الفصل الحادي عشر

التجارة، والصناعة، والزراعة

نشطت الحركة التجارية في القرن الرابع الهجري نشاطًا عجيبًا، سواء في البر، أو في البحر، وهذا ما وسَّع أفق الناس الجغرافي، وحسنت سمعة التجار المسلمين في المعاملات، وضرب بهم المثل، حتى النساء اشتركن في هذه الحركة التجارية، فقد ذكروا أنه في بلاد فارس الشمالية كانت حركة البيع في المنازل، وكان اللائي يبعن هن النساء.

وكانت بغداد والإسكندرية تتحكم في الأسواق والأسعار، وكان اليهود مشتهرين ببيع الرقيق، وكانوا يستحضرونه من النواحي الشمالية، ويتاجرون فيه، وكان التجار — على العموم — يركبون الجمال إلى السويس، ويُعدّون البحر الأحمر، ثم يعبرون الصحراء ثانية إلى جُدَّة، أو يبحرون إلى الخليج الفارسي، والهند، والصين، أو يرحلون إلى أنطاكية، إلى الفرات، إلى بغداد، إلى فارس، واضطرتهم التجارة إلى معرفة لغات كثيرة من فارسية، وإسبانية، وصينية، وكانوا يستحضرون من كل بلد خير ما فيه، ويبيعونه في البلاد الفقيرة إليه، وبعض التجار الكبار كانوا يُعملون الحيل في الاتصال بملوك الأقطار، وإنشاء علاقات معهم لتسهيل الشئون التجارية، فيحكى أن بعض التجار المسلمين اتصلوا بملوك الصين، وأن بعض تجار اليونان والفرس اتصلوا بملك سيلان.

ولكثرة الأعمال التجارية، وصعوبة نقل الأموال، وخطورتها عرفوا الحوالات المالية، وسمَّوها «السُّوفتجة»، وناصر خسرو تسلم صكًّا من تاجر بأسوان بخمسة آلاف درهم، معنونًا بوكيل تاجر في عيذاب ليتسلَّمه منه، وكان في الصك: «أعط ناصرًا كل ما يطلبه، وقيِّد الحساب عليه».

ويحكي ابن حوقَل أنه رأى صكًّا باثنين وأربعين ألف دينار لتاجر في سِدِنمَاسة؛ مما يدل على اهتدائهم إلى المعاملات التجارية بطريق الصكوك، وكان الصرَّافون والوكلاء يقومون مقام البنوك.

وقد عدّت في ذلك الوقت أسماء كثيرة من التجار المشهورين بالغِنَى، واشتهر كل قطر ببعض السلع، وكان التجار الماهرون ينقلون السلع من مكان إلى مكان، حسب المهارة التجارية، ومن أجل هذه الحركة وجدت أماكن للمبيت والاستراحة في كل مرحلة تجارية، وكانت هذه الأماكن تستخدم لمبيت التجار، ورباطات للمجاهدين، وأمكنة لعمال البريد، وهكذا.

ولم يكن نشاطهم في البحر بأقلَّ من نشاطهم في البر، ومن هذه الحركات نشأت أسطورة «السندباد البحري»، وكان أهم بحار المسلمين في التجارة هو البحر الأبيض المتوسط، والمحيط الهندي، فكانوا ينقلون التجارة على الجمال إلى السويس، ثم إلى الحجاز، ثم إلى المحيط الهندي؛ وكانوا يقطعون على الجمال الصحراء من الخَرمَا، إلى القُلزُم، أو البحر الأحمر في سبعة أيام، واستخدموا لهذه الرحلات البحرية المراكب الشراعية الكبيرة، حتى حكوا أن بعض المراكب كانت تعمل آلافًا من الناس، ومعهم كثير من السلع التجارية، وقالوا: إن سُفُن البحر الأبيض كانت أكبر من سفن المحيط، وكانت البصرة أهم ميناء يُبحر منه التجار إلى أنحاء العالم، وكان نجاح هؤلاء التجار مشجعًا لأمثالهم على أن يشتغلوا في التجارة، ويربحوا منها. وكتاب «ألف ليلة وليلة» مملوء بالقصص عن هؤلاء التجار، وغيابهم وطول أسفارهم، وكانت الصين وروسيا ميدانًا فسيحًا لهذه التجارات.

وقد أثَّرت حركة التجار الواسعة هذه في الحياة العامة للشعب، سواء في الحركة الاقتصادية أو الاجتماعية، فمن الناحية الاقتصادية كانت التجارة مصدر ثروة لعدد كبير من الناس، وأتباعهم، وأتباع أتباعهم، ومن الناحية الاجتماعية ملأت التجارة البيوت بالرقيق من مختلف الأصناف، وتأثير الرقيق في الحالة الاجتماعية لا يخفى، وربطت التجارة بين الأقطار الإسلامية ربطًا محكمًا، وقلما كان يخلو ركب من التجار من أن يصحبهم بعض العلماء يطلبون العلم، وخصوصًا الحديث، وحببت التجارة إلى الناس كثرة المغامرات، واكتساب اللذائذ من المخاطرات، وكانوا كلما اجتازوا مخاطرة، واطمأنوا عَنَّ لهم أن يبدءوا مخاطرة جديدة، كالذي يصوره لنا «السندباد البحري»، بل إن هذه التجارة كانت تغذي الفقهاء بالمسائل الكثيرة التي تعرض للتجَّار، ولم تكن معروفة من قبلُ، كالذي نرى في كتب الفقه من الكلام على السوفتجة، والسَّلَم، والمزارعة، ونحو ذلك.

وكان بعض الأرقَّاء يأبِقُون مع ركب التجارة، فكثر قول الفقهاء في إباق العبيد، وهكذا. فأعمال التجار، وما يصادفونه في حياتهم كانت مبعث أسئلة توجَّه للفقهاء ليبحثوها، ويجيبوا عنها؛ بل تعرضت رحلة التجار لإثارة مسائل تتعلق بالعبادات، فإنهم لما رحلوا إلى الشمال البعيد، ورأوا مدنًا تستمر الشمس طالعة فيها أشهرًا، وتغيب أشهرًا، سألوا عن حكم الصيام في هذه البلاد، وأوقات الصلوات، وهكذا، ولكن مع الأسف لم يتعرض الفقهاء لتاريخ الحوادث التي أثارت هذه الأبحاث، بل تكلَّموا عنها مجردة عن أي اعتبار آخر، ومن غير ربطها بما كان يحدث، ولذلك كانت جافة، ولو ربطت بهذه الأحداث لكانت لطيفة مستساغة.

وهذه التجارة أشاعت في الناس خُلُق الاستقلال، وجعلتهم أفضل من العلماء والأدباء الذين لا يجدون رزقهم، إلا من فُتات الأمراء، فالتاجر كان ينشأ صغيرًا، ويغامر حتى يكسب الكثير، وبعضهم كان يكسب مائة وعشرين ألف دينار، أو أكثر.

هذا هو الكسب المادي، أما الكسب المعنوي فاللذة الحادثة من رؤية بلاد قد يخالف دينها دينه، وتخالف عوائدها عوائده، ولا بأس أن تغرق المركب يومًا ببضاعته، فيحمد الله على السلامة، ويبدأ من جديد، وهكذا.

وأما الصناعة، فقد ازدهرت في هذا العصر، وذلك بفضل تقدم العلوم كما شرحنا، فاستخدموا ما اكتشفوا من العلوم، وما عرفوه من علوم اليونان، وما اقتبسوه من الأمم الأخرى في ترقية صناعتهم، وكانت المدن الكبرى في البلاد الإسلامية تنقسم الصناعات الكبرى، كصناعة المنسوجات، والورق في مصر، وصناعة الورق أيضًا في سمرقند، والبسط والسجاجيد في فارس … إلخ. واشتهرت صناعة النسيج في مصر في تنِّيس، وكانت تصنع من الكتان والحرير، وكانت الأقمشة التنِّيسية بيضاء، أما اليمنية فمنقوشة كأزهار الربيع.

واشتهرت في تنِّيس مدينة تسمى «الدّيبق»، وإليها ينسب القماش المسمى بالديبقي، وربما بلغ الثوب الديبقي مائة دينار، وفيها كانت تصنع المنسوجات للخليفة البغدادي، ولا يدخل فيه من الغزل غير أوقيتين، وينسج باقيه بالذهب بصناعة محكمة، لا تحوج إلى تفصيل، ولا خياطة، وتبلغ قيمته نحو ألف دينار، وكانت تنّيس وحدها سنة ٣٦٠ﻫ تصدّر إلى العراق من الأقمشة ما يبلغ ٢٠ ألف دينار إلى ٣٠، وكانت تصدر تنّيس أيضًا ثيابًا رقيقة جيدة، كأنها المنخل، يسمى بالقصب، وكان هذا القصب يلون، ويعمل عمائم للرجال، وكان النساء في مصر يغزلن الكتان في منزلهن، كما يفعل أهل سويسرا في صناعة الساعات، وقلدت فارس مصر في صنع ثياب الكتَّان، وخصوصًا مدينة كازارون، فكانوا يبلُّون الكتان في البرك، ويغسلون خيوطه في نهر يسمى نهر الرهبان، وكان من خصائص هذا النهر تبييض خيوط الكتَّان، ولا يغسل فيه إلا بتصريح من الأمير. ولم يشتهر القطن كثيرًا في هذا الزمان، واشتهرت مرو بصناعة نسيج القطن، فكانت تنتج ملابس ثقيلة؛ حتى إن المتنبي يسميها «لباس القرود».

وانتشرت صناعة الحرير، وأعظم مصانع الحرير في ذلك العصر كانت بفارس، أخذها الفرس عن الروم، واشتهرت خوزستان بذلك، وكانت الطنافس التي تفرش على الأرض تصنع بالعراق في مدينة الحِيرة، وقد استمدت صناعتها من الروم، واشتهرت صناعة الحصر في كل البلاد الإسلامية.

وكان المصريون يصنعونها من البرد، كما اشتهرت صناعة ماء الورد، وأهم ما تصنع فيه مدينة «جور» لشهرتها بالورد الجوري، وينقل من جور إلى سائر البلدان كالمغرب، والأندلس، ومصر، واليمن، وبلاد الهند، والصين، ومما قدَّم الصناعة في القرن الرابع اكتشافهم قوة المياه، واستخدامهم لها في إدارة الطواحين؛ كما أن أهل البصرة استخدموا حركة المد والجزر، فأنشئوا عليها الأرحية؛ ذلك أن الجزر والمد يحدثان عندهم مرتين في كل يوم وليلة، ففي أثناء المد يدخل الماء الأنهار، وفي أثناء الجزر ينحسر الماء، فعمدوا إلى أرحية أقاموها على أفواه الأنهار، أما الجهات التي ليس بها أنهار، فكانوا يستعملون الدواب في إدارة الطواحين.

وقد اشتهرت مطاحن الموصل، فكانت تصنع من الخشب والحديد، وتسمى الواحدة منها عربة، وبعض الطواحين يستخدم فيه شدة هبوب الريح، حتى كان من دقَّتهم تنظيم سرعتها بواسطة منافذ تغلق وتفتح.

وقد نقل المصريون صناعة الورق عن الصين، ولكن تقدموا فيها بواسطة تنقيته مما كان يعلق به من ورق التوت ونحوه، وانتشرت صناعته في دمشق، وطبرية، وطرابلس، وسمرقند، ولولا كثرته ما انتشرت العلوم انتشارها في هذا العصر، واشتهرت حران بصناعة آلات الفلك، كالإصطرلاب، وبصناعة الموازين الصحيحة؛ واشتهرت المقدس بصناعة السبح؛ لكثرة الزوَّار.

وأما الزراعة، فاشتهرت في هذا العصر، حتى ربما أمكن العالم الإسلامي أن يكفي نفسه، فكانت العراق تكثر من زراعة الحنطة، والهند من الأرز، وفلسطين ومصر من القلقاس، واشتهرت في البلدان كلها زراعة الكروم، واشتهرت زراعة العنب في اليمن، وهو كثير الأصناف، يجود كل صنف منه في بلد. واشتهرت في هذا العصر فاكهتان، وهما: الأترجّ، والنارنج، وكانت هاتان الفاكهتان نادرتين في هذا العصر، وقد جلبتا من الهند إلى عمان، والبصرة، والعراق، والشام، واشتهرت زراعة البطيخ، واشتهر شمال فارس بجودة الفاكهة، حتى بلغ أن كان البطيخ يقدّد، ويحمل إلى العراق، وعلا شأن الرمان؛ وكان أحسن التفاح في ذلك العصر تفاح الشام، حتى كان مضرب المثل في الحسن، ويحدثنا الثعالبي في «لطائف المعارف» بأنه كان يحمل إلى الخلفاء في كل سنة منه ثلاثون ألف تفاحة.

واشتهر في العراق، والحجاز، ومصر تصدير مقادير كبيرة من الثمر، وكان الناس في مصر يستخدمون زيت المصابيح، من جذور البنجر واللفت، ويسمونه الزيت الحار، ولحاجتهم إلى السكر كان يزرع في كثير من البلدان، وعملوا المربات، والفواكه المحفوظة، وملحوا السمك، وأكلوا نوعًا من الطين الأخضر كالسلق، كانوا يستعملونه بعد الأكل، يجلب من نيسابور، ويسمى بالنُّقل، وكان الرطل منه ربما يباع في مصر بدينار.

وعلى الجملة، كانت الزراعة والصناعة والتجارة متعاونة، يُمدّ بعضها بعضًا، ولكثرة عدد الأهالي نمت هذه العناصر الثلاثة في ذلك العصر، حتى ليحكي بعضهم أشياء عنها قد لا يصدقها العقل، وربما كانت الزراعة هي العنصر الوحيد الذي لم يتغير في الشرق إلى اليوم، فلا يزالون يستعملون آلات الزرع العتيقة من ساقية، وشادوف، وطمبور، ونحو ذلك مما كان يستعمله قدماء المصريين.

قد تغيرت التجارة والصناعة كثيرًا عن قبل، ولكن الزراعة لم تتغير كثيرًا عما كانت، إلا عند القليل الذين استعملوا الآلات الحديثة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤