التاريخ والجغرافيا
التاريخ
من قديم والعرب تعنى بالتاريخ، لا تاريخها وحدها؛ بل بتاريخ الأمم قبلها، فيحدثوننا أنهم كانوا يقرءون أخبار الفرس، وبعد مجيء الإسلام شجَّع ما في القرآن من قصص على تتبع ما في القرآن من قصص الأنبياء، كآدم ونوح — عليهما السلام — كما أن القرآن روى أحاديث كثيرة تاريخية، كقصة حرب الفرس مع الروم، فاشتاقت نفُوسهم للتوسع في فهم هذه الآيات، وقد اتجهوا في التاريخ إلى جمع الأخبار، فحققوا الأماكن والأحوال التي كُتبت بها الآيات، أو قيلت فيها الأحاديث، وحملتهم أيضًا مسألة ضرب الخراج على البلاد، واختلاف المؤرخين في شأنها: هل فتحت عنوة أو صلحًا، كما فعل البلاذري المتوفى سنة ٢٧٩ﻫ، وعني الخلفاء برواية تواريخ الملوك في الأمم المختلفة، وعدوا قراءتها عظة، واكتساب تجربة، وشاع بين الناس «علم الملوك والنسب والخبر، وعلم أصحاب الحروب، وكتب الأيام والسير، وعلم الكتاب والحساب»؛ وإذ كانوا يرون أن التاريخ يفيد الفطنة، وحسن التجربة، حكى صاحب كتاب «تجارب الأمم» أن الخليفة المكتفي طلب من وزيره كتبًا يلهو بها، ويقطع بمطالعتها زمانه، فتقدم الوزير إلى النواب بتحصيل ذلك، وعرضه عليه، قبل حمله إلى الخليفة، فجاءوه ببعض الكتب، وفيها شيء مما جرى في الأيام السالفة من وقائع الملوك، وأخبار الوزراء، ومعرفة التحيل في استخراج الأموال، فلما رآها الوزير غضب، وقال: لنوابه: «والله إنكم أشد الناس عداوة لي، أنا قلت لكم: حصلوا له كتبًا يلهو بها، ويشتغل بها عني وعن غيري، فقد حصلتم له ما يعرفه مصارع الوزراء، ويوجد له الطريق إلى استخراج الأموال، ويعرفه خراب البلاد من عمارتها. ردوها، وحصلوا له كتبًا فيها حكايات تلهيه، وأشعار تطربه».
ولا تخلو كتب التاريخ من تملق للخلفاء المعاصرين، ففي الدولة العباسية تملق المؤرخون للعباسيين، وبالغوا في عظمة عبد الله بن عباس وهكذا، روى أبو إسحاق الصابي «أن عضد الدولة بن بويه أمره أن يؤلف له كتابًا في أخبار الدولة الديلمية، فألَّف له تاريخًا سماه «التاجي»، فاتفق وهو يؤلفه أن دخل عليه صديق له، فسأله عما يعمله، فقال: أباطيل أنمقها، وأكاذيب ألفقها».
وإذا كان المؤرخ ذا مذهب ديني معروف ظهر ذلك في تاريخه، كما فعل صاحب الفخري في كتابه، إذ كان شيعيًّا، وإذا كان سُنيًّا تحامل على الشيعة، والعكس؛ اللهم إلا القليل النادر الذي يحكمه الدين والضمير، كالبلاذري والطبري.
ثم كثير من هؤلاء المؤرخين يؤخذ عليهم عدم تحرجهم من الألفاظ البذيئة، والأقوال الجارحة إلا القليل منهم كابن خلكان.
وفي هذا العصر تقدم التاريخ، وأصبح له منهج مرسوم بعد أن كان خبرًا هنا وخبرًا هناك، والمؤرخون في هذا العصر كثيرون، نكتفي منهم بثلاثة عظام: محمد بن جرير الطبري، والمسعودي، ومسكويه، وكلهم كتبوا حسب السنين، لا حسب الموضوع، فإذا حدثت جملة حوادث مختلفة في أماكن مختلفة، كان الذي يجمع بينها سَنَة حدوثها، لا موضوعها، وهو من غير شك نظر بدائي، مرت به الأمم المختلفة من شرقية وغربية.
فأما ابن جرير، فقد مضت ترجمته كمفسر، ونتعرض له الآن كمؤرخ، ولد في آمل، إحدى قرى طبرستان، وبدأ دراسته مبكرًا، حتى قالوا: إنه حفظ القرآن وهو ابن سبع، ثم بعد أن تعلم على أبيه رحل إلى الري، ثم إلى بغداد.
وكان ينوي الأخذ عن أحمد بن حنبل، لولا أن ابن حنبل مات قبل وصوله إلى بغداد، وعزم على السفر إلى مصر، ولكن عرَّج في طريقه على إحدى بلاد الشام، ودرس بها الحديث، ثم سافر بعد ذلك إلى مصر، ثم رجع إلى بغداد.
والحق إنه كان مثقفًا ثقافة واسعة وعميقة، هو في التفسير حجة، وفي التاريخ حجة، وفي الفقه حجة، وهو مع علمه الواسع قوي الخلق، لا يحيد عن قول ما يعتقده حقًّا، ولو رُجم بالحجارة، ولو تألَّب الناس عليه جميعًا.
والإنسان يعجب من برنامج تفسيره الذي يبلغ ثلاثين جزءًا، وتاريخه الذي يبلغ ثلاثة عشر جزءًا: كيف وجد الزمن، وكيف استطاع التأليف، ولكن يفسر ذلك حبُّه الأصيل للعلم، وعزوفه عن الدنيا ومباهجها، وهو يرفض وظيفة تُعرض عليه، ومالًا يُقدَّم له، وحتى الشعر كان فيه أدبيًا كبيرًا، وكان — كما قالوا — نحويًّا صرفيًّا رياضيًّا، دارسًا للطب.
ولم يقبل عقله الواسع أن يتبع مذهبًا معينًا، فاجتهد أن يكون له مذهب خاص، ولو عادى فقهاء المذاهب الأخرى، وخصوصًا الحنابلة.
جمع الطبري مواده من الأحاديث، وأقوال من قبله من المؤرخين، مع التحري الشديد لصدق ما يجمع، وقد مكنته فارسيته الأصلية من أن يطلع اطلاعًا واسعًا على أخبار الأمم.
نعم، إن كثيرًا من تاريخ الأمم القديمة ليس إلا خرافات وأوهامًا، ولكن عذره في ذلك أن هذا هو ما كان معدودًا في وقته، وليس له من الوثائق ما يستطيع أن يذكر به التاريخ الصحيح، وقد وصل إلينا كتابه «تاريخ الرسل والملوك»، فقد قالوا: إنه كان طويلًا، ولكنه رأى الناس لا يصبرون على قراءته، فاختصره في هذا الذي بين أيدينا، وقد وصله إلى آخر حياته سنة ٣١٠ﻫ، وهو أحسن ما يكون إذا تعرَّض لتاريخ الفرس، وتاريخ الإسلام؛ لأنَّ المواد عنده غزيرة، ثم أكمله بعض تلاميذه.
والطبري يروي عن الحادثة الواحدة آراء كثيرة فيها، متأثرًا بمنهجه التفسيري، فهو في كل آية ينقل آراء الصحابة والتابعين فيها، ولكنه كان ذا رأي ناضج، فهو يستطيع أن يرجح بعض الآراء على بعض، وقد عُني الناس بتاريخه كثيرًا، حتى ليكاد يكون عماد كل مؤرخ بعده، ودليل العناية به أنه ترجم من قديم إلى اللغة الفارسية، ووضع له ذيول مختلفة. وله كتاب آخر في تاريخ الرجال الذين ورد ذكرهم في أحاديثه، وكما اعتمد على كتب من قبله، اعتمد أيضًا على الأحاديث الشفوية من الناس الذين يوثق بهم كأبي مِحنف، وعمر بن شبَّة، وسيف بن عمر، وابن طيفور، وغيرهم. ويظهر أنه بعد جمعه هذه الوثائق والأخبار رتبها وألَّفها، وكتابه هذا مع أنه تاريخي في أصله، فالقارئ له يقف على ثروة كبيرة في الأدب؛ لأنه في حكايته للروايات المختلفة يقصها في لغةٍ رصينة، بليغة، غاية في القوة.
وهو جريء في قول الحقِّ، يتعرض لذكر أشياء قد لايرضى عنها العباسيون أنفسهم، وهم الخلفاء ذوو السلطة، وإن أخذنا عليه شيئًا فهو أنه يكثر من ذكر الحروب، والوقائع الحربية، وسيَر الخلفاء، ولا يعرض إلا لمامًا لذكر الأحاديث الاجتماعية، والمسائل الاقتصادية.
وقد طمح كثير قبله إلى كتاب في التاريخ العام، ولكن ذلك لم يتسن لأحد غير الطبري، فقد ألَّف بعضهم كتبًا في التاريخ الخاص، كما فعل وهب بن منبه في تاريخ اليمن، وكما فعل حمزة الأصفهاني في تاريخ الفرس، وكما فعل بعضهم في تاريخ السيرة النبوية، وكما فعلوا في تاريخ قبائل العرب فيما سموه «الأيام».
أمَّا التأليف في التاريخ العام، فلم يقدر أحد عليه، وجرَّد الطبري نفسه لذلك، فنظر إلى التاريخ نظرة عامة منذ الخليقة إلى آخر حياته، وقد ساعده على ذلك ما كتبه محمد بن إسحاق؛ فكان واسع العلم بالسيرة، وبالمغازي، واعتمد في كثير من أقواله على كثير من العبريين كوهب بن منبه، كما اعتمد على السيرة التي وضعها أبان بن عثمان بن عفان، وعاصم بن عمر بن قتادة، وابن شهاب الزهري، وغيرهم، كما ساعده وجوده في العراق، وكانت الثقافة فيه واسعة، وكان لعلماء الحديث فضل كبير في تدوين الأحاديث المتعلقة بالمغازي والسيرة. وكان لابن شهاب الزهري الفضل في المقارنة والتوفيق بينهما، ووضعها في نسق واحد.
وقد غلبت على الطبري طريقة المحدثين، فهو يروي الحادثة عن جملة من الرواة، ويترك للقارئ اختيار أحسن الآراء كما فعل في التفسير، وكان ممن أخذ عنهم الإمام الشافعي؛ نقل عنه بواسطة تلاميذه كيونس بن عبد الأعلى المصري المتوفى سنة ٢٦٤ﻫ.
وهذه الطريقة التي اتبعها الطبري في التاريخ بالرواية عن مالك بن أنس، كما روى عن الأوزاعي هي نفس الطريقة التي اتبعها في التفسير، وأخذ فقه الشافعي عن الربيع بن سليمان المرادي المصري المتوفى سنة ٢٧٠ﻫ، كما أخذ فقه الإمام أبي حنيفة وأصحابه من كبار رجال المذهب كالحسن بن زياد اللؤلؤي، وكما اعتمد في كتابة التاريخ على الصحف، والمؤلفات قبله، اعتمد أيضًا على الروايات التي أخذها عن شيوخه، وخصوصًا في السنين الأخيرة من كتابه، فيقول مثلًا: ذكر لي بعض أصحابي، أو ذكر لي جماعة من أصحابنا، أو أخبرني جماعة من أهل الخبرة، أو ذكر هذه القصة بعض أصحابنا عمن حدثه أنه حضر.
وإذا ذكر روايات كثيرة عن حادثة أتبعها بمثل قوله: قال أبو جعفر: «واختلف السلف من أهل العلم فيه — ذكر من قال ذلك — فقال بعضهم … وقال آخرون … وأحيانًا يقول: والصحيح عندنا ذلك … أو: وأنا أشك في ذلك»، وإذ كان الطبري محدِّثًا وفقيهًا، فقد أثر ذلك في كتابه.
وأمَّا المسعودي، فكان ذا منحى آخر يغاير منحى الطبري، ولكل فضل، فألَّف لنا المسعودي كتابي «مروج الذهب»، و«التنبيه والإشراف»، وضاعت له كتب كثيرة، وهو ليس مؤرخًا فقط؛ بل هو مؤرخ وجغرافي معًا، فهو رحَّالة سائح، ولد في بغداد من عائلة عربية، ورحل وهو شاب إلى فارس، ثم إلى الهند، وزار «مُلتان»، والمنصورة، وصحب بعض التجار في سفرهم في بحر الصين، ورجع إلى زنجبار، ثم رجع إلى عمان، ثم سافر إلى قزوين، وطبريا، وفلسطين، ثم زار أنطاكيا، وساح في بعض بلاد سورية، ثم عاد إلى البصرة، ثم عاد إلى سوريا، ورُئي بعد ذلك في الفسطاط، وهكذا كان لا يستريح من الأسفار.
ولم تكن أسفاره للنزهة؛ بل كانت لمعرفة الأقطار وأخبارها، وإذا قارنا بينه وبين المقدسي والبيروني وجدناهما أدق وأعمق.
ويدل كتابه على معرفة واسعة باللغة، والعادات، والتقاليد، والأدب، والأخلاق، والسياسة، يقول في أول كتابه «مروج الذهب»: «إننا صنفنا كتابنا في أخبار الزمان، وقدَّمنا القول فيه في هيئة الأرض، ومدنها، وعجائبها، وبحارها، وأغوارها، وجبالها، وأنهارها، وبدائع معادنها … ثم أتبعنا ذلك بأخبار الملوك الغابرة، والأمم الدائرة … ثم أتبعناه بكتابنا الأوسط في الأخبار على التاريخ، ومن درج في السنين الماضية … ونعتذر من تقصير إن كان، ونتنصل من إغفال، أو عرض لما قد شاب خواطرنا، وغمر قلوبنا من تقاذف الأسفار، وقطع القفار، تارة على متن البحر، وتارة على ظهر البر، مستعملين بدائع الأمم بالمشاهدة، عارفين خواص الأقاليم بالمعاينة، فتارة بأقصى خراسان، وتارة بأواسط أرمينيا، وأذربيجان، وطورًا بالعراق، وطورًا بالشام، فسيري في الآفاق سُرَى الشمس في الإشراق كما قال بعضهم:
وفاوضنا أصناف الملوك على تغاير أخلاقهم، وتباين هممهم، وتباعد دارهم».
وهكذا يصف متاعبه في رحلاته، ودقته في أخلاقه، واطلاعه الواسع على ما أُلِّف من قبله، وتعديد كتبه التاريخية والجغرافية.
ويمتاز المسعودي في كتبه بالتفاته الكثير إلى الأمور الاجتماعية، كبحثه في ديانات العرب، وآرائها في الكيمياء، والهواتف، والقيان، والزجر، والسانح، والبارح، ومقارنته بين العجم والعرب إلخ إلخ.
وعند كل ملك يذكر طرفًا من أخباره الخاصة، وسيرته الداخلية، وملامحه، وتقاطيع وجهه إلخ؛ مما لا نجد له نظيرًا في الكتب الأخرى، فهو مؤرخ مسلَّح من الوثائق التي تلزم المؤرخ.
وأمَّا مسكويه — أو ابن مسكويه — فلم يُعْن بالرحلات، كما عني الطبري والمسعودي؛ ولكن نوع معيشته، وتقلباته في حياته، وفارسيته الأصيلة، ودراسته للفلسفة اليونانية، واشتغاله بالكيمياء، ومعاشرته للوزير المهلبي، ومخالطته لعضد الدولة، وابن العميد، وما حصل له من أزمات سياسية؛ كل ذلك جعل منه رجلًا مجربًا حقًّا، وقد خلَّف لنا من ذلك كتابه «تجارب الأمم»، يقصد منه إلى أن ما جرى على الأمم التي قبلنا، والملوك، والناس عبارة عن درس وعظ وإرشاد؛ ولذلك يلتفت إلى ما لا يلتفت إليه غيره، ويقف عند أمير صغير قد يكون منه درس كبير؛ كالذي يحكي لنا أن الأتراك كانوا يتعمدون أن يتخيروا من الخلفاء العباسيين حَدِيثي السن، أو من فيهم بله وغفلة، أو من يعكفون على الملاهي، ثم يتعمدون ألا يطلعوه على كتاب جدي؛ حتى لا يحاسبهم على أعمالهم، ونحو ذلك من طُرف لطيفة.
ولذلك كان له منحى خاص غير منحى الطبري والمسعودي، والقارئ له يستفيد منه فوائد كثيرة.
وكان ذا شغف بالأمور السياسية والاجتماعية، ومن آثاره التي وصلت إلينا كتاب «جاويدان خُرد»، ومعناه العقل الأزلي، وهو كتاب ألَّفه العلماء القدماء بالفارسية، يشتمل على حكم وآداب، عني به مسكويه، فأتم ترجمته التي بدأ بها الحسن بن سهل، ولخصه.
وقد أعجب به لأن فيه نظرات دقيقة في السياسة والاجتماع، كتوصية أحد ملوك الفرس لولده، وللملوك من خلفه: «أخرج الطمع عن قلبك تحل القيد من رجلك، الظالم نادم وإن مدحه قومه، والمظلوم سالم وإن ذمه، والمقتنع غني وإن جاع وعري، والحريص فقير وإن ملك الدنيا، من ظلم من الملوك فقد خرج من كرم المُلك والحرية، وصار إلى دناءة الشره والنقيصة، والشبه بالعبيد والرعية، استظهِرْعلى من دونك بالفضل، وعلى نظرائك بالإنصاف، وعلى من فوقك بالإجلال، يقول المسيح — عليه السلام: بماذا نَفَع امرؤ نفسه؟ باعها بجمع ما في الدنيا، ثم ترك ما باعها به ميراثًا لغيره».
وقد اختار فيه: حكمًا للفرس، وحكمًا لليونان، وحكمًا للعرب، إلى غير ذلك، فالظاهر أن مسكويه كان شغوفًا بالفضائل، شديد البحث عن خفايا السياسة، يرى أنه محتاج إلى ذلك لمعونة من حوله من الملوك والوزراء، وليكمل نفسه إذا كان يريد أن يحلي نفسه بكل فضيلة يعرفها، ولا أظن ابن حيان وقد ذمَّه إلا حاقدًا عليه؛ إذ كان يرى نفسه عالمًا فاضلًا، وهو مع ذلك محروم حتى من الرزق الضروري، فهو ينقم على كل من ناله خير، وخصوصًا إذا كان من ينقم عليه دونه عِلمًا.
- الأول: سيره في الأكثر حسب السنين لا حسب الموضوع.
- الثاني: الاعتماد على الجزئيات لا على الكليات؛ يضاف إلى ذلك أنه كان في نظرهم سير الحروب والملوك والانتصارات، أهم من سير الشعوب والحياة الاجتماعية؛ ولذلك يتعب المؤرخ الحديث كثيرًا إذا أراد أن يؤرخ مسألة اجتماعية، فهو مضطر أن يغربل كثيرًا ليعثر في آخر أمره على درر.
الجغرافيا
في هذا العصر حُبِّب إلى الناس الهجرة من بلادهم، والاطلاع على البلاد الأخرى، شأن الأمم القوية في أيام عزها، أما الأمم الضعيفة فتحب مكانها، وتلتصق بأرضها، ولا تهتم بحياة غير حياتها، وكان يحمل على حب الهجرة شيئان: التجارة، والعلم؛ أما التجارة، فقد راجت في هذا القرن، وقام علماء الرحلات يضعون كتب الدليل لهذه الرحلات، وقامت الحكومات لبناء رباطات ينزل فيها المسافرون، ويتزودون منها، وكانت في أصل وضعها نقطًا عسكرية لحفظ الحدود، من أن يتسرب إليها الأعداء، أو نقطًا بريدية، ثم أضافوا إليها غرضًا آخر، وهو معونة التجار، وكتب الدليل هذه ككتب الدليل اليوم، تبين المسافات بين البلاد، وأخلاق الأمم وعاداتهم، واعتقاداتهم، وما عندهم من أنواع السلع والمصنوعات، والحاصلات الزراعية، وما اعتادوه من مكاييل، ومقاييس، وأوزان، وأسماء المشهورين من الناس في كل قطر.
ومن أحسن ما ألف في هذا العصر كتاب «أحسن التقاسيم في معرفة أحوال الأقاليم» للبَشَّاري المشهور بالمقدسي، فقد قطع — كما يقول — ألفي فرسخ، وسافر إلى الصين وسرانديب، وككتاب «الأعلاق النفسية» لابن رُستَه، «والمسالك والممالك» للإصطخري، و«الممالك» للبكري، و«المسالك والممالك» لابن خُردَاذَبَة، و«البلدان» لابن الفقيه، إلى غير ذلك.
وأسس المسلمون في أيام عزهم مراكز تجارية يحضر إليها التجار بسلعهم وأموالهم من مختلف الأقطار، وبها السماسرة يبيعون ويشترون في مختلف الأقطار، وكان هناك صيارفة المال، ولهم وكلاء، يصرفون الصكوك، ويحررون الحوالات لوكلائهم في الأقطار الأخرى، وكان من أهم تلك المراكز جاوة، وكانت مركزًا للبضائع الصينية، وَعَدَنُ، وكازرون، والعريش.
وذهبوا إلى بلاد روسيا، وبلغوا كوتاهية، وذهبوا إلى أقصى السودان، وذهبوا إلى التتر لجلب جلود السَّمُّور، ووصلوا إلى كانتون، وحيثما وصلوا إلى بلد تعلموا لغتها وعاداتها، ونشروا لغتهم ودينهم، واختلطوا مع أهلها بالزواج.
وحكى لنا المسعودي في تاريخه قصصًا كثيرة عن حال هؤلاء الرحالة، كابن وهبان، الذي كان غنيًّا كبيرًا، وتاجرًا عظيمًا، وكان من أهل البصرة، فرحل إلى سيراف، ورحل منها إلى الهند، ومنها إلى بلاد الصين، وأعمل الحيلة حتى قابل ملكها، وقد عاد فحدث أهلها بما رأى، وحث أهله على الرحلات، وتنظيم التجارات، وقد كانت لهم رحلات بحرية كالرحلات البرية، فأنشئوا المراكب الكبيرة للملاحة في البحر الأبيض، وكانت مراكبهم شراعية.
ويحدثوننا أن المركب تحمل بضعة آلاف راكب، وفيها حوانيت للبيع، وكانوا أحيانًا يستحضرون أخشاب السفن من البندقية، وفيها غواصون لسد الثقوب من الحبشة، وبحارون لتنظيف السفن، والمحافظة عليها وخدمتها، وفيها الحمام الزاجل لإرسال الأخبار.
وقال المسعودي: إنه قد ركب عدة من البحار، كبحر الصين والروم، وأصابه فيها من الأهوال ما لا يحصى كثرة، فلم يجد أهول من بحر الزِّنج، وكانت أقصى ما تصل إليه المراكب في هذا البحر موزَنبيه.
ومع أهوال البحار والبر تحملوا المشقات، حكى الإدريسي أنه في القرن الرابع «خرج جماعة من مدينة لشبونة، كلهم أبناء عم، وأنشئوا مركبًا، وتزودوا فيه، ثم ركبوا بحر الظلمات واقتحموه؛ ليعرفوا ما فيه من الأخبار والعجائب، وليعرفوا إلى أين انتهاؤه، وهم يسمون المغرَّرين».
ويظهر أنهم وصلوا إلى أمريكا؛ لأنها نهاية بحر الظلمات هذا، وهو المحيط الأطلنطي.
وأما العلم، فلم تكن كتب الحديث قد تم تكوينها، فكان العلماء يرحلون إلى الأقطار المختلفة يتلقون الحديث من أهلها، حتى ربما رحلوا المسافات البعيدة لرواية حديث واحد، وكان لا يعتد بعالم محدث أخذ حديثه من الكتب، ويسمونه الصحفي، أي أنه أخذ حديثه عن الصحف، ويفتخر العالم بكثرة مشايخه.
وهذا البيروني أصله خوارزم، وكان أهل بلده يسمونه الغريب؛ لطول غربته، بعد أن مهر في علوم اليونان الرياضية والهندسية، ثم أكب على ما للهند من تلك العلوم، وقارن ما عند الهنود بما عند اليونان، وأبان عيوب هؤلاء وهؤلاء، كما درس حالة الهند الاجتماعية، وألف فيها … إلخ.
وكان المقدسي أعجوبة الأعاجيب، كما يحدثنا هو عن نفسه، دعاه إلى التأليف في الجغرافيا أنه عز عليه أن يرى غيره قد اخترع في العلوم وهو لم يخترع، فاتجه إلى جهة لم يتجهها أحد من قبله، قال: «رأيت أن أقصد علمًا أغفلوه، وأتفرد بفن لم يذكروه». ويعني بذلك: أن ينص على اختلاف أهل البلدان في كلامهم، وأصواتهم، وألسنتهم، وألوانهم، ومذاهبهم، ومكاييلهم وموازينهم، ونفوذهم، وصفة طعامهم وشرابهم، ومعرفة مفاخرهم وعيوبهم، ومراكز السعة والخصب، ومواضع الضيق والجدب، وقال: «إن هذا علم لا بد منه للتاجر والمسافر، والملوك والكبراء، والقضاة والفقهاء».
نعم، إن بعضهم سبقه إلى ذلك، ولكنهم قصروا فكتبوا ما سمعوا، ومنهم من اقتصر على المدن المشهورة، ووضع لنفسه خطة: أن يرحل إلى الأقطار الإسلامية، ويشاهدها بنفسه، فإذا دخل بلدة، درسها أتم درس، وعلى حد تعبير: ذاق هواءها، ووزن ماءها، ولقي علماءها، وخدم ملوكها، وجالس القضاة والفقهاء، واختلف إلى الأدباء والقراء، وخالط الزهاد والمتصوفين، وحضر مجالس القصاصين، وتاجر فيها، وعاشر أهلها، ومسح إقليمها، ودار على تخومها، وفتش عن مذاهب سكانها، ودقق النظر في ألسنتهم وألوانهم».
وعلى الجملة، فلم يألُ الرجل جهدًا أن يحقق أغراضه النبيلة، قال: «ولم أترك شيئًا مما يلحق المسافرين، إلا وقد أخذت منه نصيبي، فتفقهتُ وتأدبت، وتزهدت وتعبدت، وفقهت وأدبت، وخطبت على المنابر، وأذنت على المنائر، وأممت في المساجد، واختلفت إلى المدارس، وتكلمت في المجالس، وأكلت مع الصوفية الهرائس، ومع الخانقائيين الثرائد، ومع النواتي العصائد، وطردت في الليالي من المساجد، وتهت في الصحاري، وسحت في البراري، وصدقت في الورع زمانًا، وأكلت الحرام عيانًا، وصحبت عُبَّاد جبال لبنان، وخالطت حينًا السلطان، وملكت العبيد، وحملت على رأسي بالزنبيل، وأشرفت مرارًا على الغرق، وقطع على قوافلنا الطرق، وصاحبت في الطرق الفساق، وبعت البضائع في الأسواق، وسُجنت في الحُبوس، وأخذت على أني جاسوس، وكم نلت العز والرفعة، ودبر في قتلي غير مرة، ورميت بالبدع، واتهمت بالطمع، وذهب لي في هذه الأسفار فوق عشرة آلاف درهم، ولم تبق رخصة مذهب إلا وقد استعملتها، وما سرتُ في جادة، وبيني وبين مدينة عشرة فراسخ، إلا فارقت القافلة، وانفلت إليها لأنظرها، فكم بين من قاسى من الألباب، وبين من صنف كتابه في الرفاهية، ووضعه على السماع؟».
أما ما لم يشاهده، فكان برنامجه فيه كما قال: «أن يسأل ذوي العقول من الناس، ومن لم يعرف بالغفلة والالتباس، وأن يسأل عن الشيء الواحد جماعة مختلفة، فما اتفقوا عليه أخذه، وما اختلفوا فيه نبذه، وما حكوه ولم يقبله عقله أسنده إلى من رواه، أو قال فيه زعموا، وحلاه بالخرائط الملونة. وقد ساح في جزيرة العرب، والعراق، والشام، ومصر، والمغرب، ثم في بلاد فارس، والسند، والهند، ولخص آراءه في هذه البلاد كلها، فقال: أظرف الأقاليم العراق، وهو أخف على القلب، وأحد للذهن، وبه تكون النفس أطيب، والخاطر أدق، وأغزرها فواكه، وأكثرها علماء، وأجِلّة المشرق «الدولة السامانية»، وأكثرها صوفًا وقزًّا الديلم «جرجان وطبرستان»، وأجودها ألبانًا وأعسالًا، وألذها أخبازًا، وأمكنها زعفرانًا الجبال «إقليم يشمل الري، وهمذان، وأصفهان، وقاشان»، وأسفلها قومًا، وشرهم أصلًا وفصلًا خوزستان، وأحلاها ثمورًا، وأوطؤها قومًا كِرمان، وأكثرها فانيدًا، وأغزازًا، ومِسكًا السند، وأكيسها قومًا وتجارًا فارس، وأشدها حرًّا وقحطًا جزيرة العرب، وأكثرها بركات، وصالحين، وزهادًا، ومشاهد الشام، وأكثرها عبادًا، وقراء، وأموالًا، ومتجرًا، وحبوبًا مصر.
ولم أر أطمع من أهل مكة، ولا أفقه من أهل يثرب، ولا أعف من أهل بيت المقدس، ولا آدب من أهل هراة، ولا أذهن من أهل الري، ولا أصح موازين من أهل الكوفة، ولا أحسن من أهل حمص، ولا أشرب للخمور من أهل بعلبك ومصر».
ولما جاء مصر أعجب بالفسطاط، وقال: إنه لم ير في الأمصار آهل منه، وليس في الإسلام أكبر مجالس من جامعه، وقد أعجب بأطعمتها وحلواها، وكثرة بقولها، وفواكهها، ونغمة أهلها بالقرآن، ودهش من كثرة المراكب في النيل، ومن كثرة المصلين في المساجد، ولكن لم تعجبه كثرة البراغيث فيها، وعدم عناية المسلمين بالنظافة، وازدحام مساكنهم بالسكان، وكثرة اختلافهم، وشرب الخمور، وانتشار الفجور، وكثرة السباب، وقال: «إن أهل الشام يعيبون على أهل مصر ثلاثة أشياء: أن مطرهم الندا، وطيرهم الحدا، وكلامهم رخو مثل النسا».
ومن أكثر ما امتاز به التفاته في جميع ما دخله من البلاد إلى اللهجات واللغات والأساليب، واختلاف الأقاليم في استعمال بعض الكلمات في قطر دون آخر.
وحكي عن قصة بعض ملوك خراسان إذ جمع رجالًا من خمس كور خراسان، فلما حضروا تكلموا جميعًا، فقال عن السجستاني: هذا لسان يصلح للقتال، والنيسابوري يصلح للتقاضي، والماروزي يصلح للوزارة، والبلخي يصلح لكتابة الرسائل، أما لسان هراة فيصلح للكنيف.
ويحكى أن كل بلد تغير أسماء الأعلام على شكل خاص، ففي فارس يقولون بدلًا من علي: علكا، ومن حَسن: حسكا، ومن أحمد: حمكا، للتلميح، وفي همدان يقولون: بدلًا من أحمد: أحمدلا، ومن محمد: محمدلا، ومن عائشة: عِشلا. وفي ساوة يقولون في أبي العباس: أبو العباسان، وفي حسن: حسنان، وفي جعفر: جعفران، وهكذا.
وعلى الجملة، فقد كان دقيق الوصف، حسن الالتفات إلى دقائق الأمور، ومن أجل ذلك أفادنا فوائد كثيرة، ونكتفي به عن أمثاله فهو خيرهم.
والعرب منذ اتصلوا بالعالم الخارجي أثبتوا أنهم مرنون قابلون لمسايرة الحضارات المختلفة، وأقلمتها، وأنهم أذكياء ذوو حيوية، وخيال فسيح، وقد كان العرب في هذا العصر في غاية من النشاط، وحسن الرحلات، كوّنوا علائق تجارية في أقصى الأرض، فكوّنوا علائق بالصين، وبعض البقاع الروسية، وبعض مجاهل إفريقيا، ولم تمنعهم صعوبة المواصلات، وسوء الاستعدادات من الرحلات إلى أقصى البلاد، فسياحة التاجر سليمان لبلاد الصين، ورحلته من سيراف الواقعة على الخليج الفارسي، وقطعه المحيط الهندي، حتى يبلغ شواطئ الصين معروفة مشهورة، وقد قضى المسعودي خمسًا وعشرين سنة من حياته يطوف في أرجاء الأرض، وهو وصاف للآفاق، يصف أحوال الأمم في عهده، ويذكر نِحَلَهم، وعوائدهم، ويصف البلدان، والجبال، والبحار، والممالك، والدول. وجاء ابن حوقل بعد أن تمت رحلات المسعودي، فعمل رحلات أخرى، وقال: «قد عملت كتابي هذا في صفة أشكال الأرض، ومقدارها في الطول والعرض، وأقاليم البلدان، ومحل الغامر منها والعمران، من جميع بلاد الإسلام، بتفصيل مدنها، وتقسيم ما تفرد بالأعمال المجموعة إليها، وقد جلعت لكل قطعة أفردتها تصويرًا، وشكلًا يحكي موضع ذلك الإقليم، ثم ذكرت ما يحيط به من الأماكن والبقاع، وما في أضعافها من المدن والأصقاع، وما لها من القوانين والارتفاع، وما فيها من الأنهار والبحار، وما يشتمل عليه ذلك الإقليم من وجوه الأموال والجبايات، والأعشار والخراجات، والمسافات في الطرقات … إلخ».
وقد رافق البيروني الذي سبق ذكره السلطان محمود الغزنوي في حملته على الهند، فنشر ما شاهده في بلاد السند، وشمال الهند، وحاول أن يصحح طريقة تلك البلاد، مستندًا على حسابه الفلكي، وجاء بعده أبو الحسن، فجاب الأرض من شمال إفريقيا إلى مصر، وعين مواضع واحد وأربعين مركزًا تعيينًا فلكيًا، فهم وإن اتخذوا اليونان والرومان أدلاء لهم في علم الجغرافيا فقد فاقوا أساتذتهم، وزادوا عليهم، وصححوا لبطليموس مواضع المدن الكبيرة التي كانت قد غلط في تعيينها، مع صعوبة التحديد؛ إذ لم يكن عندهم آلات كافية، فلم تزد أغلاطهم على درجتين، بينما بطليموس كان يغلط أحيانًا نحو ١٨ درجة.
وجاء الإصطخري، وكان معاصرًا للمسعودي، فألَّف كتابًا في إحصاء ما في الولايات من أنهار، ومدن، وجبال، وغير ذلك.
وغامر الإدريسي مغامرات خطيرة، واشتهر بخريطته التي تحتوي على منابع النيل، والبحيرات الاستوائية، إلى كثير غيرهم، حتى إن أبا الفداء ذكر أسماء ستين عالمًا جغرافيًّا من الذين ظهروا قبله، وأبدع ما كان لهم ربطهم الجغرافيا بالفلك، وهي نظرة كان يظن أنها نظرة حديثة.