الفلسفة
- الدور الأول: نقل نتف فلسفية من هنا، ومن هنا، كالذي يحكي عن خالد بن يزيد الأموي ونحوه.
- والثاني: النقل المنظم من كتب فلسفية منسوبة إلى مؤلفيها، كالذي كان في عصر المأمون ومن بعده.
- والدور الثالث: هو الدور الذي توضحت فيه هذه العلوم، وبدأ فلاسفة الإسلام يتفهمونها، ويعلقون عليها، ويزيدون فيها.
وقد جاء عصرنا هذا، وقد تمَّ النقل تقريبًا، وبدأ المسلمون يستغلونها كما يظهر ذلك في مؤلفات محمد بن أبي بكر الرازي، ثم الفارابي، ثم ابن سينا.
وقد كان موضوع الفلسفة إذ ذاك أوسع من موضوع الفلسفة اليوم، فقد كانت تشمل المنطق، والطبيعيات، والكيميائيات، والإلهيات، والرياضيات، والنفس والاجتماع إلخ. ولكن على توالي العصور، بدأت علوم كثيرة تنفصل عن الفلسفة، وتستقل عنها، كالمنطق، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، وربما انفصلت علوم أخرى عنها واستقلت.
وأول ما بدأت الفلسفة في الإسلام بدأت النواحي العملية منها، كالطب والتنجيم لحاجة الملوك، والشعوب إليها، كالذي قال الغزالي: «أردنا العلم لغير الله فأبى إلا أن يكون لله»، وهكذا بدأت الفلسفة لسد الحاجة من طب وتنجيم، وانتهت بحب البحث المجرد.
لقد بدأت الفلسفة شبه خرافية، بدأ علم الفلك بالتنجيم، وبدأ الطب بالوصفات الشائعة، ثم تحول كل ذلك إلى بحث منظم، لا يراد به إلا الحق، فعلم التنجيم صار فيما بعد علم النجوم، وتحويل المعادن إلى ذهب أدى عندهم إلى علم الكيمياء، وهكذا.
وكلما تقدم الزمان كانت تتبلور الفلسفة، وصاروا يقصدون من علم الطبيعة معرفة العناصر التي تتألف منها المادة، والكيمياء تدرس القوانين التي تتركب بموجبها عناصر المادة، وتبين لنا مقدار العناصر الموجودة في الكون، وعلاقة بعضها ببعض، ونحو ذلك.
وأهم من ذلك كله أن الفلسفة تتجاوز هذه الموضوعات المختلفة من مادة وتكوينها، وتريد أن تجمع نتائج العلوم كلها، وتنسق بينها كالذي يرى معارك مختلفة فينظر إليها من طائرة، أو كجذور الشجرة بالنسبة إليها، فكل طائفة من العلماء تبحث في علمها، وتأخذ الفلسفة نتائجهم، وتؤلف بينها، وتتعمق فيها.
والفيلسوف الحق من استطاع أن يضيف إلى ذلك تجربته الخاصة، وقد استفاد فلاسفة عصرنا هذا مما سبقهم، ومن الثقافات المختلفة التي نقلت إليهم، فعدولها، ووفقوا بينها، ووصلوا من ذلك كله إلى نتائج باهرة، كانت معول الفلاسفة الأوروبيين في أول نهضتهم، وقد كان قائدهم ابن سينا في طبه، والرازي في أبحاثه، والغزالي في إلهياته.
نعم، إن الأوروبيين بعد أن اعتمدوا على أكتاف الفلاسفة الإسلاميين طاروا من فوقهم، ووصلوا إلى أشياء لم تصل إليها الفلسفة الإسلامية. ومن الأسف أن فلاسفتنا المسلمين لم يطيروا كما طار الغربيون، بل ظلوا يكرر الخلفُ ما قاله السلف، ولا يخرجون عما قالوه إلا في قليل.
وأول ما ظهرت الفلسفة الإسلامية ظهرت في علم الكلام؛ ذلك أن الأمم غير الإسلامية من يهود أو نصارى أو وثنيين، أثاروا مسائل لم تكن تثار من قبل كالجبر والاختيار، وعدل الله.
ووجدوا في الفلسفة منهلًا عذبًا لإرواء غليلهم، فتسلحت كل أمة بها، ولم يكتفوا ببحث المسائل، بل هاجموا الإسلام في بعض مسائله؛ فاضطرت طائفة من المسلمين أن تتسلح بسلاحها وتدفع عدوانها، فكان هذا سببًا في وجود علم الكلام.
وكان المتكلمون أول من قام بهذه المهمة، وهؤلاء المتكلمون كان منهم بعض أهل السنة، لكن كان أقواهم وأشدهم بأسًا، وأكثرهم دفاعًا عن الإسلام المعتزلة، حتى إن المعتزلة جعلوا المناظرة والمجادلة، وهذا النوع من الثقافة ركنًا كبيرًا من أركان الإسلام.
وهذا الموقف من المتكلمين، وأهل الأديان أثار في الجو مسائل كثيرة مثل: هل الشر يصدر عن الله؟ وما فائدة الشر في هذا العالم؟ وهل الله يقدر على فعل الظلم؟ إلخ.
وكان علم الكلام هذا إرهاصًا للفلسفة، وأهم فرق بين علم الكلام والفلسفة أن المتكلم يؤمن أولًا بدينه، ثم يتلمس الدلائل والبراهين الفلسفية لتقويته، والدفاع عنه، والرد على مخالفيه.
أما الفيلسوف فيدخل في هذه المسائل مجردًا عن كل اعتبار، وهو طوع الدليل حيثما يكن، فكان طبيعيًّا أيضًا أن تكون الكراهية سائدة بين المتكلمين والفلاسفة، كما فعل الجاحظ المعتزلي مع الكندي أول فيلسوف؛ إذ هزأه في كتاب «الحيوان»، وسخر منه، وشهر به.
ولا بدَّ أن تكون هناك أمثلة كثيرة من هذا القبيل لم نقف عليها.
وكان من أشهر الفلاسفة في عصرنا هذا الفارابي، وإخوان الصفا، والبيروني، وابن سينا، فأما الفارابي فكان من أصل تركي، وكان فلاسفة الإسلام على العموم يسلكون مذهبين؛ يُعرف أحدهما عند المناطقة بمذهب الاستنتاج، والآخر بمذهب الاستقراء، فالأولون يقررون القواعد الكلية، ثم يستنتجون منها الجزئيات، كما تقول: الفاعل مرفوع، والمفعول منصوب، تطبق الأمثلة الجزئية على هذه القواعد، والآخرون يستقرون الجزئيات، ثم يستنتجون منها القاعدة.
وكان المتكلمون أميل إلى طريق الاستقراء، والفلاسفة الأولون أميل إلى طريق الاستنتاج.
وكان الفارابي من فلاسفة الاستنتاج، ويسميهم «دِيبُور» الطبيعيين بهذا المعنى.
ولا يهمنا كثيرًا تاريخ حياته الشخصي بالتفصيل، وإنما يهمنا أمره الفلسفي، فقد ذكروا أنه تعلم الفلسفة على معلم مسيحي هو يوحنا بن هيلان، وتعبيراته غامضة، ككل علم في أول أمره، حتى إن ابن سينا على عظمته اضطر — كما يقولون — إلى قراءة كتابه «ما بعد الطبيعة» أربعين مرة ليفهمه، والتحق بمجلس سيف الدولة، ولازمه حتى مات.
ومن الأسف أن فلسفة اليونان نُقلت إلى العربية من غير تمحيص للمذاهب، ومعرفة نظريات كل فيلسوف على حدة، بل نُسب إلى أرسطو ما ليس على مذهبه، وإلى أفلاطون ما ليس على مذهبه، حتى اضطر الفارابي أخيرًا إلى تأليف كتاب للجمع بين نظريات أفلاطون وأرسطو؛ مع أن الجمع بينهما غير ممكن، كأنه يعتقد أن الفلاسفة الكبار منزهون عن الخلاف، ولم يكن يعبأ بالجزئيات كما ذكرنا، ولا يطيل الوقوف عندها.
وكان يعتقد أنه كل شيء فهو طبيب جسماني، وطبيب روحاني، وموسيقي بارع، وكان له فضل كبير في تقسيم العلوم وحصرها.
والفارابي أول فيلسوف إسلامي نظر إلى الفلسفة نظرة شاملة كاملة — كان الكندي قبله فيلسوف — وتحدث المعتزلة كالنظام، والجاحظ، وأبي هذيل العلاف في مسائل من صميم الفلسفة، ولكن أحدًا منهم لم يعرض الفلسفة عرضًا وافيًا قبل الفارابي، وأتى من بعده كابن سينا وابن رشد، فحذا حذوه، وقد قلَّد في هذا الشمول والتنظيم أرسطو من قبل، فلئن قالوا عن الكندي: إنه المعلم الثاني، فالأولى بهذا اللقب الفارابي.
ومن مزاياه نظرته الفلسفية إلى المجتمع، متأثرًا بقول أرسطو المشهور: «الإنسان مدني بطبعه»، فعنده أن المجتمع كالفرد، إذا تألم منه عضو تأثر بهذا الألم سائر الأعضاء، وكذلك إذا تلذذ عضو تلذذ سائر الأعضاء.
وقد كان للفارابي ثلاثة منابع يستمد منها فلسفته؛ فالفلسفة اليونانية، وخاصة مذهب أفلاطون وأرسطو، والديانة الإسلامية، والعقل الذي يوفق بين الفلسفة اليونانية بعضها مع بعض من جهة، وكلها مع الإسلام من جهة أخرى، وهذا التوفيق يحتاج إلى عقل قوي كبير؛ لأن للفلسفة اليونانية مذاهب مختلفة جدًّا، يصعب التوفيق بينها، ولأن عماد الفلسفة العقل المطلق، وعماد الدين القلب. ومن أظهر أمثلة ذلك من النوع الأول كتابه: «الجمع بين رأيي الحكيمين»، يعني: أفلاطون، وأرسطو، ومن النوع الثاني أنه ألَّف كتابه: «آراء أهل المدينة الفاضلة»، فحاكى في أجزاء كثيرة منها أفلاطون في جمهوريته، وأبعد منها ما لا يتفق مع الإسلام اتفاقًا واضحًا، وزاد عليه أشياء كثيرة من تعاليم الإسلام، مثال ذلك: الشروط التي شرطها في الإمام الذي يسيطر على مدينته الفاضلة، فقال: «ينبغي أن يكون هذا الرئيس سليم البنية، قوي الأعضاء تامها، جيد الفهم والتصور، قوي الذاكرة، كبير الفطنة، سريع البديهة، حسن العبارة، محبًّا للعلم والاستفادة، متحليًا بالصدق والأمانة، نصيرًا للعدالة، عظيم الإرادة، ماضي العزيمة، قانعًا، متجنبًا للذاته الجسمية»، وهذه كلها مأخوذة من جمهورية أفلاطون.
وزاد عليها شرطًا استمده من الدين، وهو أنه لا بد لرئيس المدينة أن يسمو إلى درجة العقل الفعال، الذي يستمد منه الوحي والإلهام، والعقل الفعال هو الله تعالى.
وعند الفارابي أن الوجود ينقسم إلى واجب الوجود، وممكن الوجود، وليس هناك غيرهما من الوجود، وطريق معرفتنا لله هو الموجودات التي تصدر عنه، فمن الله الواحد يصدر الكل، وعند الله منذ الأزل صور الأشياء ومثلها، ويفيض عنه الوجود الثاني، أو العقل الأول، وهو الذي يحرك الفلك الأكبر.
وتأتي بعد هذا العقل عقول الأفلاك الثمانية تباعًا، يصدر بعضها عن بعض، وهذه العقول هي التي تصدر عنها الأجرام السماوية، والعقول التسعة هي التي تسمى ملائكة السماء.
وفي المرتبة الثالثة يوجد العقل الفعال، وهو المسمى أيضًا روح القدس، وهو الذي يصل العالم العلوي بالعالم السفلي.
وفي المرتبة الرابعة النفس، وكل من العقل والنفس لا تكون على حالة واحدة، بل تتكثر بتكثر أفراد الإنسان. وفي المرتبة الخامسة توجد الصورة، وفي السادسة المادي أو الهيولا، وبهاتين تنتهي سلسلة الموجودات.
والفارابي لا يقر ما يقال من أحكام النجوم، وأن الإنسان يتلقى المعرفة عن هذه العقول، وهو لا يدرك ما يدركه إلا بمساعدتها، والعقول يؤثر كل منها في الذي يليه، بمعنى أن كلًّا منها يقبل فعل ما فوقه، ويؤثر فيما دونه. وقد سبق أنه قال: إن العقل الفعال في الإنسان؛ ولكنه في موضع آخر يقول: إنَّ العقل الفعال هو عقل الفلك الأدنى؛ وهو فعال في العقل الإنساني، والعقل الإنساني منفعل به، ومفارقة النفس للبدن تعطيها كل ما للعقل من حرية.
وعنده أنه لا تبلغ الأخلاق كمالها إلا في مدينة فاضلة؛ لأنَّ الإنسان مدني بطبعه كما ذكرنا. ونفوس أهل المدينة الجاهلة تكون خلوًّا من العقل، وهي تعود إلى العناصر لتتحد من جديد بكائنات أخرى من الناس، أو الحيوانات الدنيا، «وهذا القول أشبه ما يكون بالقول بالتناسخ»، والنفوس الضالة تلقى ما تلقاه النفوس الجاهلة، أما النفوس الخيرة فهي وحدها التى تبقى بعد مفارقتها الجسد، وتدخل العالم العقلي، وكلما زادت درجتها في المعرفة عَلا مقامها بعد الموت بين النفوس، وزاد حظها من السعادة الروحية.
وأدى تعمق الفارابي في التوفيق بين الفلسفة والدين أن يضع نظرية في النبوة، ذلك أن الكلام في النبوة كان شائعًا بين مثبت لها ومنكر؛ ولذلك ألفوا كثيرًا كتبًا سموها: «دلائل النبوة»، أو «أعلام النبوة» كما فعل الجاحظ، والقاضي عبد الجبار، وغيرهما.
وألَّف آخرون في نفيها، كما فعل ابن الراوندي، وأبو بكر الرازي، وغيرهما، فجاء الفارابي يدعي في النبوة أمرًا جديدًا، يثبته بالعقل الفلسفي؛ ذلك أنه ربط النبوة بالأحلام، ولذلك عقد في بعض كتبه فصلين متتاليين، أحدهما في الأحلام، والثاني في النبوة، وجعلهما راجعين إلى القوة المخيلة في الإنسان، وربما أوحى إليه بذلك الإسلام نفسه، فقد جعل الإسلام الأحلام الصحيحة إرهاصًا للنبوة، وفي الحديث: «أول ما بدئ به من الوحي الرؤيا الصادقة، فكان النبيُّ إذا رأى الرؤيا جاءت مثل فلق الصبح واضحة صحيحة». وهو يرى أن الأحلام تابعة لأحوال النائم العضوية والنفسية، وإحساساته في اليقظة، فهي تختلف فيما بينهما؛ لاختلاف العوامل المؤثرة فيها، فالجائع يحلم أنه يأكل، والعطشان يحلم أنه يسبح في الماء، «وقد يتحرك الإنسان أثناء نومه تلبية لنداء عاطفته الخاصة، أو يجاوز مرقده، ويضرب شخصًا لا يعرفه، أو يجري وراءه».
فإذا ارتقى الإنسان وإحساساته وتخيلاته، استطاعت مخيلته أن تشكل أحلامه بشكل العالم الروحاني، فيرى النائم السماوات وما فيها، ويشعر بما فيها من لذة وبهجة، وقد تصعد المخيلة إلى هذا العالم، وتتصل بالعقل الفعال، وتتقبل منه الأحكام المتعلقة بالأعمال الجزئية، والحوادث الفردية؛ وبذا يكون التنبؤ، وبه تفسر النبوة، ويقول الفارابي أيضًا: «إن القوة المتخيلة إذا كانت في إنسان ما قوية كاملة جدًّا، وكانت المحسوسات الواردة عليها من خارج، لا تستولي عليها استيلاء يستغرقها بأسرها، ولا يستخدمها للقوة الناطقة، بل كان فيها مع اشتغالها بهذين، فضل كثير تفعل به أيضًا أفعالها التي تخصها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين في وقت اليقظة مثل حالها عند تحللها منها في وقت النوم، اتصلت بالعقل الفعال، وانعكست عليها منه صور في نهاية الجمال والكمال. وقال الذي يرى ذلك: إن لله عظمة جليلة عجيبة، ورأى أشياء عجيبة لا يمكن وجود واحد منها في سائر الموجودات أصلًا، ولا يمتنع إذا بلغت قوة الإنسان المتخيلة نهاية الكمال أن يقبل في يقظته عن العقل الفعال الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، وسائر الموجودات الشريفة، فيكون له بما قَبِله من المعقولات نبوءة بالأشياء الإلهية وهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها القوة المتخيلة، والتي يبلغها الإنسان بهذه القوة».
وعيب هذه النظرية ربط النبوة بالخيال، كأن ما يراه النبي متخيل، وربما عُدَّ أيضًا من عيوبها، وإن كان غير واضح عد ما يراه النبي، وما يعدو إليه من قبيل الخيال لا من قبيل رؤية الواقع، وهذا يضعف من شأن النبوة، ولكن من مزاياها ميلها إلى جعل النبوة مرتبطة بالمواهب التي لبعض الناس، وهذا يوافق ما يقوله رجال الدين من أن النبوة منحة من الله لا مكتسبة.
ومع ذلك جرى على نظرية الفارابي هذه ابن سينا، وابن رشد، وبعض الشيعة في رسائلهم، وإخوان الصفا، والمتصوفة، وقد نشأ من اعتقاد المتصوفة بهذه النظرية إعلاء شأن الأولياء حتى قاربوا الأنبياء، فلما لم يكن الغزالي فيلسوفًا، وكان سُنيًّا لم يرض عن نظرية الفارابي، وفنَّدها في كتابه «تهافت الفلاسفة»، فقال: «إنَّ النبيَّ يستطيع الاتصال بالله مباشرة، أو بواسطة مَلك من الملائكة دون حاجة إلى قوة متخيلة خاصة، أو أي فرض آخر من الفروض التي يفترضها الفلاسفة».
وعلى كل حال، كان لنظرية الفارابي هذه في النبوة أثر كبير في المسلمين قلدوها، وأعادوها، وشرحوها، أو ردوا عليها وفندوها.
فنحن إن قلنا: إن الفلسفة الإسلامية وضعت أصولها على يد الفارابي في القرن الرابع، ولم يكن ما جاء بعدها في القرن الخامس وما بعده إلا شرحًا وتفسيرًا، وتعليقًا لم نبعد.
وقد بحث الفارابي فيما بحث نظرية السعادة، وهي نظرية اهتم بها أرسطو من قبل، وظل الفلاسفة يزيدونها شرحًا وتوسيعًا إلى يومنا هذا، ما هي السعادة؟ وما علاقتها باللذة؟ وهل السعادة إلا اللذة؟ حتى إن بنتام، وجون استوارد مِل ألَّفا كتابين عظيمين في السعادة، وأنها هي اللذة، وأن لا شيء يسبب السعادة إلا اللذة، وكل شيء تزيد لذائذه عن آلامه سمي فضيلة، وكل شيء تزيد آلامه عن لذائذه سمي رذيلة، وما مقياس الأخلاق الفاضلة، والرذائل، والجرائم إلا ما يتبع العمل من لذة أو ألم.
وكان ممن أدلوا بدلوهم في هذا الموضوع الفارابي في كتبه؛ فبحث السعادة، وشروطها، ودرجاتها، وأبان كما أبان بعده الفلاسفة المحدثون أن اللذة العقلية والروحانية خير من اللذات المادية الجسمية.
ونظرة الفارابي إلى السعادة نظرة صوفية متأثرة بطرق معيشته، فإذا كان العقل أرقى من الجسم، كانت السعادة الناشئة عن العقل خيرًا من السعادة التي تنشأ عن الجسم، يقول في بعض كتبه: «والسعادة هي أن تصير نفس الإنسان من الكمال في الوجود بحيث لا تحتاج في قوامها إلى مادة، وذلك أن تصير في جملة الأشياء البريئة عن الأجسام، وفي جملة الجواهر المفارقة للمواد … والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، وليست تطلب أصلًا ولا في وقت من الأوقات لينال بها شيء آخر، وليس وراءها شيء آخر أعظم منها، يمكن أن يناله الإنسان، والأفعال الإرادية التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة، والهيئات، والملكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي النقائض، والرذائل، والخسائس».
وعلى الجملة، فلو جُمعت كتب الفارابي، ورتبت وبُوبت لكان منها دائرة معارف فلسفية واسعة، فما وضعه الفارابي من أسس فلسفية أكثر مما وضعه ابن سينا، وابن رشد، وأمثالهما.
ثم كان هناك عالم آخر من طراز آخر غير الفارابي، وهو أبو الريحان البيروني، وهو وإن توفي في القرن الخامس إلا أنه أزهر في القرن الرابع، فقد كانت ولادته سنة ٣٦٢ﻫ، وهو ينسب إلى بيرون، إحدى ضواحي مدينة خوارزم، وقلنا: إنه من طراز آخر؛ لأنه لم يشغل بالإلهيات، والنظريات المنطقية كما شغل الفارابي، ولكنه شغل بالجغرافيا والفلك، وأحوال الأمم، فهو عملي أكثر منه نظريًّا، وميزته الكبرى أنه وجَّه همَّه إلى دراسة الهند — ديانتها، ورياضياتها، وفلسفاتها، وعقائدها، وتقاليدها — ومكث في هذه الدراسة أربعين عامًا منذ صحب محمودًا الغزناوي فاتح الهند، واضطرته الرغبة في تعرف الهند إلى تعلم لغاتها السنسكريتية، وألَّف في ذلك كُتبًا لا يزال يُعتمد عليها في معرفة الهند إلى اليوم، من أهمها كتاب «تحقيق ما للهند من مقولة، مقبولة في العقل أو مرزولة»، قارن فيه بين رياضيات الهند، ورياضيات اليونان، وفضل الثانية على الأولى، كما قارن بين فلسفة الهند وفلسفة اليونان، وبادل الهنود معرفة بمعرفة، وكان من مزاياه أيضًا عمق نظره، وسعة أفقه، وكثرة علمه بأحوال الأمم، وعدم تعصبه، لا يمنعه اعتقاده عن إنصاف مخالفه، فهو مثال للعالم الصحيح في الشرق والغرب.
وقد راسل ابن سينا، وراسله ابن سينا رسائل تدل على قدرته، وتمكنه من الفلسفة، أما رسائل ابن سينا إليه فهي بين أيدينا؛ وأما رسائل البيروني إليه فموجودة في فارس لم نطلع عليها.
وللبيروني في الفلك كتابه الهام، وهو «القانون المسعودي في الهيئة والتنجيم»، يقول: إنه يشتمل على كل نواحي الفلك، على نحو لم يسبق إليه، وفيه كثير من علم الجغرافيا، ولم يخلُ علم لم يؤلف فيه حتى المختارات من الأدب العربي، وقد صرح في بعض كتبه أنه يفضل العربية على الفارسية؛ لأن العربية أكثر طواعية للعلم، ومصطلحاته من الفارسية. ويروى عنه أنه قال: «لأن أُهجَى بالعربية خير من أن أُمدح بالفارسية»، وألَّف أيضًا في طبيعة الأحجار الكريمة كتابًا سمَّاه «الجماهر في الجواهر»، وهو يُحكِّم العقل في التاريخ، فلا يقبل منه إلا ما وافق العقل، كما فعل ابن خلدون فيما بعد، ويؤمن بأن للطبيعة قوانين ثابتة لا تتغير، ويحكي ابن خلكان أنه وهو يحتضر دخل عليه عالم فقيه يعوده، فسأله البيروني: عن مسألة مشكلة عليه من ميراث ذوي الأرحام، فقال له الفقيه: أفي مثل هذا الوقت؟ فقال له البيروني: «لأن ألقى الله عالمًا بها خير من أن ألقاه جاهلًا بها». قال الفقيه: فما وصلت إلى الباب حتى فاضت روحه، وهو يدل على عقل جبار ينفر من الجهل بأي شيء.
ومنهجه في البحث العملي يشبه ما ذهب إليه مسكويه فيما بعد، مع الفرق بينهما في قوة العقل عند البيروني أكثر من مسكويه.
وعلى الجملة، فقد كان البيروني عَلَمًا من أعلام العلماء الذين جَادَ بهم القرن الرابع، وقلَّ أن يجود الزمان بمثله.
وبلغت الفلسفة الإسلامية ذروتها في عهد ابن سينا، وقد ولد ونشأ في عصرنا هذا؛ إذ قد وُلد في سنة ٣٧٠ﻫ، وكان له عدة اتجاهات، فهو قصصي قصصًا فلسفية، كقصة حي بن يقظان، ورسالة الطير، وقصة سلامان وأبسال، وهو شاعر كما يتجلى في أرجوزته الطبية:
وكما يتجلى في قصيدة النفس المنسوبة إليه، ومطلعها:
إلخ.
وهو متصوف في بعض رسائله، ولكن قوة عقله، وقوة مزاجه منعتاه من التقدم الكبير في التصوف، وإنما قيمته الحقيقية في فلسفته، وقد بذل جهدًا كبيرًا في التوفيق بين فلسفة أرسطو، والأفلاطونية الحديثة، والإسلام، وهو يدور في فلسفته كثيرًا على نظرية السعادة، وهو يعتقد أن الخير يفيض على العالم من المبدع الأول، وكل الموجودات سابحة في بحر من الخير، وكل منها ينال من الخير ما هو جدير به، وما هو موافق له، وهذا النظام الذي في الكون هو أحسن نظام يمكن أن يكون عليه الوجود، وهذا العالم هو أحسن العوالم التي يمكن أن يتصورها العقل، وبحث في: كيف وجد الشر في هذا العالم؟ وما هي حكمة الله من وجوده؟ وكيف فاض الشر عن المبدع الأول، وهو خير مطلق؟ وهل تتولد الظلمة من النور، أم ينشأ النقص عن الكمال؟ أليس من الشر أن يحرق بالنار ثوب الفقير المعدم؟ أليس من الشر أن يموت الطفل، وليس لأبويه ولد غيره؟ أليس من الشر أن يحرم الإنسان ما يستطيع إدراكه من الكمال؟ ألم يكن في وسع المبدع الأول أن يوجد خيرًا مطلقًا مبرأ من الشر، وأن يبدع اللذة، ولا يخلق الألم، وأن يبدع النور، ولا يخلق الظلمة؟! وبنى إجاباته على أن هذا العالم الذي نحن فيه عالم كون وفساد، وهو يقتضي وجود الخير مع الشر، وعنده أن الخير من طبيعة الوجود، والشر من طبيعة العدم، وهو يرى أن كل شيء جميل، كالذي يقول ابن المعتز:
وعنده أن اللذات تنقسم إلى عالية وخسيسة، فهو يقول: «لا يجب أن يتوهم العاقل أن كل لذة كلذة الحمار».
نعم، إن للبهائم حالة طيبة ولذيذة، ولكن أية قيمة لهذه الحالات الطيبة الخسيسة إذا نسبت إلى اللذات العالية، فالجاهل الذي لا يدرك اللذات العالية، ولا يشعر بها أشبه بالأصم الذي لا يدرك الألحان اللذيذة، فعنده أن اللذات المعنوية أفضل من اللذات المادية، ولذلك كان في قصصه الثلاث المتقدمة يرى أن كمال الإنسان في تحرره من الشهوات البهيمية؛ لأن اشتغال النفس بالشهوات، واتصالها بالمادة يمنعانها من الالتفات للملأ العالي، وعنده أن النفوس تنقسم إلى مراتب، وخيرها النفوس التي تترفع عن الأمور المحسوسة، وتتطلع إلى المثل العليا؛ فتدرك من السعادة ما لا يخطر على قلب من ينزع إلى المادة، وقد وصف الرجل الراقي بأنه: «هشٌّ بشٌّ بسَّام، يبجل الصغير من تواضعه، كما يبجل الكبير، وينبسط من الخامل كما ينبسط من النبيه، ولا فرق عنده بين الكبير والصغير؛ لأنه يعرف الحقَّ في كل منهما، ولا يعرف الطمع سبيلًا إلى قلبه، وهو لا يفرح لوجود الشيء، ولا يحزن على فواته، وهو لا يعنيه التجسس، ولا التحسس، وهو لا يستهويه الغضب عند مشاهدة المنكر، وإذا أمر بالمعروف أمر برفق الناصح، لا بعنف المعيِّر، وهو شجاع، لا يخاف الموت، جواد، صفاح للذنوب، نفسه أكبر من أن تجرحها ذلة بشر، نسَّاءٌ للأحقاد، يفضل التقشف على الترف»، فهو كأنه يصف بذلك الإنسان الكامل. «وإذا أمعن المريد في رياضة نفسه بلغ مبلغًا يصير فيه المخطوف مألوفًا، والوميض شهابًا، وإذا ارتقى أكثر من ذلك قرب من الله، فيتمثل فيه جمال المبدع، وتفيض عليه اللذات الحقيقية، ويغيب عن نفسه، فلا يرى إلا المعبود المبدع، ولا يلحظ إلا جمال الحق، وينسى نفسه، وإن لحظ نفسه، فمن حيث هي لاحظة، لا من حيث هي ذات زينة. وهناك درجات يضيق عنها العاقل، ولا يحاول أن يعبر عنها، بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول:
وفي هذا — كما ترى — أسس من الأسس التي بني عليها ابن طفيل قصته «حي بن يقظان»، وفلسفته ممزوجة بالتصوف والتقشف، وبالحياة الروحية، وهو متفائل مؤمن بالإنسان، ويكتب وصية في كتابه «الإشارات» يقول فيها: «إنه يجب صون هذا العلم — أي الفلسفة — وحفظه، وعدم إذاعته بين الناس»، ويقول: «إني قد مخضت لك في هذه الإشارات عن زبدة الحقِّ، وألقمتك الحكم في لطائف الكلم، فصنه عن الجاهلين والمبتذلين، فإن أذعت هذا العلم أو أضعته، فالله بيني وبينك، وكفى بالله وكيلًا».
وكان ابن سينا سياسيًّا عمليًّا، وفيلسوفًا نظريًّا، وكان ناجحًا في الفلسفة، فاشلًا في السياسة، وهو يؤمن بخلود النفوس الفردية، وقد ألمَّ بكل معارف عصره، وكتبه إذا رُتبت كان منها دائرة معارف فلسفية. ولمع اسمه في الطب بصفة خاصة، وكان كتابه «القانون في الطب» معول الغربيين في جامعاتهم إلى عهد قريب، حتى إنه طُبع باللاتينية ست عشرة مرة في القرن الخامس عشر، وعشرين مرة في القرن السادس عشر، وحلَّت كتبه في المشرق والمغرب محل كتب أرسطو، وقد اختلفت فلسفته عن فلسفة أرسطو في مسائل كثيرة، خصوصًا ما لا يتفق من فلسفة أرسطو مع الإسلام، فإله أرسطو لا يعقل إلا ذاته؛ أمَّا إله ابن سينا فيعقل ذاته، ويعقل الماهيات الكلية، كما يدرك الجزئيات، ولكن من حيث هي كلية، كذلك ألَّف في المنطق كتاب «منطق المشرقيين»، وخالف فيه أحيانًا منطق أرسطو، وردَّ عليه، وهو يتبع الفارابي في المنطق، وفي نظرية المعرفة، وفي مسألة الكليات.
وعنده أن الأحداث الأرضية تتأثر بالأجرام السماوية، لا عن طريق الحرارة المنبعثة منها، وإنما عن طريق ما تشعه من الضوء، وهو في ذلك يقول ما تقول به الأفلاطونية الحديثة، وظلَّ ابن سينا مؤثرًا في الفلسفة في القرون التي بعده في الشرق والغرب على السواء، والنابغة النابه هو من يفهم فلسفته، ولا يزال العلم ينتظر من يحقق لنا: أي النظريات أخذها عن اليونان أو الهنود، وأيها خالصة له، ومن مبتكراته.
ومات ابن سينا سنة ٤٢٨ﻫ، فأغلب نتاجه كان في عصرنا الذي نؤرخه، وقد شلَّ العقول الإسلامية بفلسفته، فلم تبتكر إلا القليل.
وقد أُقيم قريبًا مهرجان في بغداد لابن سينا لمرور ألف سنة على ميلاده، وقبله أقيم مهرجان في تركيا، وتزمع فارس على إقامة مهرجان له، وتدعيه روسيا؛ لأنه من تركستان الداخلة في نطاقها. والحقُّ أن العالم ينبغي ألا تقتصر نسبته على قطر معين؛ بل هو ملك شائع للأمم كلها، كما هو شأن العلم والفلسفة نفسهما، وهو له نواح متشعبة؛ فولادته في تركستان، وثقافته عربية إسلامية، وقد ألَّف بالعربية والفارسية، فله جوانب متعددة، فيجب ألا تقتصر نسبته على أُمَّةٍ بعينها.
إخوان الصفاء
وأمَّا إخوان الصفاء، فهي جمعية سرية نشأت في البصرة، وكان لها فروع في أكثر البلاد كما جاء في الرسائل، فالبصرة قديمًا من عهد الحسن البصري كانت منشأ لمذاهب متعددة؛ فأول الصوفية تلاميذ الحسن البصري الذي كان يقيم في البصرة، والمعتزلة نشأت من تلاميذ الحسن البصري، ونشأت فيها مدرسة كبيرة نحوية تُسمى مذهب البصريين، وهي تضارع مذهب الكوفيين. وهذه هي إخوان الصفاء، تنشأ في البصرة، والمصدر الوحيد الذي عرفنا منه مؤسسيها، هو قول أبي حيان في كتابيه، «الإمتاع والمؤانسة»، و«المقابسات» الذي نقله عنه القِفطي؛ إذ سأل وزير صمصام الدولة أبا حيان في حدود سنة ٣٧٣ﻫ، فأجاب أبو حيان: إن زيد بن رفاعة أقام في البصرة زمنًا طويلًا، وصادف بها جماعة «جامعين لأصناف العلم، وأنواع الصناعة، منهم أبو سليمان البُستي، ويعرف بالمقدسي، وأبو الحسن الزنجاني، وأبو أحمد المهرجاني، والعوفي، وغيرهم، وكانت هذه العصابة قد تألفت بالعشرة، وتصافت بالصداقة، واجتمعت على القدس والطهارة والنصيحة، فوضعوا بينهم مذهبًا زعموا أنهم قربوا به الطريق إلى الفوز برضوان الله، وذلك أنهم قالوا: إن الشريعة قد دُنست بالجهالات، واختلطت بالضلالات، ولا سبيل إلى غسلها وتطهيرها إلا بالفلسفة؛ لأنها حاوية للحكمة الاعتقادية، والمصلحة الاجتهادية، وصنفوا خمسين رسالة في جميع أجزاء الفلسفة علمها وعملها، وسموها «رسائل إخوان الصفاء»، وكتبوا فيها أسماءهم، وبثوها في الورَّاقين، ووهبوها للناس.
- (١)
أن منهجهم ربط الفلسفة بالدِّين، وهو منهج لم يرتضه أبو سليمان؛ لأن للدين منطقه، وللفلسفة منطقها.
- (٢)
«أن قومًا كانوا أحد منهم أنيابًا، وأوسع منهم عقلًا حاموا حول هذه الطريقة، ولم يفلحوا»، فلعله أراد بهم فحول المعتزلة، أمثال أبي هذيل العلاف، والنظام، والجاحظ، وأمثالهم.
- (٣)
«أنهم فشلوا كما فشل مَن قبلهم».
فعنده أن للدين منهجًا، وللفلسفة منهجًا آخر مخالفًا له، فمنهج الدين مخاطبة المشاعر، مثل قوله تعالى: أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتَْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ.
أما منهج الفلاسفة، فيعتمد على المقدمات، والنتائج المنطقية، من مثل قولهم: العالَم حادث، وكل حادث لا بدَّ له من محدث، فالعالم لا بدَّ له من محدث، فما أبعد الفرق بين المنهجين، والتوفيق بينهما هو الذي قصد إليه إخوان الصفاء.
ومن أكبر هذه الجماعة زيد بن رفاعة كما ذكرنا، وقد سُئل عنه أبو حيان فقال: «هناك ذكاء غالب، وذهن وقاد، ومتسع في قول النظم والنثر، مع الكتابة البارعة في الحساب والبلاغة، وحفظ أيام الناس، وسماع المقالات، وتبصر في الآراء والديانات، وتصرف في كل فن». وقد سُئل أبو حيان عن مذهب زيد بن رفاعة هذا فقال: «لا ينسب إلى شيء، ولا يعرف برهط؛ لجيشانه بكل شيء، وغليانه بكل باب، ولاختلاف ما يبدو من بسطته ببيانه، وسطوته بلسانه، وقد أقام بالبصرة زمانًا طويلًا، وصادف بها جماعة جامعة لأصناف العلم، وأنواع الصناعة». وهذا القول يبين مهارة إخوان الصفاء، وتبحرهم في علومهم، وعدم اقتصارهم على مذهب معين.
وقد ظنَّ قوم أن من بين إخوان الصفاء هؤلاء أبا العلاء المعري، وأبا حيان التوحيدي، وابن الراوندي.
أمَّا أبو العلاء فلأنه لما ذهب إلى بغداد رأى هناك مجمعًا فلسفيًّا خاصًّا، يجتمع يوم الجمعة من كل أسبوع بدار عبد السلام البصري، أمين مكتبة سابور بن أردشير. وهذا هو النظام الموضوع لإخوان الصفاء، فإن أتباعهم مأمورون أن يجتمعوا كل أسبوع للمدارسة والمذاكرة، فالمعقول أن يكون المجتمعون هم أتباع إخوان الصفاء، وقد قال أبوالعلاء نفسه:
ويقول في موضع آخر:
غير أننا نرى كلمة إخوان الصفاء هنا في أبيات أبي العلاء ليست تنطبق تمامًا على هؤلاء الجماعة؛ ولكنه وصف عام لكل أصدقائه وإخوانه، أمَّا المجمع فلا نستبعد أنه هو مجمع فرع إخوان الصفاء، غير أننا نرى أن أبا العلاء قد قطع صلته بالعالم، وبالجمعيات منذ عاد إلى بغداد كسير النفس، كاسف البال، رهين المحبسين، وتدل عيشتُه بالمعرَّة بعد ذلك على نوع من المعيشة الانفرادية القاسية التي لا تسمح بأن يكون عضوًا في جماعة.
وأمَّا أبو حيان، فقد كان الظنُّ أنه من هذه الجماعة؛ لأنه عرف بعض أسماء الجماعة الأصلية، وعرفنا بهم، ولأنه كإخوان الصفاء يؤلف في الصداقة، ويشيد بذكرها، شأن إخوان الصفاء، لولا أنه — كما رأينا — يعيب رسائل إخوان الصفاء بالتقصير والتلفيق، فهل هو يقول ذلك تقية، أو بناء على اعتقاد؟ … لم نتأكد بعد من ذلك.
وأمَّا ابن الراوندي فلشهرته بالجرأة والزندقة.
وهذه الجمعية السرية وضعت لنفسها منهجًا دقيقًا، فكانت ترسل رسلها إلى من تتوسم فيهم الخير من كل البلاد، وتدعوهم إلى الدخول في جماعتهم، وتوجه اهتمامًا كبيرًا إلى الشبان؛ لعلمهم أن الشبان أقرب إلى قبول الدعوة من الشيوخ، وأنهم بجانب ذلك أشد سواعد، وأقوى منَّة.
وكانوا يرتبون أعضاء الجماعة مراتب أربعًا حسب تفرقهم في القوى العقلية والسن، فالمرتبة الأولى هم الذين أتموا خمس عشرة سنة من العمر، فتنبهت فيهم القوة العاقلة، وهم يتميزون بصفاء جوهر النفس، وجودة القبول، وسرعة الميل إلى التصوف. والثانية: الإخوان الأخيار الفضلاء، وهم الذين بلغوا ثلاثين سنة، وميزتهم مراعاة الإخوان، وسخاء النفس، وإعطاء الفيض، والشفقة والرحمة، والتحنن على الإخوان. والطبقة الثالثة: الإخوان الفضلاء الكرام، وهم الذين بلغوا أشدهم، وبلغوا أربعين سنة، فتنبهت فيهم القوة الناموسية، الواردة بعد مولد الجسد بأربعين سنة.
والطبقة الرابعة: هم الذين بلغوا الخمسين، والمقصود من هذه الدرجة هو المقصود من جميع رياضات النفس، وفيها تبلغ النفس من القوة منزلة تشاهد فيها الحق عيانًا، وتتصل بملكوت السماوات، وتدرك حقائق القيامة والبعث والحساب، ومجاورة الرحمن.
وكان أمامهم في تأليف هذه الرسائل منهجان: الأول: أن يكلفوا الأخصائيين بأن يجمع كل أخصائييهم مادة رسالته ومعلوماتها، ثم يكون المحرر واحدًا، ولكن عيب هذه الطريقة أن المحرر ما لم يكن أخصائيًا في العلم الذي يحرره لا يحسنه، فكيف يكتب في النجوم من لم يكن فلكيَّا. والمنهج الثاني: أن يكثر المحررون، فيكتب كل محرر رسالة أو أكثر في اختصاصه، ونرجح أن يكون المنهج الثاني هو الذي اتبعوه، بدليل اختلاف الأساليب، وبدليل تعدد الحكايات والإشارات، ولو كان المؤلف واحدًا لأحال عليها ولم يعدِّدها.
نقول هذا وإن كان الشَّهْرَزُوري في كتابه «نزهة الأرواح» يقول: «إن ألفاظ رسائل إخوان الصفاء هي للمقدسي، فلا نظن ذلك صحيحًا، فلو كانت لمؤلف واحد لم يكن فيها هذا التكرار المعيب».
ثم بنوا رسائلهم على الرموز، فالصلاة والزكاة، والصوم والحج، والبعث ويوم القيامة، ومحمد وعلي، وغير ذلك كلها رموز إلى أشياء معنوية.
وحملهم على كتابة هذه الرسائل أن لهم أتباعًا متفرقين في البلاد يحتاجون إلى تعليمهم، ولو كانوا كلهم بينهم ما احتاجوا إلى ذلك، وألفوا على هذا النمط إحدى وخمسين رسالة، في الرياضيات، والإلهيات، والأخلاق، وغير ذلك، وكانوا عادة يتعاطفون مع القارئ، ويخاطبونه في رفق ودعة، ويخاطبونه دائمًا: بيا أيها الأخ، أو أيها الأخ الفاضل، ويدعون له، ويحببونه في المطالعة.
وهم عادة عندما يختمون رسالة يبشرون بموضوع الرسالة التي تليها، وفي أول كل رسالة ينوهون بالرسالة التي قبلها.
ما الغرض من هذه الرسائل؟ أسياسي هو، أم شيعي إمامي، أم شيعي قرمطي، أم غير ذلك؟ احتار الباحثون عند إجابتهم على هذا السؤال — نعم: إن في بعض مواضعها إشارات إلى التشيع، ولذلك نسبها بعضهم إلى جعفر الصادق الإمام المعروف.
إلى كثير من أمثال ذلك، فكل من يقرأ مثل هذه النصوص، يفهم أنهم من الشيعة، خصوصًا وأنهم قسموا أتباعهم طبقات كطبقات الشيعة، وأمروا دعاتهم أن يتلطفوا مع المدعو، وأن يخاطبوا كل مدعو بحسب ظروفه، شأن دعاة الشيعة.
ويؤيد ذلك أن الأستاذ السيد محسن العاملي صاحب أعيان الشيعة مع اجتهاده في ترجمة من ينسب إلى التشيع، قال عند الكلام عليهم: «وكيفما كان فلم يتحقق انتساب إخوان الصفاء إلى التشيع، ولا أنهم من موضوع كتابنا، وإنما ذكرناهم لنسبة بعض الناس لهم إلى ذلك».
ونستخلص من كل ذلك أنهم جماعة متخيرون، يتخيرون من كل دين ومذهب ما يناسب عقليتهم، لا يتورعون من اقتباس من النصرانية، واليهودية، ووثنيي اليونان، والفرس، والهند، وما يرون أنه معقول، فمن قال: إنهم سنيون سنية تامة فقد أخطأ، ومن قال: إنهم شيعة شيعة تامة فقد أخطأ، ولكنهم من غير شك ميولهم شيعية.
ثم هل لهم غاية سياسية؟
الذي يظهر لي أنهم أومأوا إلى انحلال الدولة العباسية، وعدم صلاحيتها، إذ قالوا في إحدى رسائلهم: «إن كل دولة لها وقت منه تبتدئ، وغاية إليها ترتقي، وحد إليه تنتهي، فإذا بلغت إلى أقصى غاياتها، ومنتهي نهاياتها، تسارع إليها الانحطاط والنقصان، وبدا في أهلها الشؤم والخذلان، واستأنف الآخرون «المعارضون» القوة والنشاط، والظهور والانبساط … هكذا حكم الزمان في دولة أهل الخير، ودولة أهل الشر، تارة تكون الدولة والقوة، وظهور الأفعال في العالم لأهل الخير، وتارة تكون لأهل الشر، وقد نرى أنه قد تناهت دولة أهل الشر، وظهرت قوتهم، وكثرت أفعالهم في هذا الزمان.
وأظن أنهم يشيرون بذلك إلى عضد الدولة ابن بويه، فقد اتسع ملكه في زمان إخوان الصفاء، وارتقب الناس زيادة سلطانه، فلا يبعد أن يكون هو أملهم، وهو يحقق غرضهم، من نواح متعددة، فهو شيعي معتدل، لا كالفاطميين في مصر، فإنهم شيعة متطرفون، وهو واسع الاطلاع في اللغة والأدب والفلك، حتى كان يناقش أستاذه أبا علي الفارسي في النحو، فيفحمه، وهو يشارك في العلوم الأخرى، وهو رجل فيه جوانب خير كثيرة، بنى مستشفى، وأنفق عليه أموالًا طائلة، وهو الذي يقول فيه المتنبي لما قصده:
وفيه يقول:
ويقول فيه آخر:
… إلخ.
ولكن مع هذا المجد كله كانت له هنوات ربما جعلته في نظر إخوان الصفاء أخيرًا ليس المثل الأعلى للملوك.
- (١)
أنهم يعتقدون أن دولة زمانهم آخذة في الانحطاط، وأنها صائرة إلى الزوال، وهي الدولة العباسية التي تسيطر في زمنهم على البصرة وما حولها.
- (٢)
أنهم يرتقبون حكومة تشبه الحكومة التي دعا إليها أفلاطون فيما مضى، من تولية الفلاسفة، فهم عقلاء الأمة، ويجب أن يكونوا حكامها.
- (٣)
يظهر أيضًا أنهم ليسوا راضين عن حكومة الشيعة الفاطميين؛ لأن لهم بعض عقائد فاسدة في نظرهم، كالإمام المختفي، ولجور بعضهم كبعض الخلفاء العباسيين.
فهم يتشددون في كل مناسبة في المطالبة بالعلم والمعرفة، فمذهبهم الأساسي العلم والمعرفة أولًا؛ لأنهم على مذهب سقراط في أن الفضيلة هي المعرفة، وهذه المعرفة ينشأ عنها جودة الأخلاق، وصلاح الدين والدنيا … إلخ.
هذه على ما يظهر هي غايتهم، نشر علم ومعرفة لا حدود لهما، والعمل على ذلك بكل الوسائل، ثم إقامة حكومة على رأسها صفوة هؤلاء العلماء، ثم تطبيق هذا العلم والمعرفة على الحياة الفردية والاجتماعية العملية.
ثم للوصول إلى ذلك لا بد من سرية حتى يقووا، وتقية كتقية الشيعة، حتى لا يضطهدوا إلى أن يكون لهم السلطان، وفي يدهم الأمر.
وكان لهم الحق في ذلك، فمع سريتهم وتقيتهم، نقم عليهم، ورُموا الزندقة من العلماء المتزمتين، وأُحرقت رسائلهم في بغداد، ولكن علمنا الزمان أن اضطهاد الأفكار إرهاص للخلود.
- (١)
طريق الحواس الخمس، وهو أول الطرق، ومنه تنشأ جمهرة علوم الإنسان، وفي ذلك يشترك الناس كلهم.
- (٢)
طريق العقل، وبه يتميز الإنسان عن سائر الحيوانات.
- (٣) طريق البرهان الذي ينفرد به قوم من العلماء دون قوم.١٨
وعندهم أن النفس عند ولادتها لم تكن تعرف شيئًا ألبتة؛ لقوله تعالى: وَاللهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، ولا تعرف النفس شيئًا إلا بتوسط الجسد، وهي نظرية تخالف نظرية أفلاطون التي تقول: «إن النفس كانت تعرف كل الأشياء قبل حلولها في الجسد، وإنما معرفتها في الدنيا تذكرها، فإذا رأت شيئًا في عالمنا، تذكرت ما رأته في عالمها الأعلى قبل هبوطها إلى الأرض، واتصالها بالجسد». وعلى هذه النظرية جاءت عينية ابن سينا:
ويجب على الإنسان في نظرهم ألا يحصل المعارف مرة واحدة، بل على دفعات؛ لأن بعض المعارف أصعب من بعض، والنفس لا تستطيع الارتقاء في مدارج معرفة الله، معرفة صحيحة، إلا بالزهد، والانصراف عن الدنيا، والقيام بالأعمال الصالحة.
وعندهم أن يبتدئ المعلم بعلوم اللغة واللسان والأدب فتلك أسهل، ثم يتلقى علوم الدين، ومذاهب الكلام، فإذا أتقن ذلك درس الفلسفة مبتدئًا بالرياضيات، وأصحاب إخوان الصفاء يعرضون للرياضيات على طريقة الهنود تارة، وعلى مذهب فيثاغورس الجديد مرة أخرى، مع الإمعان في الرموز، وتقديس بعض الأعداد، كعدد ٧، ومن أجل ذلك كانت حروف الهجاء ثمانية وعشرين؛ لأنها حاصل ضرب ٤ × ٧.
واعتقدوا في الكواكب أنها أجسام نورانية عاقلة كمذهب اليونانيين القدماء، وأنها أرقى في عقلها من الإنسان، وأن للنجوم تأثيرات قوية في العالم الأرضي، وهذه النجوم تؤثر أحيانًا بالسعد، وأحيانًا بالنحس، فالمشترى والزهرة والشمس تؤثر أحيانًا بالسعد، وأحيانًا بالنحس، فالمشترى والزهرة والشمس تؤثر بالسعد، وزحل والمريخ والقمر تؤثر بالنحس، وعطارد يؤثر بالنحس والسعد جميعًا، وطول أعمار الناس، أو قصرها خاضع لهذه التأثيرات إلخ إلخ. وهذه هي عقائد القرون الوسطى، طال فيها الجدل إلى يومنا هذا.
وفي المنطق ساروا على مذهب فُورفوريُوس مؤلف إيساغوجي، وقلما زادوا فيه شيئًا من عندهم، فعندهم الألفاظ الخمسة التي وضعها، وهي: الجنس، والنوع، والفصل، والخاص، والعرض العام، غير أنهم زادوا عليها لفظًا سادسًا وهو الشخص، وقالوا: إن الجنس والنوع والشخص تدل على الأعيان، وأما الفصل والخاصة والعرض فتدل على المعاني، وعرضوا في المنطق للمقولات العشر، أولها الجوهر، والتسعة الأخرى أعراض له، وقالوا: إن هناك مناهج منطقية، وهي: التحليل، والحد، والبرهان، فالتحليل منهج المبتدئين؛ لأنه يوضح الأمور الجزئية المحسوسة، أما الحد والبرهان، فبهما تعرف الأشياء المعقولة، وقالوا: إن كل شيء في هذا العالم إما أن يكون هيولي أو صورة، وهيولي الأشياء كلها واحدة، وإنما تختلف بالصورة، وهذا الكلام أشبه بما يقوله العلماء المحدثون من أن ذرات الأشياء كلها واحدة، وأنها عبارة عن كهربائية موجبة وسالبة، وأن الخلاف بينها خلاف في الكمية لا في الكيفية، فذرات النحاس مثل ذرات الحديد، مثل ذرات الذهب، فلو أضفنا إلى ذرات النحاس ما ينقصها عن ذرات الذهب كانت ذهبًا، ولذلك قال إخوان الصفاء بإمكان تحويل المعادن إلى الذهب، وهو الذي يسمونه كيمياء.
وأفاضوا طويلًا في النفس الإنسانية، لأنهم كانوا يعتمدون عليها، وقالوا: إنها فيض صادر عن النفس الكلية، ونفس الطفل في أول أمرها كصحيفة بيضاء، تتناول المعلومات عن طريق الحواس الخمس، وتجمعها، فإذا كبر دفع هذه المعلومات إلى القوى المفكرة، ثم إلى الحافظة، والقوة التي تعبر عن النفس بالألفاظ تسمى القوة الناطقة، وللإنسان قوى خمس باطنة تساوي قوى الجسم الخمس الظاهرة، وهي المتخيلة في الأمام، ثم المفكرة وسط الدماغ، ثم الحافظة في مؤخرة الدماغ، ثم الذاكرة، ثم القوة الناطقة.
وهم في الأخلاق يرون الدعوة إلى الروحانية، والزهد، والعمل يكون فاضلًا إذا صدر عن الروية العقلية، وهم كالمتصوفة يرون أن أرقى أنواع الفضائل هي المحبة، وإذا بلغت غايتها فنيت في الله المحبوب الأول.
وتظهر على صورة الصبر والرضا عن جميع الخلق، وهذا الحب يطمئن النفس، ويحرر القلب، ويبعث على الرضا بكل ما في هذه الدنيا.
وهم يقولون كأرسطو بنظرية الأوساط؛ أي أن كل فضيلة وسط بين رذيلتين، فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور، والاقتصاد المالي وسط بين البخل والإسراف، والعدل وسط بين الظلم والانظلام.
ثم إنه من أروع رسائلهم رسالة «الحيوان والإنسان»، فقد استغلوا الرمزية على نمط كتاب «كليلة ودمنة»، وكالوا للإنسان الشتائم أشكالًا وألوانًا، وخلاصة هذه الرسالة أنه انعقدت محكمة لمحاكمة الإنسان أمام محكمة الجنِّ، اتهم فيها الإنسانُ ببطشه وظلمه، فالإنسان أول أمره كان يأوي في رءوس الجبال والتلال، وفي المغارات والكهوف؛ خوفًا من كثرة السباع والوحوش، وكان يأكل من ثمر الأشجار، وبقول الأرض، وحبوب النبات، ويستتر بأوراق الشجر من الحر والبرد، ثم تَحضَّر فبنى المدنَ والقرى والقصور، ثم أخذ يُسخر الأنعام من البقر والغنم والجمال، ومن الخيل والبغال والحمير، وقيدها وألجمها، وصرفها في مآربها من الركوب والحمل، وأتعبها في استخدامها، وكلَّفها أكثر من طاقتها، ومنعها من التصرف في مآربها؛ بعد أن كانت حرة في الجبال والآجام والغياط، تذهب وتجيء حيثما أرادت في طلب مراعيها، ومشاربها، ومصالحها.
وشمَّر ابن آدم في طلبها بأنواع من الحيل، والقنص، والشباك، والفخاخ، واعتقد أنها عبيد له، هربت منه، وخلعت الطاعة وعصته.
واتفق أن ولي أمر المسلمين من الجنِّ يقال له: بيراشست الحكيم، وحدث أن طرحت العاصفة في وقت من الأوقات مركبًا من سفن البحر إلى ساحل الجزيرة التي يسكنها هذا الملك، وكان في المركب قوم من التجار والصناع وأغنياء الناس، فخرجوا إلى تلك الجزيرة، وفتنوا بما فيها من الفواكه والبقول والرياحين، وصادقوا ما فيها من البهائم والطيور، والسباع والوحوش، والهوام والحشرات، في ألفة لا يشوبها تنافر ولا شقاق.
واستطاب الناس المقام في تلك الجزيرة، وأخذوا يتعرضون لما فيها من الحيوانات؛ ليسخروها فيركوبها، ويحملوا عليها أثقالهم، فنفرت منهم وهربت، فخرج الناس في طلبها لاعتقادهم أنها عبيد خرجت عن طاعتهم، فلما رأت الحيوانات رغبة الإنسان في استبعادها، جمعت زعماءها وخطباءها، وذهبت إلى ملك الجن، وشكت إليه ما لقيت من جَور بني آدم، فعقدت المحاكمة، وتكلم زعيمُ كل صنف من أصناف الحيوانات، باتهام الإنسان بظلمه وعنته، فدافع الإنسانُ أول الأمر بأن الله تعالى أباح له ذلك، فقال: وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا ۗ لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وقال: وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً. وقال: لِتَسْتَوُوا عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ. فقال زعيم البغال: أيها الملك، ليس في شيء مما قرأ هذا الإنسي دلالة على ما زعموا أنهم أرباب ونحن عبيد؛ إنما هي آيات تذكار بنعمة الله عليهم، فقال: سخرها لكم، كما قال سخر الشمس والقمر، والسحاب والرياح. ووقف الثعبان يتحدث عن الحشرات والهوام، وقال: إن أكثرها صُمٌّ بُكم عُمي، بلا يَدين ولا رجلين، ولا جناحين، ولا منقار ولا مخلب، ولا ريش على أبدانها، ولا شعر ولا وبر ولا صوف، وإن أكثرها عراة حفاة، ضعفاء فقراء مساكين، بلا حيلة ولا حول ولا قوة؛ ومع ذلك فالإنسان هاجمها حيث كانت، وقتلها أينما وجدها. ورقَّ قلبُ الثعبان، فدمعت عيناه من الحزن … وهكذا أنطق مؤلف الرسالة قول زعيم كل صنف باتهام الإنسان بالظلم والعنت.
وكان قد حضر في المحاكمة وفود من الأمم، وتطرق من هذا بإنطاق زعيم كل أُمَّة، ويجعل الجني يعقب على قول زعيم الأمة بما في تعداد مفاخرها بتعداد معايبها، ويندمج في ثنايا هذه المحاكمة طُرف لطيفة في الفلسفة، وطبائع الحيوان.
وقد ألَّف إخوان الصفاء رسائلهم كلها بالعربية، وإن كان بعضهم فارسيًّا صميمًا، شأنهم في ذلك شأن ابن سينا الفارسي، والفارابي التركي، وعلي بن رين من مازندران بطبرستان، وكما فعل محمد بن زكريا الرازي، وهو من الري قرب طهران، والسبب في ذلك أن العربية أصبحت لغة العلم، والفلسفة كاللاتينية، بالنسبة للغات الأوروبية الحديثة، ولأن اللغة العربية أطوع في الصياغة، وأكثر مرونة في الاشتقاق، وأقدر على الاصطلاحات، كما أوضح ذلك البيروني في بعض كتبه.
وهناك جماعة أخرى كانت في بغداد أيضًا، كان على رأسها الأستاذ الكبير أبو سليمان المنطقي، وكانت في بغداد بجانب فرع إخوان الصفاء، ولم يكن منهجها كمنهج إخوان الصفاء، فلم يكونوا رجال دعوة وتبشير، ولا ذوي مطامع ومطامح، وإن لم يكونوا يؤلفون رسائل أو كتبًا، إنما كل همهم أن يجتمعوا في بيت رئيسهم للمتعة العقلية وكفى. ويجتمع في بيت الرئيس كثير ممن ينتسب من أهل الحكمة والفلسفة من مسلمين، ووثنيين، ونصارى، ويهود، مثل: ابن زرعة، وابن الخمار، وابن السمح، والقومسي، ومسكويه، ويحيى بن عدي، وعيسى بن علي، وأبي حيان التوحيدي، وغيرهم.
وكان أبو سليمان هذا رئيسهم، وجامع شملهم، يثيرون المسائل في مجلسه حيثما اتفق من سياسية، واجتماعية، ولغوية، ودينية، وكل يبدي رأيه، والكلمة الأخيرة لأبي سليمان.
وقد دَوَّن أبو حيان محاضر بعض هذه المجالس في كتابه «المقابسات»، ويصف أبو حيان هذا الرئيس بقوله: «كان أبو سليمان أدقهم نظرًا، وأقعرهم غوصًا، وأصفاهم فكرًا، وأظفرهم بالدرر، وأوقفهم على الغرر، مع تقطع في العبارة؛ ولكنه ناشئة من العجمة، وقلة نظر في الكتب، وفرط استبداد بالخاطر، وحسن استنباط للعويص، وجرأة على تفسير الرمز، وبخل بما عنده من هذا الكنز». وهذا تحليل دقيق من أبي حيان لشخصية أبي سليمان؛ فهو قوي الفكر، ألكن العبارة، وهو يعتمد على قوة عقله، أكثر مما يعتمد على النقل من المؤلفات، وهو واثق بصدق رأيه، أكثر مما يثق بما يقول غيره، وهو بخيل بعلمه، لا يذكر بعضه إلا للخاصة إذا دعت الدواعي، ولعل من بخله بعلمه قلة تأليفه، وقد دعته الدواعي أن يقيم رهين بيته، فهو أعور العين، مصاب بالبرص، مشوه الخلق، يقول فيه الشاعر:
وكان فقيرًا يمده عضد الدولة من الحين بعد الحين بنفحة قليلة مالية يسد بها رمقه، وكان مما يثار في مجلسه مثلًا موقف الناس من الوحي ومن العقل، فيقول: «إن أساس الأديان أن الله تعالى شاء أن يتصل بخلقه عن طريق رسله، فأوحى إليهم بتعاليم الدين، علمًا منه بقصور العقل البشري، وضيق مجاله، فالعقل يستطيع إدراك المادة وقوانينها، ولكن لا يستطيع إدراك ما وراء ذلك من عالم الغيب، وهذا هو ما بينه الأنبياء».
وكان في أيام أبي سليمان أربع نزعات حول هذا الموضوع؛ نزعة تُحكِّم العقل في الدين، كما فعل زيد بن رفاعة، ومحمد بن أبي بكر الرازي، وإخوان الصفاء، ونزعة تحكِّم الدين في العقل والفلسفة، فيعرضون نظريات الفلسفة على الدين، فما وافق منها الدين قبل، وإلا رد، وذلك شأن كبار المتكلمين، ونزعة ثالثة آمنت بالفلسفة، وأرادت أن تؤمن بالدين، فأوَّلت الدين على وفق الفلسفة، كالكندي والفارابي، ونزعة رابعة تفصل بين الدين والفلسفة، فلكل منطق ونفوذ، مثل: أبي سليمان هذا، فقد قال: إن منهج الدين يخالف منهج الفلسفة … إلى آخر ما قال، وكثيرًا ما كانت تثار في مجلس أبي سليمان مسائل نفسية، كالبحث في النفس، وأن الإنسان جسم ونفس، وهما عنصران متباينان، فالجسم له أبعاد ثلاثة، والنفس لا أبعاد لها، وهي جوهر بسيط لا يجزأ، ولا يدرك بحاسة من الحواس الخمس، ولا يعتريه فتور، ولا ملال، وهي تخالف الجسم في قبولها للصور المختلفة من جنس واحد في وقت واحد، والإنسان يريد أن يعرف النفس، ولكن لا يعرف النفس إلا بالنفس.
ويقول أبو حيان: إن أبا سليمان كان إذا تكلم في النفس أفاض، وأتى بالعجب العجاب، ويتكلم أحيانًا في الأخلاق بانيًا تحديدها وموضوعاتها على معرفته الواسعة بالنفس، ويتكلم أحيانًا في السياسة، ككلامه عندما شكا ابن سعد أن الوزير البويهي شكا من كثر كلام الناس في السياسة، ومحاولتهم معرفة كل صغيرة وكبيرة يضعها الوزراء والأمراء، فرد على ذلك ردًّا لطيفًا، ومن مثل ما حكى أمامه من أن كسرى لما تقلد الملك عكف على الصبوح والغبوق، فكتب إليه وزيره رقعة يقول فيها: «إن في إدمان الملك ضررًا على الرعية، ونرجو تخفيف ذلك، والنظر في أمر المملكة»؛ فوقّع كسرى على نفس الرقعة: «إذا كانت سبلنا آمنة، وسيرتنا عادلة، والدنيا باستقامتنا عامرة، وعمالنا بالحق عاملون، فَلِمَ نمنع فرحة عاجلة؟»، فعلق أبو سليمان على هذا الخبر: لقد أخطأ كسرى من وجوه، أولًا: أن الإدمان إفراط، والإفراط مذموم. ثانيًا: أنه جهل أن أمن السبل، وعدل السيرة، وعمارة الدنيا، والعمل بالحق ما لم يوكل بها الطرف الساهر، ولم تحط بالعناية التامة، ولم تحفظ بالاهتمام الجالب لدوام النظام، دبَّ إليها النقص. وثالثًا: أن الزمان أعز من أن يبذل في الأكل والشرب، والتلذذ والتمتع، فإن في تكميل النفس الناطقة باكتساب الرشد لها، ما يستوعب أضعاف العمر، فكيف إذا كان العمر قصيرًا. ورابعًا: أن الخاصة والعامة إذا وقف على استهتاره باللذات، وانهماكه في طلب الشهوات، قلدته وقلَّت هيبتها وحشمتها منه، وارتفاع الحشمة باعث على الوثبة، والوثبة غير مأمونة من الهلكة، وما خلا الملك من طامع راصد قط». يقول أبو حيان: وكان أبو سليمان إذا تكلم في السياسة عجب سامعوه منه، وسألوه أن يؤلف لهم فيها.
وقد حلل في «المقابسات» أخلاق عضد الدولة تحليلًا دقيقًا، يدل على العلم والجرأة، ويقول أيضًا: «إنه كان يأتيه أصحابه بالصفحة من كلام الصوفية أو كلام اليونان، ثم يملي من عنده خيرًا منها، ومع هذا كله فكان مشغوفًا بسماع الغناء، وكان يخرج بعض أيام الربيع إلى البساتين مع بعض أصحابه، ومعهم مطرب أو مطربة».
- (١)
تأليفاته الكثيرة التي تخلد ذكره.
- (٢)
عنايته بتقعيد القواعد، ووضع الكليات التي تبين مذهبه، ولعل بؤسه وفقره كانا يمنعانه من القدرة على العلم والتأليف، فهو لم يجد رواجًا لبضاعته فأتلفها.
هذا عضد الدولة يحن عليه بمائة دينار، وماذا تفعل المائة في أكل وشرب وأجرة بيت تجمعت عليه منذ شهور؟ ويوسط أبا حيان عند ابن سعدان لعطفه عليه، فيعِد ثم يتلكأ، على أن الأمر شأنه كشأننا في زماننا، بعض الناس ليست له قدرة على التأليف، ولكن له قدرة على تكوين الرجال بحسن أحاديثه، وبعض الرجال يربي الأجيال القادمة بحسن تأليفه، ولله في خلقه شئون.
يقول الأستاذ مدكور: «وقد عرض الباحثون في القرن الرابع الهجري، وعدوه العصر الذهبي في تاريخ الدراسات العقلية الإسلامية، فاستقام لعلم الكلام أمره، بعد محنة خلق القرآن، واسترد اعتباره على يدي الأشعري، وسما التصوف إلى القمة، فانتقل من النسك والزهادة، إلى شرح أحوال النفس، ومقامات العارفين، والقول بالاتحاد، ونزول اللاهوت في الناسوت، كما كان يذهب الحلاج، وأخذت الفلسفة الإسلامية تستكمل أسسها ومبادئها بما أضافه إليها الفارابي من عمق وتحديد، وتوفيق وتنسيق، وبلغ الطب غايته، فلم يقف عند ما دونه بقراط وجالينوس، بل شاء الرازي أن يغذيه بتجاربه الشخصية، ودرسه المستقل، وخطا الفلك والرياضة خطوات فسيحة، ويكفي أن يُذكر البيروني ومؤلفاته للتدليل عليهما».
ويمكن أن يقال بوجه عام: إذا كان المسلمون في القرنين الثاني والثالث للهجرة، قد شغلوا بنقل العلوم الأجنبية وتفهمها، فإنهم كانوا في القرن الرابع يدرسون بأنفسهم لأنفسهم، وانتقلوا من الجمع والتحصيل إلى الإنتاج الشخصي، وقد استوعبت ترجمتهم آثار الثقافات الأخرى، الفلسفية، والعلمية الهامة، على اختلافها؛ من يونانية، وفارسية، وهندية، وإذا قصرنا حديثنا على الفلسفة، أمكننا أن نلاحظ أن العرب إلى جانب ما وصلهم من شذرات عن الفلاسفة السابقين لسقراط، ترجموا أهم المحاورات الأفلاطونية، وهي الجمهورية والنواميس، وطيماوس، والسُّوفيسط، وبولوطيقي، وفادن، ودفاع سقراط، وكانت العناية بأرسطو بالغة، فبحثوا عن مؤلفاته، وترجموها في عناية تامة، وتوفر لهم بها عدد غير قليل، وخلط بها بعض مؤلفات موضوعة نسبت إليه خطأ.
ولكي يفهم المعلم الأول فهمًا حقًّا، كان لا بدَّ لهم أن يستعينوا بشراح من المشائين الأول، كفاوفراسطس، والإسكندر الإفروديسي، وقد ترجم لهما أكثر من شرح، وخاصة الثاني الذي كان له أثر واضح في بعض النظريات الفلسفية الإسلامية، وكان ابن سينا يعتد بآرائه اعتدادًا كبيرًا، ويسميه «فاضل المتأخرين»، وإلى جانب الإسكندر هذا ينبغي أن نضع شرَّاح مدرسة الإسكندرية، وفي مقدمتهم فورفوريوس، وساميسقيوس، وسميليقيوس، ويحيى النحوي، فترجم كثير من شروحهم، وكان أكثرهم في العالم الإسلامي أشد عمقًا، أحيانًا من أثر المشائين الأوَل.
نقلت هذه الكتب والشروح إلى العربية، وتداولها مفكرو الإسلام فيما بينهم، وكثر تداولها، ومناقشاتها، والتعليق عليها في القرن الرابع الهجري» ا.ﻫ.
- الأول: أن الباعث على العلوم الدينية كان دينيًّا، وهو أقوى من الباعث على الفلسفة، وعنايتهم بالعلوم اللغوية؛ لأنها تخدم الدين أولًا، ولأنها أثر من آثار أسلافهم، ونتيجة لبيئاتهم.
- والثاني: أن المستعدين للتفلسف، والصبر على لغة الفلسفة، وفهم غوامضها، والتفكير في موضوعاتها أقل في كل أمة من الباحثين في اللغة والدين؛ لأن الفلسفة لا تناسب إلا الخاصة.
- (١)
كتابهم المقدس الذي يعوق النظر الحر.
- (٢)
حزب أهل السُّنَّة، وهو حزب قوي متمسك بالنصوص.
- (٣)
أنهم لم يلبثوا أن جعلوا لأرسطو سلطانًا مستبدًّا على عقولهم.
- (٤)
ما في طبيعتهم القومية من ميل إلى التأثر بالأوهام.
من أجل ذلك لم يستطيعوا أن يصنعوا أكثر من شرحهم لمذهب أرسطو، وتطبيقه على قواعد دينهم الذي يتطلب إيمانًا أعمى، وكثيرًا ما أضعفوا مذهب أرسطو وشوهوه … على أن الآثار الفلسفية العربية لما تدرس إلا دراسة ضئيلة جدًّا، لا تجعل علمنا بها مستكملًا، بينما يرى بعضهم كَدِيبور أن الفلسفة الإسلامية أصيلة، وإن كانت استمدت فيما استمدت من اليونان، أو من الفلسفة اليونانية، ويرى رينان أن الفلسفة إنما يصلح لها العقل الآري لا السامي.
وكل هذا خلط، فليس كتاب الله يقيد حرية المسلمين في التفكير، كما أنه ليس هناك حدود فاصلة أثبتها العلم بين الآريين والساميين كما قال رينان.
ولئن كانت الفلسفة الإسلامية متأثرة بالفلسفة اليونانية قليلًا أو كثيرًا على اختلاف الأقوال، فإن الأصالة ظاهرة عند المسلمين في شيئين واضحين: في أصول الفقه، وفي علم الكلام، فأصول الفقه يحتوي على أفكار أصيلة في اللغات، ودلالة الكلام، وفلسفة التشريع، وقد وضعه الشافعي، وأَّلف فيه كتابًا سماه «الرسالة»، تكلم فيه على منزلة القرآن من الدين، فالقرآن هو تبيان لكل شئون الدين، وقد أوضح في الرسالة المراتب الخمس للبيان في القرآن، مع التطبيق عليها، ثم أبان أن السُّنَّة تخصص الكتاب، ثم عقد عنوانًا سماه «العلل في الاحاديث»، ذكر فيه ما يكون بين الأحاديث من خلاف بسبب أن بعضها ناسخ ومنسوخ، وبسبب الغلط في الأحاديث، وبيَّن منشأ الغلط، ثم تكلم عن الناسخ والمنسوخ من الأحاديث، ثم تكلم عن النهي وأقسامه إلخ.
وقد توسع الفقهاء فيما بعد في علم الأصول هذا، وأدخلوا عليه أبوابًا لم تكن، فكان بذلك فلسفة إسلامية أصيلة رائعة، وعلم الكلام مملوء بالإلهيات.
نعم، إنه أخذ بعض أصوله من الفلسفة اليونانية، ولكن حوَّرها بما يتفق والإسلام، وزاد عليها كثيرًا، فيكاد يعد فلسفة أصيلة.
نعم، إن أصول الفقه، وعلم الكلام لم تشتمل على الرياضيات والطبيعيات؛ فهذه يصح أن تنسب في جوهرها لا في تفاصيلها إلى الفلسفة اليونانية.
ومهما اختلف الناس في أصالة العرب في الفلسفة الإسلامية، ومقدار تجديدهم في الفلسفة اليونانية، فلن ينكر أحد أصالة العرب في الحكم، فإن لهم حكمًا أصيلة منذ جاهليتهم، والفرق بين الحكم والفلسفة أن الحكم عبارة عن تركيز التجارب اليومية في جملة أو جمل، وهي أنسب لذوقهم، فقد شغف العرب بحب الإيجاز، وصوغ التجارب في «برشامة»، ونلاحظ أن الذي يقوله الأوروبيون في رواية طويلة في مئات من الصفحات يقوله العربي في حكمة وجيزة.
فقد قرأت لبرنارد شو رواية طويلة، مضمونها أن جماعة من قُطَّاع الطريق خرجوا على سيارة، فقال قطاع الطريق: من أنتم؟ قالوا: نحن سراق الفقراء. فقال قطاع الطريق: ونحن سراق الأغنياء. وقرأتُ لرجل عباسي شاهد حاكمًا يقطع يد سارق فقال: «سارقُ السرِّ يقطع سارقَ العلانية».
ومن قديم عرف العرب حكم لقمان، وحكاها القرآن الكريم، واشتهر في الجاهلية بالحكم أكثم بن صيفي، وزهير بن أبي سلمى في قوله: ومن ومن إلخ. ورويت عن النبيِّ ﷺ في الإسلام حكم كثيرة مثل: «اليدُ العليا خيرٌ من اليد السفلى — وما أملق تاجر صدوق — خير المال عين ساهرة لعين نائمة — رأس العقل بعد الإيمان مداواة الناس» إلخ … كما اشتهر في الإسلام الأحنف بن قيس، والحسن البصري، فلهما حكم كثيرة مشهورة.
ولما نقلت الثقافات الأجنبية إلى العرب نقلوا الحكم أيضًا، وعنوا بها، واستساغوها أكثر مما استساغوا الفلسفة؛ لأنها أقرب إلى عقول الأوساط، وهي أشبه ما تكون بالأمثال التي اعتادوها، كالذي نرى في كتاب «جاويدان خرد»، الذي نشر حديثًا باسم «الحكمة الخالدة»، والذي عرَّبه قديمًا الحسن بن سهل، وأبو علي مسكويه، وقد اشتهر بعد الذين ذكرناهم بالحكم عبد الله بن المقفع في كتبه «الأدب الصغير، والأدب الكبير، والدرة اليتيمة».
كما اشتهر بعد ذلك في الحكم الجاحظ في بعض كتبه، مثل قوله: «احذر كل الحذر أن يختدعك الشيطان عن الحزم، فيمثل لك التواني في صورة التوكل، ويسلبك الحذر، بإحالتك على القدر، فإن الله — عزَّ وجلَّ — إنما أمرنا بالتوكل عند انقطاع الحيل، والتسليم للقضاء بعد الإعذار». كما اشتهر بالحكم الفارابي، فله وصايا كثيرة أوضح من فلسفته الغامضة، مثل قوله: «كل واحد من الناس متى رجع إلى نفسه، وتأمل أحواله، وأحوال غيره من أفناء الناس، وجد نفسه في رتبة يشركه فيها طائفة منهم، ووجد فوق رتبته طائفة هم أعلى منه منزلة، ووجد طائفة دونها هم أوضع منه؛ لأن الملك الأعظم، وإن وجد نفسه في محل لا يرى لأحد من الناس في زمانه منزلة أعلى من منزلته، فإنه إذا تأمل حاله، وجد فيهم من يفضل عليه بنوع من الفضيلة؛ إذ ليس في أجزاء العالم ما هو كامل من جميع الجهات، وكذلك الوضيع الخامل الذكر، يجد من هو دونه بنوع من الضعف». ويقول: «إن لكل شخص من أشخاص الناس قوتين: إحداهما عاقلة، والأخرى بهيمية، ولكل واحدة منهما إرادة واختيار، وهو كالواقف بينهما، ولكل واحدة منهما نزاع غالب» إلخ إلخ.
وقد حكى له جاويدان خرد هذا نحو عشرين صفحة من الحكم، كما اشتهرت بالحكم مدرسة أبي سليمان المنطقي من مثل ما حكاه أبو حيان التوحيدي في كتابه «المقابسات»، وما حكاه أبو حيان لنفسه في كتبه الكثيرة، ومن مثل ما كتبه جاويدان خرد أيضًا لأبي الحسن العامري، إذ روى له نحو خمس وعشرين صفحة من الحكم، والعامري هذا هو أبو الحسن محمد بن يوسف العامري، فيلسوف مشهور، حدَّثنا عنه كثيرًا أبو حيان التوحيدي في كتبه، مثل قوله: «سل واهب العقل إضاءة العقل، وابدأ بالأول في إيثار الأولى، واعرف الأولى بإيثار الأول — أشرف أبواب النظر، ما أفاد تمييز الفناء من البقاء — من لم يعقل العقل، ويستضئ بنوره فقد صيره حجة عليه لا له — ليس الكمال في اقتناء النعم؛ بل الكمال في إضافة النعم — الجهل مع العفة خير من العلم مع الفسوق — لن يسعد العبد بالعيش الفاضل، إلا أن يكون مستنكفًا من أن يكون سكونه إلى المال الممهد، والمجد المؤثل أقوى من سكونه إلى واهب المال، ومؤثل المجد» إلخ.
وربما كان هذا النوع أعني الحكمة ظل ينمو على مر السنين، فقد زاد عن نتاج القرن الرابع، فكل عصر يزيد هذه الثروة — يزيدها بعض الشعراء كالمتنبي، وأبي فراس في شعرهما، وحتى العوام كانوا قادرين على إنتاجه بأمثالهم العامية، وقصصهم الحكيمة. فلنا الحق فيما يظهر أن نستثني هذا النوع من أنواع العلوم التي وقفت عند القرن الرابع الهجري.