الفصل الأول

التفسير والحديث وعلم الكلام

التفسير

رأينا فيما مضى أن التفسير كان تفسيرًا بالمأثور، ونعني بالمأثور ما روي عن النبي والصحابة والتابعين في التفسير من مثل الأحاديث التي في صحيح البخاري ومسلم.

وكان كثير من الصحابة يتحرَّجون جدًّا أن يفسروا شيئًا من القرآن خوف الزلل، وخوف الهجوم على تفسير قد يكون خطأ؛ كالذي روي أن أحد أصحاب ابن مسعود سئل عن سبب نزول آية من القرآن، فقال: عليك باتقاء الله والسداد، فقد ذهب الذين كانوا يعلمون فيم أنزل القرآن. وسٌئل سعيد بن جُبَير عن تفسير آية، فقال: لأن تقع جوانبي خيرٌ لي من ذلك.

ولكن كان من أجرأ الناس في التفسير عبد الله بن عباس ابنُ عمِّ النبي ، وجدُّ الخلفاء العباسيين، فقد رويتْ عنه تفسيرات كثيرة لآيات كثيرة، حتى روي عنه تفسير شامل.

نعم، إن بضعها موضوع؛ ولكن ما صحَّ بعد ذلك كثير، وقد اعتمد في التفسير على مصادر ثلاثة: أحاديث النبي في التفسير، والشعر الجاهلي والإسلام، وما كان يرويه اليهود الذين أسلموا، وخصوصًا كعب الأحبار، وعبد الله بن سلام، ويكثر منه ذلك في قصص الأنبياء، وما يتَّصل بالتوراة.

وكان له تلاميذ كثيرون يأخذون عنه، من أشهرهم مولاه عكرمة، ولم يكن عكرمة هذا صادقًا كل الصدق، وقد روي عنه بعض المتناقضات، كالذبيح؛ فقد روي عنه عن ابن عباس مرة أنه إسماعيل، ومرة أنه إسحاق. وقد لاحظ بعض النقاد أن ابن عباس نفسه يروي أحداثًا حدثت وهو طفل، وأحيانًا يروي أحداثًا عن عهد لم يكن وُلد فيه بعد؛ فقد كان اتصاله بالنبيِّ وهو دون سنِّ البلوغ، ومع ذلك عظم تعظيمًا جليلًا. وربما كان من أسباب ذلك وجود الخلفاء العباسيين من ولده، وتملُّق الناس لهم.

وكان في العصور الأولى من يتثقَّف ثقافة يهودية واسعة، تسرَّب منها الكثير إلى المفسِّرين، كالذي يحكى عن رجل يقال له: أبو الجلد؛ كان يقرأ القرآن في كل سبعة أيام، ويختم التوراة في ستة أيام، ورأى الناس في اليهود علمًا بمسائل كثيرة تتَّصل بالقرآن، ثم كان ابن عباس ذا علم بالشعر القديم والحديث؛ كل ذلك مكَّنه من تفسير كثير من الآيات.

والناس من طبيعتهم حب السؤال عما يجهلون، يقول القرآن: اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا، فيسألون ما هو البعض الذي ضرب به، ويقول الله تعالى: وَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ، فيسألون: أي قرية؟ ومَن أصحابها؟ وهكذا.

فكان ابن عباس يجيب عن هذه الأسئلة، وقد روى الكثير عن ابن عباس عكرمة هذا، ومجاهد، ومقاتل بن سليمان، فما جاء عصرنا الذي نؤرخه بلغ هذا النوع من التفسير أوجَهُ في تفسير ابن جرير الطبري المتوفى سنة ٣١٠ﻫ، وهو صاحب الكتاب العظيم في التاريخ، وكتابه العظيم الآخر في التفسير، وكان مجتهدًا أيضًا في الفقه، ولكن طوى اجتهاده، وكان — رحمه الله — ذا عقل جبَّار في كل ناحية بحث فيها، ومنهجه في التفسير أن يجمع في كل آية التفسير بالمأثور، وفي الغالب يفضِّل أحد الأقوال، ولا يروي من الإسرائيليات والنصرانيات إلا بقدر، وينص في كثير من الأحيان على أن هذه أشياء لا قيمة لها، والجهل بها ليس ضارًّا، كالسؤال عن المائدة التي نزلت من السماء على عيسى، هل كان عليها طعام أم لا؟ وإذا كان عليها طعام فما هو؟ وهكذا، فيقول: العلم بذلك غير نافع.

وكذلك يقول مثلًا في إخوة يوسف الذين باعوه بدراهم معدودة: بكم باعوه؟ فيقول: إن الله لم يحدد لنا مبلغ ذلك، ولا ورد لنا خبر من رسول الله، وليس للعلم بذلك فائدة تقع في دين، ولا في الجهل به ضرر، والإيمان بظاهر التنزيل فرض، وما عداه فموضوع عنا تكلّف علمه، كثير من أمثال ذلك مما يدل على حسن عقله. وكان ذا علم كبير باللغة، فيفضل شرح معنى لفظ على شرح معنى آخر، بفضل علمه الواسع باللغة، كذلك كوَّن له عقيدة مثل الاختيار لا الجبر، ثم رجَّح التفسير الذي يؤيد هذا الاعتقاد، وجادل المعتزلة في بعض أقوالهم من غير أن يسميهم، وقد كانوا في هذا الوقت ظاهرين، فمثلًا: يقول في قوله تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ إن بعضهم يفسر اليد بالنعمة، ولو كان كذلك لم يقل تعالى: بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ؛ لأن نعمة الله لا تحصى، ولو كانتا نعمتين كانتا محصاتين، وهكذا وهكذا.

تعرض للنزاع الذي وقع بين الفرق، وأدلى فيه برأيه، ومع هذا الفضل الكبير له، فقد هوجم من المحدثين، وخصوصًا من الحنابلة، وناله الضرر منهم، وهو في درسه، فلما احتجب في بيته رموه بالحجارة حتى صارت أمام بيته أكوامًا، وذهب آلاف من الجند ليحموه، فلما مات لم يحتفل بجنازته، والله تعالى لا يعبأ بكل ذلك؛ فقد أكرمه الله بخير من هذه المظاهر جزاء جده وفضله.

ومع هذا فقد كان في العصور الأولى قوم يستعملون العقل أيضًا في التفسير، وربما كان من أشهرهم مجاهد؛ فقد كان مطلعًا يميل إلى الآراء العقلية، فيقول مثلًا في قصة مسخ أهل السبت قردة: إن الله لم يمسخهم في أجسامهم، بل في قلوبهم، ويفسر بعض الأحاديث التي ورد فيها اهتزاز عرش الرحمن بالرضا، ثم ظهر على توالي الأزمان نواة التفسير العقلي على يد المعتزلة، ونجد مصداق ذلك في مثل الآيات التي فسرها الجاحظ في كتابه «الحيوان»، والآيات والأحاديث التي روي تفسيرها عن النظام، وبلغت هذه الحركة أيضًا ذروتها في عصرنا هذا الذي نؤرخه على يد الزمخشري في «الكشاف».

فقد ألّف كثير من المعتزلة كتب تفسير كثيرة، تبلغ المئات، ولكن لم يصلنا منها شيء، إنما وصلنا منها كتاب مجالس الشريف المرتضى، فقد كان يعقد مجالس يفسر فيها القرآن، والحديث، واللغة على طريقة المعتزلة؛ إذ كان هو نفسه شيعيًّا معتزليًّا، وقد وصلت إلينا هذه المجموعة، وطبعت في مصر باسم «أمالي المرتضى»، فالآيات التي ذكرها فسرها تفسيرًا يوافق الأصول الخمسة للمعتزلة التي ذكرناها عند الكلام على المعتزلة، كقوله تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ، فظاهر هذه الآية يخالف ما يذهب إليه المعتزلة من حرية إرادة الإنسان، فأولها حتى لا يخرج عن مذهبهم، ومثل قوله تعالى: خُلِقَ الْإِنسَانُ مِنْ عَجَلٍ؛ لأن العجلة فعل من أفعال الإنسان، فكيف تكون مخلوقة فيه لغيره؟ ولو كان كذلك ما جاز أن ينهاهم عن الاستعجال في قوله تعالى: سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ، فكيف ينهاهم عما خلقه فيهم؟ وأفاض في اللغة لعلمه الواسع بها، فأوَّل مثلًا وَاتَّخَذَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا بأن الخليل معناه الفقير إلى رحمة الله من الخلة؛ استيحاشًا من أن الله يكون خليلًا لأحد من خلقه، مستدلًا بقول زهير:

وإن أتاه خليل يوم مسغبة
يقول لا غائب مالي ولا حَرِن

أي: إن أتاه فقير.

ولكن على كل حال تعطينا هذه المدارس تفسيرًا لبعض الآيات لا كلها على مذهب المعتزلة.

أما الذي يعطينا صورة كاملة، فهو تفسير الزمخشري المسمى ﺑ «الكشاف»، فإن بلغ تفسير ابن جرير الذروة في التفسير بالمأثور، فقد بلغ الزمخشري الذروة في التفسير بالرأي.

ويمتاز تفسير الزمخشري ببيان أساليب القرآن وبلاغته، ودلاله إعجازه، وقد استطاع الزمخشري أن يفعل ذلك لتمكنه العظيم من اللغة، والأساليب العربية كما يدل عليه في كتابه «الأساس»، وتفرقته فيه بين الحقيقة والمجاز، وساعده على ذلك مكثه مدة في الحجاز، وسماعه بعض الأساليب العربية التي أثبتها في التفسير، وطال مكثه فيه، لقب «بِجَارِ الله». وكما كان متمكنًا من اللغة كان متمكنًا أيضًا من مذهب الاعتزال؛ فأول كل الآيات التي تتصل بالأصول الخمسة كحرية إرادة الإنسان، ووجوب العدل، وتحقيق الوعد والوعيد، ووحدة الذات والصفات، إلى آخر ما يذهب إليه المعتزلة.

فمثلًا يفسر قوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ بأن الرؤية بالفؤاد لا بالأبصار، وإذ قال القرآن: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا، فظاهر الآية يدل على أن الإنسان مجبر أن يفعل المعصية، وهذا مخالف لمذهبهم، فهو يئول الآية حتى تلتئم مع مذهبهم، ومفتاح «الكشاف» قوله تعالى: هُوَ الَّذِي أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ، فالمحكمة هي آيات الأصول الواضحة المعنى، مثل قوله تعالى: لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ، فإذا أتت آية أو آيات تدل على خلاف ذلك وجب أن تئول، فقوله تعالى: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ يفسر برضا الله، وتوقع العبد للنعمة جريًا مع الآية الأولى. وقوله تعالى: إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ محكمة، فيجب أن يفسر مثل قوله تعالى: أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا بما ينطبق معها، حتى لا تكون هناك مناقضة. وعلى هذا النحو سار في كل تفسير، من مثل قوله تعالى: وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنسِ وَالْجِنِّ فيقول: إن جعل بمعنى بيّن؛ لا بمعنى فعل، كقول الشاعر:

جعلنا لهم نهج الطريق فأصبحوا
على ثبت من أمرهم حيث يمَّموا

ويذهب الزمخشري في كثير من الآيات إلى اللجوء إلى اعتبار الآيات من قبيل المجاز، أو الاستعارة، أو التشبيه، كقوله تعالى: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا إلخ، فيذهب إلى أن عرض الأمانة من قبيل المجاز، والأمانة هي الطاعة، وكقوله تعالى: لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ، فهو يقول: هذا تمثيل وتخييل.

وكذلك سلك هذا المسلك في قوله تعالى: ثُمَّ اسْتَوَىٰ إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا، فيقول: إن أمر السماء والأرض بالإتيان، وامتثالهما أنه تعالى أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، ووجدتا كما أرادهما، وكانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه أمر الآمر المطاع إلخ إلخ.

وكذلك فعل في كل ما يدل على تجسيم الله كاليد، والوجه، والعرش، والاستواء، ونحو ذلك، فكلها عنده مجاز، أو استعارة لا حقيقة؛ لأن الله منزه عنها.

وكان — رحمه الله — في طبيعته قاسيًا، فلم يكتف بالتفسير الذي يريده، بل قسا على مخالفيه، ورماهم بالجهل، وأحيانًا بالفسق، مما ألَّبهم عليه، حتى لم يسلم من لسانه أحيانًا أصحابه من الرد عليهم، والتسفيه لبعض آرائهم.

ومن ألطف ما فيه أنه كان لا يؤمن بالسحر، والخرافات كرؤية الجن، فلما أتت الآيات يدل ظاهرها على السحر والعين، مثل قوله تعالى: يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ، وسورة الفلق، أوَّل وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ بمن يطعِمُ شيئًا ضارًّا، أو يسقيه، أو يُشمه، أو يجوز أن يراد بهن النساء الكيَّادات، أو اللاتي يفتن الرجال بتعرضهن لهم، وعرضهن محاسنهن كأنهن يسحرنهم بذلك، ونفى نفيًا باتًّا ما يزعمه العوام من رؤية الجن، مستندًا على قوله تعالى: إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إلخ إلخ.

فالحق أنه بذل في هذا التفسير مجهودًا جبارًا يدل على عقل كبير، ومقدرة هائلة.

ولذلك كان موضع تقدير المعتزلة، والشيعة، والسنية على السواء، غاية الأمر أن غير المعتزلة كانوا يتحرجون فقط من موضع الاعتزال التي لا تتفق ومذهبهم.

ولذلك كان ابن جرير الطبري، والزمخشري عمادَي كلّ من أتى بعدهما من المفسرين كالبيضاوي، وأبو السعود، والفخر الرازي، وغيرهم.

ولئن شنَّع عليه قوم فإنهم مع تشنيعهم يقرون بفضله اللغوي، والبلاغي، وتبيين وجوه الإعجاز.

كان بجانب هؤلاء المفسرين بالمأثور، والمفسرين بالرأي على مذهب الاعتزال قوم يفسرون بالرأي على مذهب الشيعة، من تمجيد عليّ ونسله، وتحقير أبي بكر وعمر وأمثالهما، ويؤولون التأويلات البعيدة في ذلك، كقولهم: إن البقرة التي أمر قوم موسى بذبحها هي عائشة، وأن الجبت والطاغوت هما معاوية، وعمرو بن العاص، إلى آخر أقوالهم من ترَّهات.

وذهب قوم آخرون على تفسير القرآن بالتفسير الذي يتفق مع العقل المطلق؛ فكل ما ورد في القرآن مما قد يخالف العقل أولوه، حتى ذهبوا في ذلك مذاهب غريبة، فلما رأوا مثلًا أن الأطفال الذين غرقوا في الطوفان مع آبائهم لم يكونوا مذنبين قالوا: إن الله أعقم النساء قبل الطوفان، فلم تحمل منهن واحدة خمس عشرة سنة. ولما استبعدوا أن يلبث نوح في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا قالوا: إن المراد بذلك شريعته لا شخصه، وفسروا خروج ناقة صالح بالحجة الدامغة، وشربها ماء العين بإبطال تلك الحجة جميع ما خالفها. وقالوا في معجزة إبراهيم — عليه السلام: إن إبراهيم سحر أعين الناس الذين أوقدوا له النار، وطرحوه فيها، وطلا جسمه ببعض الأدوية التي يبطل معها عمل النار.

وقالوا في أصحاب الفيل الذين أهلكهم الله بحجارة من سجِّيل: إنه أصبهم الوباء من الماء والهواء، فحصّبوا، وجدّروا، وأهلكوا.

وقالوا في الهدهد الذي لم يره سليمان: إنه رجل، والنمل الذي جاء في أَتَوْا عَلَىٰ وَادِ النَّمْلِ قوم ضعاف خافوا من عسكر سليمان، والجن والشياطين الذين سُخروا لسليمان هم عتاة الناس وأشداؤهم، وحذَّاقهم، وعرفاؤهم بالأمور الغامضة، وكذلك في جميع معجزات الأنبياء، ولم يقروا لمحمد إلا بمعجزة القرآن.

وربما دعاهم إلى ذلك ما ذهب إليه القصَّاص من ولعهم بالغرائب، كالذين قال فيهم القائل: «الحديثُ لهم عن جملٍ طَاَر أشهى إليهم من الحديث عن جمل سار، ورؤيا مُرّيَّة آثر عندهم من رواية مرويَّة» في المعجزات، وفي قصص الأنبياء، ونحو ذلك، كالذي نراه في كتاب الثعلبي النيسابوري، وتفسيره المسمى «العرائس في قصص الأنبياء»، والذي نرى مثله فيما بين أيدينا في تفسير الخازن.

وفي هذا العصر ذهب قوم إلى القول في التفسير بالوقف، قالوا: إنا رأينا في القرآن آيات تدل على الجبر، وآيات تدل على الاختيار، ولا ندري كيف يؤول بعضهم إلى الآخر، فلنقف عند حدود ذلك، وندع علمها لله تعالى، وكثير من الآيات دلَّت على وجهين مختلفين، واحتملت معنيين متضادين. وكان من أشهر القائلين بهذا الرأي عبيد الله بن الحسن الأنباري، وقد سئل عن أهل القدر، وأهل الجبر، فقال: كلّ مصيب؛ هؤلاء قوم عظَّموا الله، وهؤلاء قوم نزَّهوا الله.

وكذلك القول في الأسماء، فمن سمى الزاني مؤمنًا فقد أصاب، ومن سماه كافرًا فقد أصاب، ومن سماه فاسقًا فقد أصاب، ومن قال منافقًا فقد أصاب؛ لأن القرآن دل على كل هذه المعاني، وسميت هذه الطائفة بالوقوف، جمع واقف، كالقعود والجلوس، جمع قاعد وجالس.

وذهب قوم إلى تفسير القرآن تفسيرًا صوفيًّا، فهم يفسرون الآيات التي تدل على مظاهر الأشياء تفسيرًا يدل على النفس، أو الشيطان، أو الملائكة، أو نحو ذلك من مثل ما يذهب إليه الجُنيد، وسفيان الثوري، وهكذا تشعبَّت الآراء، واختلفت المذاهب، وأصبحوا يُخضعون القرآن للمذهب، بعد أن كانت تخضع المذاهب للقرآن.

الحديث

تضخم الحديث حين بلغ عصرنا هذا الذي نؤرخه، ودوَّنت كتب كبيرة كالبخاري ومسلم، وأكثر منهما مسند ابن حنبل؛ وبلغ مجموع أحاديثه نحو ٦٠٠٠٠ ألفًا، وهذا التضخم يرجع فيه إلى سببين: الأول: كثرة الوضع؛ فقد دخل في الحديث كثير من حكم الأمم المختلفة، واندسَّ فيه بعض عقائد الأمم القديمة. والثاني: اجتهاد العلماء في الجمع؛ فقد كان علماء الحديث يرحلون إلى الجهات المختلفة، ويزاحمون التجار في الخانات.

وبجانب جمع الحديث نشأ حوله كثير من العلوم مثل: علم الناسخ والمنسوخ من الأحاديث، فإذا رأوا حديثًا يناقض حديثًا آخر، وعُرف المتأخر منهما، دل ذلك على أن المتأخر ناسخ للمتقدم، ومثل علم الجرح والتعديل؛ يذكرون فيه الصفات التي تلزم المحدث حتى يكون عدلًا، فإذا نقصها، أو نقص صفة منها لم يحز صفة العدل، إلى غير ذلك من العلوم.

وفي هذا القرن الرابع ظهرت فكرة أنه يجوز الاكتفاء في رواية الحديث بما في الكتب، وقد ذكروا أن ابن منده كان خاتمة الرحَّالين، وعدوا ابن يونس الصفدي المتوفى سنة ٣٤٧ﻫ إمامًا حافظًا للحديث وإن لم يرحل، وكان المحدِّثون يعدون أكبر العلماء شأنًا، فيبجلون ويعظمون، ويغدق المال عليهم أكثر من الفقهاء والنحاة وغيرهم.

وكان لرواية الحديث مزية، وهي تقوية ذاكرة المحدثين، فكان بعضهم يحفظ الآلاف من الأحاديث بسندها مع صعوبة السند، وتشابهه، فيروون أن ابن ميسر المتوفى سنة ٤٠١ﻫ كان عنده درج طويل طوله سبعة وثمانون ذراعًا مملوء الوجهين، فيه أوائل ما يحفظه من الأحاديث، وكان قاضي الموصل المتوفى سنة ٣٥٥ﻫ يحفظ مائتي ألف حديث عن ظهر قلب، وكان بعضهم يتعبد بقراءة الحديث، فيروون أن الخطيب البغدادي قرأ صحيح البخاري على كريمة بنت أحمد المروزي في خمسة أيام، وكان أكبر محدِّثي القرن الرابع أبا الحسن الدارقطني، والحاكم النيسابوري، وربما كان الحاكم هذا أعظمهما، فقد وضع مصطلحات الحديث من صحيح وحسن وضعيف، وجعل لها أصولًا، ووضع لذلك أساسًا بقي معمولًا به إلى اليوم، وقسَّم الرواة إلى أنواع، وجعل الجرح والتعديل أنواعًا، ولكل نوع لفظًا: فأعلاها ثقة، أو مُتقن، أو ثَبت، أو حُجة، أو عدل، أو حافظ، أو ضابط؛ والثانية: صدوق، أو محله الصدق، أو لا بأس به، ويقال: إنه سبقه إلى ذلك ابن أبي حاتم المتوفى سنة ٣٢٧ﻫ، وقام العلماء بنقد الحديث، ونقد السند، وتأريخ المحدِّثين، والحكم عليهم أو لهم، وأصبح الجرح والتعديل مبنيين على أصول من مثل كتاب التاريخ للبخاري، ووصلوا في ذلك إلى غاية بعيدة؛ فالخطيب البغدادي المتوفى في القرن الذي بعد قرننا يحكون عنه أنه كان عالمًا بالرجال علمًا واسعًا، حتى إنه ألَّف كتابًا في رواية الآباء عن الأبناء، وآخر في رواية الصحابة عن التابعين، وربما كانت كتاب السير، والعناية بالتاريخ منشؤها عناية المحدِّثين برجال الحديث، حتى إن الأدباء والمؤرخين قلَّدوا المحدِّثين في ذكر السند، كما فعل أبو الفرج الأصفهاني في «الأغاني»، والطبري في تاريخه، فإنهما يذكران السند مع أن السند في الأدب ليست له قيمة كبرى، فإن الخبر الأدبي، أو القطعة الأدبية لها قيمة ذاتية، ولو لم يصح سندها.

وقد قالوا: إن الخطيب البغدادي أبان دقة فائقة على نقد الوثائق المكتوبة؛ وإثباته تزويرها، ومعرفته تواريخ حياة الرجال الذين يذكرون فيها.

ولئن كان للمحدثين محامد من ناحية الجد في الجمع والنقد، وعدم الاكتراث بالمتاعب، والصبر على الفقر، ونحو ذلك، فقد كان لهم — والحق يقال — بعض الأثر السيئ في المبالغة في الاعتماد على المنقول دون المعقول، خصوصًا بعد ما مات المعتزلة؛ فقد كان المعتزلة هؤلاء حاملي لواء العقل، والمحدِّثون حاملي لواء النقل، وكان عقل المعتزلة يلطف من نقل المحدِّثين. فلما نكل بالمعتزلة على يد المتوكل، عَلَا منهجُ المحدِّثين، وكاد العلم كله يصبح رواية، وكان نتيجة هذا ما نرى من قلة الابتكار، وتقديس عبارات المؤلفين، وإصابة المسلمين غالبًا بالسقم، حتى لا تجد كتابًا جديدًا، أو رأيًا جديدًا بمعنى الكلمة، بل تكاد العقول كلها تصب في قالب واحد جامد.

واتخذت التراجم شكل تراجم المحدِّثين من ذكر وقائع وأحداث من غير تجديد، كالذي تراه في «الأغاني». ومن الأسف أن منهجهم ساد منهج المعتزلة وغلبهم، وكان منهج المعتزلة منهجًا متينًا دقيقًا حتى لم يستطع أن يفر منه إلا القليل.

كما يؤخذ عليهم أنهم عُنُوا بالسند أكثر من عنايتهم بالمتن: فقد يكون السند مدلَّسًا تدليسًا متقنًا فيقبلونه، مع أن العقل والواقع يأبيانه، مثل: «من أكل سبع بلحات عجوة، لم يصبه في ذلك اليوم سم»، ومثل: «لا يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة» إلخ.

بل قد يعده بعض المحدثين صحيحًا؛ لأنهم لم يجدوا فيه جرحًا، ولم يسلم البخاري، ولا مسلم من ذلك، وربما لو امتحن الحديث بمحكِّ أصول الإسلام، لم يتفق معها، وإن صحَّ سنده.

وقد كان من بعض المحدثين من تدخل عليهم أساليب الدهاة المكرة الوضاعين؛ ولذلك قال بعضهم في بعض المحدثين: «إننا نطلب دعوته، ولا نقبل حديثه». وقد جنى منهج الحديث على كل علم آخر، فقلَّ الابتكار في اللغة والأدب، والنحو والصرف؛ فكانت عبارة عن حكاية أقوال المتقدمين، وإن اختلفت في شيء فيما بينها، ففي التعبير الصعب أو السهل فقط، وفي الاختصار أو التطويل فقط.

وإذا كانت للمحدثين سلطة كبرى كان من خرج على منهجهم قيدَ شعرة، شغب عليه، ورمي بالزندقة.

وفي التاريخ أمثلة كثيرة من هذا القبيل؛ من أولها ما ذكرنا قبلُ من اضطهاد المحدثين لابن جرير الطبري، وأسوأ ما في هذا أن الأمر لم يقتصر على العداء بين العلماء بعضهم مع بعض، بل اجتهد كل فريق أن يدخل العامة في الموضوع؛ ليستعين بهم في التنكيل بخصومه.

ولكن مع هذا كله لا ننسى أنه بفضلهم نقدت الوثائق الدينية نقدًا دقيقًا، يشبه ما يضعه علماء التاريخ اليوم.

علم الكلام

نشأ علم الكلام من الحاجة إلى الدفاع عن الإسلام أولًا دفاعًا مسلحًا بالفلسفة، كما كان المهاجمون مسلحين بها. وثانيًا: لأنَّ المسائل كلها حتى الدين تحوَّلت إلى علوم بعد أن كانت سائرة على الفطرة.

ولم يعدم بعض العقول أن يثيروا مسائل كانت تثار في عهد النبي ، والصحابة، والتابعين فتكبت، ثم نجمَت فيما بعد ولم تكبت، مثل: هل صفات الله غير ذاته، أو هي هي؟ وهل الإنسان مجبور أم مختار؟ وهل مرتكب الذنوب فاسق، أو مؤمن، أو كافر؟ ونحو ذلك.

وقد دعت إثارة هذه المسائل، والتبحر فيها إلى إثارة مسائل أخرى عويصة، كالطفرة، والذرَّة، ونحوهما، وقد ساعد على هذا التوسع أن أمثال هذه المباحث كانت أثيرت عند اليونان، ثم نقلت إلى العربية.

وكان للمعتزلة الفضل الأكبر في علم الكلام؛ لأنهم كانوا أكبر المدافعين عن الإسلام لما كان يثيره اليهود والنصارى الوثنيون من هبوب، حتى لقد كانوا فيما روي يرسلون أتباعهم الكثيرين إلى البلدان الأخرى لردَّ هذا الهجوم ردًّا عقليًّا.

وذاع صيتُهم، وعلا شأنهم بوجود طائفة ممتازة منهم، مثل: واصل بن عطاء، وأبي هذيل العلَّاف، والنظام، والجاحظ، وغيرهم، بسبب ما أُثير من مسألة خَلق القرآن، فقد نشأت عنه مسألة كلامية، وهي أن أهل السنَّة يقولون: إن لله صفات غير ذاته، ويقول المعتزلة: إن صفات الله عين ذاته، ونشأ عن ذلك أن أهل السنَّة يقولون: إن لله صفة الكلام غير ذاته، وهي صفة متصلة به، والقرآن قديم بمعنى أنه كلام الله القديم، الذي كان من آثره القرآن المقروء الذي أُنزل على محمد، ولم يقولوا في الأصل: إن القرآن الذي هو في المصحف قديم، وإنما القديم هو كلام الله، وإذ كان المعتزلة ينكرون أن لله كلامًا غير ذاته نتج عن ذاته قولهم بخلق القرآن، ودار الجدلُ الطويل في ذلك على النحو الذي ذكرناه من قبل في «ضحى الإسلام».

وكانت المسائل الكلامية تدور بين الفرق الخمس التي شاعت في هذا الوقت، وهي: أهل السنَّة، والمعتزلة، والمرجئة، والخوارج، والشيعة، وكانت كل فرقة من هذه الفرق تنقسم إلى طوائف قد تختلف فيما بينها كثيرًا أو قليلًا، فإذا كان الخلاف على العقائد، وما يتصل بها فذلك علم الكلام، وإذا كان الخلاف على الفروع، وما يتصل بها، فذلك علم الفقه.

ونلاحظ أن علم الكلام أولًا كان مختلطًا بالفقه، وكانت هناك مسائل فقهية في ثنايا علم الكلام، ثم تحرر علم الكلام عن الفقه بفضل المعتزلة.

وأضافوا إلى المسائل الأولى التي كانت تثار مسألة الإمامة، وربما كان للشيعة أكبر دخل في ذلك؛ لأنهم كان لهم منهج مخصوص يخالف مذهب أهل السنة. ومن أهم مسائلهم مسألة القدر، وهي مأخوذة عن مذهب زاردشت؛ ولذلك يقال لهم: الثنوية، ويقول ابن حَزم: «إن المعتزلة هم الذين اخترعوا لفظ الصفات»، ثم تُكُلم بها فيما بعد، ويصف المعتزلة بأنهم يمتازون بخصال أربع: «وهي: اللطافة، والدِّراية، والفسق، والسخرية»، وكانوا مولعين بالجدل، كما اشتهر بذلك الجاحظ، ومن أجل هذا سمِّي هذا العلم علم الكلام.

ويظهر منهجهم في الوصف الذي وصفناه للمنهج الذي اتبعه في التفسير الزمخشري كما بينَّا.

وكان عدوهم اللدود أهل السنة.

وكان أبو الحسن الأشعري معتزليًّا أولًا، ثم خرج عليهم، وحاربهم بمثل سلاحهم، وأخذ من مذهبهم بعض الأشياء، ومن مذهب خصومهم بعض الأشياء، فكان مذهبًا مختارًا، حاول فيه أن يوفق بين العقل والنقل.

ويقول في بعض كتبه: «قولنا الذي نقول به، وديانتنا التي ندين بها، التمسك بكتاب الله، وسنَّة نبيه، وما روي عن الصحابة والتابعين، وأئمة الحديث، وبما عليه أحمد بن حنبل، ونحن بأقواله قائلون، ولمن خالف قولُه قولَه مجانبون»، ولكن بعض كبار أهل السنَّة لم يرضوا عنه كل الرضا، ورأوا أن في بعض تعاليمه دسائس من أصول المعتزلة.

وقد شنَّع عليه في الأندلس الإمام ابنُ حزم، وسلقه بلسان حادّ في كتابه «الملل والنحل».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤