العراق وجنوبي فارس
ظلت هذه البلاد محكومة بالخلفاء اسمًا، وبسلطة الأتراك فعلًا، من عهد المتوكل إلى أن جاءت البويهية الفارسية فبسطت نفوذها على جنوبي فارس والعراق من سنة ٣٢١ﻫ إلى سنة ٤٤٧ﻫ، ولما تغلبوا على بغداد لم يكن للخليفة العباسي معهم إلا الاسم، والدعاء له على المنابر، وكتابة اسمه على سكة الدراهم والدنانير. وأما جباية الأموال وتجييش الجيوش وأمور الدولة كلها ففي أيديهم، قد جعلوا للخليفة مرتبًا ثم تصرفوا كل مالية الدولة، وكان لقبهم «أمير الأمراء» لقبهم به الخلفاء، وقد كان البويهيون شيعة، وقد فكر معز الدولة البويهي عندما فتح بغداد أن يعزل الخليفة وهو سني، ويقيم مكانه أحد الأئمة العلويين، كما فعل الفاطميون، وكان ذلك هينًا عليه، ولكن نصحه بعض خاصته ألا يفعل، وقال: «ليس هذا برأي فإنك اليوم مع خليفة تعتقد أنت وأصحابك أنه ليس من أهل الخلافة، ولو أمرتهم بقتله قتلوه مستحلين دمه، ومتى أجلست بعض العلويين خليفة كان معك من تعتقد أنت وأصحابك صحة خلافته، فلو أمرهم بقتلك لفعلوه، فأعرض عن رأيه، وأقام المطيع لله خليفة بدل المستكفي المخلوع.»
وقد كانوا فرسًا متشيعين يقولون إنهم من نسل ملوك فارس، وقد تقسموا العراق وجنوبي فارس فيما بينهم، وامتد نفوذ بعضهم أحيانًا، وانكمش نفوذ بعضهم، فمنهم من حكم العراق والأهواز وكرمان، ومنهم من حكم كرمان وحدها، ومنهم من حكم فارس وحدها، ومنهم من حكم الري وهمذان وأصفهان، ومنهم من مد سلطانه على ذلك جميعًا كعضد الدولة، وكان بين بعضهم وبعض خصوماتٌ ومنازعات ليس هنا موضع شرحها.
إنما نستطيع أن نقول: إنهم مع فارسيتهم شجعوا الأدب العربي، واللسان العربي، والعلوم العربية، وكان ممَّن نبغ من العلماء والأدباء والفلاسفة في عهدهم من يعد بحق فخر المملكة الإسلامية في العصور المختلفة.
وقد كانت هناك مدن كثيرة في هذا الإقليم أثناء هذا العهد وقبله تميزت بقوة الحركات العلمية والأدبية مثل بغداد والبصرة والكوفة في العراق، والري وأصبهان في فارس.
«وتقع عصبيات وحشة بالبصرة بين الرَّبَعيين وهم شيعة، وبين السعديين وهم سنة، ويدخل فيها أهل الرساتيق، وقلَّ بلد إلا وبه عصبيات على غير المذاهب.»
«وأما همذان فهي إقليم كبير حسن قديم … والري أطيب وآهل وأعمر منها، قد انجلى أهلهان، وقلَّ العلماء بها، وأذهبت الري دولتها.»
وقد اشتهر من بلاد الجبل في العلم والأدب «دينوَر» التي ينسب إليها ابن قتيبة الدينوري، وأبو حنيفة الدينوري، وغيرهما من فحول العلماء والأدباء.
تعود إلى وصف الحركة العلمية في العراق، ثم في الجزء الجنوبي من بلاد الفرس، فالعراق من عهد المتوكل إلى آخر الدولة البويهية لم تزل لها الصدارة في العلم والأدب والفلسفة.
ويدلُّ ما جمعه الخطيب البغدادي من تراجم علماء بغداد على ثروة واسعة في العلم والعلماء من جميع الفروع كالتفسير والحديث والفقه والشعر والأدب.
نعم إن المتوكل نصر أهل الحديث على المعتزلة واضطهدهم، وكان في هذا خسارة كبيرة على الحركة الفكرية؛ ولكن مع ذلك ظل الجدل في علم الكلام قويًّا.
فقد نبغ أبو علي الجُبَّائي (٢٣٥ﻫ–٣٠٣ﻫ)، وكان إمام المعتزلة في بغداد، وتتلمذ له أبو الحسن الأشعري (٢٧٠ﻫ–٣٣٠ﻫ)، وكان مولده بالبصرة، وانتقل إلى بغداد، وأخذ مذهب الاعتزال على الجبائي، ثم خرج على الاعتزال وحاربه وألف في ذلك الكتب الكثيرة، وخالف المعتزلة في كثير من أصولهم لقولهم بالاختيار المطلق ووجوب العدل على الله، وأن القرآن مخلوق، وكوَّن مذهبًا له دعا إليه، وناصر مذهبه جماعةٌ من أكبر العلماء من أشهرهم الباقلاني، وابن فورَك، والإسفرائيني، والقشيري، وإمام الحرمين الجويني، ثم الغزالي فأبو حامد الإسفرائيني كان يحضر إليه أكثر من ثلاثمائة فقيه، وانتهت إليه الرياسة في بغداد، وكان شافعيًّا كأبي الحسن الأشعري، وما زال يدرِّس ببغداد من سنة ٣٧٠ﻫ إلى وفاته سنة ٤٠٦ﻫ.
والباقلاني كذلك كان من أنصار الأشعري في بغداد، وصنَّف التصانيف الكثيرة في علم الكلام، وكان موصوفًا بالإطناب وقوة الجدل، مات سنة ٤٠٣ﻫ … إلخ إلخ.
واشتد الجدل بين الأشعرية والمعتزلة، وإن خَفَتَ بعضَ الشيء صوتُ المعتزلة؛ لقوة المحدِّثين، ونصرة ذوي السلطان لهم.
وهكذا ظلت حركة الاعتزال في العراق يناهضها الأشاعرة وغيرهم، ويؤسسون بذلك علم الكلام ويوسعونه.
كما نمت الحركة الفقهية في العراق نموًّا كبيرًا، وظهر كثير من المجتهدين وكبار أتباع المذاهب المختلفة.
فكان من المجتهدين داود الظاهري الأصفهاني الأصل البغدادي الدار، وقد أسس مذهبًا عماده إنكار القياس، وأن في الكتاب والسنة من العمومات ما يفي بمعرفة الواجبات والمحرمات، وتقديم ظواهر آيات القرآن والحديث على التعليل العقلي للأحكام، وقد كثر أتباع هذا المذهب في العراق وفارس والأندلس، وقد انقرضوا بعد المائة الخامسة، وقد مات داود صاحب المذهب سنة ٢٧٠ﻫ ببغداد، ونشر مذهبه بعده ابنه محمد المتوفى سنة ٢٩٧ﻫ.
ثم من أشهر الأئمة المجتهدين محمد بن جرير الطبري صاحب التفسير والتاريخ، ومن أعلم الناس بفقه المذاهب المختلفة، وألف في اختلاف الفقهاء، وكان من أكثر العلماء تأليفًا، وكان مجتهدًا في مذهبه لم يقلد أحدًا، توفي سنة ٣١٠ﻫ ببغداد، وكان له أتباع على مذهبه انقطعوا بعد المائة الرابعة.
وقد نبغ في هذا العصر كثير من علماء المذاهب المختلفة كذلك.
فاشتهر من الحنفية في العراق أبو الحسن عبيد الله الكرخي رئيس الحنفية في العراق في عصره، توفي سنة ٣٤٠ﻫ، وقد أصابه الفالج، فكتب أصحابه إلى سيف الدولة الحمداني يستمنحونه ما ينفق عليه، فلما علم الكرخي بذلك بكى، وقال: اللهم لا تجعل رزقي إلا من حيث عوَّدتني. ومات قبل أن تصل إليه صلة سيف الدولة.
وكان من أكبر تلاميذ الكرخي هذا أبو بكر الجصاص البغدادي رأس المذهب بعد الكرخي، وألف الكتب الكثيرة على مذهب أبي حنيفة، مات سنة ٣٧٠ﻫ، وقد وصل إلينا من تآليفه كتابه العظيم المطبوع، «أحكام القرآن».
ثم أبو الحسين القُدُوري رئيس الحنفية في العراق في زمنه، وقد ألف كتبًا وصل إلينا بعضها منها المختصر، وكان يناظر الإسفرائيني الفقيه الشافعي المشهور، مات سنة ٤٢٨ﻫ.
واشتهر من فقهاء المالكية العراقيين أبو إسحاق إسماعيل بن إسحاق بن حماد، تفقه عليه أهل العراق من المالكية، وألف الكتب الكثيرة في الفقه المالكي وعلوم القرآن وكان من نظراء المبرد في النحو، وولي قضاء بغداد، وعنه انتشر مذهب مالك في العراق، وأقام على القضاء نيفا وخمسين سنة، «وكان بيت آل حماد أشهر بيت في العراق؛ لكثرة رجاله المشهورين بالعلم والثراء، أئمة الفقه ومشيخة الحديث، رؤساء نبهاء أصحاب سنة وهدي ودين، روى عنهم علماء انتشروا في أقطار الأرض، فانتشر ذكرهم في المشرق والمغرب، وبقي العلم في بيتهم نحو مائة عام»، مات إسماعيل بن حماد هذا سنة ٢٨٢ﻫ.
ثم أبو الحسن علي بن أحمد البغدادي المشهور بابن القصار، كتب كتاب مسائل الخلاف المشهور عند المالكية، وقد تولى أيضًا قضاء بغداد، ومات سنة ٣٩٨ﻫ.
واشتهر من رجال الشافعية، أبو علي الكرابيسي البغدادي، رئيس الشافعية ببغداد، المتوفى سنة ٢٤٥ﻫ، وأبو علي الزعفراني البغدادي المتوفى سنة ٢٦٠ﻫ، وأبو علي الحسن بن القاسم الطبري البغدادي، له كتاب المحرر في النظر، وهو من أوائل الكتب في الخلاف بين الفقهاء، وله كتاب الإفصاح في الفقه، وكتاب في الأصول، وكتاب في الجدل، توفي سنة ٣٠٥ﻫ.
ثم أحمد بن عمر بن سريج القاضي بشيراز ثم ببغداد، أحد عظماء الشافعية ألف نحو أربعمائة كتاب، توفِّي سنة ٣٠٦ﻫ.
وأبو إسحاق المروزي أمام عصره في العراق بعد ابن سريج، أقام بالعراق دهرًا طويلًا ينشر مذهب الشافعي، توفي سنة ٣٤٠ﻫ.
وأبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني، المحدِّث الكبير، وكان فقيها شافعيًّا، عارفًا باختلاف الفقهاء، رحل إلى مصر، ونزل ضيفًا على ابن حِنْزابة وزير كافور الإخشيدي، ثم عاد إلى بغداد، وألف كتبًا كثيرة، ومات ببغداد سنة ٣٨٥ﻫ، ونسبته إلى دار قطن محلة ببغداد.
ثم أبو الحسن الماوردي علي بن محمد بن حبيب البصري من أكبر فقهاء الشافعية، تولى القضاء في بلدان كثيرة، واستوطن بغداد، وألف «الحاوي» وهو من أهم الكتب في الفقه الشافعي، وله الكتاب المشهور المفيد كتاب «الأحكام السلطانية» شرح فيه مناصب الدولة من الناحية الدينية كالإمامة وشروطها، والوزارة وأقسامها، والقضاء والحسبة وولاية الخراج، إلى آخره، وكان عمدة كل من تعرض لهذا الموضوع من بعده، وله كتاب آخر في قانون الوزارة وسياسة الملك.
وله كتاب «أدب الدنيا والدين» في الأخلاق على الأصول الدينية لا كتهذيب الأخلاق لمسكويه، فإنه كتاب أخلاق على الأصول الفلسفية.
مات ببغداد سنة ٤٥٠ﻫ.
وكان للحنابلة سلطان كبير في العراق، واشتهر من علمائهم عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل، روى عن أبيه المسند والتفسير توفِّي سنة ٢٩٠ﻫ.
وأبو بكر أحمد بن هانئ الطائي البغدادي أحد الأعلام في الفقه على مذهب ابن حنبل، مات بعد السبعين ومائتين.
وأبو إسحاق إبراهيم الحربي إمام كبير في الحديث مات سنة ٢٨٥ﻫ.
وأبو بكر عبد الله بن داود الأزدي السجستاني من أكابر حفَّاظ الحديث ببغداد، وانتهت إليه رياسة الحنابلة بها، مات سنة ٣١٦ﻫ.
وأبو القاسم عمر بن الحسين الخِرَقي صاحب المختصر في فقه الحنابلة، خرج من بغداد لما ظهر بها سب السلف، وتوفي سنة ٣٣٤ﻫ.
وقد أتعب الحنابلة الحكومات المتعاقبة أكثر من غيرهم من أهل المذاهب الأخرى لشدة عصبيتهم والميل إلى تنفيذ آرائهم بالقوة، من إراقة الخمور ومحاربة المنكرات، والتعدي على خصومهم من أهل المذاهب، وصبرهم على ما يلقون من محن تقليدًا لأستاذهم الأكبر أحمد بن حنبل.
وفي هذا العصر نما في العراق التصوف، والدعوة إلى الاهتمام بباطن النفس لا بالظواهر، وحقيقة الشريعة لا مجرد أعمال الجوارح، ورياضة النفس عن طريق الزهد والعبادة، والوصول إلى المعرفة عن طريق الوحي والإلهام، وإدراك العالم العلوي بالذوق والشعور، لا بما يدركه العقل بالمنطق والتجارب والقياس، وقد ظهر التصوف في العراق في القرن الثاني، واشتهر من أعلامه رابعة العدوية المتوفاة سنة ١٣٥ﻫ، وهي القائلة: استغفارنا يحتاج إلى استغفار. والقائلة: إلهي، أتحْرق بالنار قلبًا يحبك؟!
ثم إبراهيم بن أدهم (١٦٢ﻫ)، وشقيق البلخي (١٩٥ﻫ)، ومعروف الكرخي (٢٠٠ﻫ)، وهو القائل: التصوف الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الناس. ثم بشر الحافي (٢٢٦ﻫ)، وهو القائل للمحدِّثين: أدوا زكاة هذا الحديث. قالوا: وما زكاته؟ قال: أن تعملوا بخمسة أحاديث من كل مائتين.
وفي أواسط القرن الثالث تفلسف التصوف، واستمد من الفلسفة اليونانية والفلسفة الهندية، فظهر بالعراق الحارث المحاسبي وهو بصري الأصل، وأستاذ أكثر البغداديين، ومفلسف التصوف، ألف كتبًا كثيرة؛ وكان يقول: خيار هذه الأمة هم الذين لا تشغلهم آخرتهم عن دنياهم، ولا دنياهم عن آخرتهم. وكانت تآليفه من الأصول التي اعتمد عليها الغزالي في كتبه، توفي سنة ٢٤٣ﻫ.
ثم سهل بن عبد الله التستري البصري المتوفى سنة ٢٨٣ﻫ.
ثم أبو سعيد أحمد بن عيسى البغدادي الخزَّار المتوفى سنة ٢٨٦ﻫ، وهو أول من تكلم في الفناء والبقاء.
ثم ظهر إمام الصوفية الجنيد، أصله من نهاوند، ومولده ومنشؤه بالعراق، توفي سنة ٢٩٧ﻫ ببغداد، ومن قوله: «التصوف صفاء المعاملة مع الله.» «إن الله يخلص إلى القلوب مِنْ بِرِّهِ على حسب ما تُخلص إليه القلوب من ذِكره، فانظر ماذا خالط قلبك.» «المريد الصادق غني عن علم العلماء.» «التصوف أن تكون مع الله بلا علاقة.»
ومن تلاميذ الجنيد أبو منصور الحلاج الذي نقلت عنه مقالات في الحلول أفتى فيها العلماء بإباحة دمه، فقتل ببغداد سنة ٣٠٩ﻫ.
وأخذ المتصوفة يضعون الكتب في التصوف محاذاة لكتب الفقهاء، ومن أشهر هذه الكتب «قوت القلوب» لأبي طالب المكي، أصله من إقليم الجبل وسكن مكة فنسب إليها، وأقام ببغداد مدة وبالبصرة مدة، وشطح في كلامه، وقد مات ببغداد سنة ٣٨٦ﻫ.
وكان طبيعيًّا أن يثور الخلاف بين الفقهاء والمتصوفة لاختلاف النزعتين، فالمتصوف يعتمد على القلب وعلى الذوق وعلى المعرفة من طريق الإلهام وعلى الباطن، والفقهاء يعتمدون على ظاهر القرآن والسنة، وعلى الاستنباط منهما من طريق المنطق والعقل، وليس عندهم باطن ولا حقيقة وراء ظاهر النصوص وفهم معانيها، والصوفي يعنى بالروح والنفس، والفقيه يعني بالجانب الظاهري والعملي، والصوفي روحاني نفساني، والفقيه قانوني، والصوفي يعنى بالحب الإلهي، ولا يعنيه كثيرًا أمر الثواب والعقاب، والفقيه يعني بأداء العبادات، ويعتمد كثيرًا على الثواب والعقاب … إلخ.
فلا عجب إذن إذا اصطدمت الطائفتان، ولا عجب إن كان أكبر اصطدام لهما في العراق إذ كانت الموطن الأكبر للمتصوفة، وخصوصًا في البصرة حيث كانت منزل الهنود القادمين إلى العراق، وبغداد حيث تلتقي الثقافات.
وكانت الخصومة أشد ما يكون بين الحنابلة والصوفية لشدة تمسك الحنابلة بظاهر النصوص، ولأثر أحمد بن حنبل نفسه في ذلك، فقد أنكر أحمد بن حنبل على الحارث المحاسبي الصوفي كلامه في التصوف حتى اختفى المحاسبي، ولما مات لم يحضر جنازته إلا أربعة، وعاب عليه ابن حنبل وتلاميذه كلامه في الخواطر والوساوس، وقال إن هذه بدعة، ورمى الحنابلة الصوفية بالزندقة وأثاروا الناس عليهم، وكان من أشهر الحوادث في ذلك المحنةُ المعروفة بمحنة «غلام الخليل»، وكان ذلك سنة ٢٦٢ﻫ، إذ جاء «غلام الخليل»، وكان حنبليًّا معروفًا بالحديث والفقه والوعظ، وقد وصفه أبو داود السجستاني بأنه دجَّال بغداد، واتهم الصوفية بالزندقة، وشغب عليهم العامة، وسعى عند الخليفة، وعند والدة الموفق، فأمر بالقبض على عدد كبير من الصوفية بلغوا نيفًا وسبعين، وانتهت المحنة بقتل بعضهم، وهرب بعضهم وتبرئة بعضهم.
ثم كانت فتنة الحلاج الكبرى فاتهم بالكفر ودعوى الألوهية، ورصدت فتوى من محمد بن داود الظاهري بتكفيره سنه ٢٩٧ﻫ، ثم قبض عليه وحُوكِمَ؛ وصدرت الفتوى بإباحة دمه من أبي عمر بن يوسف الأزدي وأبي الحسين بن الأشناني، ووقَّع الخليفة بموته، فقتل الحلاج وصلب وقطعت أطرافه، وأحرق سنة ٣٠٩ﻫ.
فنرى من هذا شدَّة ما كان بين الصوفية والفقهاء في العراق من نزاع.
وكان مجلسه في بيته مدرسة فكرية تثار فيها أدق المسائل، ويدلي فيها كبار العلماء بآرائهم، ولأبي سليمان الكلمة الأخيرة فيما يعرضون.
فيجتمع عنده أمثال أبي زكريا الصيمري، وأبي حيان التوحيدي، والنُّوشَجَاني والقُومَسي، وغلام زحل، ويتجادلون — مثلًا — في هل هناك تأثير للنجوم في الحوادث الأرضية، وفي أفعال الله هل هي ضرورة أو اختيار، وفي السماع والغناء. ولِم يؤثران في النفس، والعلاقة بين المنطق والنحو، ونعيم أهل الجنة وكيف يكون، والفرق بين طريقة المتكلمين والفلاسفة، والحظوظ والأرزاق، والدهر وحقيقته.
فكان بيته مدرسة تنشط فيها الحركات الفكرية، وتثار فيه أعقد المسائل أحيانًا ارتجالًا، وأحيانًا بقراءة رتيبة؛ فقد درَّس في بيته — مثلًا — كتاب النفس لأرسطو وحضره عليه أبو حيان التوحيدي.
ويطلعنا أبو حيان التوحيدي في كتابه «المقابسات» و«الإمتاع والمؤانسة» على محاضر لهذه الجلسات وغيرها مما كان يدور بين العلماء في بغداد، فيدلنا على نشاط ذهني فلسفي عجيب، وحرية في التفكير عظيمة، وثروة في رجال الفكر والنشاط العقلي كبيرة، فيروي لنا — مثلًا — مناظرة كبرى بين أبي سعيد السيرافي النحوي وبين متَّى بن يونس القُنَّائي في المنطق اليوناني والنحو العربي سنة ٣٢٠ﻫ، وكانت في بغداد، واحتشد لهذه المناظرة كثير من العلماء ورسول للإخشيديين بمصر ورسول للسامانيين، وكان أساس المناظرة أن متَّى يقول: لا سبيل إلى معرفة الحق من الباطل، والصدق من الكذب، والخير من الشر، والحجة من الشبهة، والشك من اليقين؛ إلا بالمنطق حسبما رسمه أرسطو. وكان أبو سعيد يرى أن هذه الأمور تعرف بالعقل الفطري من غير حاجة إلى المنطق، وليس علم المنطق إلا أشكالًا، فهب أن الأشكال صحيحة فبم تعرف جوهر الأشياء وحقيقتها؟ أليس من طريق العقل؟! وتحورت المناقشة بعد ذلك إلى مسائل فرعية لا نطيل بها، كدعوى أنه لا حاجة بالمنطقي إلى النحو، وبالنحوي حاجة إلى المنطق … إلخ.
ويحكي مجلسًا عند الوزير ابن سعدان حضره جماعة من متفلسفة النصارى جرى فيه البحث في الإصلاح الخلقي وتقسيمه إلى سهل وعسير كالإصلاح البدني.
ومحضر جلسة أخرى عند عيسى بن علي بن عيسى الوزير في السبب الذي من أجله يولع كل ذي علم بعلمه.
ومناظرة بين ماني المجوسي وأبي الحسن محمد بن يوسف العامري في النفس بعد الموت هل تبقى أو لا تبقى.
ومناقشة في أن معرفة الله هل هي ضرورية أم استدلالية، إلى أكثر من أمثال ذلك مما يدل على جو مملوء بالأفكار الفلسفية، وميل عقلي إلى فلسفة الأشياء والعمق في التفكير فيها.
واشتهر بالطب والفلسفة في بغداد ابن بطلان وهو أبو الحسن المختار بن الحسن بن عبدون النصراني، وهو الذي كان له المساجلات الطويلة المفيدة مع ابن رضوان المصري، فلما طالت سافر على مصر لزيارة منافسه سنة ٤٣٩ﻫ وعرج على حلب، ثم وصل مصر سنة ٤٤١ﻫ وأقام بها ثلاث سنين، ثم عاد إلى بغداد، وقد تقدم طرف مما كانت تدور حوله المناظرة عند ترجمة ابن رضوان، وقد وصل إلينا من كتبه كتاب شراء العبيد وكتاب دعوة الأطباء، وقد صنف أيضًا في تقويم الصحة، وكيفية دخول الغذاء في البدن وهضمه، والمدخل إلى الطب … إلخ.
وكان من أشهر المشتغلين بالفلسفة في بغداد يحيى بن عَدِيٍّ النصراني، وكان رئيس المناطقة في زمانه، أخذ العلم عن بشر بن متى وعن الفارابي، وكان كثير الإنتاج بما ينقل من السريانية إلى العربية وبما يؤلف وبما ينسخ، وقد عُمِّر إحدى وثمانين سنة كان فيها حركة دائبة، ألَّف مقالات كثيرة في المنطق وفي الإلهيات، ومات ببغداد سنة ٣٦٤ﻫ، وصفه أبو حيان التوحيدي بأنه «كان شيخًا لين العريكة، مشوه الترجمة رديء العبارة، وكان مبارك المجلس، وكان ينبهر في الإلهيات ويضل فيها».
وممن اشتهر بالفلسفة أيضًا أبو علي بن زرعة النصراني، اشتهر بالمنطق وعلوم الفلسفة، والنقل إلى العربية، اختصر كتاب أرسطو في المعمور من الأرض، وألف كتاب أغراض كتب أرسطو المنطقية، ومقالة في العقل … إلخ. مات ببغداد سنة ٣٩٨ﻫ، وقد فضله أبو حيان على يحيى بن عدي فقال: «إنه كان حسن الترجمة صحيح النقل، كثير الرجوع إلى الكتب، محمود النقل إلى العربية … ولولا توزع فكره في التجارة ومحبته في الربح وحرصه على الجمع لكانت قريحته تستجيب له.» وهو يشير على أنه كان مفتونًا بالتجارة مع القسطنطينية فاغتنى، ولكن صودرت أمواله ووقع في محن حتى أصيب بالفالج.
كما اشتهر نظيف القسي الرومي، وكان خبيرًا باللغات، ينقل من اليوناني إلى العربي، واستخدمه عضد الدولة البويهي في البيمارستان الذي أنشأه ببغداد، قال أبو حيان: «إن نظيفًا كانت يده في الطب أطول، ولسانه في المجالس أجول، ومعه وفق وحذق في الجدل.»
وغير هؤلاء كثيرون عُنُوا بالفلسفة في بغداد كابن السمح، وأبي بكر القُوَسي، وابن الخمار، وأبي الوفاء البزجاني الرياضي المشهور، قال فيه ابن خلكان: إنه أحد الأئمة المشاهير في علم الهندسة، وله فيه استخراجات غريبة لم يسبق بها، قدم العراق سنة ٣٤٨ﻫ، ومات به سنة ٣٨٧ﻫ.
ومن هذه الطبقة أبو عليٍّ أحمد بن محمد مسكويه، كان خازنًا لكتب عضد الدولة، واختص من الفلسفة بالناحية الخلقية، فألف تهذيب الأخلاق، كما ألف في التاريخ كتابه تجارب الأمم جرى فيه على نسق خاص، وهو الاهتمام بمواضع العبرة في الأحداث التاريخية، والتعليق عليها تعليق الحكيم المجرِّب.
وعلى الجملة فقد كانت الحركة الفلسفية في العراق من أرقى الحركات الفلسفية في المملكة الإسلامية.
وقد نبغ في العراق في ذلك العصر كثير من الشعراء والأدباء، من أشهرهم في بغداد ابن نباتة السَّعْدِي مدَّاح الملوك والرؤساء والوزراء، مدح سيف الدولة في حلب كما تقدم، ومدح عضد الدولة والوزير المهلبي في العراق، وابن العميد في الري؛ وله مقطوعات كثيرة في الغزل وشكوى الزمان، وأكثر من الوصف وأجاد، فوصف كماة الحرب وأسرى الروم، والفَرَس، والمغنَّى، والسكين، وطيب الهواء، وخوالج نفسه … إلخ. وقد جمع شعره بين الرِّقة والسهولة وحسن السبك، ومات سنة ٤٠٥ﻫ ببغداد.
ثم أبو الحسن السلامي نسبة على دار السلام، شاعر عربي الأصل من بني مخزوم، ولد في كرخ بغداد، مدح الصاحب بن عباد بأصفهان، وابن العميد في الري، وعضد الدولة بشيراز، وسلك مسلك أبي نواس في التشبيب بالغلمان، وجرى على سنة عصره في الإكثار من المقطوعات، ووصف ما يعرض من الأشياء، وقد وصف شِعب بَوَّان وصفًا لم يستطع الوصول فيه إلى ما وصل له المتنبي في وصفه، ويفحش أحيانًا فيفرط في الفحش، ويهجو فيقذع في الهجاء، على عادة كثير من شعراء هذا العصر.
ثم ابن سكرة، وابن حجاج، وقد سبق طرف من الكلام عليهما.
وقد وصف أبو حيان التوحيدي بعض المشهورين من الشعراء في وقته ببغداد، فكان مما قال: «إن ابن نباتة شاعر الوقت، لا يدفع ما أقول إلا حاسد أو جاهل أو معاند، قد لحق عِصابة سيف الدولة وعدا معهم ووراءهم، حسن الحذو على مثال سكان البادية، لطيف الائتمام بهم، خفي المغاص في واديهم، ظاهر الإطلال على ناديهم، هذا مع شعبة من الجنون وطائف من الوسواس.
وأما ابن حجاج فسخيف الطريقة، بعيد عن المجد، قريع في الهزل، ليس للعقل من شعره منال، ولا له في قرضه مثال، على أنه قويم اللفظ، سهل الكلام … وهو شريك ابن سكرة في هذه الغرامة — الخسارة — وإذا جد أقعى، وإذا هزل حكى الأفعى.
وأما السلامي فهو حلو الكلام، متسق النظام، كأنما يبسم عن ثغر الغمام، خفي السرقة، لطيف الأخذ، واسع المذهب، لطيف المغارس، جميل الملابس، لكلامه ليطة بالقلب، وعبث بالروح، وبرد على الكبد.
كما كان من أكبر شعراء هذا العصر في بغداد الشريف الرضي، وقد تقدم القول فيه.
واشتهر من شعراء البصرة في هذا العصر البويهي ابن لَنْكَك البصري، وقد رأى غيره من الشعراء ينفق سوقه وهو خامل، مع أدبه وظرفه، فأكثرَ مِن ذمِّ الدهر، وشكوى الزمان، وهجاء من نجح من الشعراء، وهو في المقطوعات القصيرة أجود منه في القصائد الطويلة.
ونبغ في العهد البويهي أربعة من كبار الكتاب، اثنان في الجزء الفارسي الجنوبي، وهما، ابن العميد، والصاحب بن عباد، وسيأتي الكلام فيهما، واثنان في العراق، وهما: أبو إسحاق الصابي، وأبو القاسم عبد العزيز بن يوسف.
فأما الصابي فهو إبراهيم بن هلال الحرَّاني الصابي، صاحب الرسائل المشهورة المطبوعة، كان كاتب الإنشاء ببغداد عن الخليفة وعن عز الدولة البويهي، وتقلد ديوان الرسائل سنة ٣٤٩ﻫ، وقد ظل محافظًا على دينه الوثني، رغم ما خوطب ومُنِّيَ ووعد بالوزارة إذا هو أسلم، في ملاطفة للمسلمين ومجاراتهم والاحتفال بشعائرهم، فكان يصوم رمضان، ويحفظ القرآن كان مع صابئيته محبوبًا من عظماء المسلمين، مقربًا إليهم، مبجلًا موقرًا كالصاحب ابن عباد، والزير المهلبي، وقد حكى ياقوت عنه أنه قال: «راسلت المتنبي في أن يمدحني بقصيدتين وأعطيه خمسة آلاف درهم، ووسطت بيني وبينه رجلًا من وجوه التجار، فقال المتنبي للوسيط: قل له والله ما رأيت بالعراق من يستحق المدح غيرك، ولكن إن مدحتك تنكر لك الوزير — يعني الوزير المهلبي — وتغير عليك؛ لأني لم أمدحه، فإن كنت لا تبالي هذه الحال فأنا أجيبك إلى ما التمست وما أريد عن شعري عوضًا.»
وقد كان الصابي يناصر عز الدولة على عضد الدولة، فلما انتصر عضد الدولة وقتل عز الدولة قبض على الصابي وحبسه وأراد إلقاءه تحت أرجل الفيلة، فتشفعوا له فشفع، ولكن لم يزل في نفسه منه، وأمره عضد الدولة أن يؤلف له كتابًا في أخبار الدولة البويهية، فعمل له الكتاب «التاجي»، وقد وشى بعض الناس إلى عضد الدولة أن الصابي سئل وهو يكتب هذا التاريخ: ماذا تصنع؟ فقال: «أباطيل أنمقها وأكاذيب ألفقها.» فقبض عليه، وحبس أربع سنين، ثم خرج وقد ساء حاله، ومات ببغداد سنة ٣٨٤ﻫ عن إحدى وسبعين سنة.
وقد كان يعد من أعظم كتاب عصره، وأسلوبه — كما تدل عليه رسائله — فقرات متساوية، مسجوعة أحيانًا، مزدوجة أحيانًا، وقد وصفه ابن الأثير أنه إمام الكتاب في عصره، وأنه يجيد في الكتابة الرسمية — السلطانيات — ويقصر في الإخوانيات، وأخذ عليه تكراره في معنى واحد كقوله: «لا تخلقه العصور بمرورها، ولا تهرمه الدهور بكرورها.»
ولما مات رثاه الشعراء، ومنهم الشريف الرضي في قصيدته المشهورة:
يقول فيها:
ومن أشهر الكتاب البويهيين أبو حيان التوحيدي، وقد كان من نوع آخر، فكتابته يعنى فيها بالموضوع كما يعنى بالشكل، وهو غزير العقل واسع العلم حسن الصياغة، جيد السبك وبحق لقبوه بالجاحظ الثاني، وقد وصل إلينا من كتبه «الإمتاع والمؤانسة»، و«المقابسات» و«البصائر»، ورسالة في الصداقة، وأسلوبه فيها أسلوب أدبي راق يحب الازدواج ويطيل البيان، ويولد المعاني حتى لا يدع لقائل بعده قولًا، كثير المحفوظ، واسع المعرفة، له اتصال تام بالفلسفة، والتصوف والأدب من شعر ونثر، والتاريخ والسير، خبير بأحوال الزمان، حمله البؤس على أن يتنقل في الأمصار، ويتصل بالعامة، ومكنه أدبه أن يتصل بالوزراء كابن العميد، وابن عباد، وابن سعدان، فعرف من أخلاق الناس على اختلاف طبقاتهم الشيء الكثير، ودون ذلك في كتبه، وفي أسلوبه بعض الغموض إذا تعرض للمسائل الفلسفية لطبيعية الموضوع وعمقه، واضح كل الوضوح إذا تعرض للمسائل الأدبية والاجتماعية، وقد اتجه اتجاهًا لطيفًا في تدوينه في كتاب «الإمتاع والمؤانسة» ما دار في المجلس بينه وبين الوزير ابن سعدان وزير صمصام الدولة البويهي، كما دون في كتابه «المقابسات» محاضر جلسات لكثير من العلماء وخاصة أبا سليمان المنطقي.
ونبغ في الأدب واللغة أبو بكر محمد بن دريد الأزدي، ولد بالبصرة سنة ٢٢٣ﻫ، ثم مكث بعمان اثنتي عشرة سنة، ثم عاد إلى البصرة، ثم ذهب إلى فارس وصحب ابني ميكال، وكانا واليين على فارس، ثم عاد إلى بغداد سنة ٣٠٨ﻫ، وظل بها إلى أن مات سنة ٣٢١ﻫ، وهي السنة التي تسلط فيها البويهيون على العراق.
وكان من أكبر علماء العربي، مقدَّمًا في اللغة والأدب، ونبغ من تلاميذه كثيرون أشهرهم أبو علي القالي وأبو سعيد السيرافي.
وعنه يروي أبو علي القالي في أماليه قصصًا أدبية رائعة، وهي أشبه أن تكون من وضع ابن دريد، ويعدها «الحُصري» أساسًا لمقامات بديع الزمان.
وله كتاب «الجمهرة في اللغة»، و«المقصورة»، وكتاب «الاشتقاق» … إلخ، وتفوق في نواح كثيرة في الأدب — فهو شاعر قصاص — وفي اللغة، وفي النحو والصرف والأنساب.
وقد انطبعت صورته العلمية في مؤلِّفين كبيرين تتلمذا له، وهما أبو علي القالي صاحب الأمالي ناشر علم اللغة والأدب في الأندلس، وأبو الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، وكان من خاصة تلاميذه.
ثم أبو بكر بن الأنباري كان من أعلم البغداديين لغةً وأدبًا، وأكثر الناس حفظًا للشعر والشواهد، كما يعد من علماء القرآن والسنة، وألف في ذلك كله الكتب الكثيرة في علوم القرآن وغريب الحديث، والوقف والابتداء، وفي اللغة كتاب الأضداد، وقد وصل إلينا من كتبه الدالة على غزارة علمه بالأدب واللغة شرحه للمفضليات، مات سنة ٣٢٨ﻫ، وكان كذلك شيخًا من أكبر الشيوخ الذين استفاد منهم أبو الفرج الأصفهاني.
وقد نبغ من مؤلفي الأدب في العصر البويهي في العراق أبو الفرج الأصفهاني مؤلف كتاب الأغاني، متعة الأدباء على اختلاف العصور، ينتهي نسبه إلى آخر خلفاء الأمويين مروان بن محمد، وقد ولد بأصبهان سنة ٢٨٤ﻫ، ونشأ ببغداد، وأخذ العلم والأدب والتاريخ عن ابن دريد، وابن الأنباري، وابن جرير الطبري وغيرهم، وامتاز باطلاعه الواسع على الشعر والأغاني، والأخبار والنسب، كما كان ملمًّا بآلات الطرب، وطرف من الطب والنجوم والأشربة، ويقرأ الكتب المخطوطة، ويأخذ عنها فيقول: نقلت من كتاب كذا.
وقد اتصل بالوزير المهلبي، وحظى عنده، وألَّف كتبًا كثيرة منها كتاب «الأغاني» وهو أمتعها وقد قال إنه ألفه في خمسين سنة، وكتاب «القيان»، «ومقاتل الطالبيين»، و«الإماء الشواعر»، و«الديارات» … إلخ، ومات في بغداد سنة ٣٥٦ﻫ أو بعد ذلك.
وقد حظي كتابه «الأغاني» في عصره وبعده إلى اليوم؛ فقد أهدى أول نسخة منه إلى سيف الدولة فأجازه بألف دينار، وأعجب به الصاحب بن عباد، وكان يستصحبه في أسفاره، وقال أبو القاسم عبد العزيز بن يوسف: «لم يكن كتاب الأغاني يفارق عضد الدولة في سفره ولا حضره.»
وقد أنجب ابنه أبا علي المحسن التنوخي، وكان أدبيًا شاعرًا أخباريًّا؛ وهو صاحب كتاب «نشوار المحاضرة»، أراد به أن يحقق فكرة لطيفة وهي أن يدون تاريخ الأحداث التي تدور في المجالس وعلى ألسنة الرواة ولم تدون في الكتب، كما أنه ألف كتاب «الفرج بعد الشدة» وكتاب «المستجاد من فعلات الأجواد»، وقد مات ببغداد سنة ٣٨٤ﻫ.
وقد أنجب هذا أيضًا أبا القاسم علي بن المحسِّن التنوخي، وكان مثل أبيه وجده فقيهًا شاعرًا أديبًا؛ وكان هو والخطيب التبريزي يصبحان أبا العلاء المعرِّي ويأخذان عنه، تولَّى علي بن المحسن القضاء في عدة نواح، وإليه كتب أبو العلاء قصيدته التي أوَّلها:
مات سنة ٤٤٧ﻫ.
فأسرة التنوخي من خير الأسر العراقية علمًا وأدبًا وتأليفًا.
ثم الشريف المرتضى علي بن الطاهر، كان نقيب الطالبيين في بغداد، وهو أخو الشريف الرضي، وكان إمامًا في علم الكلام والأدب والشعر، وقد وصل إلينا من أهم تآليفه كتاب «أمالي المرتضى»، وهو ستة وخمسون مجلسًا، مملوء بالفوائد القيمة في التفسير والحديث وعلم الكلام والأدب ممزوج بعضها ببعض، ناح فيه منحى الاعتزال والتشيُّع معًا، ويستطرد لذكر تراجم لرجال المعتزلة وبعض الشعراء والأدباء؛ ويظهر أنها دروس أملاها على بعض تلاميذه، وهي تفيدنا فائدة كبرى في مناهج الدروس في ذلك العصر.
وقد توفِّي ببغداد سنة ٤٣٦ﻫ.
ثم أبو سعيد السيرافي، وكان من أوسع العلماء ثقافة في علوم القرآن والحديث والنحو واللغة والفقه والفرائض والحساب والكلام والشعر.
وقد كان أبو سعيد وهو في بغداد مقصد الأمراء والعظماء في الأمصار المختلفة يبعثون إليه يسألونه عما أشكل عليهم، فكتب إليه نوح بن نصر الساماني سنة ٣٤٠ﻫ كتابًا خاطبه فيه بالإمام، وسأله عن مسائل تزيد على أربعمائة أغلبها ألفاظ لغوية، وأمثال يسأله فيها عن صحة نسبتها إلى العرب، وكتب إليه الوزير البلعمي كتابًا خاطبه فيها بإمام المسلمين سأله فيه عن مسائل في القرآن، وكتب إليه المرزبان بن محمد ملك الديلم من أذربيجان كتابًا خاطبه فيه بشيخ الإسلام سأله فيه عن مائة وعشرين مسألة أكثرها في القرآن والحديث.
وكتب إليه ابن حنزابة الوزير المصري كتابًا خاطبه فيه بالشيخ الجليل، سأله فيه عن ثلاثمائة كلمة من فنون الحديث.
وكتب إليه أبو جعفر ملك سجستان كتابًا يخاطبه فيه بالشيخ الفرد، سأله عن سبعين مسألة في القرآن، ومائة كلمة في العربية، وثلاثمائة بيت من الشعر، وأربعين مسألة في الأحكام، وثلاثين مسألة في الأصول على طريق المتكلمين، فأجاب عنها كلها، وتقع الأسئلة والأجوبة في نحو ألف وخمسمائة ورقة.
ثم هو صاحب المناظرة الكبرى التي جرت بينه وبين أبي بشر متَّى في المفاضلة بين النحو والمنطق، وقد حكاها كلها أبو حيان التوحيدي في الجزء الأول من الإمتاع، وقد وصل إلينا من كتبه كتاب أخبار النحويين البصريين.
وكان نظير أبي سعيد السيرافي وقرينه في النحو والصرف أبو علي الفارسي وهو من أعلام الدولة البويهية، ولد بفارس وأتى بغداد سنة ٣٠٧ﻫ، وأقام بها يشتغل بالعلم، ثم رحل إلى حلب وأقام عند سيف الدولة في حلبته، وله مع المتنبي مناظرات، ثم انتقل إلى فارس وصحب عضد الدولة وعلت منزلته عنده، وألف أبو علي له كتاب الإيضاح والتكملة في النحو، وله كتاب الحجة في القراءات، ومنه نسخة مخطوطة في دار الكتب، وله كتب أخرى كثيرة، وقد رحل إلى بلاد كثيرة، وكان يدوِّن في كتاب ما يجري له من مناظرات في كل بلد، فكتاب المسائل الحلبيات، والبغداديات، والشيرازيات … إلخ.
وقد وازن أبو حيان التوحيدي بينه وبين أستاذه أبي سعيد السيرافي، ففضل السيرافي لسعة علمه ودينه وتقواه، وقال: إن أبا علي كان يشرب ويتخالع ويفارق هَدْي أهل العلم.
وفي الحق أن السيرافي كان أشبه بالمحافظين، يروي ما يسمع، ويحفظ ما يروي على كثرة ما يروى وما يحفظ في ثقة وأمانة، وأن أبا علي كان حرًّا مبتكرًا قَيَّاسًا، فتح للناس هو وتلميذه ابن جني أبوابًا جديدة في النحو والتصريف لم يُسبقا إليها كما تقدم، وقد توفِّي أبو علي الفارسي في بغداد سنة ٣٧٧ﻫ.
وثالث الثلاثة المشهورين في هذا الباب أبو الحسن الرُّمَّاني جمع بين النبوغ في النحو وعلم الكلام، وهو تلميذ ابن دريد أيضًا في الأدب، وقد قال فيه أبو حيان عند الموازنة: إنه عالي الرتبة في النحو واللغة والكلام والعروض، والمنطق، وعِيبَ به، إلا أنه لم يسلك طريق واضع المنطق، بل أفراد صناعة وأظهر براعة. وقد عمل في القرآن كتابًا نفيسًا، هذا مع الدين والعقل الرزين، توفِّي سنة ٣٨٤ﻫ.
ومن خير ما أخرجته بغداد في هذا العصر ابن النديم — وهو محمد بن إسحاق النديم — كان وراقًا، وكان عالمًا، فاستخدم علمه وصناعته في ناحية لم نعرف أن التفت إليها أحد قبله، وهي أن يحصي جميع الكتب العربية المنقولة من الأمم المختلفة، والمؤلفة في جميع أنواع العلوم، ويصفها ويبين مترجميها أو مؤلفيها، ويذكر طرفًا من تاريخ حياتهم، ويعين تاريخ وفاتهم؛ فكان الكتاب على هذا النمط أجمع كتاب لإحصاء ما ألَّف الناس إلى قريب من نهاية القرن الرابع، وأشمل وثيقة تبين ما وصل إليه المسلمون في حياتهم العقلية والعلمية في ذلك العصر، وأكثر هذه الكتب التي وصفها قد ضاعت بتوالي النكبات المختلفة على المملكة الإسلامية، ولا سيما في غزو التتار لبغداد، ولولا كتاب «الفهرست» لضاعت أسماؤها وأوصافها أيضًا كما ضاعت معالمها.
والناظر في كتاب «الفهرست» يعجب لهذا النشاط العلمي الذي قام به المسلمون في هذه العصور، وكثرة المؤلفين والمترجمين في جميع نواحي العلم، كما يعجب بسعة اطلاع ابن النديم وحبه للوقوف على كل شيء حتى في أدق مسائل الأديان المختلفة، والمذاهب المتنوعة، ويستقصي البحث عن أحوال الصين والهند، كما يستقصي البحث عن الشام والعراق، وهو في كل ذلك يقابل أصحاب النحل المختلفة، ويسائلهم ويدقِّق في أخبارهم، ثم يدوِّن ما يصل إليه علمه.
وأسلوبه في كتابته أسلوب موجز يكره اللغو والمقدمات، ويحب أن يهجم على موضوعه من غير مواربة ولا تمهيد، حتى لا تستطيع أن تحذف جملة؛ لأن معناها مكرَّر أو عباراتها مترادفة، ثم هو يتحرَّى الصدق، ويميِّز بين ما رأى وما لم ير، وينقل ذلك إلى القارئ في أمانة.
فإذا نحن انتقلنا من العراق إلى الجزء الجنوبي من فارس، وهو الجزء الذي حكمه البويهيون أيضًا، وجدنا ثروة كبيرة في العلم في جميع فروعه، وفي الأدب والشعر؛ فشيراز في الجنوب والري في الشمال، كانا من أهم العواصم السياسية والعلمية والأدبية، واشتهر من بلاد الجنوب سيراف، وفيروزاباد، وأرزنجان، وإصطخر، وعاصمتها شيراز، كما اشتهر من بلاد الشمال وهي بلاد الجبل أصبهان ونهاوند، وهمذان، ودِينَوَر، وقومس، وبسطام وعاصمتها الري، وأخرجت هذه البلاد من المحدِّثين والفقهاء والنحاة والفلاسفة والصوفية والأدباء ما لا يحصى كثرة.
فاشتهر من المحدثين والفقهاء أبو بشر محمد بن أحمد بن حماد الدولابي الرازي — نسبة إلى دولاب قرية بالري — له تآليف في الحديث والتاريخ اعتمد عليها المحدثون، وتوفي سنة ٣٢٠ﻫ.
وأبو محمد عبد الله بن حَيَّان الأصفهاني محدِّث أصفهان، وهو إمام في الحديث، له كتاب «السنة وفضائل الأعمال»، توفِّي سنة ٣٦٧ﻫ.
وأبو عبد الله محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مَنْدَه الأصفهاني، كان يلقَّب بمحدِّث الشرق؛ توفِّي سنة ٣٩٥ﻫ.
وأبو محمد بن عبد الرحمن بن أبي حاتم بن إدريس الحنظلي حافظ الريِّ له المصنَّفات الكثيرة في الحديث والفقه، توفي سنة ٣٢٧ﻫ.
والقاضي يوسف بن أحمد بن كَجٍّ الدينَوري أحد أئمَّة الشافعية، قدم إليه أبو علي السنجي بعد أن رأى أبا حامد الإسفرائيني في بغداد؛ فقال له أبو علي: إن الاسم لأبي حامد، والعلم لك. فقال له: ذاك رفعته بغداد وحطَّتني الدينور. قتل بها سنة ٤٠٥ﻫ.
ويطول بنا القول لو عددنا مشاهير المحدِّثين والفقهاء في هذا الإقليم، ثم كان لعضد الدولة قبل انتقاله إلى بغداد، وابن العميد في إقامته بالريِّ وزيرًا، وابن عبَّاد كاتبًا ووزيرًا في أصفهان والري — أثرٌ كبير في نشاط الحركة الأدبية والعلمية نشاطًا عجيبًا.
لقد تقسَّم الأمراء الثلاثة البويهيون مملكتهم: فكان عماد الدولة صاحب بلاد فارس والأهواز، وركن الدولة صاحب بلاد الريِّ والجبل، ومعزُّ الدولة صاحب العراق. وجاء عضد الدولة بن ركن الدولة فضمَّ العراق إلى ملكه، كما ضمَّ إليه مُلك البويهيين جميعًا تقريبًا، وضمَّ إليه الموصل وبلاد الجزيرة وسمِّي بالملك، وهو أول من سمي بذلك في الإسلام، وكان يقيم أحيانًا في الري، وأحيانًا في شيراز، فلما فتح العراق كانت عاصمة ملكه بغداد.
وابن العميد كان وزيرًا لركن الدولة صاحب بلاد الريِّ والجبل، وكان ابن العميد مركزه الري، واستمر وزيرًا نحو اثنتين وثلاثين سنة حتى مات سنة ٣٦٠ﻫ.
وابن عباد كان كاتبًا عند ابن العميد، ولأجل تلمذته لابن العميد وصحبته له سمِّي الصاحب، وظل الصاحب يكتب لابن العميد في الري، ثم اختاره ابن العميد ليكون مربيًا لمؤيد الدولة ابن ركن الدولة ووليِّ عهده، وكانت إقامته في أصفهان، ثم أصبح وزيرًا لمؤيد الدولة إلى سنة ٣٧٣ﻫ، ثم وزيرًا لأخيه فخر الدولة إلى أن توفي سنة ٣٨٥ﻫ، وخَلَف ابن العميد في مركزه في الوزارة وفي إقامته في الري.
فهؤلاء الأعلام الثلاثة: عضد الدولة البويهي، والوزيران ابن العميد، وابن عباد، جعلوا هذا القسم من فارس في منتهى الخصب العلمي والأدبي؛ إذ كان كل منهم على إمارته أو وزارته عالمًا أديبًا، يرى أول ما يجب عليه أن يزيِّن بلاطه ومجلسه بالعلماء والأدباء.
فعضد الدولة كان إلى ملكه الواسع مثقفًا ثقافة واسعة، يأخذ علم النحو واللغة عن أبي علي الفارسي، وهذا يؤلف له كتاب «الإيضاح والتكملة في النحو»، وله معه مناقشات طريفة، ويقصده الشعراء فيجيدون الشعر لمعرفتهم بتذوُّقه له، فقصده المتنبي أيام كان عضد الدولة بشيراز، وقال فيه:
ثم أنشده قصيدة نونية ذكر فيها شِعب بَوَّان، وهو موضعٌ نزه قرب شيراز:
ثم مدحه بقصائد أخرى، وآخر شعره أيضًا كافيته التي يقول فيها:
ومدحه غير المتنبي كثير من الشعراء.
وابن العميد تفوَّق في علوم كثيرة منها الهندسة والمنطق، وعلوم الفلسفة والإلهيات والطبيعة والتصوير، وكان أديبًا واسع الرواية لأشعار العرب.
قال مسكويه في كتابه «تجارب الأمم»، وكان قيَّم دار كتب ابن العميد في بعض وقته: «كان هذا الرجل — ابن العميد — أكتب أهل عصره، وأجمعهم لآلات الكتابة حفظًا للغة والغريب، وتوسعًا في النحو والعروض، واهتداءً إلى الاشتقاق والاستعارات، وحفظًا للدواوين من شعراء الجاهلية والإسلام … فأما تأويل القرآن، وحفظ مشكله وتشابهه، والمعرفة باختلاف فقهاء الأمصار، فكان منه في أرفع درجة، وأعلى رتبة، ثم إذا ترك هذه العلوم، وأخذ في الهندسة والتعاليم لم يكن يدانيه فيها أحد، فأما المنطق، وعلوم الفلسفة والإلهيات منها خاصة، فما جسر أحد في زمانه أن يدعيها بحضرته … ثم كان يختص بغرائب من العلوم الغامضة كعلوم الحيل — الميكانيكا — التي يحتاج إليها في أواخر علوم الهندسة والطبيعة، والحركات الغريبة، وجر الأثقال، وعمل آلات غريبة لفتح القلاع، والحيل على الحصون … ثم معرفته بدقائق علم التصاوير، ولقد رأيته يتناول من مجلسه — الذي يخلو فيه بثقاته وأهل أنسه — التفاحة وما يجري مجراها فيعبث بها ساعة، ثم يدحرجها، وعليها صورة وجه قد خطَّها بظفره لو تعمَّد لها غيره بالآلات المعدَّة، وفي الأيام الكثيرة ما استوفى دقائقها، ولا تأَتَّى له مثلها.»
وقد قصده المتنبي أيضًا، ومدحه وقال فيه:
والصاحب بن عباد كان يعتقد مذهب الاعتزال وينصره، وبذلك اعتنق كثير من أهل هذه البلاد الاعتزال، ولم يكن كأستاذه ابن العميد في حبه للفلسفة وأهلها، إنما كان متبحرًا في العلوم الشرعية واللسانية والأدبية. تعلم الحديث كأهل الحديث، وكان عالمًا بالتوحيد والأصول وألَّف فيهما، وكان علمه باللغة واسعًا. قالوا: إنه ألف فيها كتاب المحيط في عشرة مجلَّدات.
وكان له المنزلة العظمى في الوجاهة والصدارة، فاجتمع له من الأدباء ما قلَّ أن يجتمع لغيره، قال الثعالبي: «احتف به من نجوم الأرض وأفراد العصر وأبناء الفضل وفرسان الشعر من يربي عددهم على شعراء الرشيد، ولا يقصرون عنه في الأخذ برقاب القوافي وملك رق المعاني.»
أنجبت هذه البلاد بتشجيع هؤلاء وأمثالهم نوابغ من العلماء والأدباء.
ففي الفلسفة كان على رأس الفلاسفة أبو بكر محمد بن زكريا الرازي — نسبة على الريِّ — مولده ومنشؤه بالريِّ ولذلك عددناه منها، وإن تنقَّل في بلاد كثيرة، وهو من أكبر فلاسفة المسلمين ومتفوِّقيهم في الطب النظري والعملي والإلهيات والكيمياء والأخلاق.
وكانت كتبه عمدة من تعلم بعده، وكانت أكثر إقامته في الريِّ وأقام زمنًا عند السامانيين، كما عهد إليه في الإشراف على البيمارستانات وتنظيمها، وقد اشتهر بين أهل زمانه بالإتيان بالعجائب في الطب.
وقد بقي لنا من كتبه نحو سبعة عشر كتابًا، وأخيرًا نشر الأستاذ كراوس مجموعة رسائل فلسفية تدلُّ على جانب آخر من جوانبه العلمية؛ فمنها رسالة في الطب الروحاني، ويعني به تهذيب الأخلاق، وهو لا شك كان من أكبر ما اعتمد عليه مسكويه في كتابه «تهذيب الأخلاق»، وقد قال في صدره: إنه سماه بالطب الروحاني ليكون قرينًا للكتاب المنصوري الذي غرضه في الطب الجسماني، وقد قسمه إلى عشرين فصلًا منها فصل في فضل العقل وقمع الهوى وردعه، وتحليل لبعض الرذائل: كالحسد والغضب والبخل، وختمه بفصل في رسم السيرة الفاضلة، ثم في الخوف من الموت.
ومن رسائله هذه القيِّمة رسالة في اللَّذة وتحليلها معتمدًا في ذلك على ما كتبه فلاسفة اليونان فيها.
ومن هذه الرسائل رسالة في مناظرة بين الرازيَّيْن وهما: أبو بكر الرازي هذا وأبو حاتم الرازي، وكلاهما من الري، ولكن كانت طبيعة أبي بكر الرازي طبيعة فلسفية حرة التفكير مؤمنة بسلطان العقل، وكان أبو حاتم الرازي من كبار دعاة فرقة الإسماعيلية الشيعية، «واشتهر بدعوته إلى المذهب الفاطمي، ولعب دورًا عظيمًا في الشؤون السياسية في طبرستان وأذربيجان وفي الديلم، ولا سيما في أصفهان والريِّ حتى استجاب له جماعة من كبار الدولة».
وقد ألَّف أبو حاتم الرازي كتابًا أسماه «أعلام النبوَّة» للرَّد على أبي بكر الرازي، وقد رماه فيه بالإلحاد؛ وكانت المناظرة تدور حول النبوَّة، وهل هي ضرورية — هذا في أحد المجالس — وفي مجلس آخر كانت المناظرة تدور حول ما ذهب إليه أبو بكر الرازي من قِدم الأشياء الخمسة: الباري، والنفس، والهيولى، والمكان، والزمان، فرد عليه أبو حاتم في ذلك … إلخ إلخ.
وقد كانت هذه المناظرات في مجالس بالري.
وعلى الجملة فقد كان أبو بكر الرازي شخصية ممتازة قل نظراؤها، وقد اختُلف في سنة وفاته على أقوال متباينة أقربها سنة ٣٢٠ﻫ، وقال ابن خلكان: إنه مات سنة ٣١١ﻫ.
كما اشتهر من الفلاسفة في هذه البلاد أبو الخير الحسن بن سوار المعروف بابن الخَمَّار، وكان نصرانيًّا، وقد نقل كتبًا كثيرة من السريانية إلى العربية، واشتهر بالطب، كما ألَّف في المنطق والطب والإلهيات.
ثم الفيلسوف الأديب أبو الفرج علي بن الحسين بن هِنْدُو، كان من تلاميذ ابن الخمار، ألَّف في الطب، وألَّف المدخل في علم الفلسفة، ووصل إلينا من كتبه «الكلم الروحانية»، وهي مجموعة لطيفة من الحكم اليونانية، كما كان شاعرًا معدودًا من رجال البلاغة الممتازين.
ثم إن ابن العميد وابن عباد أوجدا في هذا الإقليم حركة أدبية رائعة؛ فقد جمع بين وجاهة المنصب ووجاهة الأدب، فهما وزيران خطيران وسياسيان كبيران، وأديبان عظيمان، فاستخدما كل ذلك في إعلاء شأن الأدب.
فكان ابن العميد مولعًا بالأدب، وله مذهب في الكتابة أُخذ عنه وقلَّد فيه، عماده التأنُّق في اختيار الألفاظ، والتكلُّف في البديع، ومحاربة التطبُّع بالتصُّنع؛ وهذا النوع من الأسلوب قد يحسن في الجمل القصار، والقول الموجز، ولكن ابن العميد كان يطنب، والإطناب مع التصنع يستوجب الملل، فالإسهاب في الجاحظ حلو سائغ؛ لأنه يجري مع النفس، ولكنه عند ابن العميد يُتَجرع لأنه يتصنَّع؛ ومع هذا فالناس في زمنه وبعد زمنه كانوا يعدُّون هذا الأسلوب هو المثل الأعلى؛ لأن حياتهم الاجتماعية كما أسلفنا حياة مصطنعة متكلَّفة، ولأن الرياسة والعظمة السياسية والمنصب الكبير يسبغ على الأدب الذي يصدر من رجالها ثوبًا من الأبهة والعظمة، فلا يستطيعون التمييز في دقة بين قيمة الأدب الذاتية، وقيمته المستمدة من وجاهة صاحبها، وهذا يصدق على ابن العميد، والصاحب ابن عباد، ثم من بعد على القاضي الفاضل، ولهذه العظمة المزدوجة قالوا: «بدأت الكتابة بعبد الحميد، وختمت بابن العميد.» والناس بعدُ قلَّدوا هذا الأسلوب، وعدوه المثل الذي يحتذى.
ومهما يكن؛ فقد كان ابن العميد مصدر خير على الحركة الأدبية، فكان كريمًا يغدق على الأدباء والشعراء، ويقترح موضوعات الأدب عليهم، وينافس بينهم، ويجزل العطاء لمن أحسن منهم، فيجتمع في مجلسه بالري أبو الحسين بن فارس، وأبو عبد الله الطبري، وأبو الحسن البديهي، ويعرض في المجلس أترجة حسنة، فيعرض عليهم ابن العميد أن يتباروا في وصفها، ويشترك معهم في ذلك، وهكذا.
ويقصد المتنبي، وابن نباتة السعدي، وغيرهما من الشعراء بمدائحهم.
وينشئ مكتبة عظيمة كانت أعز شيء عليه، يجعل عليها قيِّمًا عالمًا كبيرًا هو مسكويه.
كذلك كان الصاحب بن عباد، نصر الاعتزال، وقرب إليه المعتزلة؛ إذ كان معتزليًّا، ومن شعره:
وكان يكتب إلى البلاد التابعة له يدعو فيها إلى الاعتزال.
هذه ناحية، وناحيته الأخرى الناحية الأدبية، وكان عرى طريقة أستاذه ابن العميد في أسلوبه، وفي كرمه وإغداقه على الأدباء، فاجتمع له من الشعراء أبو الحسن السلامي، والبديهي، وأبو سعيد الرستمي، وأبو حسن الجوهري، وابن القاشاني … إلخ، وكذلك يقترح عليهم ما يعرض من موضوعات، فيغنم في موقعة حربية فيلًا فيجمع الشعراء ويطلب إليهم أن يقولوا القصائد في وصفه على وزن وقافية عمرو بن معديكرب:
كما كان من رجال البلاغة والأدب في هذا الإقليم أبو الحسن علي بن عبد العزيز الجرجاني، أصله من جرجان، وطوَّف في صباه في كثير من البلاد، واقتبس العلوم والآداب، قال فيه الثعالبي: «هو حسنة جرجان، وفرد الزمان … يجمع خط ابن مقلة إلى نثر الجاحظ ونظم البحتري.» وبعد أن طوف في بلاد العراق والشام وغيرهما يأخذ من علوم أهلها نزل في ساحة الصاحب بن عباد، فقلده قضاء جرجان، ثم قضاء الري، فلم يزل قاضي الري حتى مات.
ولما أعرض الصاحب بن عباد عن المتنبي؛ لأنه أبى أن يمدحه كما مدح عضد الدولة وابن العميد، وعمل الصاحب رسالته في إظهار مساوئ المتنبي؛ ألف أبو الحسن الجرجاني هذا كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، كان فيه قاضيًا عادلًا، وأديبًا فاضلًا، وناقدًا بارعًا.
ومن أكبر حسنات علي بن عبد العزيز هذا تلميذه ومواطنه عبد القاهر الجرجاني صاحب كتاب «دلائل الإعجاز»، و«أسرار البلاغة»، وهو مؤسس علم البلاغة في هذين الكتابين على نمط لم يعرف قبله. وقد استفاد من أستاذه علي بن عبد العزيز قوة الأسلوب وجوالته، وبصره بضروب النقد؛ قال ياقوت: «وكان «عبد القاهر» إذا ذَكَر أستاذه في كتبه تبخبخ به، وشمخ بأنفه بالانتماء إليه.»
وكذلك كان من هذا الإقليم أبو هلال العسكري (نسبة إلى عسكر مُكْرَم)، وهي بلد من بلاد (خوزستان) قريبة من أصفهان. وقد أُخِذ عنه العلم في الري حينًا وفي الأهواز حينًا وفي العسكر حينًا، وله التآليف القيمة: ككتاب «الصناعتين»، و«ديوان المعاني». و«جمهرة الأمثال»، و«الأوائل»، و«التفضيل بين بلاغة العرب والعجم» … إلخ، مات نحو سنة ٣٩٥ﻫ.
وعلى الجملة فقد خدمت الدولة البويهية العلم والأدب خدمة كبرى، ومع أنهم فرس الأصل وأكثر وزرائهم كابن العميد وابن عباد من الفرس، فقد كانوا يتعصبون في العلم والأدب للسان العربي.
وكان كثير من البويهيين أدباء مثقفين ثقافة واسعة، أشهرهم في ذلك عضد الدولة؛ فكان يشارك في عدة فنون منها الأدب، وكذلك عز الدولة أبو منصور بختيار، وتاج الدولة ابن عضد الدولة، ولهم أشعار أورد بعضها الثعالبي في اليتيمة. ثم نجد ظاهرة في هذه الدولة واضحة، وهي أن أساس الاختيار للوزارة كان عماده شيئين: القدرة الإدراكية، والقدرة البلاغية، فكان الوزراء فحول أدب أيضًا، فكان من أهم وزراء هذه الدولة ابن العميد، وابن عباد، والوزير المهلبي، وسابور بن أردشير، وابن سعدان، وكل من هؤلاء كان عمادًا عظيمًا للأدب والأدباء والعلماء، وكانت لهم مجالس تموج بالعلم والأدب؛ فابن العميد وابن عباد قد رأينا أدبهما ومجالسهما ومن كان يحتف بهما من العلماء والأدباء.
وابن سعدان وزير صمصام الدولة، كان له مجلس يجمع ابن زرعة الفيلسوف ومسكويه صاحب «تهذيب الأخلاق»، وأبا الوفاء المهندس الرياضي الكبير، وابن حجاج الشاعر الماجن، وأبا حيان التوحيدي، الذي كان له من السمر مع هذا الوزير ما جمعه في كتابه «الإمتاع والمؤانسة»، وله ألَّف رسالة «الصداقة والصديق»، وكان ابن سعدان يباهي بمجلسه هذا ويفخر به على مجالس الكبراء الآخرين، أمثال المهلبي وابن العميد وابن عباد، فيقول في أصحابه هؤلاء: «ما لهذه الجماعة بالعراق شكل ولا نظير … وإن جميع ندماء المهلبي لا يفون بواحد منهم، وإن جميع أصحاب ابن العميد يشتهون أقل مَن فيهم، وإن ابن عباد ليس عنده إلا أصحاب الجدل.» ومن هذا ترى أن هؤلاء الوزراء كانوا يتنافسون في اختيار خيرة العلماء والأدباء ليكونوا حولهم، وحسبنا ما في كتاب «الإمتاع والمؤانسة»، لنعرف منه مقدار ثقافة الوزراء وما يشغلهم من مسائل العلم والأدب.
وسابور بن أردشير كان وزيرًا لبهاء الدولة بن عضد الدولة، فكان هو نفسه أديبًا شاعرًا، وقصده الشعراء أمثال أبي الفرج الببغاء، وأبي إسحاق الصابي، وقد أنشأ ببغداد دار كتب قيمة، قال فيها ياقوت: «لم يكن في الدنيا أحسن كتبًا منها، كانت كلها بخطوط الأئمة المعتبرة وأصولها المحررة، وهذه الدار هي التي أشار إليها أبو العلاء المعري بقوله في قصيدته:
ففضْل البويهيين ملوكِهم ووزرائهم على الحركة العلمية والأدبية لا يقدر، لولا أن ما كان بين بعضهم وبعض من خصومات وحروب قسم العلماء والأدباء كذلك، والتجأ كل فريق إلى رئيس، فكان إذا انهزم نكل الغالب بأتباع المغلوب، فلقي كثير من أهل الفضل والأدب من المصادرة والتعذيب والقتل ما يطول ذكره.
•••
وقد طبع في مصر «كمال البلاغة» وهي جملة رسائل أدبية له، وهو فيها متأنق، كل كلمة فيها توزن قبل أن توضع، وكل جملة تقاس بالقياس الدقيق لتكون لفق أختها، وروحه عندي أقرب إلى روح بديع الزمان منها إلى ابن العميد وابن عباد، وله المقطعات الشعرية الرقيقة كقوله:
وألف رسالة في الأسطرلاب.
وقد مات محصورًا في قلعة، وحمل تابوته إلى جرجان، ودفن في مشهد عظيم كان بناه لنفسه، وذلك سنة ٤٠٣ﻫ.