بلاد المغرب
لما فتح المسلمون بلاد المغرب كلها كانوا يقسمونها إلى ثلاثة أقسام: مملكة إفريقية، وهي المغرب الأدنى، وقاعدتها القيروان؛ وسمي أدنى لأنه أدنى إلى بلاد العرب ومركز الخلافة، والمغرب الأوسط، وقاعدته تلمسان والجزائر، والمغرب الأقصى، وقاعدته فاس في مراكش.
وكان العرب يطلقون على سكان كل هذه البلاد البربر.
وقد افتتحها المسلمون من أوائل عهد الفتح، ولقوا في فتحها عناءً كبيرًا، وبذلوا في ذلك ضحايا كثيرة من سنة ٢٦ﻫ إلى سنة ٨١ﻫ.
وكان أهل هذه البلاد لسذاجتهم مرتعًا خصيبًا للدعاة الخارجين على الدولة. ولكل داع بمذهب ديني جديد، قال ياقوت: «البربر أجفى خلق الله، وأكثرهم طيشًا، وأسرعهم إلى الفتنة، وأطوعهم لداعية الضلالة، وأصغاهم لنمق الجهالة، ولم تخلُ أجيالهم من الفتن وسفك الدماء قط … وكم من ادعى فيهم النبوة فقبلوا، وكم زاعم فيهم أنه المهدي الموعود به فأجابوا دعوته ولمذهبه انحلوا، وكم ادعي فيهم مذهب الخوارج فإلى مذهبه بعد الإسلام انتقلوا.» وقامت به دول مختلفة متعاقبة؛ فقد خرج على المغرب الأقصى إدريس بن عبد الله بن الحسن المثنى بن الحسن السبط بن علي بن أبي طالب سنة ١٦٩ﻫ، ونشر الدعوة به، وأسلم على يده خلق كثير، فبويع له بالخلافة سنة ١٧٢ﻫ، وأسس دولة تسمت دولة الأدارسة استمرت إلى سنة ٣٧٥ﻫ فاكتسحتها دولة العبيديين «الدولة الفاطمية».
وقام بنو الأغلب بتونس ودولتهم تنسب إلى إبراهيم بن الأغلب التميمي، حكمت من سنة ١٨٤ﻫ. وقد عظمت دولتهم وأنشئوا أسطولًا قويًّا في البحر الأبيض فتحوا به صقلية ومالطة وسردينيا، وكان عهدهم عصر سيطرة قوية على البحر، واستمروا في الحكم إلى ٢٩٦ﻫ، حيث استولى عليهم العبيديون أيضًا.
ثم جاءت الدولة الفاطمية، وكان منشؤها بالمغرب، فبسطت سلطانها على جميع بلاد المغرب من حدود مصر إلى المحيط الأطلنطي مضافًا إليها صقلية وسردينيا، وقد بدأ ملكهم على يد أبي محمد عبيد الله المهدي سنة ٢٩٦ﻫ، واستمر الملك في أولاده حتى تولَّى منهم المعز، فلما انتقل إلى مصر سنة ٣٦٢ﻫ، وتتابعت فتوحهم في الشام والحجاز واليمن، وقوي سلطانهم فيها، ضعف سلطانهم في الغرب.
فجاء بنو زيري الصنهاجيون بتونس والجزائر، وأصلهم من البربر، وكانوا عمالًا للفاطميين، ولما سار المعز إلى مصر استعمل على تونس يوسف بن بُلكين، ثم استفحل أمر يوسف واستقل بمملكته، وأسس دولة نسبت إليه استمرت من سنة ٣٦١ﻫ–٥٤٢ﻫ، واشتهر من رجالها باديس بن يوسف، وابنه المعز، وهو أول من حمل الناس بإفريقية على مذهب مالك، وكانوا قبلُ على مذهب أبي حنيفة، ثم ابنه تميم بن المعز الشاعر الكبير، وسيأتي ذلك.
وفي أيام هارون الرشيد ولي على المغرب يزيد بن حاتم بن المهلب بن أبي صفرة. قال ابن خلدون: «وفي أيامه انخضدت شوكة البربر، واستكانوا للغلب وطاعوا للدين، فضرب الإسلام بجرانه، وألقت الدولة المضرية على البربر بكلكلها.»
وانتشر مذهب أهل السنة يزاحم الشيعة والخوارج.
هذه الأحداث العظمى من دخول العدد الكبير من العرب، وفتح البلاد، ونشر الإسلام واللغة العربية فيها، وتثقيف الناس بالدين الإسلامي والأدب العربي، وجعل البلاد جزءًا من المملكة الإسلامية يدخلها التجار من جميع الأجناس، ويتبادلون مع أهلها المعاملات والسلع، واختلاط العرب وغيرهم من المسلمين بأهل البلاد بالتزاوج والتوالد، ووقوعها بين البلاد المتحضرة، وخاصةً بين مصر والأندلس، وكثرة العلاقات والرحلات بين هذه البلاد بعضها وبعض، كل هذا نقل بلاد المغرب من برابرة جفاة — كما يعبر ياقوت — إلى أمة لها مدنية ولها حضارة ولها ثقافة، فلا عجب بعدُ إذا رأينا في البلاد حركة عقلية تؤرخ، ويكون لها شأن يذكر.
وقد اشتهرت بلدان في المغرب بتقدمها في الحضارة والعمران والعلم والأدب، كالقيروان والمهدية وتاهرت وسجلماسة وفاس.
والمهدية؛ وهي مدينة من أعمال تونس اختطها المهدي رأس الفاطميين، وبينها وبين القيروان مرحلتان، أسسها سنة ٣٠٠ﻫ، وفرغ منها سنة ٣٠٥ﻫ، وهي على ساحل البحر الأبيض داخلة فيه كهيئة كف متصلة بزند، وسوَّرها سورًا محكمًا بأبواب من الحديد المصمت، وجلب إليها الماء من قرية على مقربة من المهدية، وجعل لها مرسى يسع ثلاثين مركبًا.
ولما وصف المقدسي إقليم المغرب جملة عند زيارته فيما يهمنا من الناحية العلمية، قال: «إنه إقليم كبير طويل … أهله لا يعرفون مذهب الشافعي إنما هو أبو حنيفة ومالك، وكنت يومًا أذاكر بعضهم في مسألة، فذكرت قول الشافعي فقال: اسكت، من هو الشافعي؟! إنما كانا بحرين أبو حنيفة لأهل المشرق، ومالك لأهل المغرب أفنتركهما ونشتغل بالساقية؟ … وما رأيت فريقين أحسن اتفاقًا وأقل تعصبًا منهم …
وسألت بعضهم: كيف وقع مذهب أبي حنيفة إليكم، ولم يكن على سابلتكم؟ قالوا: لما قدم وهب بن وهب من عند مالك، وقد حاز من الفقه والعلوم ما حاز، استنكف أسد بن عبد الله أن يدرس عليه؛ لجلالته وكبر نفسه، فرحل إلى المدينة ليدرس على مالك فوجده عليلًا، فلما طال مقامه عنده قال له: ارجع إلى ابن وهب فقد أودعته علمي، وكفيتكم به الزحلة. فصعب ذلك على أسد، ثم سأل: هل يعرف لمالك نظير؟ فدُل على محمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة، فرحل إليه، وأقبل محمد عليه إقبالًا لم يقبله على أحد لما رأى منه من فهم وحرص، فلما رأى محمد أنه قد بلغ مراده سيبه إلى المغرب، فلما دخلها اختلف إليه الفتيان ورأوا فروعًا حيرتهم، ودقائق عجبتهم، ومسائل ما طنت على أذن ابن وهب، ففشا مذهب أبي حنيفة بالمغرب …
وقد اشتهر من المغرب كثير من الفقهاء وخاصةً في الفقه المالكي من أشهرهم وأولهم أسد بن الفرات، وهو نيسابوري الأصل، قيرواني الدار، أخذ عن مالك موطأه في المدينة، ورحل إلى العراق فأخذ من أبي يوسف ومحمد صاحبي أبي حنيفة، وأخذ عن أبي يوسف الأسئلة التي كان يثيرها الحنفية، ويضعون لها الأحكام على مقتضى مذهبهم، فجردها أسد بن الفرات من أحكامها، وعرضها على ابن القاسم، وتلقى منه أحكامها على مذهب مالك، أو اجتهاد ابن القاسم نفسه، أو اجتهاد أشهب، ودون ذلك كله في الكتاب المشهور المسمى «بالمدوَّنة»، فالمسائل المجرَّدة مسائل الحنفية، والأحكام أحكام مالك وصحبه، وتشتمل على نحو ستة وثلاثين ألف مسألة.
وقد حمل أسد بن الفرات ذلك كله إلى القيروان ونشره بالمغرب، وتولى القضاء بها زمنًا، كما تولى قيادة الجيش الذي فتح صقلية لبني الأغلب، وقد قتل وهو محاصر لسرقوسة سنة ٢١٣ﻫ.
ثم سُحْنون؛ وهو عبد السلام بن سعيد، عربي من تنوخ، كان أبوه من العرب الذين نزلوا القيروان، تعلم على علماء القيروان، ورحل فأخذ العلم عن ابن القاسم وأشهب وابن وهب وغيرهم.
وقد أخذ مدونة أسد بن الفرات التي ذكرنا، وأعاد قراءتها علي بن القاسم وصححها عليه، وعاد بها إلى القيروان، فأقبل عليها الناس في المغرب والأندلس وتولى قضاء إفريقية، وجد في نشر مذهب مالك، وتعلم عليه كثيرون حتى عد العلماء الذين تخرجوا عليه بنحو سبعمائة.
وتوفي سنة ٢٤٠ﻫ عن ثمانين عامًا، ولما مات رجت القيروان لموته. واشتهر ابنه محمد بن سحنون بالتآليف الكثيرة في الحديث والفقه، ومات سنة ٢٥٦ﻫ.
ثم أبو بكر محمد بن محمد المعروف بابن اللباد اشتهر بالحفظ والإتقان وسعة العلم، وسعيه لنشر المذهب المالكي في المغرب، وتكوين علماء حملوا علمهم وأفادوا به الناس. وقد اضطهده الفاطميون أيام سطوتهم؛ لأنه لم يتابعهم في آرائهم فسجنوه ومات سنة ٣٣٣ﻫ.
ثم أبو ميمونة دراس بن إسماعيل الحراوي الفاسي، وهو الذي أدخل فقه مالك في المغرب الأقصى بعد أن كان أهله على مذهب أبي حنيفة، وكان من الحفاظ المعدودين، والفقهاء المشهورين مات بفاس سنة ٣٥٧ﻫ.
ثم أبو محمد عبد الله بن أبي زيد النفزي القيرواني، إمام المالكية في زمنه، كثير التأليف واسع الفقه حتى سمي «مالك الصغير». رحل إليه العلماء للرواية عنه والتفقه به، له كتاب «الزيادات على المدونة»، وله «مختصر المدونة» توفي سنة ٣٨٦ﻫ.
وأبو عبد الله بن محمد بن محمود الهواري، قاضي فاس وإمامها، يضرب به المثل في عدله وورعه، له تعليقات على «المدونة» مات سنة ٤٠١ﻫ … إلخ.
والقابسي علي بن محمد المعروف بابن القابسي، كان واسع الرواية، عالمًا بالحديث ورجاله، فقيهًا مالكيًّا أصوليًّا متكلمًا مؤلفًا مجيدًا، له كتاب «الممهد في الفقه»، و«المنقذ من شبه التأويل»، وكتاب «المعلمين والمتعلمين»، وكتاب «رتب العلم وأحوال أهله» … إلخ. مات بالقيروان سنة ٤٠٣ﻫ.
واشتهر من فقهاء الحنفية محمد بن عبدون، ولي القيروان بعد سحنون، فاضطهد المالكية … إلخ.
على الجملة فقد كانت الحركة الدينية الفقهية في المغرب حركة قوية نشيطة، أكثر ما خدمت فقه الإمام مالك.
•••
والعلم النظري أو الفلسفة — وإن لم ينمُ كثيرًا في بلاد المغرب — لم يخل ممن عكف عليه، فيذكر ابن أبي أصيبعة أن إسحاق بن عمران، كان بغدادي الأصل، مسلم النحلة، ودخل إفريقية في دولة زيادة الله بن الأغلب، وكان قد استجلبه؛ «وإنما دعاه لحاجته على الطب، والطب كان دائمًا مقرونًا بالفلسفة»، وبه ظهر الطب بالمغرب، وعرفت الفلسفة، وكان طبيبًا حاذقًا متميزًا بتأليف الأدوية، بصيرًا بتفرقة العلل، أشبه الأوائل في علمه، وجودة قريحته، استوطن القيروان حينًا. وقد ألف كتبًا كثيرة كلها في الطب. وقد تتلمذ له في القيروان إسحاق بن سليمان الإسرائيلي، وأصله من مصر. ثم سكن القيروان، ولازم إسحاق بن عمران، وكان إسحاق بن سليمان مع فضله في صناعة الطب بصيرًا بالمنطق، متصرفًا في ضروب المعارف، وعمر عمرًا طويلًا إلى أن نيف على مائة سنة، وقد ألف في الطب والحكمة والمنطق، وقد خدم الأغالبة والفاطميين ومات نحو سنة ٣٢٠ﻫ.
وأنجب هؤلاء الوافدون من الأطباء أطباء من أهل البلاد نفسها، مثل أحمد بن إبراهيم، المعروف بابن الجزار من أهل القيروان، وقد اشتهر بالطب وخدمة العامة به. قالوا: وكان عنده نحو خمسة وعشرين قنطارًا من كتب طبية وغيرها، وكان إلى اشتغاله بالطب وتأليفه فيه مؤلفًا في التاريخ، فألف في علماء زمانه، وفي أخبار الدولة الفاطمية … إلخ.
•••
ثم كان حظهم من الأدب كبيرًا، وقد مر المغرب بالدور الذي مرَّت به مصر عند اختلاط العرب بسكان البلاد، من وقوف الشعر إلا القليل الضعيف حتى إذا زالت روعة الفتح وكثر دخول العرب واتصالهم بالبربر، وانتشرت اللغة العربية، ووجد جيل نشأ في المَربَى العربي أخذ الشعر يجود، وربما كان خير موطن له دولة الأغالبة، ودولة الفاطميين، ودولة الصنهاجيين «بني زيري»؛ ففي دولة الأغالبة كان كثير من أمرائهم أدباء؛ فإبراهيم بن الأغلب نفسه كان شاعرًا، فمن شعره يفخر بانتصاره:
وكذلك حفيده أبو العباس بن أبي عِقال بن إبراهيم، وهو الذي ولَّى سحنونًا الفقيه قيادة الجيش الذي فتح صقلية، ومن شعره يقول في الفخر أيضًا:
•••
•••
وقد اشتهر من شعراء هذه الدولة بكر بن حماد الزناتي، وقد رحل إلى المشرق فدخل البصرة والكوفة وبغداد، ولقي بعض كبار شعرائها كدعبل الخزاعي وأبي تمام، وعاد إلى القيروان، وغلب على شعره الوعظ والزهد كقوله:
•••
•••
أما الدولة العبيدية فكان فيها الشعر أرقى وأضخم للأسباب التي ذكرناها عند الكلام في الأدب الفاطمي في مصر، وحسبها أن أنجبت في الشعر ابن هانئ الأندلسي، وقد نسب إلى الأندلس لإقامته هناك بعض الوقت وإلا فهو إفريقي من قرية من قرى المهدية، وكان في شعره للمعز، كما كان أبو الطيب لسيف الدولة يصف حروبه وأسطوله، ويدون وقائعه، وينشر دعوته، ويمجد خلاله، وقد تقدم ذكر طرف عنه، وكان كذلك حوله شعراء ابتلعهم كما ابتلع المتنبي من حوله، فكان في بلاط المعز بالمهدية من الشعراء أبو الحسن علي بن محمد بن الأيادي التونسي، وقد كان شاعرًا كبيرًا اتصل بالفاطميين أيام القائم والمنصور والمعز. وكذلك علي بن عبد الله التونسي، ومقداد بن الحسن الكتامي، وابن هانئ نفسه يفخر على هؤلاء الشعراء وأمثالهم، ويستصغر منزلتهم منه فيقول:
وفي الدولة الصنهاجية كان العمران قد استحكم، والصلة بين المغرب وبين الأندلس ومصر والعالم الإسلامي كله قد تمكنت، والحضارة قد ازدهرت.
قال ابن خلدون: «كان ملكهم أضخم ملك عرف للبربر بإفريقية وأترفه وأبذخه.» فرقيت العلوم والفنون، ومنها الأدب.
ومن أشهر ملوكهم المعز بن باديس قالوا: «إنه اجتمع بحضرته من أفاضل الشعراء ما لم يجتمع إلا بباب الصاحب بن عباد.» وذكر أكثرهم ابن رشيق في كتابه «أنموذج الزمان في شعراء قيروان».
وكان من الأمراء الصنهاجيين شعراء مجيدون من أشهرهم تميم بن المعز بن باديس — وهو غير تميم بن المعز المصري — مَلَكَ إفريقية وما والاها، وكان محبًّا للعلماء والشعراء مقربًا لهم، ومن شعره:
وكان من شعرائه الحسن بن رشيق وغيره.
وقد نبغ في هذه الدولة كثير من الشعراء والأدباء مثل عبد الكريم النهشلي، وكان شاعرًا أديبًا ناقدًا، عارفًا باللغة خبيرًا بأيام العرب وأشعارها. مات سنة ٤٠٥ﻫ، وقد أكثر ابن رشيق من النقل عنه في العمدة، وذكر أن له كتابًا في الشعر.
ومثل علي بن أبي الرجال رئيس ديوان الإنشاء في الدولة الصنهاجية، واشتهر بالكرم وتشجيع الأدب، وهو الذي ربى المعز بن باديس وحبب إليه الأدب، وهو الذي ألف له ابن رشيق كتاب «العمدة»، وألف له ابن شرف «رسائل الانتقاد». مات سنة ٤٢٥ﻫ.
وكتابه «زهر الآداب» يدل على ذوق في الأدب رقيق، واطلاع واسع على ما أنتجه الأدباء من الجمل الروائع، والرسائل البليغة.
وله ابن خالة هو أبو الحسن علي بن عبد الغني الحصري القيرواني، كان عالمًا بالقراءات، وشاعرًا ظريفًا، وهو صاحب القصيدة المشهورة:
وقد حازت شهرة كبيرة، وعارضها كثير من الشعراء في مختلف الأمصار إلى عصرنا هذا.
وظهرت في المغرب حركة جيدة في النقد الأدبي، وردت أول الأمر نتفًا في كتب الأدب عندهم كقول عبد الكريم النهشلي: «قد تختلف المقامات والأزمنة والبلاد، فيحسن في وقت ما لا يحسن في آخر، ويستحسن عند أهل بلد ما لا يستحسن عند أهل غيره، ونجد الشعراء الحذاق تقابل كل زمان بما استجيد فيه وكثر استعماله عند أهله، بعد ألا تخرج من حسن الاستواء وجد الاعتدال وجودة الصنعة، وربما استعملت في بلد ألفاظ لا تستعمل كثيرًا في غيره، كاستعمال أهل البصرة بعض كلام أهل فارس في أشعارهم ونوادر حكاياتهم … إلخ.»
ومثل قول إبراهيم الحصري: «الشعر مطبوع ومصنوع: فالمطبوع الجيد الطبع مقبول في السمع، قريب المثال، بعيد المنال، أنيق الديباجة، رقيق الزجاجة … يطرد ماء البديع على جنباته، ويجول رونق الحسن في صفحاته … وحمل الصانع شعره على الإكراه في التعمل بتنقيح المباني دون إصلاح المعاني، يعفي آثار الصنعة، ويطفي أنوار الصبغة، ويخرجه إلى فساد التعسف، وقبح التكلف … وأحسن ما أجري إليه، وأعول عليه هو التوسط بين الحالين، والمنزلة بين المنزلتين من الطبع والصنعة.»
وقد نقل ابن رشيق في كتابه «العمدة» فن النقد من نقد شاعر خاص أو شعراء معينين — كما فعل صاحب الموازنة والوساطة — إلى نقد للشعر عامة، وقد قال فيه ابن خلدون: «وهو الكتاب الذي انفرد بهذه الصناعة وأعطاها حقها، ولم يكتب فيها أحد قبله ولا بعده مثله.»
وقد كان كلاهما من القيروان، وكانا من ندماء المعز بن باديس وشعرائه وجلسائه، ولما أغار الهلالية القادمون من مصر على القيروان فرَّا وقالا القصائد في رثاء القيروان، وذهب ابن رشيق إلى صقلية حيث مات بها سنة ٤٥٣ﻫ، وذهب ابن شرف على الأندلس ومات بها سنة ٤٦٠ﻫ.
وقد كانا صديقين ثم دبت بينهما الخصومة فتساجلا في الأدب كتلك المساجلة التي كانت بين الخوارزمي، وبديع الزمان الهمذاني.
وعجيب أمر المسلمين في هذه العصور، فما استقر فرارهم في المغرب حتى أنشئوا أسطولًا قويًّا في البحر الأبيض فتحوا به صقلية وسائر الجزائر حولها، وكان فتح صقلية على يد الأغالبة، وقد كان بها ثلاثمائة ونيف وعشرون قلعة، ولكنها لم تثبت أمام قوة المسلمين.
قال ابن خلدون: «كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا … ثم قال: وكان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على بحر الروم «البحر الأبيض» من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه، فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه، وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم؛ فكانت لهم المقامات المعلومات من الفتح والغنائم، وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل مثل: ميورقة ومنورقة وسردانية وصقلية ومالطة وأقريطش وقبرص … والمسلمون خلال ذلك قد تغلبوا على الأكثر من لجة هذا البحر، وسارت أساطيلهم فيه جائية وذاهبة، والعساكر الإسلامية تجيز البحر في أساطيلهم من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها … وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة والصقالبة لا يعدونها — وأساطيل المسلمين قد ضربت عليهم ضراء الأسد بفريسته.»
والعماد الأصفهاني يعقد بابًا طويلًا في القسم الثاني من الجزء الحادي عشر في ذكر محاسن فضلاء جزيرة صقلية، ويروي فيه شعرًا صقليًّا بعضه على أوزان جديدة، كقول أبي الحسن بن أبي البشر في راقصة:
… إلخ.
ومحمد بن علي بن الحسن بن عبد البر الصقلي التميمي اللغوي، ولد بصقلية، ورحل عنها في طلب العلم ثم عاد إليها، وكان موجودًا سنة ٤٥٠ﻫ، وهو أستاذ ابن القطاع الصقلي.