الفقه والتصوف
ذكرنا في «فجر الإسلام» وضحاه تاريخ الفقه في العصور المتقدمة، حتى إذا جاء عصرنا هذا تحوَّل الفقه تحولًا جديدًا، وأكبر مظاهر هذا التحول سد باب الاجتهاد، فقد وصل الفقه إلى ذروة مجده في القرون السابقة، فلما جاء القرن أقفل العلماء باب الاجتهاد، وكان ذلك طبيعيًّا لحالة العصر، قال سعيد بن الحدَّاد الفقيه القيرواني: «إنَّ الذي أدخل كثيرًا من الناس في التقليد نقص العقول، ودناءة الهمم»، وكانت وفاته سنة ٣٣٠ﻫ، وكان من نتيجة ذلك:
- أولًا: اقتصارهم على النقل عمَّن تقدم، وانصرافهم لشرح كتب المتقدمين، وتفهمها، ثم اختصارها.
- ثانيًا: جمع الفروع الكثيرة في اللفظ القليل؛ مما جنى على الفقه، وسائر العلوم.
- ثالثًا: اقتصارهم على التحشية والقشور.
- رابعًا: كثرة الفروض في المسائل.
وكانت هذه الحال نتيجة طبيعية للتاريخ السياسي والاجتماعي؛ فالخلفاء كانوا تحت سيطرة الأتراك حينًا، وتحت سيطرة الديلم من بني بويه حينًا آخر، وهؤلاء الديلم والأتراك لم يكونوا يحسنون اللغة العربية إحسان من قبلهم، وأتت بعد ذلك غارة التتار فقضت على البقية الباقية من المدنية والحضارة، وعلو الهمة.
وقد كان نشاط الفقهاء من قبل نشاطًا غير محدود، فلما أغلقوا باب الاجتهاد توجه نشاطهم إلى المسائل التي ذكرناها، من اختصار لما مضى، ووقوف على أقوال الأئمة السابقين، وفرض الفروض، وخصوصًا في بابي العتق والطلاق.
والسبب في ذلك أن الرقيق كان قد كثر في البيوت من نساء ورجال وأطفال، وحدثت حوادث للرقيق كثيرة، من إباق ومكاتبة، وغير ذلك، فتوسع الفقهاء في هذا الباب كثيرًا، وأما الطلاق فيظهر أنه قد كثر في ذلك العصر بسبب تعداد الزوجات، وكثرة الإماء، وغيرَة الحرائر من الإماء، والإماء بعضهن من بعض، فكثرت الفروض، والأحكام في هذا الباب.
وكان اللغويون أيضًا يفرضون الفروض الكثيرة للتعليم، فيقولون: كيف تشتق من كذا على وزن كذا؟ فقلَّدهم في ذلك لفراغ ذهنهم من المسائل الكلية، مثل أن يقولوا: ما حكم من قال: أنت طالق واحدة قبلها واحدة، بعدها واحدة؟ وما حكم من قال: أنتِ طالق نصف تطليقة، أو ربع تطليقة؟ وهكذا من الفروض السخيفة.
ومن مظاهر الفقه في هذا العصر أيضًا شيوع التعصبات المذهبية، فقد كان الأئمة أنفسهم متسامحين، وكانوا لا يعيبون اجتهاد زملائهم، وقد فهموا تمام الفهم حرية الرأي كالذي نراه في رسالة الليث بن سعد إلى مالك بن أنس، ومع ما كان يبديه الشافعي من نقد أبي حنيفة كان يقول: «الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة»، ويقول: «مذهبنا صواب يحتمل الخطأ، ومذهب غيرنا خطأ يحتمل الصواب»، ويجتهدون في التدليل عليه، ونقد أقوال خصومهم، وكل ما فعلوه أن اجتهدوا النوع الاجتهادي الوضيع الذي يسمى اجتهاد مذهب، وذلك يقضي فقط بأنه إذا روى عن الإمام روايتان، رجَّح الفقيه رواية أو رأيًا.
ولنقصَّ طرفًا من أمثال هؤلاء، فمن أمثال ذلك: أن أبا الحسن الكرخي رئيس الحنفية بالعراق، والمتوفى سنة ٣٤٠ﻫ صنَّف المختصر، وشرح الجامع الصغير، والجامع الكبير لمحمد بن الحسن، أما أن يكون له رأي في مسائل جديدة يجتهد فيها، فلا، ومثل أبي الحسن القدوري، ألَّف المختصر المشهور، وشرح مختصر الكَرخي، وصنَّف كتاب «التجريد»، وهو يشتمل على الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي.
ومن شدة خلافاتهم، وتعصبهم لمذهبهم، وكثرة جدالهم، نشأ علم يسمى آداب البحث والمناظرة، يقصدون منه الشروط التي يتبعها المجادل في جدله، إذا أصبح فوضى.
- (١)
ألا يمعن في البحث، ولا يشتغل به ما أمكن.
- (٢)
أن الجدل فرض كفاية، فإذا رأى فرض كفاية آخر أهمَّ منه اتجه إليه.
- (٣)
أن يكون المناظر مجتهدًا يفتي برأيه، إلا بمذهب معين، حتى إذا ظهر له الحق من مذهب أيًّا كان ذهب إليه.
- (٤)
ألا يناظر إلا في مسائل واقعية، أو قريبة الوقوع.
- (٥)
أن تكون المناظرة إليه في الخلوة أحب إليه من المحافل، وبين الأكابر والسلاطين.
- (٦)
أن يكون في طلب الحق، كناشد ضالة، لا يفرِّق بين أن تظهر الضالة على يده، أو على يد غيره.
- (٧)
ألا يمنع خصمه من الانتقال من دليل إلى دليل، فلا يقول: إن هذا يناقض كلامك الأول، فلا يقبل منك، فإن الرجوع إلى الحق يجب قبوله.
- (٨)
أن يناقش من يتوقع الاستفادة منه، ولا يقصد الضعيف ليتغلب عليه.
وقال: «إن من آفة المناظرة في عصره الحسد والتكبر، والترفع على الناس، والغيبة والتجسس، والنفاق، والإصرار على الرأي مهما ظهر بطلانه» إلخ.
وربما كانت كثرة المناظرات، وتظاهر العلماء بالغلبة، وحبُّهم للتقرب من العظماء من الأمور التي أوجبت على الغزالي تركه لمنصبه كمدرس في المدرسة النظامية، وتزهده في دمشق.
وكان من مظاهر هذا العصر التزام مذهب بأكمله كالشافعي والحنفي في كل المسائل، وتحريم انتقاله من مذهب إلى مذهب، كأنه انتقال من دين إلى دين، كذلك من مظاهر هذا العصر ظهور مذهب الشيعة في المغرب ومصر والشام، ومحاربته للمذاهب السنية كمالك والشافعي في قسوة وجبروت، وفرض المذهب الشيعي على الناس بالقوة، وقد عاقبوا بالقتل رجلًا رأوا عنده كتاب «الموطأ» لمالك، وهكذا فعلوا في المغرب، فيحكي لنا القاضي عياض في «المدارك» كيف أسرف الفاطميون في فرض المذهب الشيعي، وقَتل من أباه، فيقول في ترجمة أبي بكر بن هذيل، وأبي إسحاق بن البرذَون كيف سجنا وربطا في أذناب الدواب حتى ماتا لعدم إفتائهما بمذهب أهل البيت، وكذلك فهل أهل السنَّة فيما بعد لما تمكنوا من الشيعة، فقد قضوا على مذهبهم، وكل هذا سببه السياسة مغطَّاة بغطاء الدين.
ونكبة النكبات، والمصيبة العظمى ما كان من الخلاف بين الفقهاء والصوفية، فالإسلام في جوهره لم يكن يفرق بين الاثنين، بل يأمر بالأعمال الظاهرة، ويطلب إصلاح الباطن، ومراقبة الله في أدائها، يدل على ذلك قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ، فهو يطلب الصلاة، ويطلب خشوع النفس فيها، وكذلك كان يفعل الصحابة والتابعون، يؤدون الشعائر، ويحسنون النية، فلما كثر الفقهاء، وتغلغلوا في الفقه، رأيناهم يغالون في مراعاة الشعائر الظاهرة من وضوء وصلاة وزكاة، ومتى تصح، ومتى لا تصح، من غير تعرض كثير للنية، ومحاسبة الروح، ونحو ذلك من الأعمال الباطنية النفسية. ومن ناحية أخرى تغالى الصوفية في الأعمال النفسية الروحية، ولم يضغطوا ضغطًا كافيًا على الأعمال الظاهرة، فكان هناك فقهاء وصوفية، وعداء بين الفقه والتصوف؛ الصوفية يرمون الفقهاء بأنهم لا يعبأون إلا بالقشور من مظاهر الأمور، والفقهاء يرمون الصوفية بأنهم غلوا في أحوال الروح أكثر مما كان يعرفه الإسلام، وسموهم أهل الباطن.
هذه ناحية ومن ناحية أخرى، فقد كان هناك في مبدأ الإسلام بعض الناس يميلون إلى الزهد، إما لأنهم فشلوا في الحياة فتزهدوا، وإما لأنهم لم يجدوا ما يغتنون به فتزهدوا، وإما لأن لهم مزاجًا خاصًّا يكره الدنيا ونعيمها، والحياة وزخرفها، فتزهدوا، وإما لأن إحساسهم رقيق، ملأ الخوف من النار نفوسهم، وخافوا أن يحاسبوا يوم القيامة حسابًا عسيرًا على مالهم ونعيمهم، وسمعوا قوله تعالى: وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ فتزهدوا.
وقد حكى لنا التاريخ أمثلة كثيرة من المتزهدين في صدر الإسلام، فمنهم من كان يأبى على نفسه أي نعيم، ويتمسك بقوله تعالى: قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَ، فكانوا يزهدون في الأكل، والنوم، والاختلاط بالناس، وسائر اللذات البدنية، كما قال القشيري: «من كان له رداء واحد خير عند الله ممن له رداءان». وكانوا يتبتلون، ويكثرون من الصبر، ويتناظرون في أيهما خير عند الله: الغني أم الفقير؟ ومنهم من تزهدوا بأشكال أخرى حتى فيما أحلَّ الله، وقد فسر بعضهم قوله تعالى: ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ بشرب الماء البارد، فامتنعوا عنه خوف السؤال … فلما جاء المتصوفة فلسفوا الزهد، وجعلوه مقامات وأقسامًا، فكان من زهدهم لبس الصوف الخشن كما يفعل رهبان النصارى؛ فسُموا من أجل ذلك بالصوفية، وهذه النسبة هي الصحيحة، وهي التي تتفق مع اللغة، ثم إن التصوف لما كان مختلطًا مع الفقه في العصر الأول كان إسلاميًّا بحتًا، وكان الزهد طوعًا للأوامر الإسلامية، وظلَّ كذلك طول العهد الأموي، وفاتحة هذا النوع الحسن البصري، فلما دخل في الإسلام كثير من الأمم الأخرى أصحاب الديانات الأخرى كالنصارى، واليهود، والفرس، والهنود، وانتشرت الفلسفة اليونانية، والأفلاطونية الحديثة، استمدَّ التصوف من كل هذه المنابع، فلوّن عند بعض الناس بالزرادشتية الفارسية، وبالمذاهب الهندية، ولوَّن عند بعض الناس بالنصرانية، وعند بعضهم بالأفلاطونية الحديثة، ثم اختلطت هذه العناصر كلها بعضها ببعض، فكانت نزعات مختلفة، وطرق مختلفة على مدى العصور؛ فترى مثلًا أن أبا يزيد البسطامي — وكان فارسي الأصل — يدخل على التصوف فكرة الفناء في الله، وأفكارًا أخرى لم تكن معروفة عند المسلمين من قبل، ومعروفًا الكرخي المتوفى سنة ٢٠٠ﻫ كان من أصل مسيحي فارسي، وعاش في بغداد في حيِّ كرخ الذي يُنسب إليه، يقول مثلًا أقوالًا لم تكن مألوفة من قبل مثل: «إن محبة الله شيء لا يكتسب بالتعلم، وإنما هي هبة من الله وفضل»، وقوله: «يُعرف أولياء الله بأموال ثلاثة: أن يكون فكرهم في الله، وأن يقوموا بالله، وأن يكون شغلهم بالله»، ومما ينسب إليه أنه قال يومًا لتلميذه سَري السقطي: «إذا كانت لك حاجة على الله فأقسم عليه بي»، ورابعة العدوية التي يدل اسمها على أنها عربية ملأت التصوف بحب الله، وأبا سليمان الداراني المتوفى سنة ٢١٥ﻫ يقول: «لو تمثَّلت المعرفة رجلًا لهلك كل من نظر إليها لفرط جمالها، وحسنها، ولطفها، ولبَدَا كل نور ظلامًا إلى بهائها»، وهكذا كان كلُّ كبير من كبراء التصوف يُدخل عليه لونًا جديدًا، ويصبغه صبغة جديدة، حتى لتشعبت العناصر التي تكونت منها الصوفية الإسلامية، وغمضت حتى على كبار الباحثين.
وناحية أخرى، وهي أن الفقه وسائر العلوم تعتمد أكثر ما تعتمد على العقل، وقضايا المنطق، والبراهين العقلية، أما التصوف فيعتمد على الذوق والكشف، ولا يخضع للمنطق، ولا للعقل، شأنه شأن الحب كالذي قال:
ونرى في الطبيعة أصنافًا ثلاثة من الناس: قوم قويت عقولهم؛ وهم أميل إلى بحث النظريات العقلية، وهؤلاء إلى العلم أقرب، والتعلم في الجامعات أنسب، وقوم اعتمادهم على قلبهم، وإن شئت فقل على عاطفتهم أو ذوقهم، وهؤلاء للفنون الجميلة من أدب وشعر، وموسيقى، وتصوير أنسب، وقوم مزيتهم في أيديهم، وهؤلاء للصناعات أنسب، والأمة الحكيمة من تتخذ وسائل لمعرفة أبنائها، لأي شيء هم أكثر استعدادًا، فتوجههم إلى ما خلقوا له.
والصوفية من النوع الثاني يعتمدون على الذوق، وعلى الكشف والإلهام، ولا يصح أن تسألهم عن الحجة العقلية فيما يقولون، بل قد تغمرهم العاطفة فيشطحون، ويتكلمون بما لا يفهمون، حتى كأنهم شعور بلا جسم ولا عقل، وعاطفة بلا تفكير، وهياج بلا رزانة، فمن عندهم هذا الاستعداد يصلحون للتصوف، وينبغون فيه بمقدار استعدادهم، أما من كبر عقله، وسار في حياته على القضايا المنطقية، فقد يكون فيلسوفًا، وقد يكون طبيعيًّا، وقد يكون فقيهًا، وقد يكون كل شيء إلا أن يكون متصوفًا.
ومن أجل ذلك لم أفهم إلى الآن أن يكون ابن سينا فيلسوفًا ومتصوفًا، فالفلسفة تعاند التصوف، وهو يعاندها، وقد قرأت رسالة لابن خلدون — العاقل في التصوف — وهي رسالة مخطوطة فلم أستحسنها، إلا لأن كاتبها ابن خلدون، ورأيت أحسن ما فيها البحث في أن سالك سبيل التصوف هل لا بد له من شيخ يأخذ عنه التصوف أو لا؟ وهو بحث عقلي لا صوفي، ومن أجل ذلك يسمي الفقهاء إدراكاتهم معرفة، ويقولون: إن ما يعلمه الفقيه والفيلسوف بالعقل نراه نحن بالكشف.
وناحية أخرى، وهي أن هناك فكرتين: فكرة يصح أن نسميها بالأثنينية، وهي تعتقد في الله أنه مستقل عن الخلق، يشرف عليه من فوق، ويمد كل مخلوق بإمداداته، ويدبر نظام الكون من أصغره إلى أكبره، وهو فوق الأرض، وفوق السماء، وفوق كل شيء، وأن في الكون موجودين متميزين عن بعضهما كل التميز، مخلوق وخالق، ومدبَّر ومدبِّر، ومحكوم وحاكم.
أما الفكرة الثانية، فترى الواحدية — أو بعبارة أخرى — وحدة الوجود، وأن الله والخلق واحد، والحاكم والمحكوم شيء واحد، كما قال الحلاج:
وكقوله: «ما في الجبة إلا الله»، أي أن الله في كل شيء، وهو كل شيء، يظهر في المخلوقات حسب تدرجها في الرقي، فالله في الإنسان أرقى منه في الحيوان، وهو في الحيوان أرقى منه في النبات، وهكذا، وعند الأولين أن الإنسان يدرك الله بالعلم؛ وقضايا المنطق، وغاية الرقي في ذلك الفلسفة. أما عند أهل الفكرة الثانية، فإدراك الله بالمعرفة، والمعرفة تحصل بالتروض، فإذا تمَّ التروض صفت النفس، وانطبع فيها الله. ويروى أن أبا سعيد بن أبي الخير الصوفي المشهور اجتمع بابن سينا، فلما فرغا سئل أبو سعيد عن ابن سينا فقال: ما أراه يعلمه، وسئل ابن سينا عن أبي سعيد، فقال: ما أعلمه يراه. والحكاية وإن كانت موضوعة، فإنها تدل على معنى صحيح، والناظر في القرآن يرى فيه طرفًا من هذا، وطرفًا من ذاك، وفي كثير منه تفرقة بين الخالق والمخلوق، وفي بعضه توحيد لهما، مثل: وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللهَ رَمَىٰ، والذي عني بالفكرة الأولى الفقهاء، والذي اعتقد الثانية أغلب المتصوفة، وعلى رأسهم محيي الدين بن العربي، وسموا اجتهاد الأولين شريعة، واجتهاد الآخرين حقيقة، وسمي الفقهاء أهل شريعة، وسمي المتصوفة أهل حقيقة.
والمسلمون الأولون كانوا كالقرآن على وفاق وامتزاج بين الفكرة الأولى والثانية؛ ولكنهم فيما بعدُ غالى كل منهم في فكرة، فكان العداء بين الفقهاء والمتصوفة، غالى الفقهاء في أعمال الظاهر، وغالى المتصوفة في أعمال الباطن، فالفقهاء ينظرون إلى المتصوفة نظرة شذوذ وانحراف عن الدين الحق، وكذلك نظر المتصوفة إلى الفقهاء.
ونرى في التاريخ أن الأمراء كانوا ينصرون عادة الفقهاء على المتصوفة لسببين: الأول: أن التعاليم الصوفية تدعو إلى الزهد، وعدم الاهتمام بالدنيا، ولو عمَّت الفكرة الناس ما صلح ملك، ولا وجد من يعمل. والثاني: أن الصوفية الحقيقيين إنما يخضعون لله وحده، ويؤمنون تمام الإيمان بأن لا إله إلا الله، فلا خضوع لملك أو أمير، وهذا يغضب ذوي السلطان عادة، ففي كل موقعة ثارت بين الفقهاء والمتصوفين كان الأمراء بجانب الفقهاء، لا الصوفية، إلا من تسمَّوا الصوفية في هذا العصر، فإنهم كانوا كالفقهاء أُلعوبة في أيدي الأمراء.
وعلى العموم، فقد كانت الفكرتان متميزتين، وحاول الغزالي في أواخر القرن الخامس أن يجمع بينهما، وعلى هذا الأساس أَّلف كتاب «إحياء العلوم»، فدعا فيه إلى المحافظة على الشريعة الظاهرة، من صوم وصلاة وزكاة وحج، كما دعا إلى أنها لا قيمة لها ما لم تدعم بالنية الحسنة، وواجب تطهير الظاهر كما يجب تطهير الباطن، وكان له فضل كبير في إزالة العداء بين الفقهاء والصوفية. وطريقة أهل العقيدة الأولى أنهم يصلون إلى الله عن طريق الاتساع في العلم من فقه، وتفسير، وحديث، وأصول، وغير ذلك، وطريقة أهل العقيدة الثانية أنهم يصلون إلى الله عن طريق الرياضة من جوع، وأعمال شاقة، ونحو ذلك.
فإذا فعلوا هذا حدث لهم ما يسمونه الكشف، وهذا الكشف يرون به الحق، ويحدث لهم من اللذة ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ تفنى نفوسهم في الله، ويتحدون بالله، وفي أول أمرهم يكون هذا الكشف عبارة عن لحظات لذيذة على فترات، ثم إنهم بالمران يسهل عليهم هذا الفناء، ومع ذلك لا يستطيعون أن يفنوا فناءً تامًّا، ولا دائمًا، ما داموا على قيد الحياة، إنما يحدث ذلك لهم بالموت، وهنا نتساءل: أي الطائفتين كان أقرب إلى الدين الحق؟ وأيهما كان أنفع في الحياة الاجتماعية؟ وهو سؤال يعسر الجواب عنه، ففي الفقهاء من بلغوا الذروة في الصدق، والإخلاص، والتشريع الذي ينفع الناس كمالك، والشافعي، وأبي حنيفة، وأحمد بن حنبل، والطبري، وداود الظاهري، وغيرهم. ومن المتصوفة من كانوا كذلك مخلصين كالقشيري، وأبي يزيد البسطامي، ومحيي الدين بن العربي، وقد نفعوا الناس من ناحية أنهم قللوا تكالبهم على الدنيا، وضبطوا نفوسهم، وكبتوا شهواتهم، ولكن مع الأسف وجد بين هؤلاء وهؤلاء دجالون؛ فقهاء حرصوا على المظاهر، وقلوبهم هواء، إذا وضع الفقهاء المخلصون تشريعهم الجميل، وضع هؤلاء كتب الحيل للتخلص من الواجبات، كما وجد من تعمقوا في المظاهر حتى تفهوا. وبين الصوفية أيضًا من كانوا دجالين؛ همُّهم اللعب بالمظاهر، وانغماسهم في الذكر ومظاهره، والخرافات والأوهام. وفي الحق أن الدجل في التصوف كان أكثر من الدجل في الفقه؛ وذلك لأن طبيعة الحياة الصوفية تفتح المجال كثيرًا للتخريف، فدخلوا من هذا الباب إلى التعاويذ، والأحجبة، والخرافات، واللعب بالنار، والدوسة، وغير ذلك من أوهام، وكان في دجل هؤلاء وهؤلاء شر عظيم على المسلمين، وبُعد كبير عن الدين.
وقد آن الآوان لأن يتنبه المسلمون فيقضوا على الدجالين من الصنفين، ويؤيدوا المخلصين من الفريقين، إن المجتمع في حاجة إلى تشريع يواجه مشاكل الجيل الحاضر، وهذا عمل الفقهاء، وإلى ملطِّفين من الشرِّ، والطمع، والتكالب على الدنيا، وهذا عمل المتصوفين، وبدون ذلك لا تقوم للمسلمين قائمة، لا قدَّر الله.
- (١)
تغلغل الفقهاء في الشعائر الظاهرة، وتغلغل الصوفية في الأعمال الباطنة.
- (٢)
اختيار الصوفية كل حين ضربًا من القول يضايق الفقهاء؛ فأبو يزيد البسطامي اخترع الفناء في الله، مما لم يدركه الفقهاء وأنكروه، ورابعة العدوية اخترعت حب الله، والفقهاء لم يرضوا عنه، وقالوا: إن الحب إنما يكون من إنسان لإنسان لا من إنسان لله، إنما الإنسان يطيع ولا يحب. وذو النون المصري اخترع المقامات والأحوال، مما كان غريبًا على الفقهاء.
- (٣)
بعض الصوفية لم يلتزموا تمامًا الشعائر الدينية، بل قالوا: إن مَن بلغ درجة الولاية تحرر من المظاهر — قد كان الصوفية الأولون يلتزمون الشريعة، ويحضون على العمل بها، ولكن أتى بعضهم أخيرًا، وأراد التحرر منها، بل أشاعوا أن المعصية لا تمنع الولاية، حتى رأينا الحلَّاج يُتَّهم بأنه دعا إلى عدم الحج، والاكتفاء بالحج إلى غرفة في بيته، ورأينا أبا حيان التوحيدي يؤلِّف رسالة يسميها «الحج العقلي»، وإن لم نرها، مع تعبنا في الحصول عليها.
وكثر من ذلك أن بعض الصوفية كانت لهم آراء غريبة، مثل: العطف على إبليس، والاعتذار عنه بأنه أبى السجود لآدم؛ لأنه كان يعلم أن السجود لغير الله لا يجوز، وأن فرعون معذور؛ لأن الله لو أراد إيمانه لآمَن، فهو إذًا منفِّذ لما أراد الله.
- (٤)
ادعاء الصوفية أن مَن اتَّصل بالله، وبلغ الغاية في الفناء، خضع له الكون وقوانينه، وجرى على يديه خرق العادة بما يسمَّى «الكرامات»، مقابل ما كان للأنبياء من معجزات، والفقهاء ينكرون عليهم ذلك، ويعتقدون أن قوانين الله لا تتخلف إلا لنبيّ.
والذي نلاحظه أن بعض كبار الصوفية كان يأتي من الأعمال بما يعد عجائب، خصوصًا في تلك الأزمان، فكان بعضهم — لرياضتهم، وحدة عواطفهم — يأتي بما نسميه نحن الآن «التنويم المغناطيسي»، وتحضير الأرواح، والتيليباتي، وغير ذلك مما سيكشف عنه العلم الحديث، ويأتي بما يأتي به بعض الناس، من إحضار الذهب من الخزائن، وفاكهة الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف، إلى غير ذلك من الأشياء الخارقة للعادة.
وكانت في تلك الأيام أعجب الأعاجيب، خصوصًا وأن كثيرًا منهم كانوا يشتغلون بعلم الكيمياء، فيدلهم هذا العلم على أشياء تعتبر في نظر الناس إذ ذاك كرامات، مثل: دهن الجسم بمادة تمنع تأثير النار، وابتلاع النار بعد ذلك، فلا يمسهم أذى؛ ومثل مخلوطات كيماوية كانوا يخلطونها فتأتي بالعجائب، كالذي يحكى عن جابر بن حيان الملقَّب «بجابر الصوفي»، وكالذي يحكى عن ذي النون المصري، وعن الحلَّاج، بل ما يُدرينا لعلَّ بعض الكيماويين القدماء، ومنهم هؤلاء استطاعوا أن يحوِّلوا المعادن إلى ذهب، فكانوا ينفقون على أتباعهم من غير حساب، وربما كان العلم الحديث يؤيد هذه النظرية، بعد أن ثبت أن الفرق بين ذرَّات الحديد، وذرَّات الرصاص، وذرَّات الذهب ليس إلا خلافًا في الشحنة الكهربائية التي في كل منها؛ أمَّا جوهر الشحنة فواحد، فإذا استطعنا أن نزيد ذرَّات الرصاص بما يسوي بينها وبين ذرَّات الذهب صار ذهبًا.
والفقهاء ينكرون على الصوفية كل ذلك، ويعتقدون أن الصوفية يسيرون وراء الأوهام، ويأتون بالمخاريق، والصوفية يعتقدون في الفقهاء أنهم أهل ظاهر فقط، ويسمونهم أهل الدنيا، فاتحد الخلاف بينهم، بل من أسباب الخلاف أيضًا أن الصوفية كانوا بحكم صوفيتهم متسامحين، واسعي الصدر، يرون أن النصارى واليهود، وأهل كل دين، سواء أكانوا كتابيين أو وثنيين، إنما يعبدون الله مهما اتجهوا، والمتدين منهم محب الله، وكل الأديان ليست إلا طُرقًا توصل إلى غاية واحدة، والخلاف بينها خلاف في الأسماء، وقد عبَّر عن ذلك أجمل تعبير ابن العربي في قوله:
ويعبِّر عنه جلال الدين الرومي في شعر صوفي فارسي ترجمته بالعربية:
نَفسِي: أيها النور المشرق.
وللصوفية شعر جميل مملوء بالحب والغناء، وحدة العاطفة، وقوة الوجدان، ومن الأسف أنه لم يستغله الأدباء في مختاراتهم، وقد استعملوا فيه التعبيرات الدنيوية على سبيل الرمز من خمر، ونساء، وبكاء أطلال، وحب وهيام، وقطيعة ووصال إلخ. يعنون بذلك أحوالهم مع ربهم، كالذي نراه في ديوان ابن العربي «ترجمان الأشواق»، وديوان ابن الفارض.
على كل حال، اتسعت مسافة الخلاف بين الفقهاء والصوفية في كل مصر، وشنع هؤلاء على هؤلاء، وهؤلاء على هؤلاء، وربما ظهرت حدة الخلاف في ثلاثة مواقف: في ذي النون المصري، وغلام الخليل، والحلاج. وسنلخص لك حالة كل موقف من هذه المواقف، فأما ذو النون فمصري من أخميم، عُرف بالزهد والورع، والعزلة عن الناس في البرابي، وكان في أخميم برابي من بناء قدماء المصريين، عليها نقوش، وكتابات هيروغليفية، فكان يتجول في هذه البرابي، ويمعن في هذه الكتابة، ويزعم أنه يقرؤها، وأنه يستطيع أن يترجمها، وقد روي عنه ترجمات فعلًا لبعض هذه الكتابات، ولكن لم يترجمها بناء على استكشاف حجر رشيد، ولا معرفة بالحروف الهيروغليفية، وإنما هي ترجمة ظن أو إلهام؛ ولذلك خرجت الترجمة لا تنطبق على الأصل في قليل أو كثير، ونطق بكلمات غريبة على أهل أخميم، لعلها مستمدة هي أو بضعها من آراء بلديِّه الصعيدي الأسيوطي أفلوطين، فمن قارنوا بعض تعاليمه بأقوال أفلوطين وجدوا بينهما شبهًا؛ فاتَّهمه أهل أخميم بالزندقة، وسافر قوم إلى الفسطاط يشكونه إلى الوالي، وكان سيد فقهاء المالكية إذ ذاك محمد بن عبد الحكم، فاستحضره، وسأله عما يقول؛ فتبينت له زندقته. ورووا عنه أنه استطاع بكيميائه أن يحوِّل الحصى إلى أحجار كريمة، وأن يأتي بكثير من المخاريق، وكان يزعم أن ملوك مصر خافوا ذهاب العلم بالطوفان، فبنوا البرابي، وصوروا فيها كل الصناعات وصانعيها، وصوَّروا جميع آلات الصناعات، وأنهم أودعوا فيها كل أسرارهم، وأنه استطاع أن يعرف تلك الأسرار، ومما تعلمه ما كان عند المصريين من سحر.
على كل حال، إن ابن عبد الحكم اعتبر ذا النون زنديقًا، فلما رأى ذو النون أنه قد أسيء إلى سمعته رحل إلى بلاد عديدة، ثم عاد وقد مات ابن الحكم، وحل محله غيره، وعاد الناس يتهمونه بالزندقة، وساعدهم على ذلك أن أصله قبطي نصراني، فعاد القاضي الجديد الذي حل محل ابن الحكم، وهو ابن أبي الليث يتهمه بالزندقة من جديد، ويرسله إلى الخليفة في بغداد، مكبَّلًا بالحديد، ولكن كان هناك طائفة من المتصوفة في مصر تجمعها رابطة التصوف، وطائفة من المتصوفة في بغداد بينهم بعض موظفي بلاط الخليفة البغدادي المتوكل على الله، فاستدعاه وسمع قوله، فأعجب به، وأعاده على مصر معزَّزًا مكرمًا، فلم يلبث بعد ذلك أن مات. وكل هذه المتاعب كانت بسبب أعمال الفقهاء، ولو قلنا: إنه رأس كبير من رءوس المتصوفة، وأن الصوفية في بعض نواحيها مدينة كلها في مصر لتعاليم ذي النون المصري لم نبعد، فهو — كما قلنا — مبتدع المقامات والأحوال، وله أقوال كثيرة في المعرفة، وكان له تعبيرات أُخذت في التعبيرات الصوفية، ككأس المحبة، وهو أول من عرَّف التوحيد بالمعنى الصوفي، وملأ التصوف حكمًا من نوع خاص ذكرها القشيري في رسالته، وفريد الدين العطَّار في «تذكرة الأولياء». ومن أقواله: «إن المعرفة ثلاثة أقسام: الأول: حظ مشترك بين عامة المسلمين، والثاني: معرفة خاصة بالفلاسفة والعلماء، والثالث: وهو العلم بصفات التوحيد خاص بالأولياء الذين يرون الله في قلوبهم». ولما سُئل: كيف عرفت ربك؟ قال: «عرفتُ ربي بربي، ولولا ربي ما عرفتُ ربي».
وعلى الجملة فذو النون المصري شخصية كبيرة، لم تزل غامضة حتى اليوم.
وأمَّا غلام الخليل، فكان محنة أخرى، ومظهرًا آخر من مظاهر الخلاف بين الفقهاء والصوفية.
وكانت محنة عامة للصوفية، قُتل فيها عدد كبير منهم، اتهم فيها الصوفية بالزندقة، وثارت العامة عليهم. والكلام على غلام الخليل، وشخصيته غامض، لم نجد فيه ما يشبع، وقد نشأ غلام الخليل هذا ببغداد، وتعلَّم الحديث، وكان من المتشددين فيه، يرى الوقوف في التشريع عند النقل، ولا يبيح القياس، يعظ في المساجد، ويُعرف بالورع والزهد، ولم يرو عنه من الأقوال القيمة مثل ما روي عن ذي النون وأمثاله، وكل ما عرف عنه أنه كان فصيح اللسان في الوعظ، وقد يرميه بعضهم بالرياء.
وقد حرَّك العامة على الصوفية، فكان من أمره وأمرهم ما ذكرنا، وقُتل منهم نحو نيف وسبعين صوفيًّا، وسيق كثير منهم إلى السجون كالجنيد، وسَحنون، ويظنَّ أن غلام الخليل نفسه هو الذي حرَّك العامة والسلطة عليهم، ويتهمه الصوفية بأنه حسدهم، وخاف على منزلته منهم، بل يتهمونه بأنه حرَّض امرأة على سحنون، وادَّعت أنه راودها عن نفسها، وساعد غلام الخليل في ذلك ما كان له من اتصالات شخصية برجال البلاط، وأنه كان مهرِّجًا.
وأمَّا الحلَّاج، فله قصة طويلة، ومحنة كبيرة نلخصها فيما يلي:
كان الحلَّاج فارسي الأصل، من بلدة في فارس تسمَّى البيضاء، نُسب إليها البيضاوي المشهور صاحب التفسير، واسمه الحسين بن منصور الحلَّاج، وقد ولد سنة ٢٤٤ﻫ، ونشأ بواسط في العراق، ويظهر أنه كان حاد المزاج، غريب الأطوار، يشبه الناس الذين عندهم «هستيريا».
بدأ في التصوف وعمره ستة عشر عامًا، وتتلمذ على سهل التستُرِي. ثم رحل إلى بغداد، وأقام بها ثمانية عشر شهرًا، ثم تتلمذ على الجنيد الصوفي المشهور، ثم حجَّ، وأقام بمكة نحو سنة.
وهناك اتهمه عمرو المكي بأنه يعارض القرآن، فلعنه، وودَّ قتله؛ ففرَّ من مكة، وتجرَّد من لباس الصوفية، ولبس المرقعة والقباء، ورحل إلى خراسان، وما وراء النهر، وظلَّ في رحلته هذه نحو خمس سنين، ثم حج مرة ثانية، وعاد إلى بغداد، وبنى له فيها دارًا، ثم رحل إلى الهند، وقال: إنه يقصد من رحلته هذه دعوة أهل الشرك إلى التوحيد، وتعلم السحر الهندي، ثم حج للمرة الثالثة، وأقام سنتين، ثم عاد إلى بغداد، ثم زار فارس، وزار بها «قُم» مركز الإمامية، وادَّعى أنه وكيل الإمام.
وفي سنة ٢٩٧ﻫ أفتى ابن أبي داود الظاهري بكفره؛ لكلامه في الحب، ففرَّ إلى الأهواز، واختفى بها، واتهم فيها بدعوى الألوهية، ثم تنقل بين السجون المختلفة سبع سنوات، ومع ذلك استمر في الدعوة حتى آمن به بعض شخصيات البلاد، وأخيرًا استجوب، وحكم عليه بالإعدام، والتمثيل به، وإحراقه، وإلقاء ما بقي من جسده من رماد في نهر الفرات.
هذا ملخص حياته، ومنها نعلم أنه كان حيث حلَّ يتهم بالزندقة، وكان شيعيًّا إماميًّا، ورجل رحلات كثيرة لبثّ الدعوة، وتبعه كثيرون يؤمنون به وبمذهبه، حتى وصلت دعوته إلى بلاط الخليفة، ولنصور للقارئ طريقة محاكمته، كما وصلت إلينا.
لقد قُبض عليه أخيرًا وحُبس، ولكن لم يكن مضيقًا عليه في الحبس، فيسمح له بأن يزار، وأن يرسل الخطابات إلى من يشاء.
وكانت محاكمته أيام الوزير حامد بن العباس، وهو الذي أوعز بمحاكمته، وكانت الدولة في أيامه مقسمة الإدارة والصبغة بين سلطات ثلاث: فالدواوين، والكتابة في يد الفرس، والخلافة، والقضاء في يد العرب، والجند، وما إليها في يد الترك، وهذه السلطات الثلاث تتعارض وتتآمر، وكل فرقة تدس لغيرها الدسائس.
على كل حال، عهد حامد بن العباس الوزير إلى أبي عمر القاضي، وأبي جعفر بن البهلول، وغيرهما من وجوه الفقهاء بمحاكمته؛ فانعقدت الجلسة برياسة أبي عمر القاضي، ونودي على المتهم؛ وسئل الحلًَاج عما اتهم به من أنه إله، وأنه يحيي الموتى، وأن الجن يخدمونه، وأنه يعمل ما أحب عن طريق المعجزات، فأنكر التهم، وقال: أعوذ بالله أن أدعي الربوبية أو النبوة؛ وإنما أنا رجل أعبد الله، وأكثر الصلاة والصوم، وفعل الخير، ولا غير، فاستحضرت الشهود.
الشاهد الأول: هل تعرف الحلَّاج؟ نعم، وأعرف أصحابه، وأنهم متفرقون في البلاد يدعون إليه، وإني شخصيًّا كنت ممن استجاب له، ثم تبين لي مخرقته ففارقته، وخرجت عن جماعته، وتقرَّبت إلى الله بكشف أمره، وانتهت هذه الشهادة.
الشاهد الثاني امرأة يقال لها: بنت السَُّمري، نودي عليها فظهرت امرأة حسنة العبارة، عذبة الألفاظ، جميلة الصورة، سئلت: هل تعرفين الحلاج؟
قالت: نعم!
– ماذا تعرفين عنه؟
– قابلتُه فقال لي: قد زوجتُك من سليمان ابني وهو أعز أولادي، وهو بنيسابور، وليس يخلو أن يقع بين المرأة والرجل كلام، فقد وصيتُه بكِ، فإن حدث منه شيء تنكرينه، فصومي يومك، واصعدي آخر النهار إلى السطح، وقومي على الرماد والملح الجريش، واجعلي فطركِ عليهما، واستقبليني بوجهك، واذكري ما تنكرينه منه، فإني أسمع وأرى.
قالت: نعم، أصبحت يومًا وأنا أنزل من السطح إلى الدار، ومعي ابنته، فلما نزلنا إلى تحت حيث يرانا ونراه، قالت لي ابنته: اسجدي له، فقلت لها: أو يسجد أحد لغير الله؟ فسمع كلامي لها فقال: نعم، إله في السماء، وإله في الأرض، ودعاني إليه، وأدخل يده في كمه، وأخرجها مملوءة مسكًا، فدفعه إليَّ، وفعل ذلك مرات؛ ثم قال: اجعلي هذا في طيبك، فإن المرأة إذا حصلت عند الرجل، احتاجت إلى الطيب، ثم أمرني أن أخلع بلاطة في زاوية الدار، فوجدت تحتها دنانير كثيرة ملء البيت، فأخذت منه شيئًا.
تُليت هذه الورقة على الحلَّاج، فقال له رئيس الجلسة: من أين لك هذا؟ قال: من كتاب «الإخلاص» للحسن البصري. قال له القاضي: كذبت يا حلال الدم، قد سمعنا كتاب «الإخلاص»، وليس فيه شيء مما ذكرت، فلما سمع الوزير من القاضي: يا حلال الدم، قال: اكتبها. فتلكَّأ، فألحَّ عليه، فكتب بإحلال دمه، ومُرِّرت الورقة على سائر القضاة، فأخذوا يوقعونها، فلما رأى الحلَّاج ذلك قال: «ظهري حِمى ودمي حرام، وما يحل لكم أن تتهموني بما يخالف عقيدتي، ومذهبي السنة، ولي كتب في الورَّاقين تدل على سنتي، فالله الله في دمي». ولم يزل يردد هذا القول والقضاة يوقعون، حتى كمل الكتاب، فأرسله الوزير حامد إلى الخليفة المقتدر مع رسول، وأمره بالسرعة، وعاد الجواب، وعليه توقيع من الخليفة: «إذا كانت فتوى القضاة فيه بما عرضت، فأحضره مجلس الشرطة، واضربه ألف سوط، فإن لم يمت فاقطع يديه ورجليه، ثم اضرب رقبته، وانصب رأسه، وحرِّق جثته».
فلما أصبح الصباح، نفذ في الحلاج كل ذلك، وحضر كثير من العامة ينظرون هذا المنظر، والحق أن الحلاج قابل هذا التعذيب كله بكل شجاعة، فلم يتأوه، ودعا بالسجادة فصلى، ورُئي باشًّا مبتسمًا؛ لأنه سيقابل ربه.
وادعى بعض أصحابه أن الحلاج لم يقتل، وإنما شبِّه لهم، وادعى آخرون — وقد زاد الفرات هذا العام — أنه إنما زاد لإلقاء رماد الحلاج فيه.
وقد قال الحلواني: حضرت يوم قُتل، وقد أخرج من السجن مقيدًا مسلسلًا، وهو يضحك وينشد:
ومن أقوال الحلاج: «اللهم إنك المتجلِّي عن كل جهة، المتخلِّي من كل جهة، بحق قيامك بحقي، وبحق قيامي بحقك، وقيامي بحقك يخالف قيامك بحقي، فإن قيامي بحقك ناسوتية، وقيامك بحقي لاهوتية، وكما أن ناسوتيتي مستهلكة في لاهوتيتك، فلاهوتيتك مسئولية على ناسوتيتي، غير مماسة لها؛ وبحق قِدَمك على حَدَثي، وحق حَدَثي تحت قِدمَك أن ترزقني شكر هذه النعمة، التي أنعمت بها علىَّ، حيث غيَّبت أغيابي، كما كشفتَ لي من مطالع وجهك، وحرَّمت على غيري ما أبحت لي من النظر في مكنونات سرك، وهؤلاء عبادك قد اجتمعوا لقتلي تعصبًا لدينك، وتقربًا إليك، فاغفر لهم، فإنك لو كشفت لهم ما كشفت لي لما فعلوا ما فعلوا، ولو سترت عني ما سترتَ عنهم، لما ابتليتُ بما ابتليتُ، فلك الحمد فيما تفعل، ولك الحمد فيما تريد». ومن قوله: «اللَّهم أنت الواحد الذي لا يتم به عدد ناقص، والأحد الذي لا تدركه فطنة غائب، أنت في السماء إله، وفي الأرض إله، أسألك بنور وجهك الذي أضاءت به قلوب العارفين، وأظلمت منه أرواح المتمردين، وأسألك بقدسك الذي تخصصت به عن غيرك، وتفردت به عمَّن سواك، ألا تسرِّحَني في ميادين الحيرة، وتنجيني من غمرات التفكر، وتوحشني عن العالم، وتؤنسني بمناجاتك، يا أرحم الراحمين، يا من استهلك المحبون فيه، واغتر الظالمون بأياديه، لا تبلغ كنه ذاتك أوهام العباد، ولا يصل إلى غاية معرفتك أهل البلاد، ولا فرق بيني وبينك إلا الإلهية والربوبية».
ووجد مرة في سوق القطيعة ببغداد باكيًا يقول: «أغيثوني من الله، فإنه اختطفني مني، وليس يردني عليه، ولا أطيق مراعاة تلك الحضرة، وأخاف الهجران، والويل لمن يغيب بعد الحضور، ويهجر بعد الوصول».
وهو وإن قتل، فلم تقتل آراؤه وأفكاره، بل زادت انتشارًا، وزاد هو تعظيمًا.
واختلف الناس فيه اختلافًا كبيرًا بين مصدق ومكذب. وكان مقتله سنه ٣٠٩ﻫ.
وترك لنا كتابًا غريب الاسم، غريب الموضوع، اسمه «الطواسين»، اقتبسنا منه بعض الشيء فيما مضى، والظاهر من كل هذا أن الرجل والمرأة اللذين شهدا عليه كان موعزا إليهما بالشهادة، وأن القضاة تلكئوا في الحكم عليه، فاستعجلهم الوزير حامد، ويظهر أن أكبر تهمة وجهت إليه، وسبَّبت قتله هي تهمة «القرمطية»، فقد ثبت من أنه كان وكيلًا للإمام، وغير ذلك أنه قرمطي.
والقرمطية قوم كانوا من شيعة أهل البيت، يريدون أن ينحوا الخلفاء العباسيين ومن إليهم، ويوسعوا دائرة خلافة أهل البيت، فانتشرت دعوتهم في العراق، وخراسان، وجزيرة العرب، وغير ذلك. وكم سفكوا الدماء، وخربوا البلاد من أجل ذلك، وأنشئوا لهم عاصمة في هَجَر، وحملوا إليها الحجر الأسود، فظلَّ فيها نحو ثلاثين عامًا، وكان مذهبهم الاقتصادي اشتراكية متطرفة، بل شيوعية، يوزِّعون ما حصلوا عليه من الأموال بينهم بالسوية؛ ومذهبهم السياسي الدعوة إلى المهدي والإمام المنتظر، ولا يؤمنون بخلفاء بني العباس، ودولتهم، ويستحلون دم المخالفين. فنعتقد أن هذا هو سر قتله لا غير ذلك؛ فدعوة كهذه تقض مضجع خلفاء بني العباس ووزرائهم، فلا يبعد أن يكون الخليفة العباسي، ووزيره حامد قد رتبا هذه المؤامؤة ضده، وزورا الشهود، واستحثا القضاة على قتله، وإلا فما بالهم قد تركوا الصوفية الآخرين، كالجنيد، وأبي يزيد البسطامي، وذي النون المصري من غير قتل، فهي مسألة سياسية بحتة، اتخذت شكلًا دينيًّا لعلمهم أن الدين أفعل في الشعوب من السياسة، فكم من صوفية ادعوا وحدة الوجود فلم يلتفت إليهم، وتركوا وشأنهم، ومما لفت عامة المسلمين إليه ما تواتر عن الحلاج من إتيانه بالأعاجيب، فيظهر أنه كان له قدرة كبعض الأشخاص اليوم على استحضار ما يريد من الأشياء من أماكنها، كالذهب، والمسك، والفاكهة، وأنه كان له قدرة على التنويم المغناطيسي، وقدرة أخرى كيماوية بهر الناس بها لجهلهم بالكيمياء.
وعلى العموم، فهو شخصية قوية، كشخصية ذي النون، أو أشدَّ منها، كان له أثر كبير في المسلمين.
- الأول: أن العامة انقسموا إلى قسمين: قسم يشايع الصوفية، وقسم يشغب عليهم، فلما لم يكن إجماع من العامة سلمت الصوفية.
- والسبب الثاني: أن المعتزلة أصحاب دعوة شعوبية، والعامة أبعد ما يكونون عن العقل، فناصروا أضداده، ولكن لهم مشاعر فيَّاضة، فعطف بعضهم على الصوفية فسلموا.
وأخيرًا، جاء الغزالي فأراد أن يوفِّق بين الفقهاء والصوفية، ويفهم الناس أن كلًّا منهم ضروري في الدولة، وكان هو نفسه فقيهًا وصوفيًّا، وألَّف في ذلك كتابه «الإحياء» كما ذكرنا، فاستطاع أن يؤلف بين القلوب، ويعطف الناس على التصوف، وهو نفسه صرَّح في بعض كتبه بأن الحلَّاج مؤمن صوفي، ولكن غلب عليه حال المتصوِّفة فشطح، وتكلم بكلام لم يفهمه الفقهاء المتزمتون، والله بالأسرار عليم.
وظل الصوفية يشغلون الناس بأعمالهم، وزهدهم، وذكرهم، ورقصهم، واصطلاحاتهم، من فناء في الله، وحب له، وادِّعاء للولاية، والتوسع فيها كل عصورهم، وكان منهم المخلصون والدجَّالون، واستفادت الأمَّة منهم، وبليت بهم.
وقد اعتزوا بشعورهم، كما اعتز الفقهاء بعلمهم، وهم لم يأنفوا من هذا الجهل، بل كان بعضهم ينصح أتباعه ومريديه بألا يقرئوا في صحيفة، وقال بعضهم:
ويقصدون بعلم الورق الذي في الكتب، وبعلم الخرق الشعور الذي يرمز إليه بلبس الصوف.
نعم، إن قليلًا منهم كانوا علماء متبحِّرين في العلم، ولكنهم قليلون إذا قيسوا بغيرهم من الصوفية، واعتقدوا أن تصوفهم خير من فقه الفقهاء، فما هذا الفقه الذي يفرض الفروض غير الواقعية، ويستعمل الحيل للخروج من الأحكام؟ أليس النبيُّ ﷺ كان أميًّا؟ لم يتعلم من صحيفة ولا كتاب، وإنما تعلم بانفتاح قلبه، ونور بصيرته.
وكذلك كان كثير من الصحابة والتابعين، حتى كان كثير من الصوفية يكره تأليف الكتب في التصوف؛ لأن الكتابة أداة العقل، لا أداة الشعور، ومع ذلك ألَّف بعض المتصوفة كتبًا قيمة، بقي لنا منها كتاب «قوت القلوب» لأبي طالب المكي سنة ٣٨٦ﻫ، نوَّه فيه بمذهب التصوف وفضله، ووصل إلينا أيضًا من الكتب التي ألِّفت في القرن الرابع كتاب السُّلَمي المسمى كتاب «السنن»، الذي ذهب فيه كما ذهب أبو طالب المكي إلى تأييد التصوف وفضله.
والحق أنه حول تأليف التصوف توجد عقدة لا تحل، فمن بلغ مبلغًا كبيرًا في التصوف صعب عليه أن يتقيد بكتابة أو كتاب، ومن تعلَّم واحترف الكتب لم تَقْوَ مشاعره، ونحن محتاجون إلى ذي مشاعر قوية، يصف لنا مشاعره في كتابه؛ ولذلك نرى أن كثيرًا من الباحثين في التصوف، والمؤلفين فيه ينقصهم التصوف العملي، والمتصوفين البارعين في التصوف تنقصهم الكتابة فيه، والله أعلم.
وبعد: فأركان التصوف كما رأينا ثلاثة: وحدة الوجود، والفناء في الله، وحب الله؛ فأما وحدة الوجود، فحامل لوائها الحلاج، ثم محيي الدين بن العربي، ثم السهروردي، وابن الفارض، وأما الفناء في الله، فحامل لوائه أبو يزيد البسطامي، وأما حب الله، فحامل لوائه رابعة العدوية.
فأما وحدة الوجود فتتضح من قول الحلاج في «الطَّوَاسين»:
«تجلَّى الحقُّ لنفسه في الأزل، قبل أن يخلق الخلق، وقبل أن يعلم الخلق، وجرى له في حضرة أحديته مع نفسه حديث لا كلام فيه، ولا حروف، وشاهد سبوحات ذاته في ذاته، وفي الأزل حيث كان الحق، ولا شيء معه، نظر إلى ذاته فأحبها، وأثنى على نفسه، فكان هذا تجليًا لذاته في ذاته، في صورة المحبة المنزهة عن كل وصف، وكل حد، وكانت هذه المحبة علة الوجود، والسبب في الكثرة الوجودية، ثم شاء الحق سبحانه أن يرى ذلك الحب الذاتي ماثلًا في صورة خارجية، يشاهدها ويخاطبها، فنظر في الأزل، وأخرج من العدم صورة من نفسه لها كل صفاته وأسمائه، وهي آدم الذي جعله الله على صورته أبد الدهر، ولما خلق الله آدم على هذا النحو، عظَّمه ومجَّده، واختاره لنفسه وكان من حيث ظهور الحق في صورته فيه وبه، هو هو:
وأما الفناء، فيقصدون به الحال التي تتجرد فيها النفس عن رغباتها وميولها وبواعثها، بحيث تتعطل إرادتها وتموت، فإذا ماتت الإرادة الإنسانية، أصبحت النفس طوع الإرادة الإلهية، تحركها كيف تشاء، وهذا هو حب الله لها، ولكن الحب والمحبوب شيء واحد، هو جوهر النفس وباطنها، وهكذا نجد العابد والمعبود، والعاشق والمعشوق، متَّحدين في شخصية واحدة، يقول ابن الفارض:
قال السَّرَّاج: معنى الفناء فناء صفة النفس، وأيضًا الفناء هو فناء رؤيا العبد في أفعاله لأفعاله بقيام الله له في ذلك، ويقول في موضع آخر: «هو ذهاب القلب عن حِس المحسوسات، وهو يحصل تدريجًا على مراحل خمس؛ الأولى: ذهاب حظِّه من الدنيا والآخرة بورود ذكر الله. الثانية: ذهاب حظِّه عن ذكر الله تعالى عند حظِّه بذكر الله تعالى له. الثالثة: فناء رؤية الله تعالى له حتى يبقى حظه بالله. الرابعة: ذهاب حظه من الله تعالى برؤية حظِّه، أي حظِّ الله. الخامسة: ذهاب حظِّه برؤية حظِّه لفناء الفناء، وبقاء البقاء … إلخ إلخ».
وأما الحب، فقد روي عن رابعة العدوية أنها كانت تتوسَّل إلى الله ألا يحرمها مشاهدة وجهه الكريم، وجماله الأزلي، ويقول معروف الكرخي: «إن الحب منحة إلهية لا تكتسب بالتعلم»، وكان ذو النون المصري يرى أن المحبة الإلهية سر من أسرار الله، يجب ألا يذاع بين العامة، واستعملوا في الحب والفناء عبارة الشكر والوصال والهجر، ونحو ذلك.
- (١)
لا يوجد إلا إله واحد، وهو أبدىٌّ أزليٌّ لا إله غيره؛ ومهما تعددت الأسماء باختلاف اللغات فهو هو، يراه الصوفيون في الشمس، والنار، وفي الأصنام، وفي كل ما يعبد، بل يرونه في أشكال العالم، ومع ذلك فهم يرونه وراء هذه الأشكال «الله في كل شيء، وكل شيء في الله»، ليس الله في عقيدة تعبد، بل هو المثل الأعلى لأكمل ما يتصوَّره العقل، والصوفي ينسى نفسه، ويريد أن يتصل بهذا المثل.
- (٢)
لا يوجد إلا حاكم واحد للعالم وهو الله، وهو الهادي لكل نفس، وهو الذي يخرج أصحابه من الظلمات إلى النور، وهو منبع لكل المعارف.
- (٣)
ليس هناك إلا كتاب واحد وهو الكتاب المقدس، وهو الطبيعة المفتوحة، وهو الكتاب الذي ينير قارئه، وهو الكتاب المستغني عن اللغة، وعقلاء كل أمة في كل العصور يوقرون هذا الكتاب ويجلونه، ويعدُّون أنفسهم للاستفادة منهم.
وكل الكتب المقدسة من إنجيل، وتوراة، وقرآن تدل عليه، وتوجّه إلى الاهتمام به.
والصوفي يرى في كل ورقة من شجرة صحيفة من ذلك الكتاب، ويراها تشتمل على نوع من الوحي إذا قرأها الإنسان، وفهمها تفتح قلبه.
- (٤)
الأديان كلها طرق إلى الله، بعضها أرقى من بعض حسب رقي الزمان، وكلها تقود الإنسان إلى المثل الأعلى وهو الله، والأديان وإن اختلفت في الشعائر، فالغرض منها جميعها الوصول إلى الله، والصوفي كما قال ابن عربي: يرى الله في الكعبة، وفي المسجد، وفي الدير، وفي الوثن.
- (٥)
لا يوجد إلا قانون واحد يراه الإنسان إذا أنكر ذاته، وتطلب الحق.
- (٦)
لا توجد إلا أخوة واحدة تضم الإنسانية كلها، فليس على الأرض إلا حياة واحدة مشتركة، إن اختلفت فإنما تختلف في النظر، والإنسان متّحد بغيره، في علاقات الأسرة ثم في الأمة، ثم في الإنسانية كلها، والإنسان الكامل من تخطى حدود الوطنية، وارتقى إلى الإنسانية، بل ربط نفسه بالإنسانية في الماضي، والإنسانية في الحاضر، والإنسانية في المستقبل. والصوفي يحتقر من ينظر إلى أمّة غير أمته بنوع من الاحتقار؛ لأنه شريك له في الإنسانية.
- (٧)
لا يوجد إلا قانون أخلاقي واحد، هو قانون الحب العام الذي ينبع من إنكار الذات، ويُزهر بالإحسان، قد تكون هناك مبادئ أخلاقية كثيرة، ولكن أساسها واحد، هو الحب، وهذا الحب مبعث الأمل، والصبر، والاحتمال، والتسامح، وكل الفضائل، والكرمُ، والسماحة، والإحسان، كلها صادرة من الحب، وكل الرذائل والجرائم تنشأ عن نقص في الحب. يقولون: إن الحب أعمى، وهذا خطأ فالحب ضوء النظر؛ العين ترى ما على السطح، ولكن الحب يرى العمق.
إن النار التي لم تشتغل تمامًا لا ينشأ عنها إلا الدخان، ولكنها إذا اشتعلت كان منها النار والضوء، فكذلك القلب إذا أحب، أو لم يحب.
- (٨)
لا يوجد إلا شيء واحد يستحق الثناء، وهو الجمال الذي يرفع القلب من الحضيض إلى أن يبلغ أعلى السماء، والإنسان من تحلّى بنفس جميلة تحب الجميل، وهو يبتدئ بحب المادة، وينتهي بحب المعنى، يبتدئ بحب المنظور، وينتهي بحب غير المنظور.
- (٩)
ليس هناك إلا حقيقة واحدة هي: معرفتك نفسك، كما قال الإمام عليّ: «اعرف نفسك تعرف ربّك».
- (١٠)
إذا كانت هناك طلاق عديدة توصل إلى الله، فهناك طريق مستقيم واحد، وهو الطريق الذي تمحي فيه الأنانية والأثرة، وتسكن فيه الفضيلة والكمال، وهو الطريق الذي تمحي منه الرغبات الجسمية، والأوهام العقلية.
هذه هي المبادئ العشرة الصوفية كما شرحها أحد المتصوفة المحدثين، ترجمناها عن الإنجليزية، وإن اختلف الصوفية في شيء، ففي إمعان بعضهم في بعض المبادئ دون بعضها، وهي تعبر عن روح التصوف الحقيقي في العصور المختلفة، ولكن يعرض لنا سؤال صعب، وهو: هل المتصوف برياضته وتمرنه يرى حقائق خارجية، أو يرى أوهامًا داخلية، جَلَبها إليه التعود، وانحراف الذهن؟
سؤال صعب، ومما يجعله أكثر صعوبة أن أغلب من تصوف لم يستطع أن يكتب، ومن لم يتصوف لم يذُق، حتى يستطيع أن يصف. والذي يجعلنا أقرب إلى أن نقول: إن الصوفي يرى أشياء خارجية، إن المتصوفين في جميع الأقطار والعصور يصفون مناظر متشابهة، أو كالمتشابهة، ولو كانت الأمور قاصرة على مجرد خيالات وأوهام، لرآها كل متصوف بعينه وخده، ولم يشترك معه غيره كما هو الحال في أصحاب الكيوف.
ولذلك يفهم الصوفية بعضهم بعضًا، في المشرق والمغرب، وكلهم يقول: إن اللغات تعجز عن الوصف بعد الوصول إلى حدّ من المعرفة، وهم يتداولون العبارة المأثورة وهي: «وهناك ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر».
ومن الأدلة على ذلك أن هناك بعض الصوفية الصادقين أمثال الغزالي، ومحيي الدين ابن العربي — وكانوا في حياتهم العادية صاحين واعين — يؤلفون في المسائل العلمية، كما يؤلفون في التصوّف، فإذا ألَّفوا في الحياة العلمية كانوا صاحين متنبهين دقيقين، وإذا ألَّفوا في التصوف غلبهم العشق، والهيام، والرمز؛ ولو كانوا قد جُنُّوا ما استطاعوا أن يؤلّفوا في العلم، فالعقل لا يتجزأ.
على أنه والحق يقال، قد بدأ علماء النفس في العصور الحديثة يدرسون التصوف على أنه ظاهرة نفسية لها خصائصها؛ ولكن بدءوا دراستهم من عهد قريب، ولما يقطعوا أمدًا بعيدًا في ذلك.