الفصل الثالث

اللغة والأدب

في هذا العصر تحوّلت معاجم اللغة إلى جهة جديدة، على يد الجوهري صاحب «الصحاح»، ذلك أن المعاجم التي قبله كانت صعبة التناول؛ لأنها كانت مثلًا ككتاب «العين»، ترتبُ الكلمات على حسب مخارج الحروف، مبتدئة بالعين، ولذلك سمّي الخليل كتابه «العين»، ثم يذكر الكلمة، ويذكر مقلوباتها، وينصّ على أن هذه الكلمة مهملة لم تستعمل أو مستعملة.

وجرى ابن دريد هذا المجرى في «جمهرته»، فكان الكشف على الكلمات صعبًا جدًّا، فأتى الجوهري صاحب «الصحاح» فرتبه على حسب حروف الهجاء، تاركًا المهملات، جاعلًا الحرف الأخير بابًا، والحرف الأول فصلًا، فسهل على الناس الكشف عن الكلمات. وجرى بعده كثيرٌ ممن ألَّف في معاجم اللغة مثل: «القاموس»، و«لسان العرب»، و«مختار الصحاح»، وغيرها، وأكمل الجوهري بعض ما فات بمشافهة العرب، وسماعه منهم؛ وبذلك فتح في القرن الرابع الهجري فتحًا جديدًا، وزاد على علماء اللغة السابقين في تحديد معنى الكلمات، والإمعان في الاشتقاق.

وقد تضخمت معاجم اللغة في هذا العصر، وما بعده لأسباب كثيرة؛ منها أن جامعي اللغة قيدوا في معاجمهم اللهجات، ولم يكتفوا بلهجة واحدة، مثل: أن يؤلّف عالم معجمًا للغة الشعبية المصرية، فيقيد قال، وجال، وآل، كل في بابه وفصله، وكلها في الأصل كلمة واحدة، اختلف النطق بها، فقد تنطق قبيلة بكلمة، وتنطقها قبيلة أخرى بلهجة أخرى؛ فيقيدون ذلك كله.

فمثلًا قبيلة تقول: أن وأخرى تقلب الهمزة عينًا، فتقول في أنْ، عن، وفي أنّ، عنّ، وبعض القبائل يقول شجرة، والبعض الآخر يقول: شَيَرَةَ، وهكذا المعاجم مملوءة بهذا الضرب.

ومنها أن بعض القبائل كان ينطق بالكلمة مقلوبة، أو متغيرة حروفها، فيقولون في جذب، جبذ، ومنها أن الجامعين الأولين للغة كانوا يجمعون حيثما اتفق، غير منبهين في الغالب على أن هذه الكلمة تستعملها القبيلة الفلانية، والكلمة الأخرى تستعملها القبيلة الفلانية، وجرى من بعدهم على أثرهم، فبعض القبائل يستعمل كلمة البُر، والبعض الآخر يستعمل كلمة القمح، وبعضهم يستعمل كلمة بئر، وبعضهم يستعمل كلمة قليب، ومن استعمل كلمة منهما لم يستعمل الأخرى، فأتى الجامعون، فجمعوا كل ذلك، مما كان نتيجته كثرة المترادفات.

ومن الأسباب توسّع بعض الأعراب في المجاز، فمثلًا: سمُّوا الثياب القصار مقطعات، بل سمّوا كل ما يفصّل ويُخاط من قميص، وجباب، وسراويل مقطّعات.

ثم تجوّزوا فسموا الحديد المتخذ دروعًا، أو سلاحًا مقطّعًا، وقالوا: قطعتُ الحديد، أي صنعته دروعًا، وغيرها من السلاح، كأنه ثياب، ثم تجوزوا، فسمّوا الأشعار القصيرة، مقطعات وهكذا، ومنها أن بعض جامعي اللغة لم يكن يتحرى في جمعه؛ بل كان يدور كل ما سمع، سواء سمع من ثقة أو غير ثقة، ولم يكونوا يتحرون تحرّي المحدثين، فكان بعضهم يسمع امرأة تقول قولًا، وقد تكون هازلة أو غير ثقة، فيدوِّن ما سمع، ثم يثبت ذلك في معجمه، كالذي يروي أن امرأة سئلت: كيف مطركم؟ فقال: غِثنا ما شئنا: أي أنزل الله علينا من الغيث بقدر ما نشاء، ولم يسمع من غيرها غثنا بهذا المعنى، فدوّن ذلك في المعجم، بل قد يسمعون من صبي يلعب، أو من صبي يلثغ، فيدونون ما سمعوا، كما روي أن بعض الصبيان كانوا يلعبون بالزحلوقة وينشدون:

لمن زُحلوقة زل
بها العينان تنهل
ينادي الآخر الألّ
ألا حلّوا ألا حلّوا

فكلمة الأل بمعنى الأول، لم تسمع إلا من هؤلاء الصبيان، ومع ذلك دونت في المعاجم، بل قد عقد اللغويون بحثًا فى هل يأخذون اللغة عن المجانين أو لا، فرووا أن مجنونًا كان يرقّص ابنته ويقول:

محكوكة العين معطاء القفا
كأنما قدت على متن الصفا
تمشي على متن شراك أعجفا
كأنما تنشر فيه مصحفا

وقد سئل فيهما الأصمعي فقال: أحسب أن ناظم البيتين نفسه لا يعرف معناهما، وسئل أبو زيد الأنصاري عنهما، فقال: إنهما لمجنون، ولا يعرف كلام المجانين إلا مجنون. وزاد الطين بلة أن بعضهم كان يأخذ اللغة من الصحف، فيصحفها، ومن أدلة ذلك مثلًا: أننا نجد في القاموس المحيط كلمة: بُجد، كعصفور: بزر قاطونا، ونجدها في لسان العرب بخدق، وفي المزهر بحدق، وفي أقرب الموارد يحذف، وهكذا كلمات كثيرة من هذا الطريق.

ومن غريب الأمر أن بعض جامعي اللغة يدون الأصل والتصحيف معًا، فكان هذا أيضًا سببًا من أسباب التضخيم، ومن الأسباب كذلك تعرض المتأخرين من رجال اللغة لما ليس لهم به علم، ثم يطيلون فى ذلك، فيقول صاحب القاموس مثلًا: إن الهرمين بناءان أزليان بمصر، بناهما إدريس — عليه السلام —؛ لحفظ العلوم فيهما من الطوفان، أو بناء سنان بن المشلشل، وهكذا في كثير من الأحيان يقفون موقف المؤرخ، أو الفلكي، أو النباتي، أو عالم الحيوان، أو غير ذلك، كأنهم يدعون أنهم يعلمون كل شيء، وليس هناك اختصاص.

ومما زاد تضخم معاجم اللغة انتقال اللغة من البداوة إلى الحضارة، فالحضارة غيرت معاني بعض الكلمات، ومكنت علماء اللغة من زيادة الشرح، ومن زيادة بعض الأوصاف على تعريف بعض الكلمات.

هذا إلى أن الحضارة، واتساع المملكة الإسلامية جعلهم يقفون على أنواع من النبات، والحيوان، والطعوم، وسائر مرافق العمران، وأدخل اللغويون كل ذلك في معاجمهم؛ فالعرب في الجزيرة لم يكونوا يعرفون الهرم ولا البرابي، ثم إن كل بلد مفتوح أدخل على اللغة كلمات استعملها العرب الفاتحون، وأدخلوها في لغاتهم، بل واشتقوا منها، فمثلًا: لما فتح العرب مصر، عرَّبوا كثيرًا من أسماء البلدان كبنها، والفيوم، ودمنهور، والإسكندرية، وغير ذلك، وأدخلوا في اللغة من مصر كلمة بطاقة، وهي يونانية الأصل، واستعملوا منها منشار، وهي مصرية الأصل، واشتقوا منها نشر ينشر نشرًا إلخ. ثم كان العلماء القياسيون كأبي علي الفارسي، وابن جني توسّع في الاشتقاق كبير أدخل كلمات كثيرة لم تكن ينطق بها إلى غير ذلك.

وكان من مظاهر هذا العصر انتشار اللغة العامية بجانب اللغة الفصحى، فكان لكل إقليم إسلامي لغته، ولهجته الدارجتان.

وتميزت اللغة العامية عن الفصحى، وجرتا جنبًا إلى جنب، يتكلم أكثر الناس العامية، وأقلهم اللغة الفصحى، وكان هذا التمييز واضحًا في أشياء.

قلب أكثر الكلمات التي تحتوي على الصّاد سينًا، كصراط وسراط، وأهمها إسكان آخر الكلمات؛ لأن الإعراب الصحيح لا يتقنه إلا سكان البوادي من الأعراب، والمتمرنون على الإعراب تمرنًا كبيرًا، ثم من مميزاتها عدم التفريق الدقيق بين المثنى وجمع المذكر، وجمع المؤنث، ومنها قلب الضاد ظاء أحيانًا، ودالًا ثخينة أحيانًا. وبلغ من غرابة اللغة الفصحى عندهم أنهم كانوا يدّعون أمثال المتنبي متقعرًا، وكان يعد فصيحًا من سلم من الخطأ في مراعاة الإعراب والتصريف، وتجنب العبارات الدارجة؛ وحتى اللغة العامية ظهرت في أشعار القرن الرابع الهجري، وخصوصًا لغة بغداد، لكثرة لغتها الفارسية مثل كلمة لقلق، وصوابها لقلاق، ونرى كثيرًا من ذلك في شعر ابن حجّاج. وساعد على انتشار اللحن عهد السلجوقيين، فإنهم لم يكونوا يحسنون الثقافة العربية، ولا الأدب العربي كما كان يحسه الأمويون من قبل.

وظاهرة أخرى أشرنا إليها من قبل، وهي: توسيع اللغة عن طريق القياس، والتوسعُ في الاشتقاق قياسًا، وكان رافع علم هذه المدرسة أبا عليّ الفارسي، وتلميذه ابن جني، فكان موقفهما من اللغة موقف أبي حنيفة، ومدرسته في الفقه، وقد كان كل منهما معتزليًّا؛ فمكنهما اعتزالهما — كما نعلم من مدرسة المعتزلة — من التحرر، وإخضاع اللغة لحكم العقل.

خرج هذان العالمان الجليلان على الناس بطريقة جديدة، تخالف طريقة الآخرين المحافظين: فقد كان المحافظون يميلون إلى السير على القديم من غير تفكير في تغييره، ولا الخروج عليه؛ يدعوهم إلى ذلك، إما خمودهم الذهني وإما حب السلامة، وما يستدعيه التجديد من التعرض للنقد، وإما إخلاصهم للقديم، وإجلالهم له عن عقيدة، وذلك شأن الحياة كلها: أحرارٌ، ومحافظون؛ وأهل نقل، وأهل رأي، وهؤلاء أهل الرأي، من طبيعتهم أن يردّوا ما لم يرد فيه نص على ما ورد فيه نص، كما فعل الفقهاء الحنيفة تمامًا.

وكذلك فعل الشعراء؛ فمنهم من لا يستعمل الكلمة إلا إذا ثبتت عنده في اللغة، ومنهم من يجرؤ فيبتكر الكلمة، أو يقيسها على غيرها، هذا رؤبة يخلق بعض الكلمات، كما حدثوا، وهذا بشار بن برد يرى أن العرب تصوغ فَعَلَى من الفعل للدلالة على السرعة، فقالوا مثلًا: حَجَلَى دلالة على سرعة السير، فقال هو:

والآن أقصر عن سمية باطلي
وأشار بالوَجَلَى عليّ مشير

وقال:

على الغَزَلى مني السلام، فربما
لهوتُ بها في ظل مخضلة زهر

فعابه المحافظون على ذلك، لم يسمع من العرب لا وجلى، ولا غزلى، فلم يعبأ بهما. وحكى ابن قتيبة قال: قال الخليل بن أحمد: أنشدني رجل: ترافع العز بنا فارفنععا … فقلت: ليس هذا شيئًا. فقال: كيف جاز للعجّاج أن يقول: تقاعس العزّ بنا فاقعنسسا، ولا يجوز لي ذلك؟

على كل حال جدّ العلماء مشكورين في جمع اللغة من أفواه العرب؛ فوقف من بعدهم فريقين: قوم يقفون عندما قال العرب، وقوم يجتهدون، فيقولون مثلًا: إن العرب أحيانًا كانت تخطئ، فلا يصحّ أن نجاريهم في خطئهم. فمثلًا: إنهم عدوا بعض الحيوانات من صنف السمك لما رأوه يشبهه، ولكن علماء الحيوان بفصحهم له رأوه من ذوات الثدي، فعدّوه من قبيل الخيل، لا من قبيل السمك، فكيف نجاري العرب في ذلك مع خطئهم؟ وعدوا الأجرام السماوية أجسامًا حية لها نفس كنفس الإنسان لما رأوا من تحركها من غير محرك؛ فلما اكتُشف قانون الجذب، وتقدم العلم كشف أنها ليست بذات نفس، وإنما هي مادة جامدة كالأرض، وكانوا يعتقدون في بناء الأهرام عقائد خرافية، في من بناها … إلخ.

وأثبتوا ذلك في معاجمهم؛ حتى أتى العلم الحديث فأبان خطأهم، وأحيانًا يخطئون فيصفون الناقة بصفات الجمل حتى نقدهم بعضهم فقال: «استنوق الجمل»، وهكذا، فلماذا نقدّس القديم لأنه قديم، ولا نُعمل عقولنا فنصحّحه؟ بل ذهبوا إلى أن اللغة توقيفية، فاستنتجوا من ذلك عدم التعرض لها مهما كانت مخطئة؛ ومن هذا القبيل ما حكي عن الأصمعي، وابن الأعرابي، وأبي زيد، فلم يكونوا يستبيحون لأنفسهم أن يقولوا كلمة أو يشتقوا اشتقاقًا إلا عن سماع به؛ حتى جاء أبو علي الفارسي، فأعلن القياس، والثورة على القديم، ولعلّ ذلك لأنه فارسيّ الأب والأم، ولأنه معتزلي.

وعاصره في ذلك أبو سعيد السيرافي، وكان أبو سعيد زعيم المحافظين، وأبو عليّ زعيم الأحرار في اللغة؛ فكان الناس يقولون: أبو سعيد أكثر رواية، وأبو علي أكثر دراية. ومن أقوال أبي علي: لأن أخطئ في خمسين مسألة ممّا بابه الرواية أحبّ إليَّ من أن أخطئ في مسألة واحدة قياسية. وكان يقول: ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، فإذا عُرِّبت كلمة أعجمية أجريت عليها أحكام الإعراب، وعددتها من كلام العرب، وأجزت الاشتقاق منها، كما عرّب العرب لفظة الدرهم، واشتقوا منها درهمت الخبَّازي، أي صارت كالدراهم، وقالوا: رجل مدرهم: أي أكثرت دراهمه. وكان يقول: لو شاء شاعرٌ أو ساجعٌ أن يبني من كلمة اسمًا وفعلًا وصفة لجاز له، ولكان ذلك من كلام العرب، وذلك نحو قولك: خرججٌ أكثر من دخللٍ، فقال له تلميذه ابن جني: أفترتجل اللغة ارتجالًا؟ قال: ليس بارتجال، لكنه مقيسٌ على كلامهم، فهو إذن من كلامهم، ثم قال: ألا ترى أنك تقول: طاب الخشكنانُ، فتجعله من كلام العرب، وإن لم تكن العرب تكلمت به؟ فرفعُك إياه دليلٌ على أنك أخضعته لكلام العرب.

وكان من رأيه أن الألف اللينة في الكلمة الثلاثية تكتبُ ألفًا مطلقًا، سواء كان أصلها واوًا أو ياء؛ حملًا للخط على اللفظ.

وجاء بعده تلميذه ابن جني فرفع لواء هذا المذهب، وكان أيضًا من نسب رومي، وفاق أستاذه في الاشتقاق، وقال فيه المتنبي: هذا رجل لا يعرف قدره كثيرٌ من الناس، وكتابه «الخصائص» يدلّ على جرأته وقياسه، كما يدلّ على تذوقه للغة، وفهم أسرارها، ومحاولة فلسفتها؛ وقد صحب أستاذه أبا علي أربعين سنة، واستوعب علمه، وزاده تفصيلًا وتعليلًا وتذليلًا. وقد رأى أن الفقهاء قبله وضعوا للفقه أصولًا، وأن المتكلمين وضعوا لكلامهم أصولًا؛ فأراد أن يضع للغة والنحو كذلك أصولًا، ونجد بعض هذه الأصول في كتابه «الخصائص»؛ وكان مما وضعه أيضًا الاشتقاق الكبير، وهو الذي سماه بهذا الاسم، وكان أصلُ الفكرة لأستاذه أبي عليّ، فجاء ابن جني فوسّعها، وقال: إن أبا عليّ — رحمه الله — كان يستعين بالاشتقاق الكبير، ويخلد إليه وسمّاه؛ وكان يعتاده عند الضرورة، ويستريح إليه.

ويعني بالاشتقاق الكبير: حصر أصول الكلم، وتقليبها على وجوهها المختلفة، واستخراج التباديل والتوافيق منها، والمقارنة بينها في المعاني، مثل كلمة (كَلَّم)، فتحولها إلى كمل، مكل، ملك، لكم؛ ونمعن النظر فيها لنعرف وجه الشبه بينهما، فنستخرج مثلًا أن هذه الحروف إذا اجتمعت دلت على القوة؛ ونستخرج معنى القوة من كل هذه الألفاظ.

ومما يؤسف له أن مدرسة القياس هذه لم تستمر تؤتي أكلها، فذهبت مع ذهاب المعتزلة؛ لأن مدرسة المعتزلة كانت تحث على البحث، والتجربة والشكّ، والاستدلال العقلي، فلما ذهبت ذهبت آثارها؛ ولذلك ذهبوا إلى أن اللغة ليست توقيفية، وإنما هي اصطلاحية؛ ليحرّروا أنفسهم إذا قالوا إنها توقيفية، وربما كان لاعتزال الزمخشري أيضًا أثر كبير في قدرته الفائقة في البلاغة، ودراسة الأساليب، والتحرر من المنقول.

وإذا نحن سرنا على أثر هذه المدرسة استطعنا أن نكمّل ما نجده من نقص في اللغة، فإذا وجدنا مصدرًا لم يذكر فعله ذكرناه بالقياس، وإذا وجدنا مذكرًا لم يذكر مؤنثه فكذلك؛ وإذا وجدنا فعلًا لم يذكر بابه اجتهدنا في ذكر ذلك قياسًا، كذلك إذا وجناهم يشتقون وزنًا خاصًّا للدلالة على شيء، أمكننا أن نقيس عليه، فإذا وجدناهم مثلًا يصوغون «فعال» للدلالة على محترم الحرفة، كنجّار، وخبّاز، وحدَّاد، وقفَّال؛ أمكننا أن نقيس عليه من أسماء أصحاب المهن التي لم يذكرها العرب، كذلك يمكننا إذا تذوقنا الذوق العربي تذوقًا تامًّا، وعرفنا كيف كانوا يضعون الألفاظ أمكننا أن يضع العلماء مثلهم فيما هم في حاجة إليه» … إلخ.

وعلى كل حال، فمدرسةُ القياس ترى أن اللغة ليست مقدّسة، وأنها مِلكٌ للناس لا أن الناس مِلكها، ويمكننا أن نصحح ما فيها من أخطاء، ونبين ما حصل فيها من تصحيف، ونصحّح الأخطاء التي وردت في معاجم اللغة، مما ورد خطأ من تصحيف، أو من لثغة ألثغ، أو نحو ذلك.

ومن خير ما ألّف في اللغة أيضًا في ذلك العصر كتاب «مقاييس اللغة» لابن فارس المتوفى سنة ٣٩٥ﻫ، وقد نحا فيه نحوًا جديدًا، فقد استخلص من معاني الكلمة المختلفة معنى واحدًا، أو معنيين، جعله أساسًا للكلمة، ونص عليه، وبين أن الاشتقاقات المختلفة تدور حوله، مثال ذلك: «وجب»، قال: الواو والجيم والباء أصل واحد يدل على سقوط الشيء، ووقوعه، ثم يتفرّع، يقال: وجب البيع وجوبًا، حقّ ووقع، ووجب الميت سقط، والقتيل واجب؛ وفي الحديث: «إذا وجب فلا تبكينَّ باكية»، إي إذا سقط.

وقال الله في النسك: «فإذا وجبت جنوبها»، قال قيس:

أطاعت بنو عوف أميرًا نهاهُمُ
عن السلم حتى كان أول واجب

ووجب الحائط: سقط.

«وَجبة»: يقولون الوجب الجبان. قال الشاعر:

طلُوبُ الأعادي لا سلومٌ ولا وجْبُ

سمّي به لأنه كالساقط، ويقولون: الموجَب، للناقة لا تنبعث من كثرة لحقها، وأما وجيب القلب فمن الإبدال، أصله وجيف، وهكذا، فهو كما ترى يؤوّل المعاني كلها إلى معنى واحد.

ونلاحظ عليه الصفاء والإيجاز، وعدم السفسطة، ولم يكتفوا بجمع الألفاظ، بل جمعوا أيضًا الأساليب، كالذي نرى في كتاب «كفاية المتحفّظ»، وكتاب «الألفاظ الكتابية» للهمداني، مثل: الأساليب التي تقال في لم الشعث، والتي تقال في الدلالة على الشجاعة، أو الجبن، أو نحو ذلك.

ومما فعلوه أيضًا جمع الأمثال، وترتيبها حسب الحروف الأبجدية، كما فعل الميداني في كتابه «مجمع الأمثال»، وقد أخذ كل كتابه تقريبًا من كتاب في الأمثال لحمزة الأصفهاني، لم يزد عليه في كل باب إلا مثلًا أو ثلاثة، ولكن حظّ كتابه كان أكبر من حظّ حمزة.

الأدب

لو رجعنا إلى الفصل الذي كتبناه عن الحالة الاجتماعية في العصر العباسي أول هذا الكتاب، وجدنا الأدب كله بأنواعه صدًى لهذه الحياة الاجتماعية، فلما أفرط الأمراء في الظلم، والاستبداد، ومصادرة الأموال، كان طبيعيًّا أن ينقسم الشعراء إلى قسمين: قسم يلهو معهم، وينتفع بما لهم، فيمدحهم، ويقلب سيئاتهم حسنات، وهذا هو الكثير، كالمتنبي، وأبي فراس، والناشئ، والخالديّين، وغيرهم. وقسم تمنعه نفسه من الملق، وطبعه من التقرّب كأبي العلاء الكفيف، فيتّخذ خطة أخرى، وهي الذًم والقدح؛ وكذلك انقسم الشعر والشعراء.

وإذا كانت الحالة الاجتماعية تنقسم إلى طبقات كالتي ذكرنا، طبقة غنية كل الغنى، وطبقة فقيرة كل الفقر، وجد المستجدون الكثيرون؛ وكان منهم أدباء، ولهم لغة وطريقة، كلغة الأدباتية اليوم؛ حكاها لنا الثعالبي في «اليتيمة»، الذي له الفضل الأكبر في تاريخ أدب المائة الرابعة، ومن أظهرهم في ذلك رجل يسمّى أبا دُلَف، كانت له طريقة خاصة في الاستجداء، وقد ذكره البديع في مقاماته؛ فكان هذا الضرب من الحياة الاجتماعية مبعثًا لوجود مقامات البديع، ومقامات الحريري؛ ووجود الجواري الجميلات، وكثرة ملك اليمين، وكثرة الغلمان الأرقاء في يد الناس أوجد الغزل في المذكر والمؤنث؛ وكثرة الشراب كانت سببًا لكثرة القول فيه.

وإذا كانت بيوت الأغنياء يُعنى فيها بالأثاث الجميل، والرياض الفاخرة، غُني الأدباء بتجميل أدبهم، بالسجع والمزواجة، وغيرهما من أنواع البديع … إلخ إلخ.

لقد زها الأدب في هذا العصر، وانقسم الأدب إلى قسمين: نثر، وشعر، وقد قُسم النثر في ذلك العصر إلى قسمين واضحين: سمّي أحدهما السلطانيات، وهي المكاتبات الرسمية التي تصدر من عامل إلى عامل، أو من وزير إلى عامل، أو من خليفة إلى عمّال، وهكذا؛ وقسم يسمى الإخوانيات، وهو ما يصدر من صديق إلى صديق، أو من أستاذ إلى تلميذ، أو من تلميذ في المسائل الخاصة، وقد نبغ في النوعين أول الأمر رجلان كبيران: أحدهما: أبو هلال الصابي، والثاني: أبو بكر الخوارزمي، فكلاهما كان شيخًا لهذه الصناعة، وقد التزما السجع تقريبًا، لسببين: الأول: دخول النصارى في الإسلام، وقد كانوا يستعملون السجع في الكنائس؛ والثاني: حبهم للطريف من الأشياء. ولا شك أن السجع أطرف من الكلام المرسل، يضاف إلى ذلك ما حدث في تاريخ كل أنواع البديع، فقد بدأ العرب في الجاهلية يستعملونه كالملح في الطعام، ثم زاد في العصر العباسي شيئًا ما، ثم عمّ في الكتابات في عصرنا هذا.

ومن حسن الحظ أن لدينا الآن مجموعة من رسائل الصابي، والخوارزمي تقرؤها، فكأنك تنظر إلى قطعة من الزجاج المموّه، أو الخشب المخروط، فأما الصابي، المتوفّى سنة ٣٨٤ﻫ، فكان صابئًا كلقبه، وعرضت عليه الوزارة إن أسلم فأبى، وكان يفتخر بقدرته الفائقة على الكتابة، ويقول:

وقد علم السلطان أني أمينُه
وكاتبهُ الكافي السديد الموفّق
فيمناي يمناه، ولفظي لفظُه
وعيني له عينٌ بها الدهر يرمقُ
ولي فِقَرٌ تُضحِي الملوك فقيرة
إليها لدى أحداثها حين تطرُقُ

وكل كتاباته مسجوعة، سواء كانت رسائل سلطانية أو إخوانية.

وأنا شخصيًّا أستسمج كتاباته، وكتابة الخوارزمي، ومن نحا نحوهما، وأرى أنها جعجعة ولا طحن، وألفاظ جوفاء، ولا معنى.

وأما الخوارزمي، فقد رحل كثيرًا إلى الأقطار، وعدّ شيخ الأدباء، واعترفت له الأقطار المختلفة بالفضل والبلاغة، حتى جاء بديع الزمان الهمذاني، وكان شابًّا حدثًا، والخوارزمي شيخًا، فنازل الشيخ نزولًا عنيفًا، فانقسم الناس فريقين: فريق يحترم الخوارزمي وشيخوخته، وفريق يناصر بديع الزمان وجدّته.

وأخيرًا، مات الخوارزمي محزونًا، وقد استطاع البديع أن يطلع على الناس بأشياء جديدة لم يكن يحسنها الخوارزمي، كالمقامات، وكتابة الرسائل التي كل حروفها معجمة أو مهملة، أو رسائل إذا قرئت من أولها إلى آخرها كانت سؤالًا، وإذا قرئت من آخرها إلى أولها كانت جوابًا، أو رسالة لا يوجد فيها حرف منفصل كالراء والدال، أو رسالة كل سطورها مبدوءة بالميم، أو أبيات إذا فسرت بطريقة خاصة كانت مدحًا، وإذا فسّرت بطريقة أخرى كانت ذمًّا، وهكذا مما تجده في رسائله ومقاماته.

ولم يكن الشيخ الخوارزمي يعرف شيئًا من ذلك، إنما كان يعرف الرسائل المألوفة المعتادة، فهزمه البديع لشبوبيته، وتفننه.

وأسوق إليك مثلًا أو مثلين من الرسائل التي كانت تعجب هذا العصر، وتملؤه فخرًا، مثل ما كتب الخوارزمي يصف بؤسه، وتغير الناس عليه، «وأصابني البؤس حتى لقد ركبت غير دابتي، وأكلت غير نفقتي، ونزلت بيتًا بالكرا، وأكلت خبزًا بُسرًا، ولبست الصوف في الصيف، والبرديّ في الخريف، وكوتبت مواجهة، وخوطبت بالكاف مشافهة، وأُجلست في صف النعال، أعني أخريات الرجال، وناظرني من كان يدرس عليّ، وخالفني من كان يختلف إليّ، وحتى لقد نشزت عليّ جاريتي، وحزنت عليّ دابتي، وتقدمني في المسير رفيقي، الذي جمعني وإياه طريقي، وحتى أني أخذت الدرهم الجيد، فصار في يدي ستوقًا، وقطعت الثوب المشترى، فصار على بدني مسروقًا، وسافرت في حزيران فعصفت الريح، وسدّ الأفق الضباب، وفقدت كل شيء ملكته غيرعرضي، الذي عهده الشيخ معي، وصبري الذي عرفه مني».

ويقول الخوارزمي أيضًا وهو قول مملوء بالمبالغة، والتكرار، والحشو، ويقصد إليها على أنها طريقة متينة في الكتابة، في إحدى رسائله: «فلان أبطأ عليّ، فليت شعري الريح قلعته، أم الأرض ابتلعته، أم الأفعى نهشته، أم السباع افترسته، أم الغول أغوته، أم الشياطين استهوته، أم أصابته بائقة، أم أحرقته صاعقة، أم رفسته الجمال، أم اغتاله الجمّال، أم انتكس من على ظهر جمل، أم تدحرج من رأس جبل، أم وقع في بير، أم انهار عليه جرف شفير، أم شلت يداه، أم قعدت رجلاه، أم ضربه الجذام، أم أصابه البرسام، أم تاه في البرّ، أم أغرق في البحر، أم مات من الحرّ، أم سال به سيل زاعب، أم وقع فيه سهمٌ من سهام الآجال صائب، أم عمل عمل أهل لوط، فأرسلت عليه حجارة من طين منضود، مسومة عند ربك، وما هي من الظالمين ببعيد».

فهذه عبارات جوفاء كلها مع طولها، يريد منها أن يقول: إنه غابت عنه رسائله، وهذا خذلان من الله، لا يكون إلا مع الفراغ في الفؤاد.

والصابي والخوارزمي أثقل من البديع، وهو أخف منهما روحًا، وهكذا أقرأ هذه الرسائل كلها فينقبض صدري، ولا ينطلق لساني، وأصرف في الرسالة ساعة أو ساعتين، ثم لا أخرج منها بشيء في اليدين، وزاد الطين بلّة الصاحب بن عباد المعاصر لهم، فقد كان يعزل الوالي أو يوليه؛ ليحصل من ذلك على سجعة، فلما أتى بعد ذلك القاضي الفاضل، والعماد الأصفهاني تمت هذه الكارثة، كارثة التقيد بالسجع، وأنواع البديع، وأثرت هذه المدرسة في كل كتّاب القرون التي أتت بعد إلى النهضة الحديثة، اتجاهٌ كليٌّ إلى السجع والبديع، وفراغ كلي من معنى بديع.

وهذا من غير شك أصاب العقول فلم تأت بمعنى جديد، وقلما تأتي برأي سديد.

وربما كان أرقاهم في ذلك أبا حيّان التوحيدي، فقد كان يجمع إلى السجع المزاوجة، وكانت غزارة معانيه، تلطف من طريقة عصره؛ ولذلك هو في نظري آدب أهل زمانه، بل ربما كان آدب من شيخه الجاحظ؛ لأن علوم زمانه التي استوعبها كانت أكثر من علوم الجاحظ.

ولكنه مع ذلك عاش هو وأستاذه أبو سليمان المنطقي فقيرين، أما أبو سليمان فكان عَورُه وبرصُه مانعين له من الاختلاط بالأمراء، ومساعدتهم له، إلا أعطيات قليلة، كان يمنحها إياه عضد الدولة بن بويه، لما يستنجد به في دفع أجر بيته، وما استدانه لغذائه. وكذلك فعل الوزير ابن سعدان معه. وأما أبو حيان، فيظهر أنه كان مع فضله ثقيل الروح في محضره، وإن لم يظهر ثقله في كتابته، كان يعلم مقدار فضله وعلمه، ثم يرى نفسه بائسًا، ويرى تفاهة من حوله وغفلتهم، وهم متبحبحون في معيشتهم، فيأبى إلا أن يشمخ عليهم، ويقدح بلسانه الحادّ في أعراضهم، فحرم من أجل ذلك، حتى كان يأكل الحشيش من الصحراء، وحتى أنه كان إذا صلّى في المسجد، ابتعد عنه الناس فلا يصلّون بجانبه، إلا بقالًا، أو زياتًا، او إسكافيًّا.

وفيما عداه قد عمّت طريقة الخوارزمي، والصابي، وبديع الزمان، فعمّت بذلك البلوى.

ومما يلاحظ في هذا العصر ما ذهب إليه الكتّاب مما يشبه الكتابة اليونانية من تضمين كتبهم قصصًا كثيرة، أو إشارات إلى أحداث تاريخية، كإشارة البديع إلى حكاية التاجر مع ولده، وإشارته إلى قصص أخرى مشهورة في زمنه.

ومما يلاحظ أيضًا أن اللغة العامية أصبح معترفًا بها، يبحث في ألفاظها وأساليبها، وينتقي منها خيرها، إلا بعض علماء كأبي العلاء المعريّ، فقد كان واسع الاطّلاع على اللغة، مولعًا بالغريب، حتى إذا كان المعنى الواحد يمكن أداؤه بعبارات واضحة، وبعبارات غامضة ذات ألفاظ غريبة اختار الثانية، كما نرى في «رسالة الغفران»، كقوله: «وا أسفي لفراق سيدي الشيخ — أدام الله عزّه — أسف ساق حرّ، ساقه الطرب إلى الحرّ، توارى بالوريقة من حرّ الوديقة، كأنه قينة وراء ستر، أو كبير حجب من الهتر، في عنقه طوق، كربٌ يفصمه الشوق، لو قدّر لانتزعه باليد، من المقلّد، أسفًا على إلف، غادره للكمدِ أيُّ حلف، أرسله فهلك نوح، فالحمائم عليه تنوح، يُسمعك بالفناء، أصناف الغناء، ويظهر في الغصون، جنيّ الوجد المصون»، وهكذا اعتادوا البدء بالكلام عن الشوق للمرسل إليه، وكتابته على هذا النوع سمجة أيضًا كالنوع الأول؛ غير أنه إذا كانت سماجة أبي العلاء كلاسيكية، فسماجة البديع سماجة رومانتيكية، ولا يعذر أبو العلاء في ذلك، إلا إن كان يرمي لتعليم اللغة.

كذلك انتشر في هذا العصر كثير من القصص، فزادت ألف ليلة قصصًا جديدة، ويحكون أن الجهشياري قام بتأليف كتاب على نسق ألف ليلة وليلة، اختار فيه ألف سمر من سمر العرب، وغيرهم، وكتب فيه أربعمائة وثمانين سَمَرَة، وكان ينوي أن يجعلها ألفًا، ولكن المنية عاجلته.

ومسكويه ألف كتابًا في القصص اسمه «أنس الفريد»، وشاعت نوادر وحكايات كحكايات جحا، وقصة عاشق البقرة إلخ إلخ.

ومن الأسف أن طابع السجع والبديع الذي ابتلى به في الأدب في ذلك العصر ظل هو طابع الأدب العربي في العصور المتأخرة في كل فرع من فروعه إلى أن جاءت النهضة الحديثة، فقلَّ أن نجد مبتكرًا، أو داعيًا إلى جديد.

ومع أنه ظهر كتَّاب آخرون على غير هذه الطريقة مثل: أحمد بن يوسف المعروف بابن الداية، ألَّف كتاب «المكافأة»، وهو على نمط خير من هذا النمط، راعى فيه جزالة التعبير، وقوة التفكير، أكثر مما راعى السجع، فإن طريقته المصرية لم تقلَّد، وإنما قلَّدت الطريقة العراقية كابن العميد، وابن عبَّاد.

الشعر

كان للشعر في هذا العصر جولة عظيمة، ونلاحظ أنه كثرت عادة المقطوعات الصغيرة في وصف طرفٍ صغيرة، كالذي نلاحظه في ديوان المتنبي، ففيه القصائد الفخمة على النمط القديم، وفيه المقطوعات الصغيرة في وصف مزهر، أو خيمة، أو تفاحة من عنبر، أو نحو ذلك، ونقرأ «يتيمة الدهر» للثعالبي المؤلفة في هذا العصر فنجدها مملوءة بالمقطوعات، والكتاب مملوء بتراجم الشعراء في كل مصر، ولكنه مع الأسف غني بالبديع اللفظي أكثر من عنايته بالتحليل النفسي، فغلبت عليه طريقة ابن عباد، والخوارزمي، والصابي، أكثر من طريقة أحمد بن يوسف، وأبي حيان.

وهو مملوء بمثل هذه المقطَّعات من مثل الرجل الذي يرثي قطَّته في قوله:

يا هرُّ فارقتنا ولم تَعُد
وأنت عندي بمنزل الولد

•••

وقد اختلفوا في أنها قيلت في القطِّ حقيقة، أو في رثاء من يُخاف رثاؤه.

على كل حال، عني شعراء هذا العصر بالتشبيهات، والاستعارات أكثر مما عُنوا بجدَّة المعنى.

وظاهرة أخرى، وهي نبوغ الصنوبري الشاعر في وصف الطبيعية، وهو أيضًا من نتاج مجلس سيف الدولة، وقد توفي سنة ٣٣٤ﻫ وتغنَّى بذكر حلب والرقة، وكانت له بمدينة حلب حديقة حول قصر فخم غرست فيها الأزهار، فكثر تغزله فيها مثل قوله:

يا ريمُ قومي الآن ويحكِ فانظري
ما للربى قد أظهرت إعجابها
كانت محاسِنُ وجهها محجُوبة
فالآن قد كشف الربيعُ حجابها
وردٌ بدا يحكي الخدود ونرجِسٌ
يحكي العيون إذا رأت أحبابَها
والسرو تحبه العيون غوانيا
قد شمرت عن سوقها أثوابها
وكأن إحداهن من نفح الصّبا
خودٌ تلاعبُ موهنا أترابها
لو كنت أملك للرياض صيانة
يومًا، لما وطئ اللئام ترابها

وكان يعتبر النرجس ملكًا للأزهار، فمن قوله:

أرأيت أحسن من عيون النرجس
أم من تلاحظهن وسط المجلس

•••

وله قصائد في وصف معارك بين الأزهار.

وربما عُدَّ الصنوبري نمطًا غربيًا في إكثاره من وصف الطبيعة من أزهار، وسماء، وضياء، وهواء.

وثار بعض الشعراء ككُشاجم على طريقته، وأتى بعده من قلَّده.

وكان هناك قسمان من الشعر، قسم كلاسيكي كالذي ذهب إليه المتنبي، وأبو نواس، والشريف الرضي، وقسم شعبي، وذلك مثل بعض الشعراء المكدين الطّوافين كالأحنف العكبري القائل:

على أني بحمد الله
في بيت من المجد
بإخواني بني ساسا
ن أهلِ الجَدِّ والجِدِّ
لهم أرض خراسا
ن فقاشان إلى الهند
إلى الروم والزنـ
ـج إلى البُلغار والسند
جذارًا من أعاد لهم
من الأعراب والكُرد
قطعنا ذلك النَّﻫ
ـج بلا سيف ولا عمد

ويقول:

العنكبوت بنت بيتًا على وهَن
تأوي إليه وما لي مثله وطنُ
والخنفساء لها من جنسها سَكَن
وليس لي مثلها إلفٌ ولا سَكَنُ

ومثل الشاعرين الشهيرين ابن الحجَّاج، وابن سُكَّرة، فقد أكثرا من الأوراق الشعبية في صراحة من غير كناية، أو تورية في العلاقات الجنسية، والفضلات البدنية بأقبح لفظ، وأسوأ تعبير، ولا نريد أن نمثل لهما، وكان ميل الناس في ذلك العصر إلى السخافة والشهوات سببًا في نتاج هذا النوع من الشعر، والإقبال عليه.

ويطول بنا القول لو أننا عددنا الشعراء الذين نبغوا في هذا العصر مع تعدد نواحيهم ونبوغهم، وربما كان أدلهم على عصره أبو العلاء، والصنوبري، والمتنبي، وابن الحجاج، والشريف الرضيّ، فأبو العلاء ميزته أنه متشائم مسجل لرذائل قومه وزمنه، والصنوبري ميزته إعجابه بالطبيعة، والمتنبي قوي جبار، فارس في حياته، وفارس في شعره، معتد بنفسه، طموح مسجل لأكثر أحداث زمانه، وخاصة الحروب بين الصليبين وبين سيف الدولة، والشريف الرضيّ يمثل العظمة الأرستقراطية، والاعتداد بالنفس، والفخر بالنسب، يقول الشعر، ويتجاهل فيه أنه عائش في المدن، فيشعر في الفروسية، والحرب، والجمال، وكرام الخيل من مثل قصيدته المشهورة التي مطلعها:

لمن الحدوبُ تهزهن الأينقُ
والركب يطفو في الشراب ويغرقُ

وابتكر في هذا العصر الموشَّحات، وخاصة في الأندلس، وهي تتكون من أدوار، كل دور منها ذو أبيات مجزأة، توحد صدورها قافية، وتوحد أعجازها قافية أخرى، مع استقلال كل دور عن الآخر في قوافي صدوره، وأعجازه، ثم يختم كل دور بالقفل مثل:

رشيقة المعاطف
كالغصن في القوام
شهدية المراشف
كالدّر في النظام
دعصية الروادف
والخصر ذو انهضام
حسنها أبدع
من حسن ذياك الغزال
أكحل المدمع
… … … … … إلخ

والموشحات نتيجة لحب الأندلسيين للسمر والموسيقى، وقد ساعد على ذلك ما للطبيعة من جمال، وقد تحرر فيها أصحابها من التزام القافية؛ وللمستشرقين أبحاث كثيرة في: هل أخدت من النوع المعروف عند الإسبان «بالطروبادور»، أو الإسبان أخذوها عن العرب؟

ولم يوصل إلى كلمة نهائية بعدُ في هذا الموضوع، ويقول ابن خلدون: «إن أول من اخترع الموشَّحات رجل اسمه «مقدم بن معافر الفريري، وكان من شعراء الأمير عبد الله بن محمد المرواني، الذي عاش من سنة ٥٠٧ﻫ إلى ٥٩٥ﻫ»، ولكن رويت موشحات قبل هذا التاريخ.

ولم توضع قواعد للموشحات دقيقة، بل كان ناظموها يفهمون تقاليدها فهمًا عامًّا، حتى أتى ابن سناء الملك المصري، المولود سنة ٥٥٠ﻫ في القاهرة، وألَّف كتابه «دار الطراز في عمل الموشحات»، فوضَّح خصائصها، وعرَّفها بقوله: «الموشح كلام موزون على وزن مخصوص، وهو يتألف في الأكثر من سنة أقفال وخمسة أبيات، وفي الأقل من خمسة أقفال، وخمسة أبيات، والنوع الأول يقال له التام، والثاني يقال له الأقرع» مثل:

ضاق عنه الزمان
وحواه صدري
ضاحك عن جُمان
سافرٌ عن بدر
آه مما أجد
شفّني ما أجد
قام بي وقعد
باطش متئد
كلما قلت قد
قال لي أين قد

ويلزم أن تكون الأقفال كلها متفقة في وزنها وقوافيها، وعدد أجزائها، وكل قافية في الموشَّح تسمى فقرة، وكل قفل مع البيت الذي يليه يسمى سِمطًا، وآخر قفل من الموشح يسمى «خَرْجة». ويفضل الوشَّاحون أن تكون الخرجة عامية؛ لأنها أظرف إلا في المديح. والموشَّحات صنفان: منها ما جاء على أوزان أشعار العرب، ومنها ما لم يكن على وزنها، فالأول كالموشَّحة التي مطلعها:

أيها الشاكي إليك المشتكى
قد دعوناك وإن لم تسمع

فإنها من بحر الرمل. والقسم الثاني: ما ليس على وزن أشعار العرب، وهم يفضِّلون القسم الثاني على الأول. وتمتاز الموشَّحة باللطف، وخفة الروح، وبعضها عميق المعنى، وعند ظهورها قوبلت باستحسان في الأوساط المختلفة، واعتمد عليها في الغناء، وتمتار بالتحرر من الوزن والقافية.

فالشعر كالنثر ظلَّ للبيئة الاجتماعية، وإن اختلف الشعراء فيها بينهم، فاختلاف يرجع إلى طبيعتهم ومزاجهم، ولكن كلٌا يمثل عصره أصدق تمثيل.

وقد عني بعض الأدباء بتأريخ الأدب عن طريق تراجم الأدباء في الجاهلية والإسلام، وجمعها في كل العصور، وأشهر من فعل ذلك أبو الفرج الأصفهاني في كتاب «الأغاني»، وهو كتاب حافل، لم يؤلِّف مثله قبله ولا بعده، جمع فيه من الكلام على تراجم الشعراء الجاهليين، والإسلاميين، والعباسيين ما لم يجمع من قبل؛ ولذلك استغنى به بعضهم في رحلاته وانتقالاته عن كثير من الكتب، غير أنه لم يرتبه حسب تاريخ الزمن، ولا حسب الحروف الأبجدية، وإنما رتَّبه حسب الأصوات، فإذا جاء صوت ترجم لصاحبه، وبيَّن نغمته، وطريقة غنائه، وأصل الكتاب أن الأغاني كانت قد جمعت، فأمر الرشيد باختيار مائة صوت منها، أي مائة دور، فجمعت له، فلما جاء الواثق أمر أن يختار له منها خيرها، وأن يبدل ما لم يستحسن بما هو أعلى منه، وأولى بالاختيار، وجاء من بعده ففعلوا هذا الفعل، فجمع أبو الفرج كل ذلك مبتدئًا بأصوات الرشيد، وقد استرد في الأخبار حسب عادة المؤلفين في هذا العصر، وكان عالمًا بالغناء من بيت أدب وغناء، عالمًا بأيام العرب وأخبارهم، مما روي عن كثير من الثقات، ومما قرأ الكتب الموثوق بها، وقد كان قَرَّاء للكتب.

وأسند كل خبر لصاحبه ممن روى عنهم، أو من الكتب التي أخذ منها، ويظهر أنه كان ثقة فيما ينقل، يتحرى الأخبار، ولا يأخذ إلا ما صح عنده، وفي الكتاب نقد لكثير من الروايات مما يدل على علمه بالنقد، إما لأن الراوي ليس بثقة، وإما لأن الأحداث التي رويت لا تتناسب مع الزمان والمكان والبيئة. وكان قويَّ النقد صحيحه، فليس يضع من شأن الشاعر عنده أن يكون سيئ السيرة، فاسد الخلق، وضيع النسب، بل يقيسه بالمقياس الفني وحده، وليس يُؤثر عليه تشيُّعه، ولا أمويَّته، بل لا يمنعه ذلك من أن يقول الحق كل الحق، سواء كان القائل سنيًّا أو شيعيًّا؛ ولذلك كان الكتاب مصدرًا تاريخيًّا يستدل منه على الأحوال الاجتماعية فى الجاهلية والإسلام، بل هو فى هذه الناحية أحسن من كتب التاريخ؛ إذ هي تعتمد على أخبار الخلفاء والأمراء الرسمية فقط، أما حالتهم الاجتماعية، وحالة الشعب من لهو وترف وغناء، وما إلى ذلك، فنستنبطها من «الأغانى» وأخباره، لا من كتب التاريخ.

وقد ذكر أنه ألَّفه لرئيس من رؤسائه، والظاهر أن هذا الرئيس هو الوزير المهلبي: فإنه كان يتصل به، ويؤاكله، ويحادثه، ويسمر عنده، ويروي الأخبار الأدبية له.

وعلى كل حال، فهذا الكتاب الذى ألف في القرن الرابع الهجري كان مصدرًا لكل المؤلفين الذين جاءوا بعده، وقد بذل المعاصرون جهودًا جبارة في تعرف النغمات التي ينص عليها في كتابه، ويحكي هيئاتها ليمكن ينتفع بالأصوات التي وردت فيها.

واعتمد عليه المستشرقون والشرقيون على السواء، وعلى الإجمال فهو نعمة من نعم القرن الرابع على الأدب.

وهناك نوع من الأدب لا بد أن نشير إليه مما نما فى هذا العصر، وهو النقد الأدبي.

وربما يمثله خير تمثيل أبو هلال العسكري، وقدامه، وابن رشيق، فأما أبو هلال العسكري فقد خلف لنا كتاب «الصناعتين»، ويعني بالصناعتين: صناعة النظم، والنثر، وقد سبقه إلى ذلك من غير شك بعض الكتاب، كابن سلّام، وابن قتيبة.

وربما عدت كتابته في نقده من أحسن الأساليب وأرقاها، يسجع، ولكن لا يلتزم السجع، ويمتاز بالوضوح، ولكنه قد يجور في أحكامه النقدية؛ فهو يتحامل على المتنبي، ويفحص بإمعان عن مساويه، ولا يعلن محامده.

ومما ساعده على نقده معرفته الشعر، ومعالجته له؛ فهو كتاب أدب ونقد معًا، وربما عد من عيوبه جنوحه إلى أن البلاغة في اللفظ دون المعنى، متبعًا في ذلك نظرية الجاحظ؛ وهم يعللون ذلك تعليلًا سخيفًا بأن المعاني ملقاة في الطريق، كتشبيه الشجاع بالليث، والكريم بالغيث، أو نحو ذلك، كأن هذه هي كل المعاني، مع أن المشاهد أن المعاني يصعب العثور عليها، ويختلف الناس فيها، وربما كان متأثرًا في ذلك بأساليب أهل زمانه، ككلام الصابئ، وابن عباد، والخوارزمي.

وعلى العموم، فقد تقدم النقد خطوة جديدة، فقد كان له لفتات طيبة مثل التفاته إلى التفرقة بين السهولة والليونة، فقد يكون الكلام جزلًا، وهو مع ذلك ساحر، على كثير من مثل هذه النظرات؛ وهو فى نظراته يطبقها بأمثلة عديدة تركز المعنى الذي يريده.

وأما قدامة، فقد ألف كتابًا في نقد الشعر، وكتابًا آخر في نقد النثر؛ وهو يرينا فيهما مقدار تأثر علماء الأدب في ذلك العصر بالفلسفة اليونانية، والأدب اليوناني، وكثيرًا ما ينحو منحاهم، في التقسيم والتجويف والتحديد، ولكنه دون أبي هلال العسكري في حسن التعبير، ورشاقة الأسلوب، وتغلب عليه عجمة الفلسفة، وقد يكون أغزر علمًا، ولكنه أردأ تعبيرًا.

وأما ابن رشيق، فهو مغربي الأصل، ألف كتابه «العمدة» يصف فيه الشعر، وأصول جودته، ويخالف أبا الهلال والجاحظ في أن عمدة البلاغة على اللفظ دون المعنى، بل يجعل البلاغة في إجادتهما معًا، ويجدد فصولًا، ويشعب البلاغة إلى نواح، لا نعلم أن أحدًا سبقه إليها من قبل.

وهناك كتب أخرى في النقد، كالوساطة بين المتنبي وخصومه، والآمدي والمرزباني، لا نطيل في وصفها.

على كل حال، كان هذا العصر غنيًّا — كما ترى — بالأدب الخالص، وبالنقد الأدبي؛ وربما لم يساوه في ذلك عصر من العصور.

ومما يلاحظ أن النقد كان يتبع الأدب، ولم يفتح له أبوابًا جديدة؛ فالأدب إن كان قد غرق في المحسنات اللفظية، فإنا نرى النقد يشيد بهذه المحسنات، ولم ينصحه بأن يقلل منها. والأدب اتجه إلى العناية بالألفاظ أكثر من العناية بالمعاني، فوجدنا النقد يخدم هذه الفكرة، وكان على النقاد ألا يقيسوا الأدب بمقياس عصرهم، بل يسمو عن عصرهم، بتصور المثل الأعلى للأدب.

وعلى الجملة، فقد كان النقاد مسوقين بالأدب لا قادة له، وربما كان ذلك في أكثر العصور شرقًا وغربًا، وكان من أحسن ما عملوه، واتجهوا إليه الوقوف عند كل بيت أو قصيدة، وذكر من قال هذا المعنى قبل الشعر، ومن كان أجود، ومن كان أردأ، ومن أين أتت الجودة، ومن أين أتت الرداءة؛ ولذلك كان من أكبر موضوعاتهم السرقات الشعرية، وادعاء أن فلانًا سرق المعنى من فلان، وهو تهجم فظيع؛ لأن ادعاء سرعة المعاني صعب إثباته، فقد يكون هناك توارد في الأفكار.

نعم، إذا كان لفظ البيت كلفظ البيت، أو الشطر كالشطر سهل ادعاء السرقة، أما إذا اختلفت الألفاظ فمن الصعب ادعاء ذلك، والذي يلاحظ أيضًا أن النقاد في أكثر ما اتجهوا إليه نظروا إلى الجزئيات دون الكليات، شأنهم في الفقه، فهم بدل أن يقرِّروا قاعدة في البيع مثلًا، يذكرون صفة بيع جزئي لتستنتج منه القاعدة، وكذلك في الأدب، يذكرون بيتًا وأقرانه، أما تعرّضهم مثلَا لأصول الأدب، وبم يرقى أدب عن أدب؟ وأنواع النثر، وأنواع الشعر، والشروط اللازمة في كل نوع، فقليل نادر في كتبهم، وحتى إذا أرادوا أن يقارنوا بين شاعر وشاعر كما فعل الآمدي في الموازنة بين أبي تمام والبحتري، فالمنهج الصحيح أن يقوِّم كل شاعر في شعره، ومزاياه على العموم وعيوبه، أما أن يقارن بين بيت من هذا وبيت من ذاك في معنى واحد، أو قصيدة لهذا أو قصيدة لذاك فنظرة جزئية، لا تسلم إلى الحكم الصحيح.

ونوع آخر من الأدب يقدمه لنا قابوس بن وَشْمكير، ذلك أنه كان ملكًا لجرجان وطبرستان، ولئن كان سيف الدولة ملكًا بدويًّا عربيًّا فقابوس هذا ملك فارسي متحضِّر، وكما أن الملك تعجبه الطرف، والأشياء الأنيقة، فكذلك كان قابوس تعجبه الطرف الأدبية، ويهديه الشعراء من طرفهم، وينشد هو طرفًا.

كان كما ذكرنا ملكًا، فأزاله عضد الدولة عن ملكه، فبكى ملكه كثيرًا، كما بكى ملكه ابن عباد، لما زال ملكه عن الأندلس، ومن قول قابوس:

لئن زال أملاكي وفات ذخائري
وأصبح جمعي في ضمان التفرق
فقد بقيت لي همة ما وراءها
منالٌ لراج أو بلوغ لمرتقي
ولي نفس حر تكره الضيم مركبا
وتكره ورد المنهل المترنق
فإن تلفت نفسي فللهِ درها
وإن بلغت ما أرتجيه فأخلِق

وكذلك له النثر البديع المصنوع صنعة دقيقة، وقد قال القول البديع بالفارسية والعربية، وله نصائح غالية لابنه. ومن قوله: «أمن صخر تدمر قلبُه، فليس يلينه العتاب، أم من الحديد جانبه، فلا يُميله الإعتاب، أم من صفاقة الدَّهر مجن نبوه، فقد نبا عنه غربُ كل حجاج، أم من قساوته مِزاج إبائه، فقد أبى على كل علاج»، وهو أسلوب مبالغ في زينته على نمط كلام ابن عباد، وابن العميد، فإن كان له شيء جديد، فهو تقدمه في البلاغة خطوة بالإمعان في السجع، والاستعارات، والمجازات، وقد طبعت له رسائل في مصر تدل على ما نقول.

وظهر في هذا العصر ابن نباتة، وكانت له الخطب الرّنانة، ولكن من المؤسف أنه كان متجهًا إلى الخطابة الدينية السياسية والاجتماعية؛ ذلك لأن العصر ثارت فيه العواطف الدينية أكثر من غيره، فقد كانت الحروب الصليبية على أشدَّها بين سيف الدولة والصليبيين، ورجال الدين من الجانبين يشعلون نيران العواطف، فكان ابن نباتة من هذا القبيل.

لئن قال المتنبي، وأبو فراس، وغيرهما في وصف هذه الحروب وصفًا أدبيًّا، فقد كان ابن نباته يجعل وظيفته إثارة البواعث للقيام بهذه الحروب، ودفع إغارة الصليبيين.

أما الخطابة السياسية والاجتماعية فلم تثر الخطباء، إنما تبادل الأدباء الرسائل أكثر مما تبادلوا الخطب، فنجد الرسائل المتبادلة بين المعرّي، وداعي الدعاة، وبين كثير من رجال الشيعة والسنّية، ولعلَّ سبب ذلك أن النزاع بين هذه الطوائف من شيعة وسنّية، ومن فقهاء وصوفية، ومن معتزلة كلها تحتاج إلى عقل كبير؛ وهذه أنسب لها الرسائل، أما العاطفية الدينية، وإثارتها فأنسب لها الخطب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤