جزيرة العرب
أسلفنا في «فجر الإسلام» ما كان في الحجاز من علم وفن وأسباب ذلك.
والحجاز قطر قلَّما يعتمد على نفسه في العيش لقلة زرعه ونتاجه. فلما كان موطنَ الخلافة أيام الخلفاء الراشدين كانت تأتيه الأرزاق من البلاد المفتوحة كمصر والعراق، ولما انتقلت الخلافة إلى دمشق في العهد الأموي ظلت الخيرات تنهال على الحجاز لكثرة الفتوح وكثرة الغنائم، وكانت عصبية الأمويين عصبية عربية تقر بالسيادة للعرب، فكانت ترعى جزيرة العرب وسكانها، وكان الفاتحون من العرب، وكثير من غنمائهم يتسرَّب إلى بلادهم، ولهم ديوان تقيد فيه أسماؤهم وعطاياهم؛ لذلك سعدت الجزيرة وأنتجت علمًا وفنًّا.
فلما جاءت الدولة العباسية تغير الوضع فأصبح زمام الأمور أكثره في يد الفرس، والعمال أكثرهم من الفرس.
وزاد الأمر سوءًا في الحجاز خروج العلويين به والتفاف الناس حولهم، وإرسال الخلفاء العباسيين من ينكل بهم؛ ففي عهد المنصور خرج محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب ومعه أشراف بني هاشم وأعيان «المدينة» فعزل عاملها من قبل المنصور، وولى عليها عاملًا من قبله، فبعث إليه المنصور جيشًا كبيرًا كبيرًا قاتله وقتله، وقتل كثيرًا ممن معه.
وفي أيام الهادي خرج الحسين بن علي بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، واجتمع حوله آل أبي طالب وكثير غيرهم، وأرسل الهادي جيشًا فكانت وقعة «فخٍّ» بين مكة والمدينة، ثم قتل الحسين وكثير ممن معه.
وهكذا تتابعت حوادث خروج العلويين، وثورات الحجاز، وفي كل مرة ينكل العباسيون بهم وتزيد كراهيتهم وقبض يدهم عنهم.
فأخذت جزيرة العرب يقل شأنها شيئًا فشيئًا بغلبة العنصر الفارسي، وإبعاد العنصر العربي وقلة المدد الذي يرسل إلى الجزيرة.
ولما جاء المعتصم وتغلَّب العنصر التركي كان الأمر أسوأ، فقد كتب إلى عماله في الأطراف بإسقاط من في دواوينهم من العرب وقطع العطاء عنهم، ففعلوا، وانحط شأن العرب من ذلك الحين.
وجاء القرامطة فأفسدوا في البلاد، وزحفوا على مكة واستولوا عليها وارتكبوا أشنع الفظائع، ونهبوا الحُجاج ومنعوهم من زيارة البيت الحرام. وفي سنة ٣١٢ﻫ نكَّلوا بالحجاج أعظم تنكيل، ونكبوا العرب أعظم نكبة شهدتها الجزيرة، وكان عدد الذين قتلهم القرامطة في تلك السنة من الحجاج، وفي بيت الله وشوارع مكة وضواحيها، ثلاثة آلاف، غير الذين ماتوا جوعًا، ونهبوا من الأموال آلاف الآلاف.
ونزعوا الحجر الأسود، وبقي في إحدى زوايا «الإحساء» إلى سنة ٣٣٩ﻫ، حيث رده القرامطة بأمر المنصور الفاطمي — والخلافة في بغداد عاجزة عن إخضاعهم.
كل هذه الأحداث وأمثالها أضعفت شأن جزيرة العرب، وجعلتها في شبه عزلة وأخرتها ماديًّا وعلميًّا، حتى إن المقدسي لما زارها في القرن الرابع وصفها بالفقر وقلة العلم، ووصف مذاهبهم الدينية فقال: «إن مذاهبهم بمكة وتهامة وصنعاء سنَّة، ونواحي صنعاء ونواحيها مع سواد عمان شراة «خوارج» غالبة، وهجر وصعدة شيعة … وشيعة عمان وصعدة وأهل السروات وسواحل الحرمين معتزلة … والغالب على صنعاء وصعدة أصحاب أبي حنيفة، والجوامع في أيديهم، وفي نواحي نجد اليمن مذهب سفيان … والعمل بهجر على مذهب القرامطة، وبعمان داودية «على مذهب أهل الظاهر» لهم مجالس.
ومع هذا فقد كان في الحجاز حركة دينية في الفقه والحديث لا بأس بها بفضل تتابع المحدِّثين الذين كانوا يروون أقوال النبي وأعماله محدِّثًا عن محدِّث، وقد كان هذا الإقليم أخصب الأقاليم في هذا الموضوع فظل علمه يتوارث، ثم كانت هذه البلاد المقدسة تهوي إليها أفئدة كثير من العلماء يحصِّلون العلم ويفيدونه ويعتزون بجوار الحرم المكي أو قبر الرسول، ويفضلون الإقامة فيهما فيكونون مصدر علم. وقد رأينا في تراجم كثير من المحدثين أن كان في برنامجهم الرحلة إلى الحجاز ورواية الحديث عن ساكنيه، وإطالتهم الإقامة فيه، وكان للإمام مالك وتلاميذه من بعده فضل كبير في الحركة الفقهية.
فكان في مكة أمثال أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي الأسدي المكي أحد شيوخ البخاري الذين أخذ عنهم في مكة. قال يعقوب بن سفيان فيه: ما لقيت أنصح للإسلام وأهله منه. مات بمكة سنة ٢١٩ﻫ، وكثر تلاميذه في مكة ممن رووا عنه وأخذوا علمه.
كما نبغ بالمدينة أبو إسحاق إبراهيم بن المنذر بن عبد الله الأسدي، أحد كبار علماء المدينة ومجتهديها، مات سنة ٢٣٦ﻫ. وتتابع بعده تلاميذه. ويطول بنا القول لو عددنا المحدثين المكيين والمدنيين في القرن الثالث والرابع الهجري فهم كثير، منهم من كان من الحجاز نفسه ومنهم الراحل إليه المتوطن فيه.
ثم انتشر في اليمن فقه الزيدية، وهم أتباع زيد بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب، ومذهبهم في الأصول قريب من مذهب الاعتزال، فهم يقولون بالعدل والتوحيد كالمعتزلة، وبوجوب الخروج على الظَلَمَة كالخوارج، ولهم في الفقه اجتهاد يخالفون في بعض الأحكام المذاهب الأربعة، وقد اشتهر منهم أئمة في اليمن، اجتهدوا على أصول مذهبهم كالإمام يحيى بن الحسين الزاهد الرسي المتوفى سنة ٢٩٨ﻫ، والإمام الناصر للحق، ألَّف كتبًا على مذهب الزيدية والقاسم بن إبراهيم العلوي صاحب صعدة المتوفى سنة ٢٨٠ﻫ، وأبو الحسن الصليحي ملك اليمن سنة ٤٥٥ﻫ، وكان فقيهًا زيديًّا كبيرًا، وقتل سنة ٤٧٣ﻫ. وعلى الجملة فهم من قديم كان كثيرًا ما يجمع ملكهم بين تولي أمور الدولة والاجتهاد الديني على المذهب الزيدي.
وقد بقيت الأندلس، وسنفرد لها جزءًا خاصًّا بها إن شاء الله.
وقد كان من أهم مظاهر الحركة العلمية التي تدعو إلى الإعجاب في هذا العصر الرحلات، فقد أصبح تقليدًا للعالِم أن يرحل ويلاقي العلماء، ويأخذ منهم ويروي عنهم مع عناء الأسفار وفقر العلماء غالبًا.
وقد بلغ الغاية في ذلك المحدثون، فقد كانوا حركة دائمة يرحلون من أقصى الأرض إلى أقصاها لطلب الحديث وجمعه. وما يشتهر عالم في بلدة بالحديث وضبطه وجمعه حتى يرحل إليه العلماء من كل صوب. خذ لذلك — مثلًا — محمد بن إسماعيل البخاري يرحل من بخارى إلى مدن خراسان، إلى الجبال إلى العراق ومدنه كلها، إلى الحجاز إلى الشام إلى مصر، وفي كل مدينة يتحرى حالة علمائها، ويأخذ عمن وثق بهم، وليس البخاري إلا مثلًا واحدًا من أمثلة كثيرة لا تحصى، فقلَّ أن تجد محدثًا كبيرًا إلا رحل هذه الرحلات وأمثالها حتى قد يقطع المحدث المسافات الواسعة لرواية حديث واحد وضبطه. وتقرأ تراجم العلماء في كتاب ﮐ «تاريخ بغداد»، فيأخذك العجب من نشاط العلماء ورحلاتهم واحتقارهم لمشاقِّ السفر ومتاعب الفقر في سبيل العلم، ومعرفتهم كل مصر وكل بلدة ومن فيها من العلماء وما فيها من حديث.
وليس الأمر مقصورًا على المحدثين؛ فهكذا كان الشأن في كل علم وكل فن؛ فأبو جعفر النحاس يذهب من مصر إلى العراق ليأخذ النحو عن أهلها، وابن بابشاذ المصري يذهب على بغداد في تجارة الجواهر، ويأخذ النحو عن رجالها، ومن بالقيروان يذهب إلى المدينة ليأخذ عن تلاميذ مالك، وإلى العراق ليأخذ عن تلاميذ محمد بن الحسن، ويسمع الأدباء والشعراء بسيف الدولة فيكون في بلاطه الخوارزمي وأبو علي الفارسي وابن جني الموصلي، والمتنبي يومًا بحلب ويومًا بمصر ويومًا بالعراق ويومًا بشيراز، وابن بطلان الطبيب البغدادي يناظر ابن رضوان المصري، فإذا طالت المناظرة رحل إليه من بغداد إلى مصر.
وإذا فتحت بلدة فسرعان ما يذهب إليها العلماء في الفقه والأدب يعلمون أهلها الدين واللغة والأدب، حتى تصبح بعد قليل مركزًا من مراكز الإنتاج العلمي، كالذي رأينا في صقلية، تفتح فيرجل إليها العلماء وتدوي فيها حركة العلم، وبعد قليل نراها مركز إنتاج علمي وأدبي عجيب.
والحكومات من جانبها تنشئ الطرق، وتقيم الرباطات والمخافر لحاجتها الشديدة إلى تنظيم البريد، وتسهيل التجارة؛ فكان العلماء في رحلاتهم ينتفعون بهذه المزايا، كما ينتهزون الفرص لخروج القوافل إلى الحج، فينتظمون في سلك الحجاج، ويرحلون إلى البلدان التي يريدونها.
وكانت الرباطات كثيرة في مراحل المسافرين، ويذكر الإصطخري أنه كان في بلاد ما وراء النهر ما يزيد على عشرة آلاف رباط، في كثير منها إذا نزل النازل قدم له طعامه، وعلف دابته إن احتاج لذلك.
وقد زودت هذه الرباطات بالماء لحاجة المسافر إليه، وعدة إقامة الرباطات وتزويدها من الأعمال الخيرية التي يقف عليها المسلمون بعض أوقافهم.
وفي بعض المراحل تقوم الأديار مقام الرباطات، فينزلها بعض الراحلين، ويجدون فيها راحتهم ومطالبهم، وأكثر ما استغلها الأدباء لمرحهم وشغفهم بخمورها المعتقة، وولوعهم بالجمال.
كل هذا جعل المملكة الإسلامية من مشرقها إلى مغربها كأنها وحدة مهما تعدد ملوكها وحكوماتها، فالعالم والأديب والفنان والتاجر لا يعبئون بالحدود التي ترسمها السياسة، ويرون أن اللغة والدين تكسر حواجز السياسة.
وكان لهذا أثره الكبير في العلم والأدب، ومن أوضح هذه الآثار ضعف الشخصية الإقليمية، فليس علم مصر وأدبها متميزًا كثيرًا عن علم العراق وأدبه، ولا عن علم خراسان وما وراء النهر والسند وأدبها، كلها متقاربة؛ لأن رحلة العلماء وشدة الاتصال قربت بين الفروق، وما يظهر امتياز في ناحية إلا استمدته الناحية الأخرى وحذقته واستغلته؛ فالفقه المالكي في المدينة، والفقه الحنفي في العراق يؤلف بينهما أمثال محمد بن إدريس الشافعي، وأسد بن الفرات المالكي، والنحو العراقي يحمله إلى مصر وإلى المغرب الراحلون إلى العراق والمتعلمون على أساتذته، والعائدون بعد ذلك منه، والشعراء على أبواب الملوك والأمراء يتنقلون من بلاط إلى بلاط، فيوحدون مناهج النظم، والوراقون وتجار الكتب يحملون كتاب «الأغاني» و«رسائل إخوان الصفا» من العراق إلى الأندلس، ومكاتب مصر ومكاتب الأندلس، والقيروان، والمهدية، وفاس، وخراسان، وغزنة تضم في خزائنها أهم ما أنتجه العالم الإسلامي بقطع النظر عن إقليمه.
بل والعلماء أنفسهم نرى شطرًا من عمرهم قضوه في بلد وشطرًا في بلد آخر: شطر في مصر وشطر في الشام، أو شطر في الشام وشطر في العراق، أو شطر في العراق وشطر في فارس، وهكذا حتى لَيصعب في كثير من الأحيان عد العالم مصريًّا أو شاميًّا، وعراقيًّا أم فارسيًّا.
ومؤلفو التراجم أدركوا هذا المعنى فجمع أكثرهم علماء العالم الإسلامي على اعتبار أنهم نتاج مملكة واحدة كقطر واحد.
نعم توجد شخصية لنتاج كل إقليم كالأدب المصري والشامي والعراقي والفارسي، والطب المصري والشامي والعراقي والفارسي وهكذا، ولكنها شخصية غامضة خفية لا ترى إلا بالمنظار الدقيق والبحث الطويل. وأكثر ما يظهر هذا في منبع الظاهرة العلمية والأدبية حين تظهر، فظهورها في إقليم خاضع ولا بد لمؤثرات اجتماعية في هذا الإقليم، كظهور المقامات في إقليم فارس والموشحات بالأندلس، والأسلوب المسجوع المحلى بالبديع في الري وما حولها، والرسائل الشاملة لفروع الفلسفة — كرسائل إخوان الصفا — في البصرة؛ كل ذلك له علل اجتماعية وتاريخية وإقليمية مرتبطة بهذه الظواهر ارتباط السبب بالمسبب، ولكن لا تلبث بعد ظهورها أن تقلَّد في سائر الأمصار، ولو لم تكن العلة الأصلية موجودة، وتقوم علة التقليد مقام علة الابتكار، وتختفي الشخصية الأولى وراء المظهر العام للوحدة المشتركة.
وبعد؛ فهذا عرض سريع للحركة العلمية والأدبية، يتلوه — إن شاء الله — البحث التفصيلي في تاريخ كل علم ومدى تقدمه، ومركز هذا التقدم، وهذا هو موضوع الجزء الثاني من «ظهر الإسلام» أعاننا الله على إتمامه.