مصر والشام
توالى على مصر والشام في هذا العهد الدولة الطولونية (٢٤٥ﻫ–٢٩٢ﻫ)، ثم الإخشيدية (٣٢٣ﻫ–٣٥٨ﻫ)، والدولة الحمدانية في حلب والموصل (٣١٧ﻫ–٣٩٤ﻫ)، والفاطمية من (سنة ٣٦٢ﻫ–٥٦٧ﻫ).
وكانت الحركة العلمية فيها تنمو تبعًا لسنَّة النشوء والارتقاء.
وأظهر الحركات العلمية فيهما الحركة الدينية من تفسير وحديث وفقه وقراءات؛ إذ كانت هي الحركة العلمية الغالبة في المملكة الإسلامية، وكان رجالها أنشط العلماء، وأميلهم إلى الرحلة للإفادة والاستفادة؛ للوازع الديني القوي عندهم، فكان يرِد على مصر والشام كثيرون من العلماء الدينيين من العراق وفارس والحجاز والمغرب، فينشرون علمهم ويأخذون ما ليس عندهم، فكان مسجد عمرو بن العاص في الفسطاط، ومسجد أحمد بن طولون، والأزهر فيما بعد مصدرًا لثقافة دينية واسعة. كما كان المصريون والشاميون يرحلون إلى الأقطار الأخرى لأخذ العلم من علمائها.
فكان من أشهر المحدِّثين والفقهاء في العهد الطولوني وقبله: الربيع بين سليمان المرادي بالولاء، وقد امتاز بسعة الحفظ وجمع الرواية، وإن لم يمتز بالذكاء، له الفضل الأكبر في حفظ مذهب الشافعي وروايته؛ فقد كان تلميذه، وكان مقرَّبًا إليه، وقد نفعته قلة ذكائه في اعتماده على الضبط والتثبُّت أكثر مما يعتمد على الذكاء والاستنتاج، وأدرك الشافعي هذه الميزة فيه فقرَّبه إليه، وعني بتحميله علمه، وأفاد مصر كثيرًا فإنه عُمِّر طويلًا، إذ عاش نحو ست وتسعين سنة (١٧٤ﻫ–٢٧٠ﻫ)، فيكون قد عمر في العهد الطولوني نحو ستة عشر عامًا. وكان يدرِّس في جامع الفسطاط، ثم استدعاه أحمد بن طولون إلى التدريس في مسجده لما بناه، وقد نشر في مصر أحاديث الشافعي وفقهه، كما روى أحاديث كثيرة رواها عن غير الشافعي كعبد الله بن وهب، ويحيى بن حسان، وأسد بن موسى، وكان قبلة أنظار المحدِّثين من الأقطار المختلفة، فيرحلون إلى مصر يأخذون عنه وعن أمثاله، فروى عنه من جامعي الكتب الصحيحة أبو داود، والنَّسائي، وابن ماجَة، وغيرهم، وعلى الجملة فكان الربيع بن سليمان مصدر حركة علمية دينية كبيرة.
وكما كان الربيع بن سليمان إمام الشافعية في مصر، كان أبو جعفر الطحاوي إمام الحنفية فيها، وكان من طحا وهي بلدة قديمة كانت في الوجه القبلي من أعمال «المنيا». كان الطحاوي من عرب الأزد الذين نزلوا بها، وتفقه على خاله المزني صاحب الشافعي، ثم تحول إلى مذهب أبي حنيفة، وتعلم على من كان بمصر من العلماء، ومن دخلها من الغرباء، وكان مجتهدًا في المذهب يضارع أبا يوسف ومحمدًا، استفاد من جمعه بين فقه الشافعية والحنفية، فكان يجتهد، ويخالف أبا حنيفة عند قيام الدليل، وينقد الحديث نقد معنى وإن صح السند في نظر المحدِّثين، فكانت شخصيته غير شخصية الربيع بين سيلمان، إذ كان هذا عمدة في الرواية، وذاك عمدة في الدراية. وكان من أسبق المؤلفين المصريين في فنون مختلفة: ألف «معاني القرآن»، و«مشكل الآثار»، وشرح بعض كتب محمد بن الحسن، وألف في التاريخ والنوادر الفقهية. عاش من سنة ٢٢٩ﻫ–٣٢١ﻫ، فعاصر الدولة الطولونية كلها، وترك في مصر حركة حنفية تساير حركة الربيع الشافعية، وتمتاز بإعمال العقل في التشريع بجانب النقل.
كما اشتهر من المالكية روح بن الفرج أبو الزنباع الزبيري المتوفى سنة ٢٨٢ﻫ، وأحمد بن الحارث بن مسكين المتوفى سنة ٣١١ﻫ. وأمثال هؤلاء كثيرون لا نطيل بذكرهم.
وهذه الدراسة كانت تعتمد على تفهُّم معاني القرآن ورواية الحديث، وأقوال الأئمة، واستنباط الأحكام، كل على أصول مذهبه، وكانت على نمط الدراسة في العراق موضوعًا ومنهجًا؛ إذ كانت رحلة العلماء في حركة مستمرة كأن المملكة الإسلامية كلها على اتساع رقعتها بقعة واحدة.
وكان النابغون في مصر من علماء الدين إما من أصل عربي يرجع نسبه على القبائل العربية الفاتحة أو الوافدة، أو من أصل مصري أصله قبطي وأسلم هو أو أسلم أجداده، كما نرى في عثمان بن سعيد الملقب بوَرْش أحد القراء المشهورين؛ فأصله قبطي، وانتهت إليه رياسة الإقراء بالديار المصرية، وقد مات بمصر سنة ١٩٧ﻫ، وخلَّف من حمل عَلَم القراءة بعده، واستمرت حركته إلى هذا العصر الذي نؤرِّخه.
وربما كان أكبر من يمثل الثقافة الدينية في هذا العصر أيضًا أبو بكر بن الحداد، فقد وصفوه بأنه عالم بالقرآن والحديث، والأسماء والكنى، والنحو واللغة، وسِيَر الجاهلية، والشعر والنسب، واختلاف الفقهاء، وكان أعلم أهل وقته، وولي القضاء للإخشيد، وعاش تسعًا وسبعين سنة، ومات سنة ٣٤٤ﻫ، وكان يلقَّب بفقيه مصر وفصيحها وعابدها، وكان يدرِّس في جامع عمرو، وأخذ عنه أعلام الجيل الذي بعده.
ويصف ابن زولاق سيبويه المصري، فيقول: «كانت فيه صفات تشبه المتصدِّرين: يحفظ القرآن، ويعلم كثيرًا من معانيه وقراءاته، وغريبه وإعرابه وأحكامه، عالمًا بالحديث وبغريبه ومعانيه وبالرُّوَاة، ويعرف من النحو، والغريب ما لقِّب بسببه سيبويه، ويعرف صدرًا من أيام الناس، والنوادر والأشعار، وتفقَّه على قول الشافعي.»
فيكاد يكون هذا برنامجًا عامًّا لهذا النوع من الثقافة الدينية.
- (١) ابن يونس: وهو أبو سعيد عبد الرحمن بن أحمد بن يونس بن عبد الأعلى من بيت عرف بالحديث والفقه، عربي الأصل من قبيلة الصَّدِف، كان جده من أصحاب الشافعي، وقد قال فيه الشافعي: «ما رأيت بمصر أعقل من يونس.» وانتهت إليه رياسة العلم بمصر، فجاء حفيده هذا يعنى بتاريخ مصر بعد أن تثقَّف بالفقه والحديث، وقرأ ما كتبه مؤرِّخو مصر قبله كابن عبد الحكم وغيره، وقد عاش في العهد الطولوني والإخشيدي، عاش من (٢٨١ﻫ–٣٤٧ﻫ)، ووُجدت عنده العصبية لمصر يؤرِّخها ويعنى بحوادثها ورجالها، وقد جمع لها تاريخين: أحدهما — وهو الأكبر — يختصُّ بالمصريين منشأ، والآخر صغير فيمن ورد على مصر من الغرباء، وقد عني بجمع أحوال الناس، مطَّلعًا على ما ألِّف فيها لعصره، واشتهر بين المصريين بذلك، فقد قال أحد شعرائهم في رثائه:ما زلت تلهج بالتاريخ تكتبهحتى رأيناك في التاريخ مكتوبًانشرت عن مصر من سكانها عَلَمًامبجلًا بجمال القوم منصوباكشفت عن فخرهم للناس ما سجعتوُرْق الحمام على الأغصان تطريباأعربت عن عَرَب، نقبت عن نخبسارت مناقبهم في الناس تنقيباأنشرت ميتهم حيًّا بنسبتهحتى كأنْ لم يمت إذ كان منسوبًا
ومهما كان هذا الشعر ضعيفًا، ففيه دلالة على تقدير هذا المؤرخ واتجاهه في نشر مفاخر مصر ورجالها.
- (٢) الكندي: محمد بن يوسف من كندة، كان من أعلم الناس بتاريخ مصر، وأهلها وأعمالها وثغورها، وهو مصري نشأ بمصر ومات بها (٢٨٣ﻫ–٣٥٠ﻫ).
وقد ثقف ثقافة محدِّثين، وكان أشهر أساتذته ابن قُدَيد، والنَّسائي أحد مؤلفي الصحاح، وقد زار النسائي مصر إذ كان عمر الكندي سبعة عشر عامًا، وأقام بها زمنًا فأخذ عنه الكندي، ثم عني بتاريخ مصر، وألف في ذلك كتبًا كثيرة، فألَّف في ولاة مصر وقضاتها — وقد وصل إلينا هذا الكتاب — وألف في خطط مصر، وكتابًا في موالي مصر، وقد كانت هذه الكتب مما اعتمد عليها المقريزي في خِطَطه. وكتابه الذي وصل إلينا عن قضاة مصر وولاتها يلقي لنا ضوءًا كبيرًا على حالة مصر السياسية والاجتماعية والأدبية، إذ يعرض للأحداث التي حدثت في عهد كل والٍ، وكيف تصرف فيها، وما قيل فيها من الشعر.
- (٣) ابن زولاق: وهو الحسن بن إبراهيم الليثي بالولاء. عني كذلك بتاريخ مصر، فأكمل أخبار قضاة مصر للكندي إلى سنة ٣٨٦ﻫ؛ أي قبل وفاته بسنة، فقد مات سنة ٣٨٧، وعني بخطط مصر فألف فيها، وكانت خططه أساسًا لمن أتى بعده من مؤلفي الخطط كالقضاعي، وابن بركات، ثم المقريزي.
كما ألف لنا كتابًا في أخبار سيبويه المصري أحد عقلاء المجانين، فروى لنا طرفًا من جيد أقواله، وغريب أحداثه، وأفادنا به فوائد كثيرة عن الحالة الاجتماعية في العهد الإخشيدي.
وجاء مصر في العصر الإخشيدي المؤرخ المشهور «المسعودي» بعد أن رحل إلى فارس والهند، وسيلان والصين، وطاف المحيط الهندي، ورحل رحلة أخرى إلى ما وراء أذربيجان وجرجان، ثم إلى الشام، ثم إلى مصر، ونزل الفسطاط وأقام بمصر نحو سنتين إلى أن توفي سنة ٣٤٦ﻫ، وكان مؤرخًا ممتازًا على من سبقه بكثرة تجاربه من رحلاته ومشاهداته، ودقة نظره، وسعة اطلاعه، والتفاته إلى آفاق واسعة في التاريخ، كالحياة الاجتماعية والاقتصادية، والمذاهب الدينية، وأصول الحضارة، وغير ذلك، وقد بَعُد في التاريخ عن أسلوب المحدثين، فانتقل به خطوة أخرى، ولا شك أن وجوده بمصر ونشر كتبه فيها كان له أثر كبير في الثقافة التاريخية.
وانتقلت من العراق إلى مصر صورة من خلافات المتكلِّمين، وذلك على أثر أمر المأمون بأخذ العلماء والقضاة بالقول بخلق القرآن، وإرسال منشور لولاة الأمصار بتنفيذ ذلك، فجاء المنشور مصر في جمادى الثانية سنة ٢١٨ﻫ، فامتحن والي مصر قاضيها، فقال بخلق القرآن، وامتحن الشهود والمحدثين، وكانت الحركة عنيفة عذِّب فيها خلق كثير، وخاصة في عهد الواثق. قال الكندي: «إن أمر المحنة — محنة خلق القرآن في مصر — كان سهلًا في ولاية المعتصم، لم يكن الناس يؤاخذون بها شاءوا أو أبوا حتى مات المعتصم، وقام الواثق سنة ٢٢٧ﻫ فأمر أن يؤخذ الناس بها، وورد كتابه على محمد بن أبي الليث — قاضي مصر — بذلك، وكأنها نار أضرمت … فلم يبق أحد من فقيه ولا محدث، ولا مؤذن ولا معلم، حتى أخذ بالمحنة، فهرب كثير من الناس، وملئت السجون ممن أنكر المحنة. وأمر ابن أبي الليث بأن يكتب على المساجد: «لا إله إلا الله رب القرآن المخلوق»، فكتب ذلك على المساجد بفسطاط مصر، ومنع الفقهاء من أصحاب مالك والشافعي من الجلوس في المسجد، وأمرهم ألا يقربوه.»
وكل ذلك في العهد الإخشيدي.
ثم ظهر في جو مصر مظهر ديني من نوع جديد على يد ذي النون المصري أحد مؤسسي التصوُّف، والذي أحدث ضربًا من الكلام لم يعرف قبل في مصر، أصله من إخميم من صعيد مصر من أبوين نوبيَّين، وأخذ العلم المعروف في مصر من حديث وفقه، ووصف بأنه كان يعرف الكيمياء، ويقرأ الخط الهيروغليفي على البرابي، ورحل إلى بلاد كثيرة كتاهرت بالمغرب، وبيت المقدس وأنطاكية، واليمن وبغداد، ومكة والمدينة، وقابل الرهبان وتحدث إليهم، ثم طلع على الناس في مصر بكلام لم يألفوه، من الكلام في الأحوال والمقامات والحب الإلهي، وأن مصادر المعرفة العقل والنقل، وشيء آخر زاده هو وهو الكشف، وأن هناك علمًا ظاهرًا، وعلمًا باطنًا، ويعرض هذه الأقوال في أسلوب شعري جذاب.
وطبيعي أن تلاقي هذه التعاليم معارضة من الفقهاء الذين لا يؤمنون إلا بالنقل فإن تجاوزوه فبالعقل، أما الكشف وعلم الباطن والحب والفناء فشيء لم يسمعوا به فعارضوه، وكان على رأس المعارضين عبد الله بن الحكم شيخ المالكية، وابن أبي الليث قاضي مصر الحنفي القوي الجبار، فكلاهما لم يرض عن ذي النون وتعاليمه، فاضطهد واتهم بالزندقة، وأخيرًا أرسل إلى دار الخلافة ببغداد فسجن في المطبق، ولكن مساعي الصوفية ببغداد واتاصلهم برجال المتوكل جعلت المتوكل يستدعيه ويسمع منه ويتأثر بمواعظه، فيرسله إلى مصر مكرَّمًا، ويعيش بعد ذلك تسع سنوات ينشر فيها تعاليمه آمنًا مطمئنًّا حتى يموت سنة ٢٤٥ﻫ.
ومن ذلك الحين وجدت بمصر الحركة الصوفية، وقويت حتى كان لها دخل في عزل بعض الولاة. وتتابع في مصر بعد ذي النون أقطاب الصوفية، مثل أبي الحسن بنان بن محمد بن حمدان بن سعيد الجمال، أصله من واسط، وصحب الجنيد ووفد على مصر، ورأس الحركة الصوفية، وأنكر على ابن طولون تصرفاته، وأمَره بالمعروف ونهاه عن المنكر في غير مبالاة، فرووا أنه قدمه لأسد فلم يؤذه فشاع ذكره في مصر، ولما مات خرج في تشييع جنازته أكثر أهلها. ومن كلامه: «أجَلُّ أحوال الصوفية الثقة بالمضمون، والقيام بالأمر، والمراعاة للسر، والتخلي من الكونين، والتعلق بالحق.» مات بمصر سنة ٣١٦ﻫ.
هذه هي الحركة الدينية في مظاهرها المختلفة، وبجانبها كانت حركة لغوية ونحوية عني بها؛ لأنها مفتاح لفهم القرآن والسنة، وأداة لفهم الأحكام، وقد نبغ في هذا العصر ابن ولَّاد، وأبو جعفر النحاس.
فأما ابن ولَّاد أحمد بن محمد بن الوليد فمصري أصله من تميم، وكان من أسرة عرفت بالنحو هو وأبوه وجدُّه، وقال عنه المبرد: إنه شيخ الديار المصرية في العربية، وقد درس النحو ببغداد على الزجَّاج، ثم أتى مصر ينشر النحو على طريقة العراق، وألف كتاب «الانتصار لسيبويه»، وكتاب «المقصور والممدود»، وهو يذكر فيه ما ورد من الكلام مقصورًا وممدودًا، فيقول — مثلًا: الأُنَى: واحد ساعات الليل، مقصور يكتب بالياء … وإنَى الشيء: بلوغه وإدراكه، كذلك مقصور، قال تعالى: إِلَىٰ طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ؛ أي بلوغه وإدراكه … وأما الأناء بفتح أوله فممدود، وهو الانتظار والتأخير، قال الحطيئة:
والأناء: واحد الآنية، والأناة: من قولهم: رجل ذو أناة. وهي التؤدة، قال النابغة: «الرفق يُمْن والأناة سعادة.»
ويقال: امرأة أناة، وهي التي فيها فتور عند القيام، والأصل: وناة؛ لأنها من ونَى يني، قال تعالى: وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي.
وهكذا يأتي بكل الكلمات اللغوية التي ورد فيها القصر والمد، ويشرحها ويستشهد لهُ ويصرِّفها، وهو اتجاه لغوي طريف.
مات سنة ٣٣٢ﻫ في الدولة الإخشيدية.
وأما أبو جعفر النحاس فمصري عربي الأصل من مُرَاد، وقد تعلَّم النحو كذلك في العراق، وأخذ عن الأخفش الصغير والمبرِّد والزجَّاج، وكان هو وابن ولاد متعاصرين، زميلين في التعلم ببغداد وفي التعليم بمصر. وقد ألف «إعراب القرآن»، و«معاني القرآن»، و«المبهج في اختلاف البصريين والكوفيين»، و«وشرح المعلقات»، و«شرح المفضليات»، و«شرح أبيات الكتاب» — كتاب سيبويه — و«الاشتقاق»، و«أدب الكُتَّاب» … إلخ.
فكانا بعلمهما مصدرًا لحركة قوية لغوية ونحوية في مصر، وتعلَّم عليهما كثيرون. وقد مات النحاس سنة ٣٣٨ﻫ بعد ابن ولاد بست سنوات.
وقد ذكر لنا المتنبي في شعره في كافور أنه كان يدرَّس بمصر فن «الأنساب»، وعدَّ من مضحكات مصر أن الذي كان يدرِّس أنساب العرب نبطي من أهل العراق، فقال:
وقد ذكروا أنه يريد ابن حِنْزَابه، وهو متحامل عليه، فابن حنزابه هذا من أفضل الناس وعلمائهم، وهو ابن وزير العراق الخطير ابن الفرات. وكان ابن حنزابه وزيرًا للدولة الإخشيدية، وكان عالما محبًّا للعلماء يقربهم ويشجعهم ويصلهم بماله، حتى قصده من علماء الأقطار الأخرى كثيرون، وكان يملي الحديث بمصر وهو وزير، ويقصد إليه المحدِّثون يسمعون روايته، وله تآليف في أسماء الرجال والأنساب. وقد أراد المتنبي أن يمدحه فعمل فيه قصيدته «بادٍ هواك صبرت أم لم تصبرا»، ولكنه لم ينشدها، فلما غضب على كافور، وغضب على وزيره وخرج من مصر حوَّلها في مدح ابن العميد، وعرَّض بابن حنزابه.
أما الحركة الأدبية فقد كان الشعر فيها هزيلًا، ومنذ الفتح الإسلامي إلى هذا العهد الطولوني والإخشيدي لم تُخرج مصر شاعرًا كبيرًا يضاهي شعراء العراق أمثال أبي تمام والبحتري وابن الرومي، وهي ظاهرة تستحق النظر، فقد كانت الفنون راقية، كما يتجلى ذلك في عمارة الفسطاط ومسجد ابن طولون، وكما كان فن الغناء لا بأس به، كما يتجلى في وصف القيان في العهد الطولوني، وكانت هناك العناية بالبساتين والأزهار، ولكن مع هذا كله لم تنبغ الشاعرية لا في العرب الذين وفدوا إلى مصر وأبنائهم، ولا في المصريين الصميمين ممن تعلموا العربية؛ فنجد الفقيه المصري الذي يضاهي أئمة العراق كالليث بن سعد، ونجد المحدِّث الذي يشابه أكبر محدثي العراق كابن لهيعة، والنحوي الذي يضاهي نحويي البصرة والكوفة كابن ولاد، ونجد أتباع الأئمة في هذه العلوم يشبهون الأتباع في العراق، ولكن لا نجد الشاعر النابغ هنا الذي يساوي الشاعر النابغ هناك؛ فهل هذا لأن الشعر كان لا يرقى إلا في بلاط الخلفاء؟ أو أن نبوغ الشعراء كنبوغ العظماء والزعماء خاضع لقوانين لم تستكشف بعد؟ أو لغير ذلك من أسباب؟
على كل حال كان أشهر شعراء مصر في العهد الطولوني الحسين بن عبد السلام المعروف بالجمل، لم يصلنا شعره كاملًا، وإنما هي نتف هنا وهناك، في مديح أحمد بن طولون:
وربما تظهر مصريته في ميله إلى الفكاهة، كقوله في ابن المدبِّر صاحب خراج مصر، وكان الشاعر إذا مدحه ولم يرتض شعره أمر من يحمله إلى المسجد، ويفرض عليه أن يصلي عددًا معلومًا من الصلاة، فقال الجمل:
وله شعر رواه الكندي في أخبار القضاة، كان يقوله في المناسبات عندما يحدث في مصر بعض الأحداث.
كما كان هناك شعراء آخرون في العهد الطولوني والإخشيدي في مثل منزلة الجمل؛ ولذلك لما جاء المتنبي مصر في عهد كافور ابتلعهم كما يبتلع الحوت الكبير السمك الصغير، ولم يستطع أن يجاريه منهم أحد.
وكما يتجلى في كتاب «المكافأة» لأحمد بن يوسف المعروف بابن الداية، فقد ألَّفه في العهد الطولوني، وبناءً على قصص لمن عملوا الجميل فكوفئوا عليه بالجميل، فموضوعه طريف، وعَرْضه في أسلوب قوي جزل متين.
إلى جانب هاتين الحركتين الدينية والأدبية، كانت حركة العلوم الفلسفية التي تشمل الطب والنجوم والإلهيات وما إليها، وهي بقية من بقايا مدرسة الإسكندرية، وقد كانت لا تزال باقية في مصر، وإن ضعفت بالفتح الإسلامي، وإقبال الناس على الثقافة العربية يتعلمون لغتها، ويبحثون فيما أتت به من دين، فاتجهت أكثر الثقافة إلى الاشتغال بالدين الإسلامي وعلومه، واللغة العربية وعلومها، وبقيت بقية قليلة للفلسفة وما إليها، كان أكثرها من رجال الدين النصارى لامتزاج النصرانية بالأفلاطونية الحديثة، عندما اختلف النصارى في عقائدهم، وتجادلوا في مذاهبهم، والتجأ كل مذهب إلى الاستعانة بالفلسفة اليونانية في تأييد رأيه.
وكان أمراء مصر وولاتها يحتاجون إلى الأطباء والمنجمين، وقل أن يجدوهم إلا في النصارى، والطب والتنجيم فرعان من فروع الفلسلفة اليونانية، كان من اشتغل بهما مضطرًّا أن يقرأ الفلسفة اليونانية في إلَهِيَّاتها وطبيعتها وكيميائها.
وقد ترجم كتاب «الحيوان» لأرسطو، وكتاب «السماء والعالم» لأرسطو أيضًا.
على أن بعض علماء المسلمين المصريين كان يتصل بهذه الحركة ويتصل برجالها ويقرأ كتبها، فابن الداية الذي سبق ذكره كان — كما يقول ياقوت — «أحد وجوه الكتَّاب الفصحاء والحسَّاب والمنجِّمِين، مجسطي، إقليدسي، حسن المجالسة، حسن الشعر». ونجده ينقل في كتابه «المكافأة» عن أفلاطون، ونجد ذا النون المصري الصوفي المشهور يتحدث عن الرهبان، ويروون في ترجمته أنه كان يعرف: السحر، والطلسمات، والكيمياء. ويعقد الأستاذ نيكلسون ما في بعض أقواله من شبه بينها وبين أقوال «الأفلاطونية الحديثة».
من هذا نفهم أنه كانت هناك حركة فلسفية في مصر من أثر مدرسة الإسكندرية، ومن أثر الوافدين من العراق، بما ترجموا من كتب، وأن بعض العلماء المصريين اشتغل بها وتأثر وتثقف، وإن كان ذلك في دائرة ضيقة إذا قيست بدائرة علوم الدين واللغة.
وكانت الحركة العلمية في الشام في العهد الطولوني والإخشيدي صورة للحركة في مصر، وربما كانت أصغر منها؛ لأن مركز الولاة الطولونيين والإخشيديين في مصر؛ ولأن مصر كانت أغنى، وكثيرًا ما كان يزدهر العلم في ظل البلاط وتشجيع الأمراء وكثرة المال، إلا فن الشعر فقد كانت في الشام أرقى منه في مصر، كما سيأتي.
فكان في الشام طائفة كبيرة من المحدِّثين والفقهاء والصوفية والقراء — أمثال إخوانهم في مصر، فالإمام الأوزاعي البيروتي المتوفى سنة ١٥٧ﻫ كان له من الأثر في الشام في الحديث والفقه ما لليث بن سعد والشافعي بمصر، واشتهر بها كثير من المحدثين والفقهاء في هذا العصر كزكريا بن يحيى السِّجْرِي المتوفى سنة ٢٨٩ﻫ، وكان يعرف بخياط السنَّة، ومحمد بن عوف الطائي الحمصي المتوفى سنة ٢٦٩ﻫ، وكان أعرف الناس بالأحاديث التي رويت في الشام، وأبي بكر محمد بن بركة الحميري اليحصبي القنسريني وأمثالهم كثير.
وانتشرت حركة التصوف من مصر إلى الشام عن طريق ذي النون المصري وأصحابه، فظهر في الشام طاهر المقدسي، أخذ التصوف عن ذي النون المصري وغيره، وسماه الشبلي «حبر الشام»، ورويت عنه أقوال كثيرة في التصوف كقوله: «المفاوز إليه منقطعة، والطرق إليه منطمسة، والعاقل من وقف حيث وقف العوام.» كما ظهر أبو عمرو الدمشقي أخذ التصوف عن أصحاب ذي النون وغيرهم، مات سنة ٣٢٠ﻫ، وكان يقول: التصوف غض الطرف عن كل ناقص؛ ليشاهد من هو منزَّه عن كل نقص. وأبو إسحاق الرقِّي كان من أكبر مشايخ الشام ومتصوِّفيها، مات سنة ٣٢٦ﻫ … إلخ.
ويكاد يكون الطابع لحركة الحديث والفقه والتصوف في مصر والشام، طابعًا واحدًا لقرب القطرين، وتبادل العلماء الزيارة والرحلة، حتى كان كثير منهم يصعب عدُّه مصريًّا أو شاميًّا لتوزُّع عمره وحياته العلمية بين القطرين.
•••
وكما كان لمصر فضل في اتجاه بعض العلماء لتدوين تاريخها وخططها على يد ابن عبد الحكم ثم ابن يونس ثم الكندي ثم ابن زولاق، وكان للشام فضل من نوع آخر على يد أبي عبد الله محمد بن أحمد المقدسي (٣٣٦ﻫ إلى نحو سنة ٣٨٠ﻫ)، فقد رأى أن المملكة الإسلامية في القرن الرابع الهجري لم توصف وصفًا كافيًا لا من ناحيتها الجغرافية، كوصف المفاوز والبحار والبحيرات والأنهار والمدن والأمصار والنبات والحيوان، ولا من الناحية الاجتماعية كاللغات والألوان والمذاهب والنقود والمزايا والعيوب، والسعة والخصب والضيق والجدب، ولم يعجبه ما كتبه مَن قبله، وشعر بقصور المؤلفات في ذلك فجرد نفسه لهذا وطاف أكثر البلاد الإسلامية، وكتب كتابه «أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم»، وكان فيه من أصدق الرحَّالين ملاحظة، وأدقهم نظرًا، وأحسنهم لموضوعه ترتيبًا، وقد عمل كل حيلة والتحق بكل صناعة وتحمل كل مشقة، وأنفق فوق عشرة آلاف درهم، وعرض نفسه لكل خطر في سبيل الحصول على المعرفة، وجاءته فكرة «الخرائط» فعملها في كتابه هذا، بل جاءته فكرة الخرائط الملونة، واختيار الألوان المناسبة؛ فالحدود والطرق بالحمرة، والرمال بالصفرة، وبالبحار بالخضرة، والأنهار بالزرقة، والجبال بالغبرة.
وقد ساح في جزيرة العرب والعراق والشام ومصر والمغرب، ثم بلاد فارس والسند والهند، وألف كتابه هذا بعد هذه الرحلة سنة ٣٧٥ﻫ، فكان له الفضل الأكبر في هذا الباب.
ولكن لعل أكبر حركة في الشام وأعظمها في الأدب واللغة وعلومها، كانت في ذلك العصر في بلاط الأمراء الحمدانيين في حلب، وخاصة أيام سيف الدولة؛ فقد فاقت حركة الشعر واللغة والنحو ما إليه نظيرتها في مصر، وربما في العراق أيضًا، قال الثعالبي: «لم يزل شعراء عرب الشام وما يقاربها أشعر من شعراء عرب العراق وما يجاورها — في الجاهلية والإسلام — والكلام يطول في ذكر المتقدمين منهم، فأما المُحْدَثون فخذ إليك منهم: العَتَّابي، ومنهور النَّمَري، والأشجع السُّلَمي، ومحمد بن زرعة الدمشقي، وربيعة الرَّقِّي، على أن في الطائيَّيْن — يعني أبا تمام والبحتري — اللذين انتهت إليهما الرياسة في هذه الصناعة كفاية، وهما هما، فأما العصريون ففيما أسوقه من غرر أشعارهم أعدل الشهادات على تقدم أقدامهم والسبب في تبريز القوم قديمًا وحديثًا في الشعر قربهم من خطط العرب، ولا سيما أهل الحجاز، وبعدهم عن بلاد العجم، وسلامة ألسنتهم من الفساد العارض لألسنة أهل العراق بمجاورة الفرس والنبط ومداخلتهم إياهم.
ولما جمع شعراء العصر من أهل الشام بين فصاحة البداوة، وحلاوة الحضارة، ورزقوا ملوكًا وأمراء من آل حَمْدان وبني ورقاء، هم بقية العرب والمشغوفون بالأدب، والمشهورون بالمجد والكرم، والجمع بين آداب السيف والقلم، وما منهم إلا أديب جواد يحب الشعر وينقد، ويثيب على الجيد منه فيجزل ويفضل، انبعثت قرائحهم في الإجادة فقادوا محاسن الكلام بألين زمام، وأحسنوا وأبدعوا ما شاءوا.
كانت ميزات سيف الدولة — وإن شئت فقل: وعيوبه أيضًا — مشجعة على النهوض بالشعر والأدب والعلم إلى غاية بعيدة؛ فهو عربي من تغلب يعتز بنسبه ومجد بيته، وفيه الطباع العربية التي في البيوتات الكبيرة، يطمح كل الطموح لحسن الأحدوثة؛ ولذلك كان يهمه أن يكون حوله أعاظم الشعراء يشيدون بذكره ويسير شعرهم في الآفاق مدحًا فيه، ثم هو فارس فيه صفات الفروسية من إباء وفخر ونصرة للضعيف، ومعونة للبائس والفقير، يرى المجد والمروءة في الزهادة في المال للاعتزاز بالمجد، والإغداق على الأصدقاء والشعراء وسيلة للمطمح؛ يهمه جانب الإنفاق كيف يغدق أكثر مما يهمه جانب العدل في تحصيل المال كيف يجمع، ولهذا يوم مات كثر البكاء منه والبكاء عليه، كما وصفه بعضهم: الصفتان البارزتان فيه هما مجد العرب؛ الشجاعة والكرم، وهما عنصر المروءة التي كثر تمدُّح العرب بها، إلى ملكة جيدة في تقدير الشعر وتذوقه، والإعجاب بجيده إعجابًا لا قيمة للمال بجانبه.
عرف الشعراء والأدباء والعلماء ذلك كله منه فقصدوه من كل جانب، وبالغوا في تحسين بضاعتهم وتجويد فنِّهم، وإحسان عرضهم، فنالوا منه ما تمنوا، وكان ذلك نعمة على الفنون والعلوم، وثروة بقيت على الزمان، وإن ضاعت به ثروة آل حَمْدان.
فهو يصوغ دنانير خاصة للصلات وزن كل دينار عشرة مثاقيل، عليها اسمه وصورته، ويعطي منها البَبَّغاء الشاعر فيقول:
فيعطيه سيف الدولة عشرة أخرى.
ولما أنشده المتنبي قصيدته التي يقول فيها:
وذاع صيته بالعطاء والجود في سائر الأقطار الإسلامية، فقصده الفقراء والمُعْوِزون، فكان يُكْتب إليه في حوائج المحتاجين من العلماء ومن نكبهم الدهر بعد عزة. ووضع بديع الزمان الهمذاني مقامة من مقاماته سمَّاها المقامة الحمدانية، أسسها على أن سيف الدولة قد حضر مجلسه جماعة من الأدباء. وقد عرض عليه فرس جميل، فقال سيف الدولة للأدباء: «أيكم أحسَنَ صفته جعلته صلته.» فوصفه أبو الفتح الإسكندري — بطل مقامات البديع — فأعطاه له، والقصة بالضرورة خيالية، ولكنها تمثل صورة سيف الدولة في أذهان الأدباء.
ثم كان مجلسه مجلسًا ممتازًا؛ فقد منح ذوقًا وقدرة على فهم الأدب وإدارة الحديث في المجالس، واستخراج أفضل ما عند العلماء والأدباء بالعطاء والتنافس، فأحيانًا يقول البيت ويطلب من الشعراء أن يجيزوه، فيقول مرة: من يجيز هذا البيت:
فيجيزه أبو فراس:
وينقد المتنبي مرة في قوله:
ويفضل سيف الدولة أن يكون نظام البيتين هكذا:
وسأل جماعة من العلماء بحضرته يومًا، هل تعرفون اسمًا ممدودًا وجمعه مقصور؟ فقال ابن خالويه: إني أعرف اسمين لا أقولهما إلا بألف درهم؛ لئلا يؤخذا بلا شكر، وهما: صحراء وصحارى، وعذراء وعذارى.
وكتب الأدب فيها الكثير مما دار في مجلس سيف الدولة بين المتنبي وخصومه مما سبب رحيله.
فالمتنبى قال فيه أحسن شعره وأقواه وأصدقه عاطفة؛ لأن سيف الدولة كريم يغدق على الشعراء كما قال الشاعر:
ولأن أبا الطيب وجد في سيف الدولة إلى جانب كرمه فروسية واعتزازًا بالعربية وحياة حربية، وطموحًا إلى المجد، وكلها صفات ينزع إليها المتنبي ويراها مَثَله، فكان المتنبي يتغنى بمَثَله محققًا في سيف الدولة، ولو لم يكن سيف الدولة لكان المتنبي شيئًا آخر. وشعره بعد أن فارقه شعر صناعة إلا ما كان من عتبه على الزمان وحديثه عن نفسه، وقد صدق إذ قال بعد أن مدح سيف الدولة:
وهذا أبو فراس ابن عم سيف الدولة والذي يصغره بنحو عشرين عامًا، قد نشأ في حضانة سيف الدولة ورعايته بعد أن قتل أبوه، وتعلم في ساحته وغزا معه بعض غزواته ولقد قال أبو فراس: «غزونا مع سيف الدولة وفتحنا حصن العيون في سنة ٣٣٩ﻫ، وسنِّي إِذ ذاك تسعة عشر عامًا.» وقد أخذ أسيرًا في إحدى غزواته للروم وأرسل إلى القسطنطينية، وبقي فيها أربع سنوات قال فيها أحسن شعره، وقد أرسل أكثره إلى سيف الدولة طالبًا منه أن يفديه، عاتبًا أحيانًا، شاكيًا أحيانًا، وإنما كان أحسن شعره لأن وقوعه في الأسر وبعده عن وطنه أهاج شاعريته ورقق عاطفته، فامتلأ شعره برقة الحنين، وحلاوة الحب، وذل الأسر:
•••
•••
… إلخ.
ويرثي لحال أمه في قصيدته:
ويبكي وطنه:
… إلخ إلخ.
فإن استخرج سيف الدولة من المتنبي مديحًا رائعًا، فقد استخرج من أبي فراس أسًى رائعًا.
وكان في بلاط سيف الدولة أبو العباس النامي، وكان من خير الشعراء، وكانت منزلته عند سيف الدولة تلو منزلة المتنبي، يقول في سيف الدولة:
ثم كذلك أبو الفرج الببغاء أمضى شبابه وزهرة عمره في بلاط سيف الدولة، ثم آخر عمره في بغداد.
كذلك كان من شعرائه الوأواء الدمشقي، وهو شارع مطبوع، عذب العبارة حسن الاستعارة، جيد التشبيه.
ومن شعره في سيف الدولة:
كما كان من شعرائه ابن نُباته السعدي، وله فيه مدائح كثيرة.
ويطول بنا القول لو عددنا كل ما كان في بلاطه من شعراء، وحسبنا أن نقول: إن هذا الجو الذي خلقه سيف الدولة حثَّ كل من كان عنده شاعرية على قول الشعر والإجادة فيه، فقيِّما المكتبة — وهما الخالديان — صارا شاعرين، وبائع البطيخ — وهو الوأواء الدمشقي — صار شاعرًا كبيرًا، وكشاجم — «وهي كلمة مركبة من: الكاف من كاتب، والشين من شاعر، والألف من أديب، والجيم من جواد، والميم من منجِّم» — قالوا: إنه كان طباخ سيف الدولة، ومع هذا كان شاعرًا ظريفًا، له ديوان، وله كتاب «أدب النديم»، و«خصائص الطرب»، و«المصايد والمطارد».
ثم كان من أشهر خطباء سيف الدولة ابن نُباتة الفارقي صاحب الخطب المشهورة — وهو غير ابن نباتة السعدي الذي تقدم ذكره — وامتلأت خطبه بالدعوة إلى الجهاد ليحث الناس على نصرة سيف الدولة في غزواته للروم.
ثم كان في بلاطه من يعد من أشهر اللغويين والنحويين في زمانه، أبو علي الفارسي، وابن خالويه، وابن جني، فأما أبو علي الفارسي فكان أكبر نحوي عالم بالعربية في زمنه، عاش في حلب مدة وفي العراق مدة، ويعد هو وتلميذه ابن جني مؤسسي مدرسة في النحو الصرف تستخدم القياس إلى أقصى حد ولا تقف عند النص، فالفرق بينها وبين غيرها كالفرق بين الحنفية في اعتمادهم الكبير على القياس، والمالكية في الاعتماد على الحديث.
لقد رحل أبو علي إلى حلب سنة ٣٤١ﻫ، ونزل في ساحة سيف الدولة وشارك في اجتماعاته الأدبية، وكان بينه وبين المتنبي مناظرات في مسائل نحوية ولغوية.
وقد توثقت الصلة بين ابن جني والمتنبي في بلاط سيف الدولة، فكان يناظره فيما يرد في شعره «المتنبي» مما يشبه أن يكون خروجًا على النحو أو اللغة، حتى قال فيه المتنبي: «هذا رجل لا يعرف قدره كثير من الناس.» وقد شرح ديوان المتنبي شرحًا استفاد منه كل من شرح الديوان بعده؛ لاتصاله بالمتنبي ومعرفته بظروف شعره التي كثيرًا ما تحدد المعنى، وتمنع التأويلات.
وابن خاوليه من أكبر الأئمة في زمنه في اللغة والنحو والأدب وعلوم القرآن، وقد دخل حلب في أيام سيف الدولة، وكان إمام مجلسه، وله مع المتنبي مناظرات كانت في بعضها حادة، ولم تكن العلاقة بينهما حسنة، فالمتنبي لم يقدر علمه التقدير الجليل، وابن خالويه لم يقدر شعره التقدير الواجب، ثم كان يتحاسدان ويتغايران على قرب المنزلة من سيف الدولة، فكان في القصر حزبان: حزب للمتنبي منه ابن جني النحوي وأبو الفرج الببغاء الشاعر، وحزب عليه منه ابن خالويه اللغوي وأبو فراس الشاعر.
ثم كان في بلاط سيف الدولة الفيلسوف الكبير الفارابي، درس في بغداد، ثم جذبته شهرة بلاط سيف الدولة في حلب، فرحل إليه، وأقام في كنفه لا يأخذ منه من المال إلا ما يسد رمقه «أربعة دراهم في اليوم» ويعيش عيشة التصوف، ويعلِّم طلابه في الحدائق التي حول حلب، ويكتب كتبه في المنطق والإلهيات والسياسة والرياضة والكيمياء والموسيقى، وقد بقي في الشام إلى أن مات سنة ٣٣٩ﻫ.
•••
هذا بلاط سيف الدولة يزخر بالشعر والمناظرات اللغوية والنحوية، ويزينه الفارابي بفلسفته، ويشع هذا النتاج في المملكة الإسلامية كلها وخاصة الشام.
ومنه يستنشق أبو العلاء المعري أول عهده بالدراسة؛ فقد ولد بالمعرَّة سنة ٣٦٣ﻫ وهي بلدة تابعة لحلب، ولئن كان سيف الدولة قد مات قبل ولادة أبي العلاء بثماني سنين، فإن الحركة العلمية والأدبية بها لم تكن ماتت، فشعر الشعراء يُروى، وتلاميذ ابن خالويه وابن جني يروون علمهما باللغة والأدب والنحو والصرف، وتلاميذ الفارابي يروون فلسفته، فلما انتقل أبو العلاء من المعرَّة إلى حلب للدرس وجد لكل ذلك مهيَّأ فاستفاد منه، وجد الناس يروون شعر أبي الطيب ويعجبون به فسمع منهم، وسمع محمد بن عبد الله بن سعد النحوي راوية أبي الطيب، وسمع من تلاميذ ابن خالويه، فيقول في بعض رسائله: «حدَّثني أبو القاسم المبارك عن ابن خالويه.» ولا بد أن يكون لقي بعض تلاميذ الفارابي وأخذ عنهم.
وقد أقام أبو العلاء في حلب نحو عشر سنوات ينهل من موارد العلم، فحركة الأدب واللغة والفلسفة التي أحياها سيف الدولة لها فضل على أبي العلاء وغيره من العلماء والأدباء.
•••
ثم جاءت الدولة الفاطمية فبسطت سلطانها على مصر والشام، والحق أنها أتت بحركة علمية عظيمة نشيطة، وقدَّمت العلم والأدب والفنَّ في مصر والشام خطوات، حتى لا يعد شيئًا بجانبها ما كان في العهد الطولوني والإخشيدي، ويصح أن تقارن وتساوى بما كان في العراق، وخاصة العلوم العقلية والفلسفية فإنها نبغت فيها، ويرجع ذلك إلى أمور:
أولها: أن الفاطميين جاءوا بمذهب شيعي له أسس ودعائم تخالف ما كان عليه أهل السنة في مصر والعراق، كعصمة الأئمة ونحو ذلك، وتأتي بشعائر ظاهرة مخالفة لشعائر السنيين كذلك، كالأذان: بحي على خير العمل، والاحتفاء بعاشوراء وعيد الغدير، فإتيان الفاطميين بهذا أوجد حركة عنيفة للتأييد من جهة والتفنيد من جهة، فهب علماء من مصر يفنِّدون هذه الآراء، وكان العراقيون أجرأ لأنهم غير خاضعين لسلطانهم كالمصريين والشاميين، ولجأ الخليفة العباسي إلى العلماء يستحثهم على القول بفساد النسب الباطني، كما لجأ إلى الغزالي يستدعيه لتأليف كتاب «فضائح الباطنية»، وهكذا كل هذه العقول تتحرك وتجتهد وتؤلف وتجادل وتناضل، فكان من هذا النشاط العقلي الكبير، واستتبع ذلك نشاط الفاطميين في إيجاد المكاتب ومجالس الدعاة في القصر والمساجد وبيوت العظماء وتأليف الكتب، وتنظيم الدعوة وغير ذلك.
وكان أن التجأ الفاطميون إلى الفلسفة اليونانية يستعينون بها على تأييد الدعوة الشيعية، ويستمدون الآراء من أقوال أفلاطون وأرسطو، وسائر حكماء اليونان، كما فعلت الأديان الأخرى عند اشتداد الجدل، كالنصارى واليهود عند افتراقهم فرقًا، وكما فعل المعتزلة عند جدالهم مع اليهود والنصارى، وهذا سبب من أسباب تشجيع الفاطميين للفلسفة.
فيظهر لي أنه كان له دخل كبير في تأسيس الحركة العلمية على هذا النمط، وإدماج الفلسفة فيها وتوجيهها الجهة التي توجهتها، وتشجيعه اليهود والنصارى على الاشتغال العلمي والمشاركة في الإدارة وفلسفة الدعوة.
وكان لهذه السيدة نفوذ عظيم على العزيز في تسامحه مع النصارى والسماح بإعادة بعض الكنائس.
وقد ولدت هذه الزوجة النصرانية من العزيز بنتًا هي المسماة بست الملك، وكانت — كما يصفها النويري — قوية العزم بصيرة بالأمور، وكان لها أثر كبير في أبيها، وفي توجيهه نحو سياسة التسامح مع النصارى، كما كانت في عهد أخيها الحاكم بأمر الله ذات أثر فعَّال فيما وقع من أحداث.
وقد سمح العزيز هذا لبطريرك الأشمونيين أن يناظر رجال الدين مثل القاضي ابن النعمان في العقائد الدينية.
وفي السنتين الأخيرتين لحكم العزيز تولَّى الوزارة بعد يعقوب بن كلِّس عيسى بن نسطورس النصراني.
ثم مما شجع على اشتغال الفاطميين بالفلسفة ما كان لهم من رأي في أن للدين ظاهرًا وباطنًا، ومعنى صريحًا ومعنى مؤولًا، فهذا يترك للخيال المجال، ويجعل الفكر يسبح في الفلسفة يأخذ منها ويلصقها بالدين، كما نرى ذلك بوضوح في رسائل إخوان الصفا — وهم شيعيون باطنيون — ولذلك كانت الفلسفة ألصق بالتشيع منها بالتسنن، نرى ذلك في العهد الفاطمي، والعهد البويهي؛ وحتى في العصور الأخيرة كانت فارس أكثر الأقطار عناية بدراسة الفلسفة الإسلامية ونشر كتبها، ولما جاء جمال الدين الأفغاني مصر في عصرنا الحديث — وكان فيه نزغة تشيع، وقد تعلم الفلسفة الإسلامية بهذه الأقطار الفارسية — كان هو الذي نشر هذه الحركة في مصر.
ويروي صاحب «الفرق بين الفرق» أن عبيد الله بن الحسن القيرواني أحد زعماء الإسماعيلية، كتب إلى أحد دعاة المذهب سليمان بن الحسن أبي سعيد الجنابني يقول: «وإذا ظفرت بالفلسفي فاحتفظ به، فعلى الفلاسفة معولنا.» ويقول الشهرستاني: «إن الباطنية القديمة قد خلطوا كلامهم ببعض كلام الفلاسفة، وصنفوا كتبهم على هذا المنهاج.» ويفيض في بيان ذلك، ويقول دوزي: «إن ابن ميمون — وهو واضع الأساس للتعاليم الباطنية والإسماعيلية — لم يكن يبحث في أنصاره المخلصين بين الشيعة الخلَّص، إنما كان يبحث عنهم بين الثنوية والوثنيين، وتلاميذ الفلسفة اليونانية، وخاصة الأخيرين، فإليهم وحدهم أفضى بسره، وكنه عقيدته، وهو أن الأئمة والأديان والأخلاق ليست إلا ضلالًا وهزؤًا، وأن العامة ليسوا أهلًا لفهم هذه المبادئ، إلا أنه كان يستعين بهم، ولا يصدمهم، وكان دعاته يظهرون في أثواب مختلفة، ويحادثون كل طبقة باللغة التي يفهمونها.
والواجب ألا يلصق هذا بكل الشيعة، ولا كل الفاطمية، ولا كل قواد الحركة، وإنما يصح أن يلصق بفئة من زعمائهم استغلَّت التشيع لأغراض في أنفسهم، وعلى كل حال كان هذا سببًا آخر لاشتغال الخاصة بالفلسفة وتعليل انتشارها في العهد الفاطمي مع ضعف الاشتعال بها قبلهم في العهد الطولوني والإخشيدي وبعدهم في العهد الأيوبي، ثم كثرة المال في العهد الفاطمي؛ وميل الخلفاء إلى الإمعان في الترف والنعيم، شجعت الفنون على الرقي، فما خلَّفه الفاطميون من صناعة راقية، وفنٍّ دقيق، قلَّ أن يُبَارى.
على كل حال نشطت الحركة العقلية في العصر الفاطمي في مصر والشام نشاطًا كبيرًا، وكان أهم الحركات الحركة الدينية؛ إذ أراد الفاطميون تشييع المصريين والشاميين، وكان هؤلاء يريدون أن يتمسكوا بالسنية، فجد الفاطميون في دعوتهم جدًّا كبيرًا.
ثم اتخذوا يوم عاشوراء يوم بكاء على الحسين، وكانوا يجتمعون عند قبر كلثوم بنت محمد بن جعفر بن محمد الصادق، وقبر نفيسة.
وضُربت الدنانير في أيام المعز، وعلى أحد وجهيها «لا إله إلا الله محمد رسول الله أرسله بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون. عليٌّ أفضل الوصيين، وزير خير المرسلين.» وفي أيام العزيز أبطل سنة ٣٦٣ﻫ صلاة التراويح من جميع مساجد مصر.
وكانت تحدث فتن ومصادمات بين المصريين السنيين والشيعة في المناسبات المختلفة.
ولكن هذه السياسة لم تكن ثابتة مطردة، بل كانت قلقة مضطربة كاضطراب سياسة الفاطميين؛ فأحيانًا يبالغون في اضطهاد أهل السنَّة، وأحيانًا يسمحون لهم بحريتهم، كما كانوا أحيانًا يضطهدون اليهود والنصارى إلى أقصى حد، وأحيانًا يبالغون في إكرامهم إلى أقصى حد.
واتخذت المساجد الكبيرة مركزًا لهذه الدعاية كمسجد عمرو في الفسطاط، ومسجد ابن طولون، والأزهر، والمساجد الكبري في البلدان.
كان في مصر والشام كثير من الفقهاء الشافعية والمالكية والحنفية، وكانوا لا يرون التشيع، فكانوا يستنكرون تعاليمهم، ولكن في تحفظ؛ لأن الدولة للتشيع.
ولهذا نرى قلة الفقهاء المالكية والشافعية والحنفية في مصر والشام في هذا العصر، — وخاصةً في أول عهد الفاطميين أيام قوتهم — ومع هذا نرى أمثال أبي بكر محمد النِّعَالي المالكي إمام المالكيين في عهده، كانت حلقته في جامع الفسطاط تدور على سبعة عشر عمودًا لكثرة من يحضرها، توفي سنة ٣٨٠ﻫ. ولا بد أن يكون ذلك في فترة فترت فيها حدة التشيع.
ولكن على كل حال أنتجت هذه الحركة حياة فكرية نشيطة. وكما ذكرنا كانت الحركة الفلسفية تشايع التشيع، فامتزجت الفلسفة بالدعوة الشيعية.
واستتبعت الدعوة للتشيع تنظيم وسائل الدعاية من إنشاء المساجد ودور الكتب. فالمساجد كانت لهذا العهد هي المدارس وهي المحاريب، وهي أمكنة العبادة وهي مكان الخطب السياسية فيما يجدُّ من الأحداث، فكانت تقوم بوظائف اجتماعية أكثر جدًّا مما تقوم به الآن.
فلما كان المسجدان الكبيران في مصر — مسجد الفسطاط ومسجد ابن طولون، وكانا مركزي التعليم السُّنِّي من قَبْل الفاطميين — دعا الأمرُ عند إنشاء القاهرة إلى إنشاء مساجد تقام فيها الصلوات، وتنشر منها الدعوة الشيعية بجانب تلوين مسجدي مصر بالتشيع أيضًا، وتكون أيضًا مركزًا لنشر المبادئ السياسية والاجتماية التي يراد نشرها، فأُسِّس الأزهر لهذا الغرض؛ بناه جوهر قائد المعز، وأقيمت فيه أول جمعة في شهر رمضان سنة ٣٦١ﻫ، وكان الخليفة الفاطمي يخطب فيه بنفسه كل جمعة إلى أن أنشأ الحاكم جامعه سنة ٣٨٠ﻫ، فوزعت الخطبة على المساجد الأربعة؛ وكان الخليفة يخطب في الجامع الحاكمي خطبة، وفي الأزهر خطبة، وفي جامع ابن طولون خطبة، وفي جامع عمرو بن العاص خطبة، محفوفًا بالوزير والقاضي وداعي الدعاة.
واتخذ الأزهر كغيره مدرسة لدراسة المذهب الشيعي، قال المقريزي: «إن أول ما درس بالأزهر الفقه الفاطمي على مذهب الشيعة، فإنه في شهر صفر سنة ٣٦٥ﻫ جلس علي بن النعمان القاضي بجامع القاهرة المعروف بالجامع الأزهر، وأملى مختصر أبيه في الفقه عن أهل البيت، ويعرف هذا المختصر «بالاقتصار» وكان جمعًا عظيمًا، وأثبت أسماء الحاضرين.» وألف يعقوب بن كلس الوزير السابق الذكر كتابًا في الفقه يتضمن ما سمعه من المعز، وهو مبوب على أبواب الفقه يشتمل على فقه الطائفة الإسماعيلية، وكان له مجلس في يوم الثلاثاء يجتمع فيه الفقهاء وجماعة من المتكلمين وأهل الجدل، وكان يجلس أيضًا في يوم الجمعة فيقرأ مصنفاته على الناس بنفسه، وأجرى العزيز بالله الأرزاق لجماعة من الفقهاء يحضرون مجلس الوزير، وأمر العزيز أيضًا لهؤلاء الفقهاء ببناء دار إلى جانب الجامع الأزهر؛ فإذا كان يوم الجمعة تحلقوا فيه بعد الصلاة إلى أن تصلى صلاة العصر، وكان عدتهم خمسة وثلاثين رجلًا.
وبقي الأزهر مركز الفاطمي إلى أن بنى الحاكم جامعه، فتحلَّق فيه الفقهاء الذين يتحلَّقون في الجامع الأزهر.
ووقَّف الحاكم الأوقاف على الأزهر، وعلى جامع راشدة، وجامع المقس، وعلى دار الحكمة، من عقار وكتب.
وقد ذكر المقريزي أيضًا أنه دخل هذه المكتبة «مكتبة الفاطميين» أحد السياح، فرأى فيها مقطعًا من الحرير الأزرق غريب الصنعة فيها صورة أقاليم الأرض وجبالها وبحارها ومدنها وأنهارها ومساكنها، وجميع المواطن المقدسة مبيَّنة للناظر، مكتوبة أسماء طرائقها ومدنها وجبالها وبلادها وأنهارها وبحارها بالذهب، وغيرها بالفضة والحرير.
فهي بهذا الوصف مكتبة قيمة، ومدرسة تدرَّس فيها العلوم المختلفة وقاعة مناظرات.
كان بجانب الحركة الدينية من سنية وشيعة حركات أخرى مدنية، من ذلك حركة تاريخية، فقد نبغ من مؤرخي هذا العصر الشابُشْتِي، وهو أبو الحسن علي بن محمد، وكان في عهد العزيز بن المعز، وكان نديمه وجليسه، والقيِّم على خزانة كتبه، اشتهر بكتابه «الديارات»، ذكر فيه كل دير بالعراق والموصل والشام والجزيرة ومصر، وجميع الأشعار التي قيلت في كل دير وما جرى فيه، وكان من حسن الحظ بقاء هذا الكتاب إلى عصرنا هذا مخطوطًا ينتظر من ينشره. توفي سنة ٣٨٨ﻫ.
وله كتب أخرى كثيرة، منها: كتاب «درك البغية» في وصف الأديان والعبادات ٣٥٠٠ ورقة، وكتاب «الأمثلة للدول المقبلة» يتعلَّق بالنجوم والحساب في ٥٠٠ ورقة.
إلى كثير من الكتب الأدبية في النوادر والغزل، والأغاني ومعانيها وغير ذلك، عاش المسبِّحي من (٣٦٦ﻫ–٤٢٠ﻫ).
ثم القُضَاعي؛ أبو عبد الله محمد بن سلامة تولَّى القضاء بمصر، وقد اشتهر بوضعه كتابًا في خطط مصر سمَّاه «المختار في ذكر الخطط والآثار» كان عونًا للمقريزي على خططه، وقد أوفده المستنصر الخليفة الفاطمي إلى تيودورا إمبراطورة القسطنطينية سنة ٤٤٧ﻫ ليتحدث في الصلح بينهما، وقد مات سنة ٤٥٤ﻫ.
وعلي بن سليمان، وكان طبيبًا للعزيز بالله وولده الحاكم، وقد نقل بعض الكتب في الطب لأبقراط وجالينوس، كما ألَّف فيما بعد الطبيعة.
وأبو علي بن الهيثم، وأصله من البصرة، ثم انتقل إلى مصر في أيام الحاكم بأمر الله وأقام بها إلى آخر عمره، برع في الرياضيات والطبيعيات، وله مشاركة في الطب، وقد أتى مصر باستدعاء الحاكم لما بلغه أن له نظرية هامة في توزيع مياه النيل، ولكنه لما حضر وسافر إلى الشلال وخبر النيل هناك ودرسه أدرك خطأ نظريته، واعتذر للحاكم، ولكنه كان مصدر حركة فلسفية كبيرة وخاصة في الطبيعيات والرياضيات، وكان لا يهمه المال والجاه بجانب ما يهمه العلم والوقوف على الحقيقة، قال في كتبه: «إني لم أزل منذ عهد الصبا مُرَوِّيًا في اعتقادات الناس المختلفة، وتمسك كل فرقة منهم بما تعقتده من الرأي، فكت متشككًا في جميعه، موقنًا بأن الحق واحد، وأن الاختلاف فيه إنما هو من جهة السلوك إليه، فلما كملت لإدراك الأمور العقلية انقطعت إلى طلب معدن الحق، ووجَّهت رغبتي وحرصي إلى إدراك ما به تنكشف تمويهات الظنون وتنقشع غيابات المتشكك المفتون.» … إلخ.
وكان للمبشر بن فاتك؛ وهو أمير من أمراء مصر في العهد الفاطمي، ولع بالعلوم الفلسفية يقتني كثيرًا من كتبها، ويتبحر فيها؛ ويستفيد ابن الهيثم من علمه في الهيئة والرياضة.
واشتهر من هذه الطائفة علي بن رضوان رئيس أطباء الحاكم، وهو مصري الأصل من الجيزة، وكان أبوه فرَّانًا، ولاقى في تعلمه أهوالًا حتى برع في الطب، وصار له الذكر والسمعة العظيمة، والثراء الواسع، وقد قامت بسببه حركة فكرية نافعة تحركت بها الأفكار في مصر وبغداد؛ إذ دخل ابن رضوان المصري في مناظرة حادة مع ابن بطلان الطبيب النصراني البغدادي، وتُبُودِلَتْ بينهما الرسائل «ولم يكن أحد منهما يؤلف كتابًا، ولا يبتدع رأيًا إلا ويرد الآخر عليه»، وكان ابن رضوان طويل اللسان يكثر التشنيع على من يخالفه، وتعدَّت المناظرة من المسائل العلمية إلى التعبير بقبح الشكل، وكان ابن رضوان قبيح الشكل، فتناظرا أيضًا في أيهما خير أن يكون الطبيب جميلًا أو لا، ولما طالت المناظرات سافر ابن بطلان من بغداد إلى مصر ليرى مناظره، وأقام بها ثلاث سنين، واستمرت بينهما المناظرات. ويقول ابن أبي أصيبعة في المقارنة بينهما: كان ابن بطلان أعذب ألفاظًا، وأكثر ظرفًا، وأميز في الأدب وما يتعلق به، وكان ابن رضوان أطب وأعلم بالعلوم الحكمية وما يتعلق بها، وقد ألف ابن رضوان كتبًا كثيرة في الطب والفلسفة.
وكانت في مصر أيضًا حركة في النحو، من أشهر رجالها أبو بكر الأدفوي تلميذ أبي جعفر النحاس الذي تقدم ذكره، برع في علوم القرآن والنحو، له كتاب في علوم القرآن في مائة وعشرين مجلدًا مات، سنة ٣٨٨ﻫ.
ثم ابن بابشاذ، أحد أئمة النحو والأعلام في فنون العربية وفصاحة اللسان، ورد العراق تاجرًا في اللؤلؤ، وأخذ عن علمائها ورجع مصر، واستخدام في ديوان الإنشاء والرسائل مراجعًا يراجع ما يخرج من الديوان من الإنشاء، ويصلح ما يراه من الخطأ في الهجاء والنحو واللغة، ثم تزهد، وقد ألَّف شرحًا على كتاب «الجُمل» للزَّجاجي، و«المحتسب في النحو»، وتعليق في النحو يقارب خمسة عشر مجلدًا. مات سنة ٤٦٩ﻫ.
- الأول: أن العصر الأول لفتح مصر كان عصر دهشة أعقبت الفتح، فلما استقرَّت الأمور وبدأ الشعر ينهض، تولَّى الحكم أتراك من مثل الطولونيين والإخشيديين، وليس لهم من الذوق العربي الراقي ما يستسيغون به الشعر، والشعر العربي بطبيعة موضوعاته التي كانت من مديح ونحوه لم يكن يزهر إلا على باب قصور الخلفاء والأمراء، فإن تذوقوه وشجعوه نما وازدهر، وإلا ضعف وانحدر، فلما جاء الفاطميون — وهم عرب لهم الذوق العربي، والثقافة العربية، وخاصة في أول عهدهم؛ إذ كان فيهم أيضًا الذوق البدوي — نما الشعر على بابهم، ولما جاءوا مصر جاءوا بذوقهم وشعرائهم، وتتابعت الموجات.
- والثاني: أن الدولة الفاطمية كان أساسها الدعوة والدعاية بأوسع ما تدل عليه هذه الكلمة، حتى قلَّ أن نرى لها مثيلًا في تنظيم دعوتها سرًّا وجهرًا، والدقة في اختيار الأساليب المختلفة التي تناسب العامة والخاصة، والجاهل والعالم، والمتدين والملحد، والغبي والفيلسوف؛ فرأت بصائب نظرها أن الشعراء من أصلح الدعاة لمذهبهم؛ إذ هم يقومون في زمنهم مقام الجرائد السيارة في عصرنا، فاحتضن الخلفاء الفاطميون ووزراؤهم وأمراؤهم الشعراء ينفحونهم بالمال الكثير، والعطاء الوفير؛ ليطلقوا ألسنتهم بالقول في مدحهم ومدح مذهبهم.
وقد وضع ابن هانئ الأندلسي أول خطة لذلك وهو بالمغرب عندما اتصل بالمعز فاتح مصر ومؤسس القاهرة، فمدحه بغرر المدائح وعيون الشعر، وبالغ المعز في الإنعام عليه، ولم يكن هناك ممدوح أعز شاعره كما أعزَّ المعز ابنَ هانئ، فلما أنشده بالقيروان قصيدته التي أولها:
وقد أسس ابن هانئ في شعره عقائد الإسماعيلية، وصاغها صياغة شعرية، وعلَّم الشعراء كيف يمدحون الخلفاء الفاطميين من ناحية عقائدهم، كما يمدحونهم من ناحية خلائقهم، فيقول مثلًا:
ويقول:
•••
ويقول:
وهو بذلك يؤكد عقيدة الشيعة في أن للشريعة ظاهرًا وباطنًا، وأن التأويل لا يعلمه إلا الله ورسوله وخلفاؤه المنصوبون من قبله، إمامًا بعد إمام إلى آخر الأئمة المعصومين، يعلِّم الماضي منهم من يأتي بعده، وسائر الناس يستفيدون علم التأويل منهم بقدر استعدادهم.
ويقول مؤيدًا لهذه التعاليم:
ويقول:
فلحاجة الفاطميين للدعوة قربوا الشعراء، فكثر الشعر وحسن وجاد، فرأينا شعراء ممتازين في هذا العصر لم يكن مثلهم في مصر، شعراء أتوا من المغرب مع المعز وبعده، وشعراء وافدون من العراق والشام واليمن، وشعراء من المصريين أنفسهم، وراج الشعر لكثرة الدوافع وقوتها، فنوع الشعر الغالب على الأدب العربي — وهو شعر المديح — إنما يكثر ويزدهر على باب القصور السخية، والفاطميون كانوا من أسخى الناس في هذا الباب ثم هم أكثروا من الحفلات العامة، مما لم يكن له نظير في مصر لا قبلهم ولا بعدهم، وهذه الحفلات والأعياد كانت في غاية من الفخامة والضخامة، قد أقروا الأعياد التي كانت قبلهم، وزادوا عليها: فموسم رأس السنة، ويوم عاشوراء، ومولد النبي، ومولد علي، ومولد الحسن، ومولد الحسين، ومولد فاطمة، ومولد الخليفة الحاضر، وليلة أول رجب، وأول شعبان ونصفه، وغرة رمضان، وسماط رمضان، وليلة الختم، وعيد الفطر، وعيد النحر، وعيد الغدير، وكسوة الشتاء، وكسوة الصيف، وفتح الخليج، ويوم النيروز، ويوم الغطاس، ويوم الميلاد، وخميس العدس … إلخ، مما بقي أثر بعضه عند المصريين إلى اليوم.
وكان في كثير من هذه الأعياد، يركب الخليفة بزيه المفخم، وهيئته المعظمة، وتوزع الخلع والجوائز، وتمد الأسمطة، فتكون كل هذه المظاهر حافزة للشعراء على أن يقولوا ويكثروا ويجيدوا في هذا الباب من القول الذي يعده الفاطميون دعاية لهم لا بد منها.
وقد أسس هذه الخطة — خطة الاحتفاء بسماع الشعر ورعايته والمكافأة العظيمة عليه — الخليفة المعز ووزيره يعقوب بن كلِّس، ثم صارت تقليدًا فاطميًّا متبعًا بالمعز أسس له ابن هانئ منهج الشعراء في المديح، ويعقوب بن كلس قرَّب الشعراء وشجعهم وأغناهم، وكان من أولهم في ذلك الشاعر أبو حامد الأنطاكي المعروف بأبي الرَّقَعْمَق، وأكثر شعره وقف على مدح المعز والعزيز والحاكم بأمر الله، وجوهر القائد، وخاصة الوزير ابن كلِّس من مثل قوله فيه:
ويمكننا أن نقسم الشعر المصري الفاطمي أقسامًا ثلاثة: قسم في المديح وهو أكبر الأقسام كعادة الشعر العربي، وكما رأيت في شعر أبي الرقَعْمَق، ويمتاز عما قبله من شعر مصر بالجزالة والقوة للأسباب التي ذكرناها، ومن أشهر هؤلاء المهذب بن الزبير، وكان أكثر مديحه في الصالح بن رُزِّيك، ومن أشهر قصائده فيه قصيدة نونية يمدحه بها بعد انتصار أسطول مصر على أسطول الروم، مطلعها:
ومثل المهذَّب المَوْصِلي، وعُمَارة اليمني.
ويصح أن نلاحظ أن هذا الشعر الذي قيل في مديح الفاطميين شعر فرح مغتبط؛ إذ كان الشيعة لأول أمرهم قد نجحوا في تأسيس دولة ضخمة، وتبوءوا فيها كرسي الخلافة بعد أن طال أمدهم في اضطهاد وتعذيب على يد الأمويين والعباسيين، فكان شعر شعرائهم حزينًا آسفًا كشعر السيد الحِمْيَري، والكميت ودِعْبل الخزاعي.
ثم شعر تعليمي في الدعوة، وقد بدأه ابن هانئ الأندلسي في بعض شعره، وقد عرضنا قبلُ نماذجَ منه، وبلغ قمته المؤيد الشيرازي داعي الدعاة، فأكثر من الشعر في هذا الباب وأفاض، وله ديوان في ذلك، منه في تأييد علم الباطن.
ثم شعر هو أرقى أنواع الشعر وأصدقه، ينبع من مشاعر الشاعر، ويتدفَّق في رقَّة وسلاسة، وكان على رأس الشعراء من هذا النوع شاعران فاطميان: تميم بن المعز، والعَقِيلي.
فأما تميم، فهو ابن الخليفة المعز فاتح مصر؛ ولم يل الخلافة لأن المعز جعل ولاية عهده لابنه العزيز نزار دون تميم، فحُرم الخلافة، ولكنه تبوأ عرش الأدب فكان شاعرًا ماهرًا لطيفًا ظريفًا، يشعر بخلجات نفسه، ونبضات قلبه، ولم تر مصر شاعرًا من هذا القبيل قبله مثله، يصف حياته اللاهية من حبه وعشقه وليالي غرامه ونحو ذلك في قولٍ عذب، وفي أعماقه شعور بالحزن؛ إما لطبيعة مزاجه ورقة جسمه، أو لخروج الخلافة من يده وهو يرى أنه أولى بالفضل، أو لأنه عذبه الحب فأضناه، أو لكل ذلك مجتمعًا، فمن قوله:
وتميم بن المعز أشبه شيء بابن المعتز في قرابة الكنية، والنشأة في بيت الملك، وقوة الشاعرية، وسوء الحظ في دنيا المناصب، وإن تخالفا في أن ابن المعتز سُني عباسي يدعو للعباسيين ويرد على الشيعة، فيرد عليه ابن المعز في مثل قوله وعلى رويِّ قصيدته. يقول ابن المعتز في الإشادة بالعباسيين وردِّ دعوة الشيعة قصيدة مطلعها:
يقول فيها:
… إلخ.
فيرد تميم بن المعز بقصيدته:
… إلخ.
ولكن دعنا من هذا، فمزية تميم الكبرى في رقة شعره، وصدق شعوره وسلاسته، فكان في ذلك أستاذ البهاء زهير بعده، كقوله:
وقوله:
وله الأوزان الشعرية الظريفة كقوله:
… إلخ.
وأما العَقيلي، فهو أبو الحسن علي بن الحسن بن حَيْدرة العقيلي، كان في المائة الخامسة، وكان من الأشراف، وكان له متنزهات بجزيرة الفسطاط، ولم يغنِّ لخليفة أو أمير، بل غنَّى لنفسه في حبِّه ومتنزهاته، وكان يعد من أئمة المدرسة التي تعنى بالتشبيه وتجيده، أمثال ذي الرمة أولًا، وابن المعتز أخيرًا، ثم سلك مسلك أبي نواس في الخمر وتوليد المغاني منها، وأولع بالطبيعة الجميلة يستجليها ويستمتع بها، كقوله:
وقوله في وصف صديق:
•••
ثم ما بقي لنا من النثر الفني الفاطمي ولو كان قليلًا، كبعض الكتب الرسمية التي ذكرها القلقشندي في «صبح الأعشى»، ورسالة ابن القارح لأبي العلاء — وقد عاش ابن القارح في زمن الحاكم — وردَّ عليها أبو العلاء ﺑ «رسالة الغفران»، وكرسالة داعي الدعاة إلى أبي العلاء، وجداله معه في ذبح الحيوان، إلى غير ذلك من رسائل منثورة هنا وهناك، كل هذا على قِلَّته يدل على تقدم النثر الفني، وميله إلى الزينة من سجع وبديع واقتباس، مما هو ظل لحياة الترف في قصور الخلفاء، كما يدل على تأثر بسعة الثفافة التي عظمت في هذا العصر.