الفصل التاسع

وسائل العلوم

نريد بوسائل العلوم الوساطات التي كانت تتخذ لنشر العلم، وتعين عليه، وأهم ذلك المكتبات، ومناهج الدراسة، والرحلات، والوراقة، والخط، وسنتكلم كلمة عن كل منها.

فأما المكتبات، فإن الدولة الإسلامية لما تقسمت أقسامًا كثيرة، واستقل كل قسم تنافس أمراء هذه الدول في كل ما من شأنه تجميل دولهم، من الحرف الدقيقة، ونتائج الفنون الجميلة، والشعراء، والعلماء، والفلاسفة، وغير ذلك، حتى إذا ظهرت حرفة جميلة تسابق هؤلاء الأمراء في اقتنائها، وتاريخ المتنبي مثلًا يدلنا على هذه المسابقة.

فسيف الدولة يحرص عليه؛ لأنه له بمثابة جريدة اليوم تشيد بذكره، ولما وصل إلى كافور بمصر حرص عليه، ولما وصل إلى عضد الدولة اعتزّ به، وكان من موضوع هذه المسابقات المكتبات، فكل أمير كان له مكتبة عظيمة يفتخر بها، ويسعى في تنميتها، ويحدثوننا أن الحكم صاحب الأندلس بعث رجالًا إلى جميع بلاد الشرق؛ ليشتروا له الكتب عند أول ظهورها، فقالوا: إن فهرس مكتبته كان يتألف من أربعة وعشرين كرّاسة، كل كرّاسة عشرون ورقة، ولم يكن في تلك الكراسات إلا أسماء الكتب.

وفي الدولة الفاطمية كان الخليفة العزيز بالله، المتوفى سنة ٣٨٦ﻫ يقتني الكتب، ويحفظها في مكتبته، وذكر عنده كتاب «العين» للخليل بن أحمد، فأمر خزان دفاتره فأخرجوا من خزائنه نيفًا وثلاثين نسخة؛ منها نسخة بخط المؤلف، وحمل إليه رجل نسخة من تاريخ الطبري اشتراها بمائة دينار، فأمر العزيز الخزان فأخرجوا ما ينيف على عشرين نسخة، منها نسخة بخط الطبري، وذكر عنده كتاب «الجمهرة» لابن دريد، فأخرجوا من الخزانة مائة نسخة.١
وصف المقدسي خزانة كتب عضد الدولة، فقال: «إنها حجرة على حدة، عليها وكيل، وخازن، ومشرف من عدول البلد، ولم يبق كتاب صنف إلى وقت عضد الدولة من أنواع العلوم إلا وحصله فيها، وهي أزج طويل، في صُفةٍ كبيرة، فيه خزائن من كل وجه، وقد ألصق إلى جميع حيطان الأزج والخزائن بيوتًا طولها قامة، في عرض ثلاثة أذرع من الخشب المزوَّق، عليها أبواب تنحدر من فوق، والدفاتر منضَّدة على الرفوف، لكل نوع بيوت، وفهرستات، فيها أسامي الكتب، لا يدخلها إلا كل وجيه».٢

ونحن نعلم أن خازن هذه الخزانة كان ابن مسكويه، وهو ما هو في العلم، وسعة الاطلاع.

وكان لسيف الدولة خزانة كتب كبيرة، عليها الخالِدِيَّان، وهما الشاعران المشهوران.

ويحدثنا المعري في «رسالة الغفران» أنه وهو في بغداد كان يزور مكتبة أردَشير، وكان على المكتبة فتاة سوداء تعير الكتب، وتحضرها إلى كثير من أمثال ذلك، وهذا إلى أن كثيرًا من الأغنياء والوزراء كانت لهم مكتبات خاصة كابن العميد وزير عضد الدولة، كان له مكتبة، فلما نكب حمد الله كثيرًا على أنه بقيت له مكتبته؛ لأنها أهم شيء عنده.

وكان ابن مسكويه في بعض الأوقات خازنًا لمكتبته، وكان فيها كل علم، وكل نوع من أنواع الحكم والآداب، يحمل على مائة وقر، وكان كذلك للصاحب بن عباد مكتبة، حتى إنه لما استدعاه السلطان نوح بن منصور الساماني ليوليه وزارته، كان مما اعتذر به أن عنده من كتب العلم ما يحمل على أربعمائة جمل أو أكثر، وكان فهرس كتبه يقع في عشرة مجلدات.

وحكوا أن علي بن يحيى المنجم كان ممن جالس الخلفاء، وكانت له خزانة كتب عظيمة في ضيعته، وسماها خزانة الحكمة، وكان يقصدها الناس من كل بلد، فيقيمون فيها ويتعلمون، والكتب مبذولة لهم، والصيانة مشتملة عليهم، والنفقة في ذلك من مال علي بن يحيى.

وحكوا أن أبا معشر المنجم المشهور قدم من خراسان يريد الحكمة، وهو لا يحسن كبير شيء من النجوم، فلما وصفت له هذه الخزانة ورآها، هاله أمرها، وأقام بها، وأضرب عن الحج، وتعلم فيها علم النجوم، وقالوا: إن القاضي أبا مطرّف الأندلسي جمع من الكتب ما لم يجمعه أحد من أهل عصره في الأندلس، وكان له ستَّة ورَّاقين ينسخون له دائمًا، وكان متى علم بكتاب حسن عند أحد من الناس، طلبه ليشتريه منه، وبالغ في ثمنه، وكان لا يُعير كتابًا من أصوله ألبتة، فإذا سأله أحد ذلك، وألحف عليه، أعطاه للناسخ فنسخه، وقابله، ودفعه إلى المستعير.

فيستفاد من هذا وأمثاله أنه كان هناك مكتبات كثيرة في جميع الأقطار يغشاها الناس، ويتعلمون منها، حتى كان من العادات المأثورة أن كل جامع كبير يكون من مكملاته مكتبة كبيرة.

وإذا نحن علمنا أنه لم يكن في ذلك العصر مطابع، وإنما هناك مؤلفون يؤلفون، ونُسَّاخ ينسخون، أدركنا ما يقتضيه عمل مكتبة من الجهد العظيم، والمال الوفير.

ولم تكن المكتبة مقصورة على الكتب، بل كانت أحيانًا مجتمعًا يجتمع فيه طلَّاب العلم والعلماء، ويتداولون فيما بينهم المسائل العلمية … وهذا ما جعل هذا العصر يزخر بالعلم والعلماء.

وكان بجانب هذه المكتبات العامة مكتبات خاصة لكل عالم تشمل على الكتب التي يحتاج إليها، فالغني منهم يطلب من النساخين أن ينسخوا له الكتب التي يريدها؛ والفقير ينسخ بنفسه.

ورووا عن السِّجستاني المحدث أنه كان له كُمٌّ واسع، وكم ضيق، فسئل عن ذلك، فقال: «الواسع للكتب، والآخر لا أحتاج إليه».

وروي عن أحد علماء أصبهان الأغنياء، أنه أنفق في شراء كتبه ثلاثمائة ألف درهم، وقالوا: إن أبا يوسف القزويني المعتزلي دخل بغداد، ومعه عشرة جمال عليها كتب، وتفنن بعضهم في تجليد الكتب، وزخرفتها، والعناية بخطها، وأحيانًا تحلى بالذهب. ويتنافس رواة الكتب فيما كتبه كبار الخطاطين كابن مقلة، وابن البَّواب، ومن ذلك الحين ظهرت وقفيات على المكتبات، وعلى من يغشاها من فقراء القراء، كما فعل العزيز بالله الخليفة الفاطمي؛ إذ أجرى ألف دينار كل شهر على جماعة من أهل العلم، والورَّاقين، والمجلدين.

وكاتب المكتبات على وجه العموم تزوّد بالحبر والورق، وبعض الأغنياء يتبرع بذلك حسبة لوجه الله، حتى يحكي ابن خلكان أنه في إحدى مدارس نيسابور كان يوجد خمسمائة دواة معدة لمن يريد أن يكتب في المكتبة، ووجدت وثيقة مما ينفق على مكتبة في القاهرة، وهي دار العلم التي انشأها الحاكم بأمر الله، فإذا فيها:

دينار
٩٠ للورق
٤٨ للخازن
١٥ للفراشين
١٢ للناظر في الورق، والحبر، والأقلام
١٢ لمرمَّة الكتب
١٢ ثمن ماء
١٠ حصر
٥ لبود للفرش في الشتاء
٤ طنافس
١ لمرمَّة الستارة

أما طرق التعليم، فكانت مختلفة، منها مكاتب، أو كتاتيب للتعليم الابتدائي، وقد عقد ابن خلدون فصلًا في تعليم الأطفال، واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه، يستفاد منه أن المشارقة كانوا يبدءون بتعليم القرآن، حتى يرسخ في قلوبهم أول ما يرسخ ويجعلون عماد تعليمهم القرآن والكتابة.

أما أهل الأندلس، فمذهبهم تعليم القرآن والكتابة، ثم يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب، والترسل، وأخذهم بقوانين العربية وحفظها، وتجويد الخط والكتابة، إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة، وقد شَدا بعض الشيء في العربية، والشعر، والبَصَر بهما، فبعد ذلك يعيدون النظر في القرآن ويتفهمونه.

وقد روى ابن خلدون عن أبي بكر بن العربي في رحلته أنه يرى رأيًا يذهب فيه إلى البدء في تعليم الحساب، واللغة، والشعر، ثم بعد أن يتقدم في ذلك يبدأ في تعليم القرآن لتكون قراءته لهم على فهم، ثم يقول: «ويا غفلة أهل بلادنا، في أن يؤخذ الصغير بكتاب الله في أول أمره، ويتعب في أمر غيره أهم منه»، ونهى أن يخلط في التعليم عِلمان إلا أن يكون المتعلم قابلًا لذلك لجودة الفهم والنشاط، ومنها مدارس، ومجالس للتعليم العالي.

وقد ذكر المقدسي أنه أحصى في المسجد الجامع بالقاهرة وقت العشاء مائة وعشرين مجلسًا من مجالس العلم، وربما كانت هذه المجالس أشبه ما تكون بحلقات الدراسة في الجامع الأزهر لكل شيخ عمود، وكان جامع المنصور ببغداد أشهر مركز للتعليم في المملكة الإسلامية، لا يمنع الناس حر ولا برد، حتى حكوا في سنة ٣١٤ﻫ أن الهواء برد بردًا شديدًا ببغداد، وتساقط الثلج، فجلس أبو ذكْرة في وسط دِجلة على الجليد، وأمْلى الحديث.

وكان من أكبر العلماء على مذهب داود الظاهري إبراهيم بن محمد نفطويه، وكان يجلس إلى أسطوانة بجامع المنصور، خمسين سنة لم يغير محله منها، وبعض هذه الحلقات كان للفقه، وبعضها للنحو والصرف، وبعضها للغة، وبعضها للتاريخ، قالوا: وكان الفقهاء أكثر العلماء تلاميذ؛ لأن الفقه يؤهل أصحابه لتولي مناصب يتعيَّشون منها، وكانت أشهر الطرق طريقة الإملاء؛ ولذلك سمي بعض الكتب بالأمالي، كأمالي القالي، وأمالي الزجاج، وأمالي المرتضى.

يجلس الأستاذ وحوله الطلبة فيملي عليهم من علمه، ورووا أن الجبائي المعتزلي أملى مائة ألف ورقة وخمسين، وما رئي ينظر في كتاب، وكان للمشايخ طرق مختلفة، فمنهم من يملي من عقله، وهو الذي يتحكم فيما يمليه، وما لا يمليه، كأمالي القالي، ومنهم من وثق بنفسه لدرجة أنه يترك الدرس للظروف، فالطلبة هم الذين يسألون، وهو يجيب على أسئلتهم، وكان المستملي يكتب أول الدرس: «مجلس أملاه شيخنا فلان، في جامع كذا، يوم كذا».

وشاعت هذه الطريقة في مجالس المتكلمين، فلما جاء القرن الرابع غلبت طريقة ثالثة، وهي قراءة الكتب القديمة وشرحها، فهذا يقرأ كتاب سيبويه، وهذا يقرأ كتابًا في تفسير القرآن للفراء، وهذا يقرأ مجموعة من أشعار الهذليين، وهذا يقرأ كتابًا في الحديث، وهكذا. ومن طريف ما يروى لنا أن أبا عمرو المطرف ألف كتابًا في اللغة اسمه «الياقوت»، قال: إنه ابتدأه يوم الخميس لليلة بقيت من المحرم سنة ٣٢٦ﻫ، أملاه على الطلبة في جامع المنصور ببغداد ارتجالًا من غير كتاب ولا دستور، ومضى في الإملاء مجلسًا مجلسًا إلى أن انتهى إلى آخره، ثم رأى الزيادة فيه، فزاد أضعاف ما أملى، وكتب هذه الزيادة أحد تلاميذه، ثم قرأه عليه أبو إسحاق الطبري، وسمعه الناس، ثم زاد فيه بعد ذلك، وقرئ عليه بالزيادة يوم الثلاثاء لثلاث بقين من ذي القعدة سنة ٣٢٩ﻫ، وفرغ منه في ربيع الثاني سنة ٣٣١ﻫ، وأحضر جميع النسخ التي كتبت فقورنت، ثم زاد المؤلف بعد ذلك أشياء أخرى، كتبها محمد بن وهب، ثم جمع الناس، ووعدهم بعرض الكتاب وتقريره، وألا يكون بعدها زيادة.

وعلى الجملة، فقد كانت المساجد والمكتبات والمكاتب هي أمكنة الدراسة.

هذا عدا المجالس الخاصة في بيوت العلماء والوزراء، كمجلس أبي سليمان المنطقي في بيته، والوزير المهلبي في بيته، والوزير ابن سعدان في بيته، يجتمع العلماء أو الأدباء مع رئيسهم، ويفتتح الرئيس المجلس بمسألة حيثما اتفق لغوية أو أدبية، أو نفسية، أو اجتماعية، فيجيب من حضر من العلماء، ثم يتركون الحديث على سجيته يتشعب إلى أن ينتهي المجلس، ويعلمنا أبو حيان في ذلك العصر طريقة أخرى للاستفادة، كالتي اتبعها أبو حيان مع ابن مسكويه، فقد بعث أبو حيان إلى ابن مسكويه بكتاب يشتمل على جملة أسئلة، مما احتار فيها: بعضها لغوي، وبعضها ديني، وبعضها أخلاقي، وبعضها اجتماعي، ووضع هذه الأسئلة في كتاب سماه «الهوامل»، والهوامل: هي الإبل المهملة السائمة، فرد عليه ابن مسكويه بكتاب يجيب فيه على أسئلته سؤالًا سؤالًا، وسماه: «الشوامل»، كأنه شمل الهوامل وضبطها، فهذه طريقة أيضًا في التعليم، تدل على اهتمام المعلمين بأسئلة طلبتهم، وإعداد الأجوبة على أسئلتهم، كالدروس التي تلقى في المسجد، كما يدلنا ابن مسكويه على أنه كان يهتم بهؤلاء الطلبة.

ويستطرد أحيانًا بالتنبيه على ضعف خُلُق الطالب، ومعالجته حسبما يراه، ويدلنا أبو حيان أيضًا في كتابه «المقابسات» على ما كان يثار في مجلس أبي سليمان من مناظرات، ومجادلات في أنواع المشاكل التي كانت تعرض لهم، وكان يغلب على كل أستاذ ناحيته الخاصة، فتغلب على أبي سليمان الناحية الفقهية، وتغلب على الوزير المهلبي الناحية الفنية والأدبية، وتغلب على الفقهاء الناحية الفقهية، وعلى المحدثين ناحية الحديث، وعلى مجالس الصوفية ناحية التصوف، وهكذا من ثروة زاخرة متنوعة، يصورها لنا «المقابسات»، وما رُوي في ترجمة الوزير المهلبي، وما يروي من مجالس الصوفية … إلخ.

وأحيانًا يكون العلم بطريق المراسلة، فيشتهر عالم بفن، أو فنون في الأقطار الإسلامية، فتأتيه الرسائل من جميع الأقطار، تسأله في مسائل هامة، في التفسير، أو النحو، أو الفقه، فيجيب الأستاذ بأجوبة مختلفة، كالذي روي لنا عن أسئلة عديدة وردت على السيرافي من ملوك الأقطار، يسأل فيها عن مسائل في النحو، والصرف، والتفسير، وكما روي لنا عن أسئلة وردت من داعي الدعاة من مصر على أبي العلاء المعري، تسأله: لم كان نباتيًّا، وحرَّم على نفسه أكل الحيوان، وقد أحله الله؟ … إلخ. فأسئلة وأجوبة، ومجالس خاصة، وحلقات العلماء في المساجد، وكتاتيب ومكتبات مفتوحة يتلاقى فيها العلماء والطلاب، ويتساءلون ويتجاوبون، كل هذه كونت حركات شديدة عنيفة في نشر العلم، وإخراج عدد كبير من العلماء، وربما لم يساوهم عصر آخر من العصور، ويتصل بذلك ما شاع في هذا العصر، والذي قبله من نمط «الإجازة العلمية»، وربما كان أول من اتبع ذلك المحدثون؛ للدلالة على ثقتهم، وهي أن يجيز ثقة من الثقات لغيره بأن يروي عنه حديثًا أو كتابًا، ثم يعطيه مستندًا كتابيًّا على ذلك. وتسابق علماء الحديث في أخذ هذه الإجازات عن شيوخهم، فكان الطلبة إذا سمعوا حديثًا استكتبوا الشيخ إجازة، وكان الناس ينتهزون فرصة اجتماعهم بالعلماء ليقرءوا عليهم تصانيفهم، أو تصانيف غيرهم، ويفتخرون بأخذ كتابة منه، وكان العلماء قسمين: قسمًا يتشدد فلا يعطي إجازة إلا من سمع عليه، ووثق به. وقسمًا متساهلًا يجيز كل من أراد الإجازة، ولو لم يسمع منه، حتى كان بعض العلماء قبل وفاته يجيز جميع مسلمي عصره في رواية الأحاديث التي كان يعرفها، وتفننوا في الإجازة حتى جعلوها شعرًا، كالذي ورد في ديوان صفي الدين الحلي، واستمر هذا إلى عهد قريب منا، فقد روي أن السلطان عبد الحميد أخذ إجازات في الحديث من المرتضى الزبيري صاحب كتاب «تاج العروس».

وكانت العلاقة بين الأستاذ وتلاميذه علاقة الأب بابنه، فكان الطالب يخدم أستاذه، وقد سمعنا في عهدنا ممن شاهدناهم ان الطالب يغسل يد أستاذه، بل ويعد له حماره عند ركوبه، ويجري وراء الحمار، فكذلك كانت العلاقة في العصر الذي نؤرخه.

وكثيرًا ما كانت تحدث علاقات مصاهرة بين الأستاذ وتلميذه، وربما زاد ذلك الصوفية، فقد طلبوا من المريد أن يكون بين أستاذه كالريشة في مهاب الريح، وفي كتاب «وفيات الأعيان» قصص كثيرة من هذا القبيل.

وقد رووا أن أبا الزناد كان يذهب إلى مسجد المدينة محاطًا بتلاميذه كأنه ملك، ويؤخذ من مجموع ما روي أنه لم يكن هناك منهج خاص، بل كان للأستاذ مطلق الحرية يتكلم كما يشاء في أي موضوع شاء.

وكان أكثر المعلمين يعلمون بأجر، وقد رأينا قبلُ أن المبرد كان يتقاضى أجرًا على تعليمه، وأن الزجاج كان يعطيه درهمًا كل يوم، وربما كان علماء اللغة والنحو أكثر الناس استحلالًا للأجر، أما المحدثون فكثيرًا ما كانوا يحدثون لوجه الله، وكان الفلَّاح الذي يعطي ابنه لمعلم يضمن لمعلّمه قوته.

على كل حال، انتشرت المجالس على اختلاف أنواعها — في البيوت، وفي المساجد — في الأدب، وفي الفلسفة، وكان بعض الأمراء والوزراء ذا ولع شديد بالعلم ومدارسته؛ فأحيوا هذه العادة وشجعوها، وساعد على انتشارها الخلاف الذي كان بين المذاهب المختلفة من شيعة وسنية، فرأوا أن هذه المجالس تقوم مقام الجرائد اليوم في نشر الدعوة، فما أكثر ما عقد الفاطميون مجالس للدعوة، وما أكثر مما رد عليهم السنيون. مثال ذلك: ما كان من الوزير الفاطمي يعقوب بن كلِّس، فقد عقد مجلسًا للمناظرة في الفقه، والأدب، والشعر، وعلم الكلام، وكان أصله يهوديًّا، ومثقفًا ثقافة واسعة، كثير المال، يصرفه في خدمة العلم، ونشطت حركة المناظرة والجدل حتى وضع لذلك علم سُمي علم آداب البحث والمناظرة، وكان يحضر هذه المجالس بعض أهل الأديان الأخرى، فنرى في مجلس أبي سليمان المنطقي يحيى بن عدي النصراني، وغيره من أهل الأديان، ورووا أن يوحنا بن ماسويه كان يعقد مجلسًا في بغداد، فيحضره العلماء على اختلاف مذاهبهم من فلاسفة، وأطباء، وأدباء، ومتكلمين، وكان لأبي حامد الإسفرائيني مجلس، قالوا: إنه يحضره ثلاثمائة فقيه، هذا غير مجالس الطرب مما كانت تتداول فيها الخمور، وتتناشد فيها الأشعار، وتغمر بالأزهار، ويستحضر فيها الثلج بكثرة للشراب، كالذي رُوي عن الوزير المهلبي؛ إذ كان يحضر فيه مثل أبي الفرج الأصفهاني، وابن مسكويه أيام استهتاره وشبابه؛ وغيرهما، وقد ذكرنا قبل ما كان من إخوان الصفاء، وانتشارهم في البلاد، ونصح الرؤساء لأتباعهم أن يعقدوا مجالس خاصة كل أسبوع مرة، أو كل اثني عشر يومًا مرة، يتذاكرون فيها شئون العلم، ويتدارسون فيها مراحل الدعوة.

ويظهر لما كثرت المناظرات والجدل لم تخل المناظرة من نزاع وهجاء وسباب، مما يجب أن تتنزه عنه المساجد، ففكروا في أبنية خاصة تقام فيها هذه المناظرات، وتنتقل إليها حركة التعليم، فكانت المدارس.

نعم، كانت الكتاتيب منتشرة في المدن والقرى حتى من عهد الرسالة؛ ولكن الدراسة العالية هي التي لم يكن لها مدارس خاصة؛ وإنما كانت تُقام في الجوامع — كما ذكرنا — إلى هذا العصر، وقد ذكر بعضهم أن أول من بنى مدرسة للعلماء هو نظام الملك في النصف الثاني من القرن الخامس، ولكن ثبت أنه قبل ذلك وجدت مدارس كان من أولها مدارس نيسابور، يقول الحاكم النيسابوري المؤرخ: إن أول مدرسة هي التي بنيت لمعاصري أبو إسحاق الإسفرائيني المتوفى سنة ٤١٨ﻫ في نيسابور، وبُنيت مدرسة أخرى لابن فورك، ويقولون: إن أبا بكر البستي المتوفى سنة ٤٢٩ﻫ بنى لأهل العلم مدرسة على باب داره، ووقف عليها جملة من ماله الكثير؛ وكان هذا الرجل من كبار المدرسين والمناظرين بنيسابور، وكان في المجالس الكبيرة يجلس الأستاذ على مقعد مرتفع ليُسمِع المحاضرين، ثم إن المعيد يعيد كلام الأستاذ حتى يسمعه من كان بعيدًا عنه، كل هذا حدث قبل نظام الملك، أما مدرسة نظام الملك قد ضمت الكثيرين من كبار العلماء، كالغزالي وغيره، ويحكي الغزالي أن من أسباب اعتزاله التدريس ما غلب على أهل عصره من حب الجدل والمناظرة، وأنهم لا يقصدون من هذه المناظرة وجه الله والوصول إلى الحق، وإنما يرومون التعاظم، وحب الغلبة، والسيطرة على نظرائهم؛ مما بعثه على هجر المدرسة، واللجوء إلى التصوف … ثم تتابعت المدارس على هذا المنوال …

ومن الخطأ أن نظن أن حالة العلماء في ذلك العصر كحالة عصرنا اليوم، فإن المطبعة في عصرنا قد قلبت الأوضاع، وجعلت العلم ديموقراطيًّا، وجعلت الشعوب هي التي تكافئ العلماء؛ أما في ذلك العصر فلم تكن مطابع، وإنما الكتاب العظيم ينسخ الوراقون منه عشر نسخ، أو خمسين، أو مائة، لا تسمن ولا تغني من جوع، فلم يكن التأليف مصدر ثروة، إنما مصدر ثروة العلماء والأدباء هو اتصالهم بالخلفاء والأمراء، أما من لم يتصل بهم، وبعد عنهم، فمصيره الفقر، إلا أن يكون ذا ثروة موروثة.

هذا أبو العلاء المعري يعيش طول السنة على ثلاثين دينارًا كانت وقفًا عليه، ويُنتدبُ بعضهم للتعليم الخاص، ولكن هذا لا يُجزئ … فالذين اتصلوا بالخلفاء والأمراء سعدوا واطمأنوا على رزقهم، كابن دريد المتوفى سنة ٣٢١ﻫ، إذ أجرى الخليفة المقتدر عليه خمسين دينارًا في كل شهر، وسيف الدولة بن حمدان أجرى على الفارابي أربعة دراهم في كل يوم؛ لأنه فيلسوف، أما المتنبي فمنح الآلاف … ويحكون أن أبا بكر البصري كان يبيع الصبغَ بنفسه، أو يعمله في الحانوت ليستطيع أن يتعيش، وكان حانوته مجمع الحفاظ والمحدثين، وأن أبا العباس الخياط الفقيه الشافعي المصري المتوفى سنة ٣٧٣ﻫ كان واسع المعرفة بالفقه، وكان قوته وكسبه من خياطته، فكان يخيط قميصًا في جمعة بدرهم، ودانقين، ينفقها في طعامه وكسوته، وكان هناك عالم آخر في مصر أيضًا يقتات مما يبيع من الخلع. ويقول ابن فارس اللغوي المشهور:

إذا كلفت في حاجة مرسلًا
وأنت بها كلف مغرم
فأرسل حكيمًا ولا توصه
وذاك الحكيم هو الدرهم

وكان فقيرًا فيقول:

يا ليت لي ألف دينار موجهة
وأن حظي منها فلس فلَّاسِ
قالوا: فما لك منها؟ قلت: يخدمني
لها ومن أجلها الحمقى من الناسِ

على كل حال، فلم يكن من العلماء والأدباء من يستطيع العيش الرغد إلا من موائد الأغنياء، وإلا من كان يتكسب من غير علمه وأدبه كتجارته أو صناعته، ومن عدا ذلك فقير مدقع، خصوصًا إذا كان عزيز النفس، أو لا يحسن الملق كأبي حيان التوحيدي.

وساعد على انتشار العلم ما أدخل على الخطِّ من تحسينات، فقد كان الناس قبل هذا العصر يكتبون الخط الكوفي، وهو خط صعب معقد مؤسس على زوايا قائمة، وكان زيادة على ذلك غامضًا، فالألف إذا جاءت حرف مد في وسط الكلمة حذفت ولم تكتب، كالكتاب، تكتب هكذا «الكِتَبُ»، حتى جاء ابن مقلة المتوفى سنة ٣٢٧ﻫ فنقل الخط نقلة جديدة، وغير الخط الكوفي إلى الخط النسخي، ووضع للخط النسخي قاعدة جميلة.

وربما كان هذا سببًا في سهولة النسخ، وكثرة كتبه.

وساعد أيضًا على انتشار الكتابة كثرة الورق، ويسمونه «الكاغد»، فقد كانوا يكتبون على الجلود والقراطيس، والورق الصيني، حتى جاء جعفر بن يحيى البرمكي، فشجع صناعة الورق، وكثر في عصرنا هذا كثرة جعلته رخيصًا، فكان يستجلب الورق من مصر، ومن سمرقند، وغيرهما؛ مما مكن العلماء والوراقين من كثرة الكتابة، وحرفة الوراقة كانت منتشرة، إذ كانت تقوم مقام المطابع اليوم، وأحيانًا يكون بعض الوراقين علماء، دعاهم الفقر إلى احتراف الوراقة، كياقوت الحموي، وأبي حيان التوحيدي. وكانت حرفة شاقة، تذهب فيها الأعين، وكان مما سبب الخصومة بين الصاحب ابن عباد وأبي حيان التوحيدي أن الصاحب كلفه أن ينسخ له كتبًا كثيرة، استكثرها أبو حيان، ولحفظ المحدثين صحة الأحاديث المنسوخة كانوا ينسخون كتب الأحاديث بأنفسهم.

وكان الفقر يضطر بعض الناس إلى احتراف الوراقة على كره منهم، وكان أبو بكر الدقاق يعول والدته وزوجته، وبنتًا من الوراقة.

وحكي عن أبي زكريا يحيى بن عدي المتوفى سنة ٢٦٤ﻫ وهو نصراني على المذهب اليعقوبي أنه نسخ بخطه نسختين من تفسير الطبري، وأنه كان يكتب في اليوم والليلة مائة ورقة، وكان بنيسابور ورَّاق اسمه أبو حاتم، ورَّق بها خمسين سنة، وهو القائل:

إن الوراقة حرفة مذمومةٌ
محرومة عيشي بها زمنُ
إن عشت وليس لي أكلٌ
أو متُّ مت وليس لي كفنُ

ومن الطريف أن حكى وراق أنه نام ليلة فرأى في المنام كأن القيامة قامت، وحوسب، وأدخل الجنة، فلما دخل الباب استلقى على قفاه، ووضع إحدى رجليه على الأخرى، وقال: «آه، والله استرحت من النسخ».

هوامش

(١) المقريزي ج١ ص٤٠٨.
(٢) المقدسي ص٤٤٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤