الفصل الرابع

السند وأفغانستان

تولى هذا الإقليم الدولة الغزنوية، وتسمى أيضًا دولة بني سُبَكْتِكِين. وقد قامت هذه الدولة من سنة ٣٥١ﻫ إلى سنة ٥٨٢ﻫ.

وهي دولة تركية، والنزاع بين الأتراك والفرس قديم، والحرب بينهم سجال؛ فقد ساد الفرس في الدولة العباسية الأولى إلى أن جاء المعتصم فقوِي سلطان الترك، وضعف سلطان الفرس، وظل الحال كذلك حتى أتى بنو بويه، وهم فرس، فاستردوا سلطانهم، وأضعفوا سلطان الترك.

وكذلك الأمر هنا؛ فقد ساد السامانيون الفرس في خراسان وما وراء النهر حتى جاء آل سبكتكين الأتراك، فأنزلوهم عن مكانتهم، وحلوا محلهم في السيادة.

نشأ الأمراء الأولون من الدولة الغزنوية في أحضان الدولة السامانية؛ فقد كان أَلْبتكِين مملوكًا تركيًّا حاكمًا لهراة من قِبَل السامانيين، وقد فتح غزنة سنة ٣٥٢ﻫ؛ وقد خلفه ابن إسحاق، وهذا لم يعقب فآل أمر ما بيده إلى غلامه سبكتكين، وإليه تنسب الدولة. وقد وسع سبكتكين ملكه في ناحيتين: في ناحية الهند، وأنشأ بها حكومة في «بشاور»، وفي ناحية فارس باستيلائه على خراسان وما إليها. ومن أشهر رجال هذه الدولة — بل من أشهر أعلام الإسلام — محمود بن سبكتكين الذي وطد ملكه ووسعه، فوسع فتوحه في الهند إلى ما وراء كشمير وبنجاب، واستولى من ناحية أخرى على بخارى وما وراء النهر، وأخذ إقليم الري وأصفهان من البويهيين إلى العراق، فامتدت مملكته من لاهور إلى سمرقند إلى أصفهان إلى العراق، واستمر الملك في عقبه إلى أن خلفتها الدولة الغورية.

والذي يهمنا هنا الناحية العقلية؛ فقد كانت هذه البلاد في هذه الدولة مركزًا عقليًّا نبغ فيه كثير من رجال العلم والأدب والفلسفة.

وكان من أهم بلاد هذه الدولة ولاية سجستان «وعاصمتها زرنج، وفي أهل سجستان عظم خلق وجلادة، وأغلب أهلها على مذهب الحنفية لا ترى من غيرهم إلا القليل، وكان فيها كثير من الخوارج يظهرون مذهبهم، ولا يتحاشون منه، ويفتخرون به عند المعاملة، يقول الرجل عند مماكسته: «أنا من الخوارج لا تجد عندي إلا الحق.» واشتهر أهل سجستان — على العموم — بصحة المعاملة، وقلة المخاتلة، ومسارعتهم إلى إغاثة الملهوف ومداركة الضعيف، ثم أمرهم بالمعروف».١

وقد ينسب إليها فيقال: السجستاني، وقد تختصر النسبة فيقال: السِّجْزِي. وكثير من العلماء ينسب إليها، منهم أبو سعيد السجزي القاضي الحنفي، رحل إلى الشام والعراق وخراسان، ثم عاد إلى بلاده وولي القضاء بعدة نواحٍ، ومات بفرغانة سنة ٣٨٣ﻫ. وأبو أحمد خلف بن أحمد السجزي كان ملكًا بسجستان، وكان من أهل العلم والفضل والسياسة والملك، سمع الحديث بخراسان والعراق، وقد سَلَب ملكَه سنة ٣٩٩ﻫ محمودُ بن سبكتكين، وتوفي في الهند محبوسًا.

وكان من أعماله العظيمة أن جمع العلماء بسجستان وحملهم على تصنيف كتاب في التفسير، لا يغادرون فيه حرفًا من أقاويل المفسرين وتأويل المتأولين، ونكت المذكرين، ويتبعون ذلك بوجوه القرارات وعلل النحو والتصريف، ويوشحونه بما رواه الثقات الأثبات من الحديث. وقد أنفق على العلماء مدة اشتغالهم فيه عشرين ألف دينار، وتم هذا العمل الضخم في مائة مجلد تستغرق عمر الكاتب، وتستنفد حبر الناسخ.٢

ومن مدن سجستان المشهورة الرُّخَّج، وإليها ينسب كثير من العلماء والأدباء.

ثم من أهم مدن هذه الدولة غزنة، وكانت عاصمة ملكها، وقد ملأها محمود بن سبكتكين بأجمل ما وصلت إليه يده عند فتحه للهند. وقد دفن بها السلطان محمود هذا، ولا يزال بها قبره عليه قبة عظيمة، وأبواب المدفن من خشب الصندل، قيل: إنه أتى بها من أحد هياكل الهند.

وقد وصف العُتبي بعض ما عمله السلطان محمود في غزنة، فذكر — مثلًا — أنه بنى فيها مسجدًا، وقال: «لما عاد السلطان يمين الدولة إلى دار الملك بغزنة أحب أن ينفق ما أفاء الله عليه في عمل برٍّ يشيع جدواه، وكان قد أوعز باختطاط صعيد من ساحة غزنة للمسجد الجامع، إذ كان ما اختط قديمًا على قدر أهلها، فوافق عَوده حصول المراد من تقطيعه وتوسيعه، وإقامة الجدران على ترابيعه، فصب بدر المال على الصناع، كما صب دماء الأبطال يوم القِراع … ونُقل إليه من أقطار الهند والسند جذوع توافقت قدودًا ورصانة، وتناسبت تدويرًا وثخانة. وقد فرشت ساحتها بالمرمر منقولًا من كل فجٍّ عميق، ومضرب سحيق … أشد ملاسة من راحة الفتاة وصفحة المرآة. فأما الأصباغ فروضة الربيع ضاحكة الثغور تستوقف الأبصار، وتقيد النظار. وأما التهيب فهو صبات الذهب الأحمر أفرغت عن صور الأصنام المجذوذة، والبددة المأخوذة،٣ فطفقت تعرض على النار بعد أن كانت آلهة للكفار …» إلخ.

وقد أفرد السلطان لخاصته بيتًا في المسجد مشرفًا عليه، فرشه وإزاره من الرخام، قد أحيط بكل رخامة مربعة محراب من الذهب الأحمر مكللًا باللازورد، في تعاريج من ألوان المنثور والورد.

وأمام هذا البيت مقصورة بتعاريج عليها منصوبة٤ تسع ثلاثة آلاف غلام، متى شهدوا للفرض أخذوا أماكنهم منها صفوفًا، وأقبلوا على انتظار الأذان عكوفًا.

وأضيف إلى المسجد مدرسة فيحاء، تشتمل بيوتها من بساط الأرض إلى مناط السقوف على تصانيف الأئمة الماضين، من علوم الأولين والآخرين، منقولة من خزائن الملوك، نقَّروا عن ديار العراق، ورباع الآفاق، حتى اقتنوها بخطوط كفرائد سموط، مصححة بشهادات التقييد، وعلامات التخفيف والتشديد، ينتابها فقهاء دار الملك وعلماؤها للتدريس، والنظر في علوم الدين، على كفاية ذوي الحاجة منهم ما يهمهم، جراية وافرة، ومعيشة حاضرة.

وناهيك من بلد يحتوي على مرابض ألف فيل، يَشغل كل منها بساسته ومارته٥ دارًا كبيرة، وخطة وسيعة، إن الله تعالى إذا أراد عَمَّر البلاد وكثَّر العباد،٦ وقال ياقوت: «وقد نسب إلى هذه المدينة من لا يعد ولا يحصى من العلماء.» وقال السمعاني: «الغزنوي نسبة إلى غزنة، وهي بلدة من بلاد الهند، خرج منها جماعة من العلماء في كل فن.»

ثم أفغانستان، ومن أشهر مدنها قُنْدُهار، وكابُل، وقد نُسب إليها جمع من المحدِّثين.

ثم السند، وكانوا يطلقونها على البلاد الواقعة بين الهند ومكران وسجستان. وكانت عاصمتها «المنصورة»، وقد قال المقدسي في وصف السند عندما زارها: «إنه إقليم الذهب والتجارات والعقاقير والآلات والفانيذ والخيرات … به عدل وإنصاف وسياسات … العلماء به قليلون، والمنصورة قصبتها وهي مثل دمشق، لأهلها مروءة، وللإسلام عندهم طراوة، والعلم وأهله كثير، ولهم ذكاء وفطنة … ومن مدن السند دَيْبُل، وكل أهلها تجار، وكلامهم سندي وعربي — والمُلَّتان، وهي مثل المنصورة، وأهلها لا يكذبون في بيع، ولا يبخسون في كيل، يحبون الغرباء، وأكثرهم عرب.»٧

ثم قال: «إن إقليم السند أكثر أهله مذاهبهم أصحاب حديث، ورأيت القاضي أبا محمد المنصوري داوديًّا إمامًا في مذهبه، وله تدريس وتصانيف، قد صنف كتبًا عدة حسنة. وأهل الملتان شيعة، ولا تخلو القصبات من فقهاء على مذهب أبي حنيفة، وليس به مالكية ولا معتزلة، ولا عمل للحنابلة؛ قد أراحهم الله من الغلو والعصبية والهرج والفتنة» … إلخ.

ونعود إلى وصف الحركة العلمية والأدبية في هذه البلاد.

كان طبيعيًّا أن تكون الحركة العلمية والأدبية في البلاد الجديدة التي فتحتها الدولة الغزنوية في الهند ضعيفة؛ فقد بدأت تنشر فيها الإسلام والعربية، فليس من الطبيعي أن تخرج علماء، أما القسم الذي استولت عليه من الدولة السامانية وغيرهما مما تأصَّل فيه الإسلام من عهد بعيد، فقد استمرت فيه الحركة في العهد الغزنوي كما كان في العهد الساماني.

وكان من الغزنويين من شجع الحركة الدينية والعلمية والأدبية تشجيعًا عظيمًا، وخاصة محمود بن سبكتكين؛ فقد سار على أسلوب العصر في أن يزين مملكته بالعلماء والأدباء، كما يزين تاجه باللآلئ.

وقد احتاط به كثير من علماء الدين، وجدَّ أهل المذاهب الدينية والفقهية في كسبه، علمًا منهم بأنه إذا اعتنق مذهبًا ساد في الأقاليم الواسعة التي فتحها فالفاطمية في مصر وجهوا إليه «التاهرتي» الداعي ليدعوه إلى مذهب الفاطمية، فوقف السلطان محمود على سر ما دعا إليه، وعلم بطلان ما نُدب إليه، وأمر بقتل التاهرتي، وأهدى بغلته التي كان يركبها إلى القاضي أبي منصور محمد بن محمد الأزدي شيخ هراة، وقال: «كان يركبها رأس الملحدين، فليركبها رأس الموحدين.»٨
«وذكر إمام الحرمين أبو المعالي الجُوَيْنِي أن السلطان المذكور كان على مذهب أبي حنيفة، وكان مولعًا بعلم الحديث، وكانوا يسمعون الحديث من الشيوخ بين يديه وهو يسمع، وكان يستفسر الأحاديث، فوجد أكثرها موافقًا لمذهب الشافعي، فوقع في خلده حكمه، فجمع الفقهاء من الفريقين في مرو والتمس منهم الكلام في ترجيح أحد المذهبين على الآخر، فوقع الاتفاق على أن يصلوا بين يديه ركعتين على مذهب الإمام الشافعي، وركعتين على مذهب الإمام أبي حنيفة لينظر فيه السلطان، ويتفكر ويختار ما هو أحسنهما، وتولى الإمام القفال المروزي الشافعي ذلك، فتحول السلطان من المذهب الحنفي إلى المذهب الشافعي.»٩

ولما فتح إقليم خراسان، وسائر إيران وما وراء النهر وسجستان، وجَّه أدباؤها مديحهم إليه كما كانوا يوجهونه إلى السامانيين؛ فبديع الزمان الهمذاني ينشئ القصائد في مدح محمود بن سبكتكين، كالتي يقول فيها:

تعالى الله ما شاء
وزاد الله إيماني
أأفريدون في التاج
أم الإسكندر الثاني
أم الرجعة قد عادت
إلينا بسليمان
أظلت شمس محمود
على أنجم سامان
وأمسى آل بهرام
عبيدًا لابن خاقان١٠
إذا ما ركب الفيل
لحرب أو لميدان
رأت عيناك سلطانًا
على منكب شيطان١١
فمن واسطة الهند
إلى ساحة جرجان
ومن قاصية السند
إلى أقصى خراسان
على مقتبل العمر
وفي مفتتح الشان
فيومًا رسل الشاه
ويومًا رسل الخان١٢
فما يعزب بالمغر
ب عن طاعتك اثنان
أيا والي بغداد
ويا صاحب همدان
تأمل مائتي فيل
على سبعة أركان١٣
يقلبن أساطين
ويلعبن بثعبان١٤
ويأجوج ومأجوج
من الجند تموجان

وكذلك أنشأ أبو منصور الثعالبي القصائد في مدحه كقوله:

يا خاتم الملك ويا قاهر الـ
ـأملاك بين الأخذ والصفح
عليك عين الله من فاتح
للأرض مستَوْلٍ على النجح
راياته تنطق بالنصر بل
تكاد تملا كتب الفتح
فاسعد بأيامك واستغرق الـ
ـأعداء بالكبح وبالذبح

إلى كثير غيرهما من الشعراء.

واختص به أديبان كبيران ناثر وشاعر، وأولهما أبو القاسم أحمد بن حسن الميمندي، وثانيهما كاتبه أبو الفتح البستي.

فالأول «الميمندي»: «كان وزير محمود بن سبكتكين، واشتهر بفصاحة العلم، وعلو الهمم، وسعة النظر، وحسن السياسة، وكان الوزير الذي قبله «أبو العباس» قليل البضاعة في الصناعة، فانتقلت المخاطبات مدة أيامه من العربية إلى الفارسية حتى كسدت سوق البيان، وبارت بضاعة الإجادة والإحسان، ولما سعدت الوزارة بأبي القاسم رفع ألوية الكتَّاب، وعمَّر أفنية الآداب، فأمر الكتَّاب أن يتحاشوا الفارسية إلا عن ضرورة من جهل من يُكتب إليه، وعجزه عن فهم ما يتعرب به إليه.١٥ فطارت توقيعاته في البلاد ولا شوارد الأمثال، وأبيات المعاني من القصائد الطوال، ففي كل ناد نداء بألحانها، وفي كل مشهد شهادة باستحسانها … إلخ.»١٦

وأما أبو الفتح البستي، فكان كاتب محمود بن سبكتكين وموضع سرِّه، ومستشاره في أمره، وهو أديب كبير له شعر جيد، ونثر جيد؛ فأما شعره فأكثره مقطوعات يعمد فيها إلى المعنى الدقيق، فيصوغه في لفظ رشيق، وأما نثره فواضح جميل فيه السجع والازدواج على طريقة عصره، وهو في نثره يكثر من الأمثال، وفي نظمه يكثر من الحكم. وقد قال الثعالبي: إن له طريقة خاصة به، فهو «صاحب الطريقة الأنيقة في التجنيس الأنيس، البديع التأسيس، وكان يسميه المتشابه، ويأتي فيه بكل طريقة لطيفة»، تتجلَّى هذه الطريقة في أمثاله من مثل قوله: «عادات السادات، سادات العادات – الخيبة تهتك الهيبة – من كان عبد الحق فهو حر – المنية تضحك من الأمنية – معنى المعاشرة ترك المعاسرة … إلخ.» وله في هذا الباب الشيء الكثير.

كذلك تظهر طريقته في شعره من دقة المعنى وأناقة اللفظ، مثل قوله:

لا يغرنك أني لين المـ
ـس فغربي إذا انتضيت حسام
أنا كالورد فيه راحة قوم
ثم فيه لآخرين زكام

وقوله:

وقد يلبس المرء خز الثياب
ومن دونها حالة مضنيه
كمن يكتسي خده حمرة
وعِلَّتها ورم في الريه

وقوله:

تحمل أخاك على ما به
فما في استقامته مطمع
وأنَّى له خلق واحد
وفيه طبائعه الأربع؟!

ويظهر أن له ثقافة واسعة في علم النجوم استخدمها كثيرًا في شعره.

وعلى الجملة فشعره ونثره يدلان على رقة ذوقه، وسعة ثقافته في فروع من العلم مختلفة، إلى استفادة كبيرة من مزاولته الكتابة للسلاطين والأمراء، واحتكاكه بالأحداث السياسية، والمشاكل الاجتماعية، وأكثر ما يتجلى ذلك في أمثاله وحكمه.

وقد غضب عليه ابن سبكتكين أخيرًا فنفاه إلى بلاد الترك، ومات بها سنة ٤٠٠ﻫ.

ثم كان مؤرخ الدولة الغزنوية الكبير، وهو أبو النصر محمد بن عبد الجبار العتبي، وقد سمى كتابه «اليميني» نسبة إلى لقب محمود بن سبكتكين؛ فقد لقبه الخليفة القادر بالله «يمين الدولة وأمين الملة». وقد ألف العتبي كتابه هذا في تاريخ الدولة الغزنوية ترجم فيه لسبكتكين، وكيف أسس مملكته، ثم تاريخ ابنه محمود، والوقائع التي حدثت في أيامه … إلخ.

ولا يزال الكتاب يعد أكبر مصدر لتاريخ هذه الدولة. وقد صاغه في أسلوب أدبي مسجوع على نحو ما فعله معاصره أبو منصور الثعالبي؛ ولذلك وقع بين الكتب الأدبية والتاريخية، ولو كان نثرًا مرسلًا لكان أجدى على التاريخ، ومع هذا فقد حاز شهرة كبيرة في عالم الأدب، وخاصة في الأقاليم الفارسية، قال السبكي: «وكان أهل خوارزم وما والاها يعتنون بهذا الكتاب، ويضبطون ألفاظه أشد من اعتناء أهل بلادنا بمقامات الحريري.»١٧ وعني بشرحه كثير من الأدباء، وطبع له في مصر شرح للمنيني الدمشقي.
وقد حكى الأستاذ براون في كتابه «التاريخ الأدبي للفرس» أن السلطان محمود علم أن في مجلس مأمون بن مأمون جماعة من رجال العلم والفلسفة منهم ابن سينا والبيروني، وأبو سهل المسيحي، وابن الخمار، وأبو نصر العرَّاق، فكتب إليه أن أرسلهم ليشرفوا بمجلسي ونستفيد من علمهم. فجمعهم مأمون بن مأمون، وقرأ عليهم كتاب السلطان، فأبى ابن سينا وفرَّ، وقبل البيروني، وابن الخمار، والعَرَّاق.١٨

وكان ذهاب البيروني إليه نعمة لا تقدر، فهو الذي استغل فتوح السلطان محمود في الهند أحسن استغلال علمي وجعل ثروة الهند في الرياضة والفلسفة والإلهيات في يد العرب والفرنج، ولا تزال كتبه التي ألفها العمدة الصادقة لكل من كتب عن الهند من شرقيين وغربيين، وكان البيروني هذا درة في تاج الدولة الغزنوية كابن سينا في الدولة السامانية.

وهو أبو الريحان محمد بن أحمد البيروني، نسبة على بيرون مدينة في السند، ولد سنة ٣٦٢ﻫ، ونبغ في كثير من العلوم، وخاصة الرياضة والفلك، وأزهر في الأوساط العلمية، وكانت — إذ ذاك — قصور الخلفاء والأمراء ومجالسهم تقوم مقام الجامعات اليوم، وقد عدد في إحدى قصائده الذين أكرموه لعلمه، فقال:

مضى أكثر الأيام في ظلِّ نعمة
على رتب فيها علوت كراسيا
فآلُ عراقٍ قد غذوني بدَرِّهم
ومنصور منهم قد تولى غِراسيا
وشمس المعالي كان يرتاد خدمتي
على نفرة مني وقد كان قاسيا١٩
وأولاد مأمون ومنهم عليُّهم
تبدَّى بصنع صار للحال آسيا
وآخرهم مأمون رفَّه حالتي
ونوَّه باسمي ثم رأس راسيا٢٠
ولم ينقبض محمود عني بنعمة
فأغنى وأقنى مغضيًا عن مكاسيا٢١

•••

أبو الفتح في دنياي مالك ربقتي
فهات بذكراه الحميدة كاسيا٢٢
فلا زال للدنيا وللدين عامرًا
ولا زال فيها للغواة مواسيا

ويعده «سخاو» المستشرق الكبير — ناشر كتبه — أكبر عقلية علمية ظهرت، وكذلك رأى محمد بن محمود النيسابوري، إذ قال: «إن له في الرياضيات السبق الذي لم يشق المحضِرون غباره، ولم يلحق المضمرون المجيدون مضماره.»

وفي الحق أنه كان من خير الأمثال العليا للعالم المخلص للعلم، الواهب له حياته، يزهد في المال إلا ما يكفيه حاجته، صنف القانون المسعودي للسلطان مسعود؛ فوصله السلطان بأموال طائلة فردها بعذر الاستغناء عنها.٢٣
«ولا يكاد يفارق يدَه القلمُ، وعينَه النظرُ، وقلبَه الفكرُ؛ إلا في يومي النيروز والمهرجان من السنة لإعداد ما تمس إليه الحاجة في المعاش»، لا يمل الاستزادة من العلم حتى حين يجود بنفسه. دخل عليه الفقيه أبو الحسن الولوالجي، وهو يجود بنفسه فسأله عن مسألة توريث ذوي الأرحام؛ فقال له الفقيه؛ إشفاقًا عليه: أفي هذه الحالة؟ قال البيروني: أودِّع الدنيا وأنا عالم بها خير من أن أخليها وأنا جاهل بها! قال الفقيه: فلما خرجت من عنده سمعت الصراخ عليه.٢٤ ويقول عنه نفسه: «خصصت في غريزتي منذ حداثتي بفرط الحرص على اقتناء المعارف بحسب السن والحال.» ويتعلم لغات مختلفة؛ ففي كتبه عن العقاقير والجواهر يذكر اسم الشيء بالعربية واليونانية والسريانية والفارسية والتركية؛ ويقارن بين اللغات مقارنة دقيقة، فيمدح اللغة العربية بحسن أدائها للمعاني، ويفضلها على الفارسية، وينقد الكتابة الفارسية، كما ينقدها مفكرو اليوم نقدًا دقيقًا فيقول: «إن كل أمة تستحلي لغتها التي ألفتها واعتادتها، واستعملتها في مآربها … وأنا نفسي قد طبعت على لغة — يريد بها لغته الأصلية الخوارزمية — لو خُلِّد بها علم لاستُغرب استغراب البعير على الميزاب، والزرافة في الأكواب، ثم انتقلتُ إلى العربية والفارسية، وأنا في كل واحدة دخيل ولها متكلف، والهجو بالعربية أحب إليَّ من المدح بالفارسية، وسيعرف مصداق قولي من تأمل كتابَ علْمٍ نُقل إلى الفارسية كيف ذهب رونقه، وكسف باله واسود وجهه، وزال الانتفاع به؛ إذ لا تصلح هذه اللغة إلا للأخبار الكسروية، والأسمار الليلية.»
ثم ينقد الكتابة العربية فيقول: «وقد حل بأرضنا رومي، فكنت أجيء بالحبوب والبذور والثمار وغيرها، وأسأله عن أسمائها بلغته وأحررها؛ لأن للكتابة العربية آفة عظيمة، وهي تشابه صور الحروف المزدوجة فيها، واضطرارها في التمايز إلى نقط المعجم، وعلامات الإعراب التي إذا تركت استبهم المفهوم منها؛ فإذا انضاف إليها إغفال المعارضة، وإهمال التصحيح بالمقابلة — وذلك بالفعل عامٌّ في قومنا — تساوى وجود الكتاب وعدمه، بل علْمُ ما فيه وجهلُه؛ ولولا هذه الآفة لكفى نقل ما في كتاب ديسقوريدس المنقولة إلى العربي من الأسامي اليونانية إلا أنَّا لا نثق بها … إلخ.»٢٥

لقد اتصل البيروني بشمس المعالي قابوس بن وشمكير، وألف له «الآثار الباقية»، وهو يبحث في التواريخ التي كانت تستعملها الأمم، والاختلاف في الشهور والسنين، والتقاويم عند الأمم وأسسها، إلى غير ذلك مما يسميه الفرنج الآن علم الكرونولوجيا.

فلما اتصل بمحمود بن سبكتكين فاتح الهند، وقف من الفتوح موقفًا عجيبًا يذكرنا بالجمعية العلمية الفرنسية في حملة نابليون على مصر، ولكن البيروني كان جمعية وحده، فعكف على الهند يدرسها من جميع نواحيها: جغرافيتها وعلومها ودينها؛ بل وجواهرها، وألف في ذلك الكتب الكثيرة مثل «تاريخ الهند»، و«الجماهر في معرفة الجواهر» … إلخ، وتعلم اللغة السنسكريتية، وأخذ ينقل منها إلى العربية، ومن العربية إليها، فنقل إلى السنسكريتية «نظريات إقليدس»، و«المجسطي» في الفلك، ونقل إلى العربية من السنسكريتية «باتا نجالي».

وربما كان أعظم كتبه «القانون المسعودي» الذي ألفه للسلطان مسعود بن محمود بن سبكتكين. وهذا الكتاب يبحث في الرياضة والفلك وفلسفة الهند، ولمَّا ينشر بعد.

وقد عمر «البيروني» عمرًا طويلًا مباركًا ألف فيه كتبًا كثيرة نشرت في رسالة له في أول كتاب «الآثار الباقية» تدل على سعة آفاقه العلمية وعمقه فيها، وقد مات بغزنة نحو ٤٤٠ﻫ عن خمسة وسبعين عامًا.

كما كان من رجال الفلسفة في بلاط السلطان محمود، ابنُ الخمار، وكان نصرانيًّا، وقد تقدم طرف من خبره.

كما كان في بلاط من أدباء الفرس: الفردوسي، والعنصري، والعسجدي، والفرُّخي، وقد نظم له الفردوسي قسمًا من الشاهنامة، كما نظم له الآخرون، وموضع ذلك الأدب الفارسي.٢٦

هوامش

(١) المقدسي.
(٢) انظر: تاريخ العتبي.
(٣) البددة: جمع بد، وهو الصنم.
(٤) يريد بالتعاريج الدرابزين.
(٥) ساسة الفيل: خدامه ومن يقومون بأمره. ومارته: جمع مائر، وهو الذي يقوم على طعامه.
(٦) نقلت هذه من تاريخ العتبي باختصار.
(٧) أحسن التقاسيم: ٤٧٩ وما بعدها.
(٨) طبقات الشافعية: ٤ / ١٦.
(٩) انظر الحكاية بطولها في ابن خلكان: ٢ / ١١٦.
(١٠) يريد بآل بهرام السامانيين؛ لأنهم يقولون إنهم من نسل بهرام جور كما تقدم. ويريد بابن خاقان السلطان محمودًا؛ لأنه تركي، وخاقان لقب لملك الترك.
(١١) يريد بالشيطان الفيل لشكله الهائل.
(١٢) أي يومًا عنده رسل ملوك العجم، ويومًا عنده رسل الترك.
(١٣) يريد أركان الجيش، وهي القلب والميمنة والميسرة والجناحان والساقة والمقدمة.
(١٤) الضمير للفيلة؛ أي يتنقلن على قوائم كالعمد، ويلعبن بخرطوم كالثعبان.
(١٥) أي فهم ما يكتب إليه بالعربية.
(١٦) العتبي: ٣ / ١٧٠.
(١٧) طبقات الشافعية: ٤ / ١٣.
(١٨) ٢ / ٩٦.
(١٩) هو شمس المعالي قابوص بن وشمكير أمير طبرستان، وقد تقدم ذكره.
(٢٠) مأمون وأولاده أمراء خوارزم.
(٢١) محمود هو محمود بن سبكتكين.
(٢٢) أبو الفتح هو أبو الفتح البستي، وقد تقدم.
(٢٣) ياقوت: ٦ / ٣٠٨.
(٢٤) المصدر نفسه.
(٢٥) قطعة نقلها الأستاذ كرنكو عن كتاب «الجماهر في معرفة الجواهر» للبيروني — في مجلة Islamic Culture: ٦ / ٥٣٠.
(٢٦) انظر ذلك في مقدمة الشاهنامة للدكتور/عبد الوهاب عزام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤