الحركة النحوية واللغوية والتأليف الأدبي
نذكر في هذا الفصل حركة اللغة والنحو والصرف في الأندلس، وكلها علوم رواية، أكثر منها علوم دراية. ولا بد أن العرب الفاتحين من عهد موسى بن نصير إلى عهد الخليفة الناصر، كانوا ينقلون في البلاد ما عرفوه في الشام من لغة وأشعار ونحوها، إذ كان بعضهم من غير شك مثقفين، يتناقلون الأشعار وأيام العرب والأخبار في سمرهم، إنما لم يكن ذلك علمًا منظمًا، حتى جاء عبد الرحمن الناصر فطمح أن يقوي مملكته بما قوَّى به العباسيون دولتهم. وكان من أسباب قوة العباسيين العلم والشعر والأدب، وغير ذلك، فأراد أن يقلدهم، ورأى أن ليس عنده معلمون كبار ينشرون الثقافة العربية بين أهل الأندلس، فقرر أن يندب لذلك بعض أهل المشرق، وبعد تفكير طويل رأى أن أصلحهم أبو علي القالي، إذ كان أبوه مولى لعبد الملك بن مروان الأموي، فيكون أموي النزعة كعبد الرحمن الناصر، فاستدعاه إلى قرطبة، وأمر ابنه الحكم باستقباله مع طائفة من أعيان البلد، فاستقبل أحسن استقبال.
وكان أبو علي هذا قد نشأ في بغداد، وتعلم على شيوخها، وجد في التحصيل، فحصل الحديث، واللغة، والأدب، والنحو، والصرف. من مشايخ مشهورين كالهَرَوي في الحديث، وابن درَستويه أحد النحاة المشهورين والأدباء المعروفين، والزجَّاج أحد تلامذة المبرد، والأخفش الصغير، وهو أيضًا تلميذ المبرد، ونَفْطويه، وابن السرَّاج، وابن الأنباري، وابن أبي الأزهر، وابن قتيبة وغيرهم، ووعى أكثر علمهم، وأقام في بغداد خمسًا وعشرين سنة يحصِّل مع الجد، حتى أتقن هذه العلوم. وعرف بين الأندلسيين بسعة الاطلاع في العلم والرواية، وطول الباع في اللغة وفنونها، قال ابن الفرضي: «فسمع الناس منه، وقرءوا عليه كتب اللغة، والأخبار، والأمالي، وعظمت استفادتهم منه».
ويكاد المؤرخون يجمعون على أنه كان أحفظ أهل زمانه، وساعد على الانتفاع به ذكاء أهل الأندلس، وقوة حفظهم. لقد كان أبو علي القالي يروي أنه في طريقه إلى الأندلس نزل المغرب، فكان كُلَّمَا أمعن في المغرب من تونس إلى طنجة يرى أهله يقلُّون في الذكاء تدريجيًّا، فحزَر أن أهل الأندلس يكونون من أغبى الناس على هذا القياس، فخاب ظنه ورآهم من أذكى الناس. وربما كان له فضل كبير في حب الحكم بن عبد الرحمن الناصر للعلم، إذ كان أبو علي أستاذه؛ ولذلك جمع الحكم في الأندلس مكتبة عظيمة ذكرناها من قبل. ومن أشهر كتبه كتاب الأمالي ونوادره. قال ابن حزم: كتاب نوادر أبي علي وهو «ذيل الأمالي» مبارٍ لكتاب «الكامل» الذي جمعه المبرد.
ولئن كان كتاب المبرد أكثر نحوًا وخبرًا، فإن كتاب أبي علي أكثر لغةً وشعرًا. وله غير كتاب «الأمالي» كتاب «الممدود والمقصور»، وكتاب «الإبل ونتاجها»، وكتاب «حلى الإنسان»، وكتاب «فعلت وأفعلت»، وكتاب «تفسير المعلقات السبع»، وكتاب «البارع في اللغة» رتبه على حروف المعجم. قالوا: إنه نحو ثلاثة آلاف ورقة. وقالوا: إنه لم يؤلف مثله.
وقد ظلَّ في قرطبة يبث علمه إلى وفاته سنة ٣٥٨ﻫ، وقد علمنا أنه رحل إلى الأندلس سنة ٣٣٠ﻫ، فتكون مدة إقامته في الأندلس، ونشره علمه ٢٨ سنة، وهي مدة لا يستهان بها. ويظهر أنه تأثر كثيرًا بشيخه ابن دريد، فإنه يروي عنه كثيرًا بعض القطع الأدبية، وكان ابن دريد هذا لا يتحرج من أن يخترع حديثًا لأعرابي وأعرابية، أو حتى قصيدة من القصائد؛ شأنه في ذلك شأن الروائيين اليوم، ولكنه يرويها على أنها حقيقة وقعت، وقصده منها التعليم أكثر من أن يكون قصده التاريخ، ولكن أبا علي القالي أخذها كما يأخذ الحديث على أنها حقائق تاريخية. وطريقته في «الأمالي» أنه يذكر نصًّا من النصوص؛ آية قرآنية، أو حديثًا، أو خبرًا، أو قصيدة، ويراعي في اختيار كل قطعة أن تكون مشتملة على لفظ غريب، أو ألفاظ غريبة، ثم بعد رواية النص يشرح الغريب شرحًا دقيقًا، فمثلًا يسوق الآية: وَغَدَوْا عَلَىٰ حَرْدٍ قَادِرِينَ، ثم يأخذ في شرح كلمة حَرْدٍ وعلى هذا القياس. ويظهر أيضًا أنه كان يعد موضوعًا خاصًّا في ذهنه لكل درس؛ درس في ترتيب أسنان الإبل وأسمائها، ودرس في تفسير كلمة أَمَر، وإيراد آية: وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا إلخ، ودرس في قصيدة ذي الإصبع العدواني، التي منها:
وتفسير ما ورد فيها من الغريب، وهكذا.
وقد فات ابن حزم أن يلاحظ أيضًا أن كتاب «الأمالي» أخف روحًا من كتاب «الكامل»، وأن أبا علي القالي حدد مقصده من الكتاب أن يكون أدبًا محتويًا على غريب يشرحه، ولم يخرج عن ذلك.
وكان يعاصره تقريبًا ويؤدي نفس الغرض، ابن عبد ربه، فقد ألَّف كتابه «العِقد»؛ لينقل إلى أهل الأندلس معارف المشارقة، غاية الأمر أن ابن عبد ربه أندلسي صميم من مالَقَه، وأبا علي القالي مشرقي رحل إلى الأندلس؛ وكتاب «الأمالي» أدب يُعني بالغريب، وكتاب «العِقد» يُعنى بالأخبار والسير والطرائف والظرائف من كل باب، وإن شئت فقل: إن كتاب «الأمالي» لفظي، و«العِقد» معنوي، وربما كان هذا سببه أن ابن عبده ربه أديب يشرب ويحب ويسمع الغناء، ويقول الشعر الظريف في الغزل وفي الشراب وغير ذلك، أما أبو علي فعالم فقط في اللغة والأدب.
وقد كان ابن عبد ربه متعدد النواحي، تعلم النحو والعَروض والفقه والتاريخ والأدب، وكان قد تعلم في أهل بلده، وكان قد نضج العلم فيه بعض الشيء، ثم رحل إلى مصر وغيرها وأخذ علمها، ثم وضع برنامجًا أن ينقل ما علم إلى أهل بلده.
وقد اقتبس ابن عبد ربه كثيرًا من أسلاف له، وإن كان قد قصر في نسبة كل قول إلى قائله، شأن كثير من علماء المشرق، حتى لقد ينقل الأصل من أصوله عن مصدر، فيظن القارئ أنه أخذه منه مباشرة، مع أنه يكون قد نقله عمن نقل عن الأصل من غير نسبة إلى من نقل عنه. فمثلًا ينقل قطعة على أنها من كليلة ودمنة مباشرة، مع أنه قد يكون نقلها بالواسطة عن ابن قتيبة عن كليلة ودمنة، وكذلك شأنه فيما ينقل عن التوراة والإنجيل ونحو ذلك.
وقد تخيل كتابه عِقدًا منظومًا يحتوي على خمس وعشرين حبة من جهة، وخمس وعشرين حبة من جهة أخرى، وفي وسطها كلها واسطة العقد، وسمَّى كل باب من الأبواب التي في ناحية باسم حَجَر كريم، كأن يقول: اللؤلؤة في السلطان، الزبرجدة في الأجواد، الياقوتة في العلم والأدب، ثم يسمي الباب الذي يقابلها بنفس التسمية مع إضافة كلمة «الثانية» فيقول: اللؤلؤة الثانية في الفكاهات والملح، الزبرجدة الثانية في طبائع الإنسان، الياقوتة الثانية في الألحان، وهكذا.
وجعل واسطة العِقد في الخطب، وبالضرورة لم يكن هناك واسطة عقد إلا واحدة، والكتاب كان يسمى عند الأقدمين «العقد» فقط، ويظهر أنه لما ألف أديب كتابًا سماه «العقد الفريد في الملك السعيد» سرت إلى الناس كلمة الفريد، فضموها إلى عقد ابن عبد ربه؛ ولذلك نرى اسمه عند قدماء المؤلفين كابن حزم وأمثاله «العقد» فقط.
وكان من أشهر من استقى منه «العقد» كتاب ابن قتيبة «عيون الأخبار»، فهو ينقل عنه كثيرًا، ويقلده في ترتيب الأبواب، كما اقتبس من كتاب الجاحظ، كاقتباسه منه «باب العتاب، واستنجاز الوعد، والاعتذار، والموالي والعرب»، واقتبس من المبرد في كتابيه «الكامل والروضة»، ومع اقتباسه منهما واستفادته طعن المبرد في الصميم إذ قال عنه: إنه لم يختر لكل شاعر إلا أبرد ما وجد له، حتى انتهى إلى الحسن بن هانئ «أبي نواس»، فأبو نواس قلما يأتي ببيت ضعيف، لدقة فطنته، وعذوبة ألفاظه، فيأتي المبرد فيروي له أبياتًا، لا ندري من أين وقع عليها، كما اقتبس ابن عبد ربه من ابن المقفع في كتابيه «كليلة ودمنة» و«الدرة اليتيمة»، وأخذ شيئًا من كتاب سيبويه، ومن طبقات ابن سلام، ومن بعض كتب أبي عبيدة، ومن ابن هشام في السيرة، ومن ابن وحشية في النبات إلى غير ذلك، حتى لقد يأخذ من التوراة والإنجيل، ومن دواوين الشعراء.
وربما كان يعتقد أن رواية الأدب ليس ينبغي أن يتزمَّت فيها، كرواية الحديث، فنراه يروي أشياء لم تثبت تاريخيًّا، ولم ينقلها الثقات، كوفود العرب على كسرى ونحو ذلك، وأحيانًا يعارض ما يختاره بشعره هو على أنه خير مما روى. وقد كان مقرَّبًا إلى عبد الرحمن الناصر، فنظم فيه ملحمة طويلة لطيفة على قلة الملاحم في الأدب العربي، تبلغ أكثر من أربعمائة بيت، وإذ كانت الملحمة في سيرة عبد الرحمن الناصر، وهو بالضرورة أموي، فقد سار فيها على مذهب الأمويين، فعدَّ الخلفاء الراشدين مثلًا أربعة: أبا بكر، وعمر، وعثمان، ومعاوية، وحذف عليًّا من أرجوزته، ثم وصل الخلفاء الأمويين في الشرق بالأمراء الأمويين في الأندلس؛ ولذلك عابه بعض العلماء، إذ كتب مثلًا منذر بن سعيد البلوطي الإمام المشهور على هامش الأرجوزة، البيتين الآتيين:
ومن عدم تدقيقه في الأخبار روايته شيئًا من الأوهام، فيقول عن رجل مثلًا: إنه عاش ثلاثمائة سنة أو مائة وتسعين سنة، وبعد أن عاش هذه المدة اسودَّ شعره، وقد نبتت له أضراس إلى غير ذلك. كما أن كثيرًا مما رواه عن الحيوان لم يصح علميًّا.
ومن مزايا العِقد أن مؤلفه ابن عبد ربه قوي في النثر والشعر، تظهر قوة نثره في الفرش الذي يفرشه أمام كل باب، فهو فرش لطيف بليغ، وتظهر قدرته الشعرية في معارضته لما يختار أحيانًا بشعر لطيف له. وقد روي عنه أنه كان يعيش أول أمره عيشة الأديب المستهتر، مر مرة على قصر فيه غناء فطارت نفسه وهام بالغناء وقال في ذلك قولًا لطيفًا؛ ومن أجل ذلك يبرِّر في الكتاب سماع الغناء ويرد على من حرَّمه، كما يظهر أنه كان يشرب الخمر وخصوصًا النبيذ؛ ولذلك يميل من طرف خفي في كتابه إلى تأييد الرأي القائل بالحل. ويقولون: إنه في آخر أيامه تاب، وشعر في الزهد والورع والتقوى، على نحو ما شعر في اللهو والغزل.
والكتاب يفيدنا تاريخيًّا أيضًا، كما يفيدنا أدبيًّا في تعريفنا بأشياء كثيرة عن عادات الأندلس وتقاليدها، ونظرة الأندلسيين إلى اليهود والنصارى، كما يدلنا على حروب الناصر واحدة بعد أخرى في أي سنة، ونحو ذلك.
وإذا قارنَّا بين ما كتبه ابن قتيبة في الشعوبية، وما كتبه ابن عبد ربه، رأينا ابن عبد ربه أعدل رأيًا، وأصدق حكمًا، ومن ظرفه أنه أكثر في كتابه هذا من الفكاهات والمُلَح، والنوادر والقصص، فيروي للأشعب وللممرورين. وفي الأجوبة المسكتة أشياء لطيفة ظريفة مسلية، فهو أقرب إلى الجد من ألف ليلة، ولكنه مَسلٍّ مثلها؛ ولذلك ذاع بين الأدباء. وقد قلنا: إنه لم يكن متزمِّتًا كالمحدثين، وبعض الأدباء كصاحب الأغاني فلم يملأ كتابه بالأسانيد كما فعل هؤلاء؛ ولذلك انتشر كتابه انتشارًا كبيرًا في الشرق والغرب، فهو يتنقل من شعر إلى نثر إلى قصة إلى فكاهة إلى مَثَل، حتى لا يمل قارئه بحال. ويظهر أنه قد دُسَّ عليه بعد وفاته أشياء لم يقلها، وإنما رأى القارئ أشياء حدثت بعد وفاته، فأراد أن يكمل بها الكتاب.
على كل حال انتفع الناس بهذا الكتاب أكثر مما انتفعوا بغيره لخفة روحه، وسهولة مأخذه، وكثرة تنقلاته من باب إلى باب. فكما انتفع الناس بالأمالي، ومؤلفه شرقي رحل إلى الأندلس، انتفعوا بالعقد، ومؤلفه أندلس رحل إلى المشرق.
وقد قلنا من قبل: أن ليس أبو علي أول من بذر البذرة، فقد بذرها العرب والبرابرة فاتحو الأندلس، وإنما أبو علي نمَّاها، ونظم تعليمها، وربما كانت هناك كتب من المشرق تتسرب إلى المغرب، فيأخذ منها الأندلسيون أدبهم، والدليل على ذلك ابن القوطية أبو بكر محمد بن عمر، وسمي ابن القوطية نسبة إلى القوط، وهم الذين غزو الإسبان من قبل؛ لأن أحد أجداده تزوج من أميرة إسبانية بنت ملك من ملوك القوط، كانت ذهبت إلى دمشق، ووفدت على هشام بن عبد الملك متظلمه من عمها، فتزوجت عناك من عربي كان جدًّا لابن القوطية، وأرسل مع الحملة التي ذهبت لفتح الأندلس.
على كل حال كان المؤلفون في اللغة والأدب كثيرين، ونعني بالأدب هنا الأدب التأليفي، أما الأدب الإنشائي فسنتكلم عليه في الباب الآتي إن شاء الله.
فمن أشهر من ألَّف في الأدب من الأندلسيين «الشريشي» الذي شرح مقامات الحريري شرحًا لطيفًا. وقد انتقلت المقامات من الشرق إلى الأندلس، فأقبل الأندلسيون عليها، وافتتنوا بها، وأثرت فيهم أثرًا كبيرًا، فمنهم من قلدها ووضع مقامات على نمطها، كالأزدي المتوفى سنة ٥٧٥ﻫ.
والحق أنه كان شرحًا وافيًا؛ إذ كان مؤلفه جمَّاعًا للفوائد، واسع الاطلاع، وما شرح مقامات الحريري أحد بعده إلا استفاد منه، حتى دوزي في شرحه اعتمد عليه، وقد عرف هذا الكتاب بالدقة في الشرح وامتلائه بالفوائد، واتخاذ المقامات تكأة لرواية الأخبار.
وممن ألَّف أيضًا في اللغة والأدب ابن السيد البَطليوسي مؤلف كتاب «الاقتضاب في شرح أدب الكتَّاب» لابن قتيبة، كما ألف شروحًا على كتب أدبية مختلفة، ومثل البكري الذي ألَّف كتاب «التنبيه على أغلاط الرواة» وغيرهم. على كل حال نقل هؤلاء وأمثالهم الأدب القديم من دواوين وغير دواوين، وشرحوها وقدموها لأمتهم، حتى لم يكد يبقى شيء لم يطلعوا عليه.
وممن اشتهر في اللغة أيضًا الأعلم الشنتمري، وكانت له ميزة أخرى غير جمع اللغة، وهي حفظه لأشعار العرب، وعنايته بضبطها، وقد استفاد منه كثيرون من أهل الأندلس، وكانوا يرحلون إليه، وسمي الأعلم؛ لأنه كان مشقوق الشفة العليا، والشنتمري نسبة إلى شَنتِمارية مدينة في غربي الأندلس، وقد شرح دواوين كثيرة، ويكاد يكون اختصاصه في ذلك، وتوفي سنة ٤٧٦ﻫ.
وممن اشتهر من الأندلسيين أبو الحجاج بن يوسف ابن الشيخ البلوي المالقي، ألف كتابًا في جزأين كبيرين وضعه لابنه وسماه «ألف باء»، وهو موسوعة كبيرة، تكلم فيها في الحساب والطبيعة والنبات والحيوان والإنسان وعلم الاجتماع والشريعة والأديان وفقه اللغة ومخارج الحروف والنحو والصرف والشعر والحكايات والأساطير، حتى لو رتب على حسب حروف الهجاء لكان دائرة معارف عجيبة. وقد رحل إلى الشرق ووصف فيه أشياء كثيرة كمنارة الإسكندرية وصفًا دقيقًا. وعاش من سنة ٥٢٦ﻫ إلى سنة ٦٠٣ﻫ.
أما النحو فقد بدأ في الأندلس، كما بدأ في المشرق عبارة عن قطعة مختارة فيها لفظ غريب يشرح، ومشكلة نحوية توضَّح، على النحو الذي نراه في «أمالي» القالي، و«الكامل» للمبرد، ثم ألفوا نحوًا في مسائل جزئية، كما فعل أبو علي القالي نفسه في «فعلت وأفعلت» و«المقصور والممدود»، وكما فعل ابن القوطية في كتابه «الأفعال»، فلما انتقل إلى الأندلس كتاب الكسائي وسيبويه، ألف الأندلسيون في النحو من حيث هو كل يشمل جميع الأبواب، وكان أشهر كتب النحو في أيام ابن حزم تفسير الحوفي لكتاب الكسائي.
ونبغ في النحو بعد الشلوبيني نحويان شهيران هما ابن خروف وابن عصفور، ولهما في كتب النحو آراء ينفردان بها، فأما ابن خروف فمن إشبيلية، وكان إمام أهل زمانه في العربية في الأندلس، له شرح على كتاب سيبويه وشرح لكتاب الجمل وغير ذلك من الكتب، وكان إلى علمه أديبًا لطيفًا كثيرًا ما تلاعب باسمه، فكتب مرة لقاضي القضاة يستعفيه من الإشراف على عمل؛ لأن بوَّابه اسمه السيد وهو الذئب فقال:
ومن شعره اللطيف في صبي مليح:
ولما رأى نيل مصر قال فيه:
ومات سنة ٦٠٩ﻫ.
وأما ابن عصفور فإشبيلي الأصل أيضًا، حمل لواء العربية بالأندلس بعد أستاذه أبي علي الشلوبيني، ودرس العربية في بلاد أندلسية مختلفة، في إشبيلية وشريش ومالقة ولورقة ومرسية، وألَّف كتبًا كثيرة في النحو والصرف، وقد أخذ عليه ابنه أنه كان مستهترًا يغشى مجالس الشراب ويتهتك فيها، ومات سنة ٦٦٩ﻫ.
وجاء بعد ذلك ابن مالك وهو جمال الدين محمد بن عبد الله، ولد ببلدة جيَّان إحدى مدن الأندلس حوالي سنة ٦٠٠ﻫ، وأخذ عن نحويِّيها، وأخذ عن أبي علي الشلوبيني، ثم رحل إلى مصر ودمشق، وأخذ العلوم الشرعية وتبحر فيها، وقد اشتهر شهرة سيبويه. وأهم ميزة ابن مالك أنه ربط قواعد النحو ربطًا محكمًا، وبسطها كما يتجلى ذلك بالنظر في ألفيته وقواعده، والقواعد التي ذكرها سيبويه في كتابه، وقد ألف الألفية. ونالت حظوة كبيرة، حتى حفظها أكثر المتعلمين في الشرق والغرب إلى اليوم، ومن مؤلفاته: الكافية والشافية، والتسهيل، ولامية الأفعال، والمفتاح في أبنية الأفعال، وتحفة الموجود في المقصور والممدود، والأعلام في مثلث الكلام، وإيجاز التعريف بعلم التصريف، ورسالة في المترادفات، والاعتداد في الفرق بين الزاي والصاد، ومنظومة في ٤٩ بيتًا في الأفعال الثلاثية المعتلة بالواو أو الياء، نقلها السيوطي في كتابه «المزهر». وقد تتلمذ له كثيرون في الشرق والمغرب، كابن النحاس المصري، والفقيه المشهور النووي، والمحدِّث المشهور اليوُنيني، وغيرهم. وقد رزق الحظوة في تآليفه، واستفاد منه كثيرون، ودوَّى اسمه في الأندلس وفي المشرق، ومات سنة ٦٧٢ﻫ.
فإن قلنا: إنه نظَّم نحو سيبويه، ووضَّحه، وفصَّله، وقربه إلى الناس، وعمَّمه لم نكن بعيدين عن الصواب، وكان إمامًا في القراءات وعالمًا بها، واسع العلم باللغة. قال الصَّفَدي: «أخبرني أبو الثناء محمود قال: ذكر ابن مالك يومًا ما انفرد به صاحب المحكم عن الأزهري في اللغة، وهذا أمر معجز؛ لأنه يحتاج إلى معرفة جميع ما في الكتابين»، وكان في النحو والتصريف لا يُشق لُجُّه، وكان واسع الاطلاع على أشعار العرب التي يستشهد بها على النحو واللغة، حاضر البديهة في الاستشهاد، وكان مذهبه أن يستشهد بالقرآن، فإن لم يكن فيه شاهد، استشهد بالحديث، فإن لم يكن استشهد بأشعار العرب. وكان نظم الشعر عليه سهلًا، رجزه وطويله، وأكثر من التآليف في أبواب مختلفة، وكان مشهورًا بنظم الضوابط التي تسهل الأمور الصعبة على المتعلمين، فينظم مثلًا في المقصور والممدود، وفيما ورد بالضاد والظاء، وفي ترتيب خيل السباق، ونحو ذلك. وكان — رحمه الله — كثير المطالعة، سريع المراجعة، لا يكتب شيئًا من محفوظه، حتى يراجعه في محله، وقد أخذ عليه أبو حيان «أنه لم يلازم المشايخ، ولم يصحبهم طويلًا، وإنما أخذ أكثر علمه من الكتب والاطلاع عليها؛ ولذلك كان ينفر من المنازعة والمباحثة والمراجعة. وهذا شأن من يقرأ بنفسه، ويأخذ العلم من الصحف بفهمه»، مع أنه قرأ على جملة من المشايخ كأبي علي الشلوبيني، وثابت بن خيار.
وربما عُدَّ من أكبر علماء النحو في الأندلس أبو حيان الغرناطي، وهو لغوي عربي، ولد من أصل بربري سنة ٦٥٤ﻫ، وتنقل في البلاد بعد أن تعلم على علماء الأندلس، وكان ظاهريًّا على مذهب ابن حزم، وكان نحويًّا مفسرًا محدثًا شاعرًا.
وبلغت مصنفاته في العلوم المختلفة نحو ٦٥ كتابًا لم يصلنا منها إلا نحو عشرة، وأهميته أنه كان لغويًّا بمعنى أنه يعرف لغات كثيرة، فألف كتابًا في الفارسية، وآخر في اللغة التركية، والمصنفان موجودان إلى اليوم، وهما عظيما القيمة، كما ألف كتابًا في اللغة الحبشية، وتوفي بالقاهرة سنة ٧٤٥ﻫ، ولكن كما قلنا من قبل: إن هؤلاء النحويين جميعهم كانوا يدورون في فلك سيبويه، فإن اجتهد أحد كابن مالك وأبي حيان، فكالذي نسميه في الفقه اجتهاد مذهب لا اجتهادًا مطلقًا. فقد وضع الخليل وتلميذه سيبويه بناء في النحو قوي الدعائم لم يسهل هزه ولا نقضه، إنما الذي خرج واجتهد اجتهادًا مطلقًا هو ابن مضاء الأندلسي القرطبي، وقد كان أيام الموحدين، فقد كان الموحدون هؤلاء مجتهدين، لم يرضوا عن مذاهب الفقه المختلفة. وقد كان عبد المؤمن بن علي الذي يعد المؤسس الحقيقي لدولة الموحدين «مؤثرًا لأهل العلم، محبًّا لهم، محسنًا إليهم، يستدعيهم من البلاد إلى الكَوْن عنده، والجوار بحضرته، ويجري عليهم الأرزاق الواسعة، ويظهر التنويه بهم والإعظام»، ويقول فيه بعضهم: «إنه كان فقيهًا عالمًا بالأصول والجدل والحديث، مشاركًا في كثير من العلوم الدينية والدنيوية».
وكان مَن بعده من أبنائه متعلمين تعلمًا واسعًا، وحسب هذه الدولة فخرًا أنها أنجبت ابن طفيل، وابن زُهر، وابن رشد، إذ أفسحت صدرها للفلسفة. يقول ابن خلكان في أحد ملوك الموحدين: «إنه أمر برفض فروع الفقه، كما أمر الفقهاء بألا يُفْتوا إلا بالكتاب والسنة، ولا يقلدون أحدًا من الأئمة المجتهدين، بل تكون أحكامهم بما يؤدي إليه اجتهادهم»، وأمر بإحراق كتب المذاهب، والآراء تُعدى، فلما شُرِّع الاجتهاد في الفقه، ظهر مجتهد يريد هدم كتاب سيبويه، كما اجتهد قوم في هدم المذاهب الأربعة، ووضع مذهب جديد في النحو. فالفلسفة تحرِّر العقول، والأخذ بالكتاب والسنة يعطل المذاهب، وابن مضاء يريد أن يهدم مذهب سيبويه، وألف في ذلك ثلاثة كتب: المشرق في النحو، وتنزيه القرآن عمَّا لا يليق بالبيان، والرد على النحاة. وفي هذه الكتب الثلاثة على ما يظهر رد على نحو سيبيويه وأنصاره، والنظر إلى نحو جديد.
لقد كان نحو سيبويه مبنيًّا على نظرية العامل، فلا يُرفع فاعل إلا بعامل، ولا تنصب كلمة إلا بعامل، ولا تجر إلا بعامل، فإن لم يكن العامل ظاهرًا، فهو عامل مؤول، فنادى ابن مضاء بأن الذي يصنع الظواهر النحوية في الكلمات من رفع ونصب وجر، إنما هو المتكلم نفسه، لا ما يزعمه النحاة من الأفعال وما شاكلها، وقد أشار ابن جني في الخصائص إلى هذه النظرية، ولكن ابن مضاء وسَّعها وأوضحها. وقد جرَّت النحويين نظرية العامل وتأويله إن كان محذوفًا إلى علل وأقيسة، وأحيانًا تكون مقبولة، وأحيانًا تكون غير مقبولة. وكان يريد ابن مضاء إنشاء نحو جديد على أساس جديد، ولكن يكفيه فخرًا أنه هدم وإن لم يبْن، فكان النحو محتاجًا إلى يد جديدة، تبني بناءً جديدًا بعد هدم القديم. وفي كتابه الذي نشر حديثًا ما يشير إلى أحجار قيمة توضع في البناء الجديد، ولكن مع الأسف كانت دعوته إلى نحو جديد، كدعوة أبي نواس في الشرق إلى شعر جديد، فكلتاهما كُتبت ولم تتحقق.
ويبين سخف النحويين في تأويل عامل إذا لم يوجد، فيقول: «إن النحويين يقولون في يا عبد الله: أدعو عبد الله، مع أن المعنيين مختلفان، فأدعو عبد الله جملة خبرية، ويا عبد الله جملة إنشائية، ويقولون في: إِذَا السَّمَاءُ انشَقَّتْ (الانشقاق: ١)، إذا انشقت السماء انشقت، وهو كلام واهم». ويقول في موضع آخر: «إن إجماع النحاة على ذلك ليس حجة علينا، مهما اتفق البصريون والكوفيون على ذلك». ويهاجم فكرة الضمائر المستترة، فإن النحاة يقولون في مثل زيد ضارب عَمْرًا: إن في ضارب ضميرًا مستترًا تقديره هو فاعل. ويقول: إن ضارب تدل على الصفة وصاحبها، فلا داعي للتأويل. كما هاجم العلل النحوية غير العلة الأولى، فإذا قلت: إن الفاعل مرفوع فهذه هي العلة الأولى وقد أقرها، أما أنه مرفوع؛ لأنه عمدة فقد رفضه ابن مضاء. ومن الأسف أن الناس لم يأخذوا بقوله، وعادوا سريعًا إلى نحو سيبويه.
وابن مضاء هذا رجل عظيم النسب، عظيم المنصب، فقد كان قاضي القضاة في عهد الموحدين، وكان عظيم الجاه عندهم، فهو وحده الذي ثار على نحو المشرق كما ثار كثير غيره على فقه المشرق.
ويطول بنا القول لو ترجمنا لنحويي الأندلس واحدًا فواحدًا، وأنت إذا قرأت كتاب «بغية الوعاة في أخبار النحاة» وجدت في كل صفحة تقريبًا واحدًا فأكثر من نحاة الأندلس: فلنكتفِ بما ذكرنا.