيَّة دكناء
والأرض قد نظم الربيع لجيدها
عِقْدًا من الصفراء والحمراء
والراح ينثر في مُذَاب عقيقها
دُرَرَ الفواقع جوهريُّ الماء
فاقصد رضا رضوانها بالشرب إن
أحببت سكنى جنة السرَّاء

وقوله في وصف صديق:

ظلَّلني بظلِّه الظَّليلِ
أخ نَداه واضح السبيلِ
يسير في المجد بلا دليل
مهذَّب الجملة والتفصيل
أخلاقه تَنضح بالجميل
كأنه عافية العليل

•••

لأَحْسنُ من مصافحة الصفاح
ومن وقع الرماح على الرماح
بقاع ترقص الأمواج فيها
على النغمات من رمي الرماح
وأغصانٌ يذهِّبها بَهَار
وغيطان يفضِّضها أقاح
وإن جنح الشباب إلى التصابي
فخلِّ عنانه طوعَ الجماح
فصبح العيش سوف يعود ليلًا
إذا ما الليل نغص بالصباح٤٥
أتطمع بعد شيبك في سرور
محالٌ أن تطير بلا جناح٤٦

ثم ما بقي لنا من النثر الفني الفاطمي ولو كان قليلًا، كبعض الكتب الرسمية التي ذكرها القلقشندي في «صبح الأعشى»، ورسالة ابن القارح لأبي العلاء — وقد عاش ابن القارح في زمن الحاكم — وردَّ عليها أبو العلاء ﺑ «رسالة الغفران»، وكرسالة داعي الدعاة إلى أبي العلاء، وجداله معه في ذبح الحيوان، إلى غير ذلك من رسائل منثورة هنا وهناك، كل هذا على قِلَّته يدل على تقدم النثر الفني، وميله إلى الزينة من سجع وبديع واقتباس، مما هو ظل لحياة الترف في قصور الخلفاء، كما يدل على تأثر بسعة الثفافة التي عظمت في هذا العصر.

هوامش

(١) انظر: أخبار سيبويه المصري لابن زولاق ص١٨.
(٢) من كتاب فتوح مصر لابن عبد الحكم.
(٣) سيبويه المصري: ١٨.
(٤) الكتاب بطوله في صبح الأعشى: ٧ / ٥ وما بعدها.
(٥) انظر طبقات الأطباء: ٢ / ٨٦.
(٦) يتيمة الدهر ١ / ٦ وما بعدها.
(٧) اليتيمة ١ / ١٤.
(٨) ابن خلكان ١ / ٥٢١.
(٩) العكبري ٢ / ٧٩.
(١٠) انظر اليتيمة: ١ / ١٣.
(١١) رسائل الخوارزمي: ١٧١.
(١٢) النسبة إلى الخالدية بلدة بالموصل.
(١٣) فهرست ابن النديم: ١٦٩.
(١٤) انظر ما كتب عنه في هذا الجزء قبل.
(١٥) طبقات الأطباء: ٢ / ١٤٠.
(١٦) انظر ابن خلكان: ٢ / ٤٩٥.
(١٧) المكين: ابن العميد.
(١٨) خطط المقريزي: ١ / ٣٩٥.
(١٩) اتعاظ الحنفاء: ٦٩.
(٢٠) المصدر نفسه: ٧٧.
(٢١) ص٧٩.
(٢٢) ص٩٠.
(٢٣) غدير خم: موضع على ثلاثة أميال من الجُحفة، وهو مجتمع ماء تصب فيه عين وحوله شجر كثير، وسبب الاحتفال به ما يرويه الشيعة عن البراء بن عازب قال: «كنا مع رسول الله في سفر لنا بغدير خُم، ونودي: الصلاة جامعة. فصلى الظهر، وأخذ بيد علي بن أبي طالب، فقال ألستم تعلمون أني أولى بكل مؤمن من نفسه؟ قالوا: بلى. فقال: من كنت مولاه فعليٌّ مولاه، اللهم وال من والاه، وعاد من عاداه.» وأول من اتخذه عيدًا معز الدولة البويهي سنة ٣٥٢ﻫ، ثم في مصر سنة ٣٦٢ﻫ.
(٢٤) ص٩٤.
(٢٥) خطط المقريزي ٢ / ٣٤١.
(٢٦) النجوم الزاهرة ٢ / ٩١.
(٢٧) انظر: خطط المقريزي: ١ / ٣٩١.
(٢٨) صبح الأعشي: ١٠ / ٤٣٦.
(٢٩) وفيات الأعيان: ٢ / ٢٤٦.
(٣٠) خطط المقريزي: ١ / ٤٠٨ وما بعدها.
(٣١) الخطط: ١ / ٣٩١.
(٣٢) الخطط: ١ / ٤٥٨.
(٣٣) ابن خلكان: ١ / ٧٣٦.
(٣٤) القفطي: ص١٠٦.
(٣٥) طبقات الأطباء ٢ / ٨٩.
(٣٦) انظر: طبقات الأطباء ٢ / ٩٠ وما بعدها.
(٣٧) ابن خلكان في ترجمة ابن هانئ.
(٣٨) أي أنت الناس فاعمر أعمارهم مجموعة، وأنت داع إلى الله يدعوهم إلى سبيل الهداية، فيؤسس بذلك نظرية الدعوة.
(٣٩) الضمير في «كان» يعود على السيف، يقول: كاد سيفك ينذر بالوعيد، ويعلم التأويل لطول مصاحبته إياك واستماعه لبيانك.
(٤٠) انظر: ديوان ابن هانئ الذي نشره الدكتور زاهد علي.
(٤١) خطط المقريزي: ١ / ٤٨٦.
(٤٢) وهذا الجزء هو الجزء الثاني، ومنه نسخة فوتوغرافية في دار الكتب.
(٤٣) انظر ديوانه مخطوطًا في مكتبة جامعة فؤاد.
(٤٤) له ديوان شعر مخطوط بمكتبة الجامعة.
(٤٥) يريد: إذا نزل الشيب بالرأس.
(٤٦) انظر مجموعة من شعره في كتاب المغرب ص٥٢ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤