الفصل الثاني عشر

القضاء والإدارة

من قديم وكبار الفقهاء يكرهون تولي القضاء، كالذي روي عن مالك، وأبي حنيفة من كراهية تحمل المسئولية، وخوفًا من الحيد ولو قيد شعرة عن العدل، إنما يتولاها من أكره عليها، أو كان شرهًا يحب المال، ويقوي ضميره على تحمل المسئولية، وكانت أكبر مشكلة في زماننا، وقبله اختلاط الاختصاص بين الوالي والقاضي، فكلاهما يرجو توسيع الاختصاص، وكثيرًا ما اصطدما، فمثلًا: تزوَّجت امرأة رجلًا ليس بكفء لها، كحادثة الشيخ علي مع بنت السادات، وأنكر وليها الزواج، وطلب من القاضي فسخه، فامتنع، فذهب أهلها إلى الأمير، فأمر القاضي بالفسخ، فامتنع أيضًا، ثم فرق الأمير بينهما، وسبب ذلك الاختلاط بين سلطة القضاء، وسلطة التنفيذ. وكان القاضي يتولى سلطانه من قبل الخليفة، وكان كثير من القضاة ذوي عظمة وجلال، حتى يُحضروا الولاة في مجالسهم إذا احتاج الأمر، ويحكون عن القاضي ابن حربويه الذي توفى سنة ٣٢٩ﻫ أنه كان آخر من ركب إليه الأمراء، وكان لا يقوم للأمير إذا حضر، وكان عزيز النفس، عدلًا، حتى إن مؤنسًا الوالي الكبير مرض، فأرسل إلى القاضي يطلب شهودًا، يشعرهم أنه أوصى بوقف على جهة من جهات الخير، فقال القاضي: لا أفعل حتى يثبت عندي أنه حر، وكتب إلى الخليفة المقتدر يسأله إذا كان قد أعتقه، ولما وصل الكتاب أبى القاضي إلا أن يشهد عدلان أنه كتاب أمير المؤمنين، وكان ابن حربويه هذا مثلًا عاليًا للقاضي، فلا يفعل أمام الجمهور ما يحط من كرامته، وكان لا يتقيد بمذهب من المذاهب، بل يجتهد. ومن القضاة العظام في هذا العصر أبو حامد الإسفرائيني قاضي بغداد المتوفى سنة ٤٠٦ﻫ، كتب إلى الخليفة يقول له: «اعلم أنك لست بقادر على عزلي عن ولايتي التي ولانيها الله تعالى، وأنا أقدر أن أكتب إلى خراسان بكلمتين أو ثلاث، أعزلك عن خلافتك»، حتى لقد كان بعضهم من القوة، بحيث يستطيع أن يأمر بسجن أمير أو وزير، وكان من أعظم القضاة في ذلك العصر أبو الحسن بن أبي الشوارب، فكان قاضيًا عادلًا مهيبًا، وكان قاضي البصرة سنة ٣٩٩ﻫ.

ولم تكن عرفت المحكمة، ولكن عرفوا أن القضاء يجب أن يكون مباحًا للجمهور، فكان القضاة يجلسون في المسجد، أو على بابه، أو في دار القاضي، ويتقدم المتقاضون برقاع فيها اسم المدّعي، والمدّعى عليه، وهي المسماة اليوم «عريضة الدعوى»، ويعطونها للكاتب، وإذا حضر القاضي دفعها إليه، فيفصل فيها كلها أو بعضها، وإذا لم يستطع أجَّل ما لم يستطعه إلى الغد، ويحكون أن إبراهيم بن الجراح كان مكروهًا من المصريين، فكان يقضي في داره، ولما ولي هارون بن عبد الله قضاء مصر جعل مجلسه في الشتاء في مقدم المسجد، واستدبر القبلة، وأسنده ظهره بالجدار، واتخذ مجلسه في الصيف في صحن المسجد، واستمرَّ الحال على ذلك إلى منتصف القرن الثالث الهجري، فمنع الخليفة المعتضد من جلوس القاضي في المسجد، ولكن هذا النهي لم ينفَّذ، وكره أبو العلاء المعري في عصره سيرة القضاة، والشهود المسمَّون بالعدول، فقال:

في البدو خرّاب أذواد مسوَّمة
وفي الجوامع والأسواق خرّاب
فهؤلاء تسموا بالعدول أو التجـ
ـار واسم أولاك القوم أعراب

ويعني بمن في الجوامع: القضاة، والشهود، ويقول في موضع آخر:

عدولٌ لهم ظُلم الضعيف سجيةٌ
يسمَّون أعراب القرى والجوامعِ

وكان الفقهاء أولًا يكرهون أن يأخذوا أجرًا في نظير قضائهم، ثم عين لهم أجر قليل، فكان ابن حجيرة في مصر يتقاضى مائتي دينار في السنة، وكان عبد الرحمن بن سالم قاضي مصر أيضًا يتقاضى عشرين دنيارًا في الشهر.

وكان بعض القضاة يتجر بجانب منصبه ليعيش عيشة محترمة، وقد رفع العباسيون ماهيَّة القضاة، فكان مرتب عبد الله بن لهيعة ثلاثين دينارًا في الشهر، وفي عصر المأمون، جعل للفضل بن غانم مائة وثمانية وستين دينارًا في الشهر، ويقول الرحالة ناصر خسرو: «إن مرتب قاضي القضاة في مصر ألفا دينار في الشهر» … إلخ.

وقد انحطَّ القضاء على توالي الأزمان، فقلَّ أن ترى قاضيًا محترمًا مهيبًا وقورًا، كالذي كنت تراه من قبل.

أما الإدارة، فكان على رأسها الخلفاء، وقد رأيت من قبل كيف انحطَّت رتبهم، واستبد بهم الوزراء، كما انحطت ثقافتهم؛ لأن الوزراء كانوا يكرهون خليفة مثقفًا.

ويحكي صاحب كتاب العلوم أن الوزير أبا أحمد العباس بن الحسن كان راكبًا، ومعه أحد الكتَّاب الأربعة الذين يتولّون الدواوين، فشاوره فيمن يرشح للخلافة بعد المعتضد، وكان الوزير يميل إلى ابن المعتز، فأجابه الكاتب: إنه يجب ألا يولَّى في هذا الأمر من عرف دار هذا، ونعمة هذا، وبستان هذا، ومن لقي الناس ولقوه، وعرف الأمور، وحنَّكته التجارب. قال له الوزير: صدقت، فمن نقلّد؟ فأشار الكاتب عليه بجعفر بن المعتضد، وقال: إنه صغير، لا يدري أين هو، وعامة سروره أن يصرف من المكتب، فعمل الوزير على تقليده، وكان صبيًّا في الثالثة عشرة من عمره، وهكذا حتى كانوا يفتشون الكتب التي يقرؤها المرشح للخلافة؛ لئلا تكون فيها منفعة، بل تكون لهوًا صرفًا، كالسندباد البحري، وألف ليلة وليلة، فما أكره الوزراء للخلفاء المتعلمين، ولذلك ضعف شأن متولي الإدارة، وكانت دواوين كثيرة، لكل ولاية ديوان يدير شئونها، حتى وحَّد المعتضد هذه الدواوين، وجعل منها ديوانًا واحدًا أسماه «ديوان الدار» له ثلاثة فروع: ديوان المشرق، وديوان المغرب، وديوان السواد، أي العراق، ولم تكن العدالة مرعيَّة، فكثرت المصادرات، بل كثر التعدي على الأرواح، ولم يعد أحد يأمن على نفسه، وعلى ماله حتى الخليفة، فكم صودر، وكم سلبت أمواله، أو سلمت عينه، وفشا في هذا العصر أخذ المسائل الإدارية كالقضاء التزامًا يلتزمون المرفق العام للخليفة، ثم يستبدون بمن يليهم. يقول ابن المعتز:

أفما ترى بلدًا أقمت به
أعلى مساكن أهله خُصّ
وولاتُه نَبَطٌ زنادقةٌ
ملأى البطون، وأهله حُمص

وتهافت أرباب الدواوين على الألقاب، وقد كانت العادة من قبلُ أن يكتب للناس من فلان إلى فلان، ففي أول القرن الرابع كان يخاطب الوزراء والكبراء بيا سيدنا ومولانا، وكان ابن سعدان يخاطب الوزير ابن عباد، بالصاحب الجليل، ويخاطب الصاحب ابن سعدان بالأستاذ مولاي ورئيسي، ثم زادت الألقاب، حتى قال الخوارزمي:

ما لي رأيتُ بني العباس قد فتحوا
من الكُنى ومن الألقاب أبوابا
ولقّبوا رجالا، لو عاش أولهم
ما كان يرضى به للحُشِّ بوَّابا
قلَّ الدراهمُ في كفَّي خليفتنا
هذا، فأنفق في الأقوام ألقابا

ولقَّبوا المارودي القاضي بلقب «أقضى القضاة»، وزادت الألقاب فيما بعدُ زيادة كبيرة، وتشكلت بالشكل التركي، وزادت حتى فقدت قيمتها.

وكانت الإدارة المالية سيئة جدًّا؛ لأنها شديدة الحساسية، يُحلّها مليم، ويعدّلها مليم؛ وذلك لأنها كانت سيئة في دخلها، تعتمد كثيرًا على المصادرات التي شرحناها من قبلُ، وفي خرجها إذ كثرت النفقات للإسراف في الترف، كما بينا، وكانت جباية الأموال غير عادلة، ولا دقيقة.

ويروي لنا المؤرخون أن بعض الملاك يبيعون أرضهم بيعًا صوريًّا لأولاد الأمراء ليقل الخراج عليهم، وبدأت ميزانية الدولة تنحط، ويزيد الخرج على الدخل، فكان مقدار الميزانية حسب ما وصلنا في عهد المقتدر على حسب تقدير الوزير المشهور علي بن عيسى نحو ١٩٠٤ﻫ ١٤٥٠ دينارًا، أضاعها كلها الخليفة المقتدر، كما أضاع ما تجمع عنده من الخلفاء قبله؛ وذلك بسبب كثرة الجند، وشغبهم، ومطالبتهم بالزيادة، حتى اضطر أن يبيع دياره، وفرشه، وآنية الذهب التي عنده، وبلغ من فقر بيت المال في أيام المطيع لله سنة ٣٦١ﻫ أن باع ثيابه، وأنقاض داره؛ ليدفع ٤٠٠ ألف درهم طلبت منه للجند في أثناء الفتنة ببغداد.

والسبب في قلة الدخل أن كثيرًا من الممالك انفصلت عن الدولة العباسية واستقلت، كإفريقيا، وخراسان، ومصر، وفارس، وما وراء النهر، وكلها كانت تدر مالًا كثيرًا على الدولة في بغداد. وتململ الناس في عصرنا هذا من كثرة الضرائب، فبدأ الخلفاء يخفضونها من عهد المأمون، ونقصت الجزية، وكانت موردًا كبيرًا للمال بسبب اندفاع الناس إلى الدخول في الإسلام، وكان العهد عهد إقطاع، وهو عهد ظالم، كالذي شاهدناه في عصرنا، وزاد الطين بلة إفراط الخلفاء، ومن إليهم في أسباب الترف، فانغمسوا في اقتناء الجواري من كل الأصناف، واتخذوا الفرش من الخز والديباج والحرير، والمسامير من الفضة، وأكثروا من المتنزهات، والقصور، والمدن، ومجالس البيوت، وتأنقوا في الطعام واللباس تقليدًا للفرس، وتحوَّل الغِنَى من الخلفاء إلى النساء والخدم والقواد، حتى حكى صاحب المستطرف أنه كان بين رياش أم المستعين بساط أنفقت على صنعه ١٣٠ مليون دينار — على ما يقولون — فيه نقوش على أشكال الحيوانات والطيور، أجسامًا من الذهب، وعيونها من الجواهر، حتى ليذكروا أن شاعرًا مدح امرأة فأعطته دُرًّا قوّم بعشرين ألف دينار، وكثر الإعطاء للمداح من الشعراء، كما يحدثنا صاحب الأغاني، حتى لا يكاد الإنسان يصدق ما يحكيه من العطاء لكثرته.

وكثر الإعطاء من المال للوزراء والقضاة والقوَّاد، حتى بلغت ماهية الحسين بن علي الماذراني والي مصر في أول القرن الرابع ٣٠٠٠ دينار في الشهر؛ هذا عدا ما يفرضه الخلفاء لأنفسهم وأهليهم، خصوصًا وقد منعوا السلطة، فصارت في يد وزرائهم من الأتراك.

والحق أن الإدراة المالية إذا اختلت اختل تبعًا لها كل شيء، من علم، وتجارة، وزراعة، وصناعة، فعجيب أن يزهر العلم في هذا العصر، حتى يبلغ ذروته، ويختل النظام المالي، وهذا يدلنا على أنه قد تختل السياسة، ويختل المال، ويزهر العلم؛ لأن اختلال السياسة، واختلال المال لا يظهران إلا بعد عهد طويل.

وكان من أهم المصالح الإدارية مصلحة البريد، وقد عني بها المسلمون من العهد الأموي، كما عُني به العباسيون، وكانت مصلحة البريد تقوم بوظائف أكثر مما تقوم به مصلحة البريد اليوم، فكانت تقوم بما تقوم به اليوم مصلحة المخابرات؛ إذ كان رجال البريد مكلفين بإخبار الخلفاء بكل حركة يقوم بها كبار العمَّال؛ حتى يتأهبوا لها، ولذلك يروى أن طاهرًا أمير خراسان، وأول من انفصل عن الدول، وأسس الدولة الطاهرية قطع الخطبة للمأمون على المنبر؛ وكلمه في ذلك صاحب البريد، فاعتذر بأنه نسيان منه، وتقدم إليه ألا يكتب للخليفة، وتكرر منه ذلك ثلاث مرات، فقال له صاحب البريد: إن كتب التجار لا تنقطع عن بغداد، وإن اتصل هذا الخبر بأمير المؤمنين من غيري لم آمن أن يكون سبب زوال نعمتي، فقال: اكتب إليه. وكان الخلفاء لا يحجبون صاحب البريد، ولو جاء في نصف الليل، علمًّا منهم بأن مبادرة الأمور في أوائلها خير من الانتظار عليها.

ولذلك قال المنصور: «ما أحوجني أن يكون على بابي أربعة نفر، لا يكون على بابي أعف منهم، أما أحدهم فقاض لا تأخذه في الله لومة لائم، والثاني: صاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي، والثالث: صاحب خراج يستقصي، ولا يظلم الرعية، والرابع: صاحب بريد يكتب خبر هؤلاء على الصحة». ولذلك كان العمال يخافون من صاحب البريد، ويعتبرونه جاسوسًا عليهم عند الخليفة، وأحيانًا يجعل الخلفاء بينهم وبين أصحاب البريد رموزًا، أشبه ما تكون بالشفرة اليوم، حتى لا تقع في يد العامل، فيعرف محتوياتها، هذا ما يتعلق بالخلفاء، يضاف إلى ذلك مكاتبات الناس، وأحيانًا ينتهز بعض الناس فرصة البريد، فيركبون معه؛ لأن ذلك آمن لهم، وفي بعض الأحيان كانت ميزانية البريد ١٥٩١٠٠ دينار في السنة.

أما وسائل البريد، فكانت أمورًا كثيرة:
  • (١)

    الجمال والأفراس، وربما كان المقصود بالجمال هو ما يسمى الآن «الهجين»؛ لسرعة سيره، وربما بلغت قافلة البريد أربعين أو خمسين جملًا، وقد أعدت للبريد شبكة من الطرق، تشبه شبكة القطارات اليوم.

  • (٢)

    السفن في البحار، وقد يستعملان معًا.

  • (٣)

    الرجال العداءون، وخاصة في المدن الكبيرة كبغداد.

  • (٤)

    الحمام الزاجل؛ فيربطون ورقة، ويعلّقونها بعد تمرين الحمام على السير على مواقع يعلمونها.

  • (٥)

    أحيانًا يستعملون سهمًا يضعون فيها قصبة فيها ورق، ثم يطلقونها، فيستلمها آخر، ويفعل بها مثل ذلك.

  • (٦)

    وأحيانًا يستعملون ماء النهر فيضعون فيه الخرائط من الجلد، مكتوبًا عليها اسم صاحبها.

وأحيانًا يستعمل البريد لحمل بعض الناس الذين يأمر الخليفة بإحضارهم، وكانت توضع في أعناق الدواب سلاسل وأجراس تسمعها المدينة، فتعرف أن البريد حضر، ويسمونها عادة «قعقعة البريد»، وكانت تقسم الطرق إلى مراحل، وفي كل مرحلة فندق كبير ينزل فيه عمال البريد ليرتبوا شئونهم فيه، وهكذا إلى أقصى المملكة الإسلامية.

وقد أدت مصلحة البريد هذه خدمات كبيرة إلى المملكة الإسلامية من مثل قمع الفتن، ومنع المشاكل من الحدوث بسبب التأهب لها، وكثيرًا ما حملت العلماء من مكان إلى مكان ليحصّلوا العلم، والتاريخ مملوء بذلك.

وهناك عمّال آخرون لحفظ طرق البريد، وإمدادها بالأفراس، أو الإبل الملاح، وحماةٌ يحمونها من القطاع والسُّراق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤