الفصل الرابع

الحركة الأدبية

الشعر والنثر
نريد بالحركة الأدبية مظاهر الأدب الإنشائي١ من شعر ونثر، وقصص ونحو ذلك. ونلاحظ في الحركة الأدبية ما يأتي:
  • (١)

    أن الثقافة الأدبية في الأندلس كانت تكاد تكون عامة بين المثقفين، فلا نكاد نقرأ ترجمة لفقيه، أو أمير، أو متصوف، إلا نجد له شعرًا، البيتين أو المقطوعتين أو أكثر.

  • (٢)

    ما وضع العرب أرجلهم في الأندلس حتى صبغوها بالصبغة العربية، ونقلوا معيشتها إلى معيشة عربية في عاداتها وتقاليدها، ومن ذلك أدبها. فالعربي حيثما حلَّ ذكر أوطانه، وحنَّ إليها. وكانت السنون الأولى بعد الفتح سِنِي دهشة وتخمُّر، فالبلاد غريبة عن العرب، والمناظر مختلفة عن مناظر الصحراء، وعادات البلاد وتقاليدها تختلف عن عادات الصحراء وتقاليدها، فهم يحتاجون إلى زمن يتأقلمون فيه لمواجهة هذه الحالة الجديدة؛ ولذلك نراهم لم يقولوا الشعر كثيرًا كما كانوا يقولونه في جزيرة العرب، أو في الشام، شأنهم في ذلك شأن العرب الفاتحين لمصر، فقد رأى الفاتحون من العرب النيل، وهو يفوق ألف مرة غدرانهم، والأهرام التي تفضل ألف مرة خيامهم ومساكنهم، وشاهدوا الوديان الخضراء، والمراعي الخصبة، والمياه المتدفقة. وكل ذلك كان حريًّا أن ينتج أدبًا غزيرًا، وشعرًا كثيرًا، ولكنهم لم يفعلوا، وقلَّما نجد شعرًا روي عنهم في العصر الأول للفتح، بل إن الشعر الذي روي كان يأتي على ألسنة الوفود الذين يأتون مصر من الخارج لعبد العزيز بن مروان وأمثاله، وهو أمر غريب حقًّا في الأندلس ومصر، حتى ظننت أن العربي أول أمره لا يشعر إلا في بيئته.

على كل حال نجد في العصور الأولى في الأندلس قبل عبد الرحمن الداخل شعرًا قليلًا، وأدبًا شحيحًا، تقتضيه المناسبات، أو المسامرات، أو تحرك العواطف تحركًا وقتيًّا لسبب من الأسباب.

مثل ذلك ما روي عن طارق بن زياد فاتح الأندلس أنه قال:

ركبنا سفينًا بالمجاز معبرا
عسى أن يكون الله منا قد اشترى
نفوسًا وأموالًا وأهلًا بجنة
إذا ما اشتهينا الشيء فيها تيسَّرا
ولسنا نبالي كيف سالت نفوسنا
إذا نحن أدركنا الذي كان أجدرا

ومثل ما روي عن عبد الرحمن الداخل، وقد رأى نخلة وحيدة منفردة، فقال:

تبدَّت لنا وسط الرُّصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت: شبيهي في التغرب والنوى
وطول التنائي عن بَنِيَّ وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
سقَتْك غوادي المزن في المنتأى الذي
يسُحُّ ويستَمْري السماكين بالوَجْل

وقول الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل:

رأيت صدوع الأرض بالسيف راقعا
وقِدْمًا لأَمْتَ الشعب مذ كنت يافعا
فسائل ثغوري هل بها اليوم ثغرة
أبادرها مستنضِيَ السيف دارعا
تُنبِّئك أني لم أكن في قِرَاعهم
بوانٍ، وقِدْمًا كنت بالسيف قارعا
وأني إذ حادوا جزاعًا من الرَّدَى
فلم أك ذا حيد من الموت جازعا
حميت ذماري فانتهبت ذمارهم
ومن لا يحامي ظل خزيان ضارعا
ولما تساقينا سجال حروبنا
سقيتُهم سمًّا من الموت ناقعا
وهل زدت أن وفيتهم صاع قرضهم
فوافوا مَنايا قُدِّرت ومصارعا
فهاك بلادي إنني قد تركتها
مهادًا ولم أترك عليها منازعا

ومثل قول الأمير عبد الله بن عبد الرحمن بن الحكم:

ويْلي على شادنٍ كحيل
في مثله يخلع العِذار
كأنما وجْنتاه ورد
خالطه النَّور والبهار
قضيب بان إذا تَثَنَّى
يدير طرفًا به احورار
فصفو ودِّي عليه وقْفٌ
ما اطَّرد الليل والنهار

ومثل قول زرياب:

عُلِّقْتُها ريحانة
هيفاء عاطرة نضيره
بين السمينة والهزيـ
ـلة والطويلة والقصيره
لله أيام لنا
سلفت على دير المطيره
لا عيب فيها للمتيَّـ
ـم غير أن كانت يسيره

وقول عبد الرحمن الناصر:

كيف وأنى لمن يناجي
من لوعة الشوق ما أناجي
يطمع أن يستريح وقتًا
أو يقتل الراح بالمزاج
كنت كما علمت ألهو
إذ أنا مما شكوت ناجي
فصرت للعين في علاج
طم وأربى على العلاج
الورد مما يزيد حزني
ويبعث السَّوسن اهتياجي
لا ترجُ ما أردت شيئًا
أو يأذن الهم بانفراج

… إلخ إلخ.

ولم نعثر فيما قرأنا على أديب يتخصص للأدب في هذه الفترة؛ خصوصًا وأن هذه الأيام الأولى كانت أيام فتن واضطرابات بين العرب والبربر الفاتحين، والإسبان المفتوحين، بل وبين العرب أنفسهم؛ فهذا عدناني يتعصب لعدنانيته، وهذا قحطاني يتعصب لقحطانيته، وهذا بينه وبين الوالي عداوة شخصية فينتهز الفرصة فيقتله وهكذا، وهؤلاء لا يمكن تأريخ أدبهم.
  • (٣)

    من الصعب أن نطبق ما ذهبنا إليه من قبل من تدرج «الحركة الدينية واللغوية والنحوية» على الأدب وتطورها تطورًا منطقيًّا، فإن الأدب في ظاهره لا يخضع لهذا القانون، فقد يأتي قرن ينبغ فيه أدباء وشعراء كثيرون بارزون لأسباب مختلفة، ثم يعقبه قرن خمود يخلو من الأدب البارز، ثم يعقبه أدب غزير، ونبوغ عظيم، تعمل في ذلك عوامل كثيرة، وعبقريات لا تعرف كيف نضجت ولا كيف نبغت؛ فأولى بنا أن نخضع لهذا القانون، ونكتفي بذكر الأدباء من ناثرين وشاعرين، ونبيِّن قيمة أدب كل منهم مع عرض شيء من مختاراتهم نبرهن بها على ما نقول. ولنترك الأدباء الذين يتخذون أدبهم على هامش فقههم أو علمهم أو نحوهم، ولنكتفِ بذكر من غلب عليه الأدب فكان حرفته ووظيفته والظاهرة العظمى في حياته.

(١) الشعر والشعراء

نلاحظ أن العالم الإسلامي كله من أندلس ومصر وشام وعراق … إلخ، كان أشبه ما يكون بجسم موصل جيد للكهرباء، فما تملأ جزءًا منه بشحنة كهربائية حتى تسري في الجسم كله ويتأثر بها.

كان الشعر الجاهلي يمتاز بصدق العاطفة وجزالة التعبير، والاقتصار على مشاهدات ما عندهم من جمل وصحراء وجبال ووديان وغدران … إلخ، وكانت لهم تقاليد مرْعيَّة في الشعر من البدء بالغزل، والبكاء على الأطلال، ثم الانتقال منه إلى الغرض الذي يقصد إليه الشاعر من مديح ونحوه، واستمر ذلك في العصر الإسلامي الأول، فكان هذا الوضع أكبر مؤثر للعرب الفاتحين للأندلس إذا قالوا الشعر؛ لأن هذا كل ما وصل إليهم، ثم تطور الشعر آخر الدولة الأموية لغزل عمر بن أبي ربيعة، وخمريات الوليد بن يزيد، فانتقل ذلك أيضًا إليهم، فلما جاء العصر العباسي تطورت الحياة الاجتماعية وتطور معها الشعر، فهذا بشار بن برد يعد مجددًا، وأهم معنى للتجديد أنه أقلمَ الشعر بالبيئة الاجتماعية مثل قوله:

عسر النساء إلى مياسرة
… … … إلخ

وقوله هو، أو أبي نواس، يصب الكأس ومقدار ما فيها من الخمر، ومقدار ما يصف فيها من الماء إلى نحو ذلك؛ وجاء أبو نواس فملأ الجو غزلًا بالمذكر، وتحليلًا دقيقًا للخمر وتشبياتها، وشاربيها وندمائها، وغير ذلك. ثم جاء أبو تمام فأفرط في البديع، وجاء المتنبي فملأ شعره جزالة وقوة بدوية، وتقييدًا للحروب الصليبية، وحلَّى شعره بالحكمة إلى غير ذلك. ثم جاء مثل أبي العلاء فقال في معايب زمنه وأهله، من ملوك وأمراء وقضاة، ونساء ووعاظ ومنجمين، ونحو ذلك. وجاء مثل ابن حجاج وابن سكرة فملأوا أشعارهم بالهزل والمجون والسخرية إلى غير ذلك كل هذا انتقل إلى الأندلس بسرعة الشرارة الكهربائية، فكان مثلًا لهم يحتذونه ويسيرون على منواله.

ونلاحظ أن الشعر العربي جميعه كان أدبًا رومانتيكيًّا، أو كما يقولون شعرًا غنائيًّا، ونعني بالرومانتيكية أنها تعنى بالخيالات الواسعة والعواطف الهائجة، والألفاظ الجميلة أكثر مما تعنى بالأفكار الذهنية العميقة، والمعاني الدقيقة. والشعر العربي أيضًا له تقاليد خاصة من التزام لبحور لا تتجاوز ستة عشر، وقافية تلتزم في كل القصيدة، وموضوعات خاصة من مديح ونسيب ورثاء إلى غير ذلك مما يظهر من الأبواب التي وضعها أبو تمام، واختار شعر العرب على وفقها في كتابه الحماسة.

فانتقل كل ذلك إلى الأندلس وكان عمادهم في شعرهم، ولكن الأندلس بلاد الإسبان من قديم، وهم كانوا يقولون الشعر متأثرين باللاتينية وبالآداب اليونانية والرومانية، ولها منحى آخر غير منحى العرب، فلما امتزج العرب بالإسبان — إذ كان الأولون يتزوجون من الآخرين، وأنتج هذا الامتزاج مُوَلَّدِين، فيهم أثر من الدم العربي وأثر من الدم الإسباني؛ وخير مثل لذلك الوالي عبد العزيز بن موسى بن نصير، فقد تزوج أميرة من الأمراء الإسبانيين، وأيضًا لما امتزج العرب بالإسبان بالسكنى والمعاملة والاشتراك في البيئة الطبيعية والاجتماعية — ظهر ذلك في الشعر، كما ظهر في المولدين، فكنت ترى شعرًا أندلسيًّا شرقي النسيج، ولكن فيه خيوط دقيقة إسبانية، ويحتاج تحليل هذا وذاك إلى حس مرهف، ونظر دقيق، ومعلومات واسعة. وأيًّا ما كان، فشعراء الأندلس في نظرنا لم يفلحوا كثيرًا في استقلالهم عن الشرق، وابتكارهم، وتجديدهم، كما لم يفلح في ذلك اللغويون، والنحويون والصرفيون.

ولذلك لو أغمضنا أعيننا وجهلنا قائل القصيدة أهو شرقي أم أندلسي، لم نكد نحكم حكمًا صحيحًا جازمًا على الشاعر أغربي هو أم شرقي؛ ولذلك كثيرًا ما تنسب بعض الأبيات إلى أندلسي، وينسبها بعينها بعضهم إلى مشرقي، لعدم التميز الواضح، حتى عند الخبراء. وربما كان مصداق ذلك ما حكي أن الشاعر الأندلسي الملقب بالغزال، وجد في بغداد في جماعة من المثقفين، فأنشدهم شعرًا لنفسه، وادعى أنه لأبي نواس لعظم قدر أبي نواس عندهم، فصدقوه، ثم قال لهم: إنها لي، ولو كانت شخصية الأندلس واضحة في شعر أهلها، لصعب نسبة أبيات أندلسية إلى شاعر شرقي؛ غاية ما عندهم من فروق:
  • (١)

    أن الطبيعة الأندلسية الجميلة مكنتهم من أن يقولوا كثيرًا في شعر الطبيعة. وهذا لم يكن معدومًا في المشرق، فإن الصنوبري مثلًا وهو الشاعر الحلبي خلف لنا ديوانًا كله تقريبًا في ذلك.

  • (٢)

    أن لهم أحيانًا أخيلة ذهنية ولعبًا بالمعاني يكاد يكون خاصًّا بهم، وقد يفوقون فيها المشارقة. وهذا ما أولعوا به كل الولع، حتى إنه لما وقفوا على شعر المتنبي لم يقلدوه في قوة معانيه، وبديع حِكَمه، وقوة شاعريته، وثورة نفسه، إنما أخذوا منه أسلوبه، وفخامة تعبيراته، وعمق خيالاته، كما فعل ابن هانئ الأندلسي. فنحن نأسف إذ نرى الأندلسيين اقتصروا على أوزان الشرق، وموضوعات الشعر في الشرق، واتخذوا أخيلة الشرق أساسًا، ومعانيه دعامة، فالمديح هو المديح، والغزَل هو الغزل، وشعر الزهد هو شعر الزهد. وكان الأمل أن يبتكروا غير هذا؛ خصوصًا وأن بيئتهم أغنى، واتصالهم بالعالم الأوربي غير اتصال المشارقة بالعالم الفارسي أو الهندي أو التركي. فما بالهم اتخذوا نفس القوالب، وصبوا فيها عصارة ذهنهم، وبديع خيالاتهم. وعندنا أنهم لو تحرروا من ذلك؛ لأتوا بالعجب في القصة، في القصائد غير الموحدة الأبيات، في ترتيب الأبيات ترتيبًا منطقيًّا حسب المعاني، في الاعتماد على وحي النفس أكثر من الاعتماد على العادات المألوفة، والتقاليد الموروثة، حتى لنرى مادح الناصر كمادح الرشيد، وتشبيب ابن عبد ربه، كتشبيب أبي نواس، وحتى نرى في الشرق والغرب شاعرًا يعرف أن ممدوحه ظالم للرعية، نهَّاب لأموالها، سفاك لدمائها، ثم يمدحه بالعدل والجود وأصالة الرأي نظير نفحة من المال ينفحه بها. والأمثلة على ذلك كثيرة هنا وهناك.

  • (٣)

    انفراد الأندلسيين في ابتكار الموشَّحات والأزجال، خضوعًا لحكم الظروف، وسيأتي توضيح ذلك عند الكلام في الموشحات، وأيضًا استكثارهم من المقطعات التي تصف أشياء كثيرة كوصف العاصفة، وبركة فيها سلاحف، وباذنجان، وجمال الخال، وفرس أصفر، ورداء أحمر، ووصف الليل، وغلام خياط، ووصف معركة، وملابس حداد، وقوس، ونهر، ومشهد حب، ومجلس شراب … إلخ؛ مما يطول ذكره.

ونحن لا نستطيع أن نترجم لكل شاعر لأنهم كثيرون، وقلما يخلو مترجم له من شعر، سواء كان أميرًا، أو وزيرًا، أو قاضيًا، أو عينًا من الأعيان. فلنكتفِ بذكر من شهر بالشعر، وتخصص له، وعُرف به.

وربما كان من طليعة الشعراء الذين احترفوا الشعر يحيى الغزال، ولُقِّب بالغزال لحسن شكله؛ ولذلك ضبطناه بهذا الضبط، وكانوا يلقبونه بشاعر الأندلس، وقد رأينا هذا اللقب مُنِح لكثير من الشعراء؛ فابن شهيد شاعر الأندلس، والرَّمادي شاعر الأندلس، ويحيى الغزال شاعر الأندلس، وتعليل ذلك، إما أن أصحاب التراجم كانوا يُفْرطون في منح هذا اللقب فيطلقونه على كثيرين، ناسين في كل واحد ما قالوه في مواضع أخرى، وأما أنهم أرادوا به شاعر الأندلس في وقته. فالغزال شاعر الأندلس في وقته، وابن شهيد في وقته، وهكذا. أو أن كلمة شاعر الأندلس لا يراد بها شاعر الأندلس الأوحد، كما يتبادر إلى الذهن، ولكن تدل على أن صاحبها شاعر أندلسي كبير.

وكان يُعرف الغزال إلى جانب شعره بأنه حكيم، ومعنى حكيم أنه يحسن التصرف في الأمور، وفي الكلام، وإذا فوجئ بكلام خطير، عرف كيف يرد عليه، ويخلص من المأزق، ولهذه الخصلة كان سفيرًا لخلفاء الأندلس لدى بعض الدول الأجنبية، سَفَر لخمسة من الخلفاء الأمويين، أولهم عبد الرحمن الثاني، وآخرهم محمد بن عبد الرحمن بن الحكم. وفي ذلك يقول:

أدركتُ بالمضر ملوكًا أربعهْ
وخامسًا هذا الذي نحن معهْ

ويظهر أنه وقع عليه الاختيار ليكون سفيرًا لاتصافه بجملة صفات؛ منها حسن الشكل، ومنها حضور البديهة، ومنها صواب الرأي. وأشهر سفارته كانت في أيام عبد الرحمن الأوسط وهو عبد الرحمن بن الحكم، ففي أيامه سَفَر لملك الروم، ويظهر أنه ملك القسطنطينية، ونراه سفر مرة أخرى عند ملك الدانمرك، ذلك أنه خرج في عهد النرمانيين، بعض أهل النرويج، في مراكب كثيرة على شكل قرصنة، وغزوا شواطئ الأندلس، حتى وصلوا جليقية، فتصدى لهم ملك أشتوريش هو وقومه وأحرقوا لهم — كما يقول ابن عذارى في تاريخه — سبعين سفينة، فهربوا وساروا بحذاء الساحل الغربي للأندلس، وظهروا أمام إشبونة، فكتب عامل عبد الرحمن الأوسط إليه يقول له: إن أربعة وخمسين مركبًا من مراكب المجوس ظهرت على الساحل. فكتب إليه عبد الرحمن بالتحفظ، ولكن أهل إشبونة لم ينتظروا، بل حاربوهم، وهزموهم، وأرغموهم على العودة بسفنهم.

وعلى العموم فقد أوقعوا الرعب في غرب الأندلس بكثرة قتلهم، ونهبهم، وسلبهم، وإحراقهم، وقد كانوا سببًا في إنشاء عبد الرحمن أسطولًا كبيرًا ليدفع أذاهم، وأخيرًا وبعد حروب طويلة، وبعد أن قُتل منهم كثيرون طلبوا الصلح، فأجابهم عبد الرحمن إلى ذلك، وأرسل الغزال هذا سفيرًا لهذا السبب إلى ملك الدانمرك. ويظهر أن الغزال وصحبه لاقوا عناءً شديدًا من البحر، فقد هاج بهم. وقد وصف الغزال هذا الهياج بقوله:

قال لي صحبي وصِرنا
بين موج كالجبال
وتولتنا رياح
من دبُور وشمال
شقَّت القلعين وانبتَّـ
ـت عر ىتلك الحبال
وتمطَّى ملك المو
ت إلينا عن حيال
فرأينا الموت رأي الـ
ـعين حالًا بعد حال
لم يكن للقوم فينا
يا رفيقي رأس مال

ولكنه على كل حال وصل سالمًا، وقد تلقاهم ملك الدانمرك لقاءً حسنًا، وأنزلهم منزلة كرامة، وقابلهم بعد يومين، واشترط الغزال ألا يسجد له، وأن لا يخرجه عن شيء من عاداته، فأجابه إلى ذلك. وقد حمل معه كتابًا من الأمير عبد الرحمن وهدية. وتقول المصادر العربية: إنه أغرم بحب امرأة الملك وهي أغرمت بحبه، وأنه قال فيها الأبيات التي نذكرها فيما يأتي، وكان الغزال مع كهولته وسيمًا جميلًا. «وقد سمَّى النرمانيين مجوسًا؛ لأنهم كانوا مجوسًا قبل أن يتنصروا». ويقولون: إنه لما أنشدها شعره سُرَّت منه لما ترجم لها، وأمرته بالخضاب ففعل. ثم عاد بعد أن نجح في سفارته. ولم نعرف أحدًا سفر إلى هذه الجهات إلا ما كان من يحيى الغزال.

وعُمِّر ما شاء الله طويلًا، فعاش إلى أربع وتسعين سنة، كان يقول فيها الشعر، ويظهر أنه مع حكمته كان غزِلًا، ولوعًا بالنساء والخمر، يقول فيهما الشعر مع فكاهة لطيفة، كقوله في الهجاء:

سألت في النوم أبي آدمًا
فقلت والقلب به وامِق
أبنك بالله أبو حازم
صلَّى عليك المَلِك الخالق

وكقوله في مقابر الأغنياء والفقراء مما فيه حكمة:

أرى أهل اليسار إذا تُوفُّوا
بنوا تلك المقابر بالصخور
أبوا إلا مباهاة وفخرًا
على الفقراء حتى في القبور
فإن يكن التفاضل في دراها
فإن العدل فيها في القعور
رضيت بمن تأنَّق في بناء
فبالغ فيه، تصريف الدهور
ألمَّا يبصروا ما خرَّبته الدﻫ
ـور من المدائن والقصور
لعمر أبيهم لو أبصروها
لما عرفوا الغني من الفقير
ولا عرفوا العبيد من الموالي
ولا عرفوا الإناث من الذكور
ولا من كان يلبس ثوب صوف
من البدن المباشر للحرير
إذا أكل الثرى هذا وهذا
فما فضل الكبير على الحقير؟

•••

لا ومن أعْمَل المطايا إليه
كل من يَرْتَجي إليه نصيبا
ما أرى ها هنا من الناس إلا
ثعلبًا يطلب الدجاج وديبا
أو شيئًا بالقط ألقى بعينيـ
ـه إلى فارة يريد الوثوبا

•••

قالت: أحبك قلت: كاذبة
غري بذا من ليس ينتقد
هذا كلام لست أقبله
الشيخ ليس يحبه أحد
سيان قولك ذا وقولك إنمـ
ـا الريح نعقدُها فتنعقد
أو أن تقولي: النار باردة
أو أن تقولي الماء يتَّقد

فهذا شعر يظهر فيه أثر ما اتصف به من الحكمة. أما ما يظهر فيه أثر لهوِه فقوله:

ولما رأيت الشَّرب أكْدَت سماؤهم
تأبَّطتُ زقي واحتسبت عنائي
فلما أتيت الحان ناديت ربها
فثاب خفيف الروح نحو ندائي
فليل هجوع العين إلا تعلَّة
على وجل مني ومن نظرائي
فقلت: أذقنيها، فلما أذاقها
طرحتُ عليه ربْطَتي وردائي
وقلت: أعرْني بذلة أستتر بها
بذلتُ فيها طلاق نسائي
فوالله ما برَّت يميني ولا وفَت
له غير أني ضامن بوفائي
فأُبْتُ إلى صحبي ولم أك آيبًا
فكلٌّ يفديني وحق فدائي

ويروى أنه لما سافر إلى بغداد وجدهم يعجبون جدًّا بشعر أبي نواس، ولا يعجبهم غيره من أهل الأندلس، فنسب هذه القصيدة إلى أبي نواس، وأسمعهم إياها، فأعجبوا بها ثم عرفهم أنها له، وهي التي تقدمت في قوله:

ولما رأيت الشَّرب أكدت سماؤهم.
والحق أنهم خدعوا أنفسهم بالإعجاب بها، إعجابهم بشعر أبي نواس؛ لأنها أقل قيمة من شعره. وكم خدع الناس بالأسماء، ولما سافر إلى ملك الدانمرك — كما ذكرنا — استملح الملكة فأعجب بها وأعجبت به.٢ وكان اسمها: تودا. وقال في ذلك:
كلفت يا قلبي هوًى متعبًا
غالبت منه الضيغم الأغلبا
إني تعلقت مجوسيَّة
تأبى لشمس الحسن أن تغربا٣
أقصى بلاد الله في حيث لا
يلقي إليه ذاهب مذهبا
يا تُودُ يا رود الشباب التي
تطلع من أزرارها الكوكبا
يا بأبي الشخص الذي لا أرى
أحلى على قلبي ولا أعذبا
إن قلت يومًا: إن عيني رأت
مشبهه لم أعد أن أكذبا
قالت: أرى فوْدَيْه قد نوَّرا
دعابة توجب أن أدعبا
قلت لها: ما باله إنه
قد ينتج المُهْر كذا أشهبا
فاستضحكت عجبًا بقولي لها
وإنما قلت لكي تعجبا

ويريد بالمجوسية النصرانية، وقال فيها:

بكرت تحسن لي سواد خضابي
فكأن ذاك أعادني لشبابي
ما الشَّيب عندي والخضاب لواصف
إلا كشمس جللت بضباب
تخفى قليلًا ثم يُقشِعها الصبا
فيصير ما سترت به لذهاب
لا تنكري وضح المشيب، فإنما
هو زهرة الأفهام والألباب

وله:

كم جفاني ورمت أدعو عليه
فتوقفت ثم ناديت قائل
لا شفى الله لحظه من سقام
وأراني عِذَاره وهو سائل

ويقول في الخسوف:

شأن الخسوف البدر بعد جماله
فكأنه ماء عليه غُثاء
أو مثل مرآة لخود قد قضت
نظرًا بها، فعلا الجلاء غشاء

وله من قصيدة عتاب:

ولقد كسبت بكم عُلًا لكنها
صارت بأقوال الوشاة هباء
فغدوت من بين الصحابة أجربًا
كل يحاذر مني الأعداء
لو لم يكن قيد لما فتكت ظُبًا
أنت الذي سيرتهم أعداء

… إلخ.

أحبابنا عودوا علينا عودة
ما منكم بعد التفرق مرغب
كم ذا أداريكم بنفسي جاهدًا
وكأنما أرضيكم كي تغضبوا
وأريد بعدًا ما اقتربت إليكم
كالسهم أبعد ما يُرى إذ يقرب
وأجوب نحوكم المنازل جاهدًا
ومع اجتهادي فاتني ما أطلب
كالبدر أقطع منزلًا في منزل
فإذا انتهيت إلى ذُرَاكم أغرب

•••

أنا شاعر أهوى التخلي دون ما
زوجٍ لكيما تخلص الأفكار
لو كنت ذا زوج لكنت منغَّصًا
في كل حين رزقها أمتار
كم قائل: قد ضاع شرخ شبابه
ما ضيعته بطالة وعقار
إذ لم أزل في العلم أجهد دائمًا
حتى تأتَّت هذه الأفكار
مهما أرُمْ من دون زوج لم أكن
كلَّا ورزقي دائمًا مدرار
وإذا خرجت لنزهة هُنِّيتُها
لا ضيعة ضاعت ولا تذكار

وهي تدلنا على أنه لم يكن متزوجًا على الأقل إلى إنشاء هذه القصيدة، وأنه صرف وقته في تحصيل العلم وتحصيل اللذة:

ما كنت أحب أن أضيع وأنت في الد
نيا وأن أمسِي غريبًا مُعسرَا
أنا مثل سهم سوف يرجع بعدما
أقصاه راميه المجيد ليخبرا

… إلخ، وقوله:

يا واطئ النَّرجس ما تستحي
أن تطأ الأعين بالأرجُل؟

هذا عرض صغير لشعره، ونرى فيه أنه يمتاز ببعد الخيال، وحسن التشبيه، وأنه صادق التعبير عن نفسه، يلون كثيرًا من شعره بالحكمة اللطيفة.

وعلى كل حال، فليس شعره إعجازًا، بل إرهاصًا لابن عبد ربه، ومن بعده.

(١-١) ابن عبد ربه

هو شاعر عبد الرحمن الناصر، وقد ذكرنا ترجمته فيما سبق،٤ والذي يهمنا هنا هو أدبه الإنشائي، ومن الأسف أننا لم نعثر له على ديوان، وكل ما نعرف له أبيات في كتب الأدب هنا وهناك، وأبيات في عقده من نظمه عارض بها من حكى لهم، فقال مثلًا:
أنت دائي وَفِي يديك دوائي
يا شفائي من الجَوَى وبلائي
إن قلبي بحب من لا أُسمِّي
في غناء، أَعظِم به من غناء
كيف لا، كيف أن ألذ بعيش
مات صبري به، ومات عزائي
أيها اللائمون ماذا عليكم
أن تعيشوا، وأن أموت بدائي
ليس من مات فاستراح بميت
إنما الميت ميِّت الأحياء

ويقول:

ما لليلى تبدَّلت
بعدنا ود غيرنا
أرهقتنا ملامة
بعد إيضاح عذرنا

وقال في فتاة أخرى:

ذات دل وشاحها قلق
من خمور وحجلها شرق
بزت الشمس نورها وحباها
لحظ عينيه شادن خرق
ذهب خدها يذوب حياءً
وسوى ذاك كله ورق

ويقول:

ودَّعتني بزفرة واعتناق
ثم نادت: متى يكون التلاقي
وتصدَّت فأشرق الصبح منها
بين تلك الجيوب والأطواق
يا سقيم الجفون من غير سقم
بين عينيك مصرع العشاق
إن يوم الفراق أفظع يوم
ليتني مت قبل يوم الفراق

ويقول:

هيَّج العين دواعي سقمي
وكسا جسمي ثوب الألم
أيها البين أقِلني مرَّة
فإذا عُدت فقد حل دمي
يا خلي الذرع نم في غبطَة
إن من فارقته لم ينم
ولقد هاج لقلبي سقمًا
ذكر من لو شاء داوى سقمي

ويقول معارضًا قصيدة مسلم بن الوليد:

أديرا عليَّ الراح لا تشربا قبلي
أتَقْتلني ظلمًا، وتجحدني قتلِي؟
وقد قام من عينيك لي شاهدا عَدْل
أطلاب ذَحلي ليس بي غير شادن
بعينيه سحر فاطلبوا عنده ذحْلي٥
أغارَ على قلبي فلما أتيته
أطالبه فيه أغار على عقلي
بنفسي التي ضنت برد سلامها
ولو سألت قتلي وهبت لها قتلي
إذا جئتها صدت حياءً بوجهها
فيعجبني هجر ألذ من الوصل
وإن حكمت جارت عليَّ بحكمها
ولكن ذاك الجور أشهى من العدْل
كتمت الهوى جهدي، فحرَّده الأسى
بماء البكاء، هذا يخُط، وذا يُملي
وأحببت فيها العذْل حبًّا لذكرها
فلا شيء أشهى في فؤادي من العذل
أقول لقلبي كلما ضامه الأسى
إذا ما أتيت العز فاصبر على الذل
برأيك لا رأيي تعرضت للهوى
وأمرك لا أمري، وفعلك لا فعلي
وجدت الهوى نصلًا من الموت مغْمَدًا
فجرَّدته، ثم اتكيْت على النصل
فإن تك مقتولًا على غير ريبة
فأنت الذي عرَّضت نفسك للقتل

وقد أعجب هو نفسه بهذه القصيدة فقال في العقد: «فمن نظر في سهولة هذا الشعر، مع بديع معناه، ورقة طبعه، لم يفضل شعر مسلم عنده إلا بفضل التقدم».

ويقول:

أعطيتُه ما سألا
حكمته لو عدَلا
وهبته روحي فما
أدري به ما فعلا؟
أسلمته في يده
عيشه أم قتلا؟
قلبي به في شغُل
لا مل ذاك الشغلا
قيده الحب كما
قيد راعٍ جملا

وقال:

لعمْري لقد باعدت غير مباعدي
كما أنني قرَّبت غير مقربي
بنفسي بدر أخمد البدر نوره
وشمس متى تبدو إلى الشمس تغرب
لو انَّ امرأ القيس بن حجر بدت له
لما قال: مُرًّا بي على أم جندب

وقال:

مُحِب طوَى كشحًا على الزفرات
وإنسان عين خاض في غمرات
فيا من بعينيه سقامي وصحتي
ومن في يديه ميتَتي وحياتي
بحبك عاشرت الهموم صبابة
كأني لها ترب وهن لداتي
فخدِّي أرض للدموع ومقلتي
سماء لها تنهل بالعبرات

•••

أدعو عليك فلا دعاء يسمع
يا من يضر بناظريه وينفع
للورد حين ليس يطلع دونه
والورد عندك كل حين يطلع
لم تنصدع كبدي عليك لضعفها
لكنها ذابت فما تتصدع
من لي بأجرد ما يبين لسانه
خجلًا، وسيف جفونه ما يقلع
منع الكلام سوى إشارة مقلة
منها يكلمني وعنها يسمع

•••

بزمام الهوى أمُتُّ إليه
وبحكم العقار أقضي عليه
بأبي من زها عليَّ بوجهٍ
كاد يدمي لما نظرت إليه
ناول الكاس واستمال بلحظ
فسقتْني عيناه قبل يديه

وله في أبواب الشعر التقليدية الأخرى الشيء الكثير من مديح وهجاء ووصف ورثاء، فيقول في الهجاء:

ما بال بابك محروسًا ببوَّاب
يحميه من طارق يأتي ومنتاب
لا يحتجب وجهك الممقوت عن أحد
فالمقت يحجبه من غير حجاب
فاعزل عن الباب من قد ظل يحجبه
فإن وجهك طِلَّسْمٌ على الباب

وكان كثيرًا ما يمزج الهجاء بالسخرية:

رجاء دون أقربه السحاب
ووعدٌ مثل ما لمع السراب
ودهر سادت العبدان فيه
وعاثت في جوانبه الذئاب
وأيام خلت من كل خير
ودنيا قد تدرعها الكلاب
كلاب لو سألتهم ترابًا
لقالوا: عندنا انقطع التراب

وفي الوصف يقول في روضة:

وروضة عقدت أيدي الربيع بها
نورًا بنور، وتزويجًا بتزويج
بمُلْقِح من سواديها وملقحة
وناتج من غواديها ومنتوج
توشحت بملاة غير مُلْحَمَة
من نورها ورداء غير منسوج
فألبست خلل الموشي زهرتها
وجلَّلتها بأنماط الديابيج

وقال يمدح القائد أبا العباس:

الله جرد للندى والباس
سيفًا فقلده أبا العباس
ملك إذا استقبلت عرة وجهه
قبض الرجاء إليك روح الياس
وبه عليك من الحياء سكينة
ومحبة تجري مع الأنفاس
وإذا أحب الله يومًا عبده
ألقى عليه محبة للناس

ويمدح آخر بأنه سهل اللفظ، حسن الكلام، وهو يدل على رأيه في البلاغة:

قول كأن فرنده
شحذ على ذهن اللبيب
لا يشمئز على اللسا
ن ولا يشذ على القلوب
لم يَغْل في شنع اللغا
ت ولا يوحش بالغريب
سيف تقلد مثله
عطف القضيب على القضيب
هذا تُحَزُّ به الرِّقَا
ب وذا تُحَزُّ به الخطوب

وله شعر كثير في مدح عبد الرحمن الناصر؛ إذ كان شاعره، مثل:

يا ابن الخلائف إن المُزن لو علمت
نداك ما كان منها الماء ثجاجا
والحرب لو علمت بأسًا تصول به
ما هيجت من جبال الدين أهياجا
في نصف شهر تركت الأرض ساكنة
من بعد ما كان فيها الطير قد ماجا
وجدت في الخبر المأثور منصلتًا
من الخلائف خراجًا وولاجًا
تُملا بك الأرض عدلًا مثلما ملئت
جورًا، وتوضح للمعروف منهاجا
يا بدر ظلمتها، يا شمس صبحتها
يا ليث حوْمَتِها، إن هائج هاجا
إن الخلافة لن ترضى ولا رضيت
حتى عقدت لها في رأسك التاجا

ويقول في مدحه أيضًا:

بدَا الهلال جديدًا
والملك غض جديد
يا نعمة الله زيدي
إن كان فيه مزيد

•••

يا ابن الخلائف والعُلا للمعتلي
والجود يعرف فضله للمفضِل
نوَّهت بالخلفاء بل أهملتهم
حتى كأن نبيلهم لم ينبل
أذكَرْت، لا أنسَيْت ما ذكر الألى
من فعلهم فكأنه لم يفعل
وأتيت آخرهم وشأوك فَائِتٌ
للآخرين ومدرِك للأول
الآن سُمِّيَتِ الخلافة باسمها
كالبدر يقرن بالسماك الأعزل
تأبى فعالك أن تُقِر لآخر
منهم وجودك أن يكون لأول

وله أرجوزة في مدح الخليفة الناصر أيضًا وقعت في نحو أربعمائة وخمسين بيتًا وصف فيها حروبه وغزواته، وتاريخ كل غزوة، وهي تخالف الملاحم القديمة كالإلياذة، بأنها أشبه ما تكون بالتاريخ المنظوم، ليس فيها خيال ولا افتخار، ولا شيء من ذلك، مثل قوله:

وبعدها غزاة ثِنْتَي عشره
وكم بها من خبرة وعبره
غزا الإمام حوله كتائب
كالبدر محفوفًا به الكواكب

وفي أولها يقول:

فالحمد لله على نعمائه
حمدًا كثيرًا وعلى آلائه
يا مَلكًا ذلت له الملوك
ليس له في ملكه شريك
ثبت لعبد الله حسن نيته
واعطفه بالفضل على رعيته

وقد جاء بعده من الأندلسيين أيضًا أبو طالب عبد الجبار فنظم أرجوزة خيرًا من أرجوزته، إذ كانت أطول وأشمل، وليست مجرد سرد لحوادث، بل مزجت بمعلومات كثيرة، فيها مثلًا الأدلة على وجود الله، والحث على التفكر في العالم، والكلام على بدء الخليقة وسير الخلفاء الأربعة، وبني أميَّة، وبني أمية في الأندلس، وملوك الطوائف، ودولة المرابطين، بدأها بقوله:

أبدأ باسم الله في الترجيز
رب الأنام الملِك العزيز
ثم بذكر المصطفى محمد
صلى عليه الله طول الأبد

وبعده:

والحمد لمبتدع السماء
والأرض ذي الآلاء والنعماء
سبحانه من خالق جبار
يعلم ما في البر والبحار

ويقول في التفكر في الملكوت:

يا من يُجيل فكره للعبره
في كل موضوع له بالفكره
انظر إلى الموات والنبات
والحيوان نظر استثبات
كيف ترى التكوين فيها مائلا
ينبيك أن لقواها فاعلا
يؤلف الأربعة العناصرا
يمنع من أضدادها التنافرا

فإذا وصل إلى أبي بكر مثلًا قال:

فاستُخلِف الصديق ثاني اثنين
ذاك أبو بكر بغير مَيْن
جرَّد في جهاد أهل الردَّةْ
ولم يكن يرضى بغير الشدَّةْ
ثم توفاه الإله راضيا
وكان في ذات الإله ماضيا

إلى أن يقول في المرابطين:

فإذا أراد الله نصر الدين
استصرخ الناس ابن تاشفين
فجاءهم كالصبح في إثر غسق
مستدركًا لما تبقى من رمق
وافَى أبو يعقوب كالعُقاب
فجرد السيف عن القِراب
ووصل السير إلى الزلاقهْ
وساقه ليومها ما ساقهْ
لله در مثلها من وقعة
قامت بنصر الدين يوم الجمعة

وهي أرجوزة طويلة أقرب إلى الملحمة من أرجوزة ابن عبد ربه، وقد أثبتها كلها ابن بسَّام في الذخيرة.

ومن شعر ابن عبد ربه أنه أحب فعزم محبوبه على الرحيل، فأتت السماء بمطر جودٍ حال بينه وبين السفر فقال:

هلَّا ابتكرت لبين أنت مبتكر
هيهات يأبى عليك الله والقدر
ما زلت أبكي حِذَار البين ملتهفًا
حتى رثا لي فيك الريح والمطر
يا بردة من حيا مُزْن على كبدٍ
نيرانها بقليل الشوق تستعر
آليْتُ ألا أرى شمسًا ولا قمرًا
حتى أراك، فأنت الشمس والقمر

وقد حكى أنه وقف تحت روشن لبعض الرؤساء، وقد سمع غناء حسنًا، فُرش بماء، فمال إلى مسجد قريب وطلب بعض ألواح الصبيان فكتب فيها:

يا من يضن بصوت الطائر الغرد
ما كنت أحسب هذا البخل في أحد
لو أن أسماع أهل الأرض قاطبة
أصغت إلى الصوت لم ينقص ولم يزد
فلا تضِنَّ على سمعي تقلده
صوتًا يجول مجال الروح في الجسد
لو كان زرياب حيًّا ثم أُسمِعه
لذاب من حسد أو مات من كمد
أما النبيذ فإني لست أشربه
ولست آتيك إلا كِسرَتي بيدي

وقد كان له أشعار كثيرة سماها المُمحِّصات؛ لأنه نقض فيها كل قطعة قالها في الصبا والغزل بقطعة في المواعظ والزهد، فقال: إنه محَّصها بها؛ كالتوبة منه، والندم عليها، فمثلًا محَّص القطعة الرائية التي مضت ومطلعها: هلَّا ابتكرت لبين أنت مُبْتكر … إلخ برائية أخرى قال فيها:

يا قادرًا ليس يعفو حين يقتدر
ماذا الذي بعد شيب الرأس تنتظر
عايِن بقلبك إن العين غافلة
عن الحقيقة واعلم أنها سَقَر
سوداء تزفر من غيظ إذا زفرت
للظالمين فلا تُبقي ولا تذر
لو لم يكن لك غير الموت موعظة
لكان فيه عن اللذات مُزْدَجر
إن الذين اشتروا دنيا بآخرة
وشقوة بنعيم، ساء ما تجروا
أنت المقول له ما قلت مبتدئًا
«هلا ابتكرت لبين أنت مبتكر؟»

ومن شعره السائر قوله:

الجسم في بلد والروح في بلد
يا وحشة الروح بل يا غربة الجسد
إن تبكِ عينك لي يا من كلفت به
من رحمة فهما سهمان في كبدي

وقد عُمِّر حتى بلغ الثانية والثمانين فقال:

كِلاني لما بي عاذليَّ كفاني
طويت زماني برهة وطواني
بليت وأبلتني الليالي بكرِّها
وصرفان للأيام معتوران
وما لي لا أبلى لسبعين حجة
وعشر أتت من بعدها سنتان
فلا تسألاني عن تباريح علتي
ودونكما مني الذي ترياني
وإني بحمد الله راجٍ لفضله
ولي من ضمان الله خير ضمان
ولست أبالي من تباريح علتي
إذا كان عقلي باقيًا ولساني
هما ما هما في كل حال تُلِمُّ بي
فذا صارمي فيها وذاك سناني

وقد ذكر المؤرخون أنه مات في تلك السنة عن إحدى وثمانين سنة وثمانية أشهر وثمانية أيام. وقد حكى الحميدي أنه رأى شعره مجموعًا في نيِّفٍ وعشرين جزءًا جمع للحكم بن عبد الرحمن الناصر.

ويظهر أنه كان في شبابه ماجنًا لاهيًا شاربًا غزلًا، فلما كبرت سنه زهد، وأصبح إمامه في الشعر ليس صريع الغواني مسلم بن الوليد في غزليَّاته، ولا أبا نواس في خمرياته، إنما إمامه أبو العتاهية في زهده وورعه، وخوفه وتقواه، فيقول مثلًا:

بادر إلى التوبة الخلصاء مبتدئًا
والموت ويحك لم يمدد إليك يدا
وارقب من الله وعدًا ليس يخلفه
لا بد لله من إنجار ما وعدا

•••

يا ويلنا من موقف ما به
أخوف من أن يعدل الحاكم
أُبارز الله بعصيانه
وليس لي من دونه راحم
يا رب غفرانك عن مذنب
أسرف إلا أنه نادم

•••

أتلهو بين باطيَة وزير
وأنت من الهلاك على شفير
فيا من غره أمل طويل
يؤديه إلى أجل قصير
أتفرح والمنية كل يوم
تريك مكان قبرك في القبور
هي الدنيا فإن سرتك يومًا
فإن الحزن عاقبة السرور
ستسلب كل ما جمعت منها
كعارية ترد إلى المعير
وتعتاض اليقين من التَّظني
ودار الحق من دار الغرور

وله جملة من الشعر في العقد وفي يتيمة الدهر، وفي تاريخ ابن الفرضي، فنراه في شعره مقيدًا نفسه بموضوعات الشعر الشرقية، لا يخرج عنها، وببحور الشعر المأثورة وقوافيه، لا يخرج عنها أيضًا، ونراه يعارض المشارقة ويسير في ركابهم، ويجتهد ما استطاع أن يأخذ معانيهم، ويزيد عليها، ويختار في كل نوع من الشعر إمامًا من المشارقة، فطورًا إمامه الغواني، وطورًا أبو نواس، وطورًا أبو العتاهية وغيرهم. لم يتحرر تحررًا كافيًا، ولم يُصغ إلى قلبه فقط، وقد روي أن له شيئًا جديدًا عن المشرق، هي موشحاته، ولكنه أيضًا يقلد فيه من سبقه من الوشاحين الأندلسيين، ولعل له شعرًا يستقل فيه بنفسه لم يصل إلينا، إذ كان له — كما يقولون — ديوان كبير يتألف من أجزاء. فحكمنا الذي نصدره على ما بين أيدينا حكم ناقص، يحتاج إلى استقصاء أكثر، أما ما بين أيدينا، فشعره العاطفي من غزل وزهد وهجاء، شعر جيد العاطفة، قوي الخيال، رصين الأسلوب، وإن كان يسقط أحيانًا في بعض أساليبه، وبعض ألفاظه، فكلمة مقلة بدل عين ليست كلمة شعرية، وبعض الكلمات فسرت قسرًا على أن تكمل القافية، ومعانيه لطيفة جيدة؛ أما كلامه في المديح، فمتكلف ليس فيه عاطفة، إنما هو صادر عن رغبة في عرض من أعراض الدنيا، وأرجوزته ليست بذات خطر شعري، وأظن أننا لو عددناه من الطبقة الثانية في الشعراء أجمعين، لم نعْدُ الصواب، ونعني بالطبقات تقسيم الشعراء حسب الجودة، لا حسب التواريخ، وأجودهم أعلاهم، وأيًّا ما كان، فقد أفسح المجال لمن يأتي بعده، أن يحتذي أو يفوق عليه.

كان الغزال وابن عبد ربه من شعراء الدولة الأموية في الأندلس، وغيرهم من شعرائها كثير.

استمر حكم الأمويين في الأندلس، ما استقامت أمورهم، وحكمها في أول أمرها خلفاء عظماء، مثل: عبد الرحمن الداخل، وعبد الرحمن الناصر، والحكم، وأمثالهم، ولكن خلف من بعدهم خلف ضعيفو النفوس، ينغمسون في الشهوات، ففسد أمرهم. وأخذت الدولة الأموية في الضعة، وعمل على ذلك عوامل كثيرة؛ منها ما كان يوقعه الخلفاء وعمالهم على الناس من مظالم، ومنها أن الدولة الأموية في الأندلس عملت ما عمله الخلفاء في بغداد، هؤلاء اعتمدوا على الأتراك وملَّكوهم كل سلطة، فكانوا وبالًا عليهم، وهؤلاء الأندلسيون اعتمدوا على الصقالبة، وهي كلمة تجمع أسرى الحروب من الإفرنج، وما كان يأخذه القراصنة من الأهالي الأوربيين، فكان هؤلاء بعد حين قوة كبيرة في الدولة تعيث في الأرض فسادًا، ومنها أن عنصر البربر كان متعبًا، يتحين الفرصة دائمًا للوثوب على الدولة، والرغبة في الاستقلال … يضاف إلى ذلك أن النصارى في إسبانيا وفرنسا كانوا ينظرون إلى المسلمين من عرب وبربر على أنهم أعداء دين، وغزاة فاتحون، ودخلاء غاصبون، فما يحس قوم منهم بقوة إلا ويهجمون على المسلمين حيثما استطاعوا، فيقلقون راحتهم؛ وكل ذلك أضعف الدولة من غير شك.

وزاد الطين بلة أن ولي آخر الأمر هشام بن الحكم، وكان طفلًا في نحو العاشرة من عمره، بويع بالخلافة، وعينت أمه «صبح» وصية عليه، وهي نصرانية نافارية، ذات شخصية قوية، استطاعت أن تبسط سلطانها على زوجها الحكم، وتتدخل في شئون الدولة، مع قوته وعظمته، فلما وجدت ابنها هشامًا طفلًا صغيرًا، أعلى ذلك من شأن سلطانها بمعاونة صاحبها جعفر المُصْحفي، ولكن سرعان ما ظهر في الأفق رجل اسمه محمد بن عبد الله بن أبي عامر، من أصل عربي قح، كان جده من العرب الوافدين على الأندلس مع طارق بن زياد.

دَرس ابن أبي عامر هذا دراسة واسعة على نمط الدراسات في الأندلس، واتخذته «صبح» هذه كاتبًا لها أول الأمر، قبل وفاة زوجها الحكم، وعُيِّن في بعض الأوقات رئيسًا للزكاة وللمواريث، ثم توثقت الصلة بينه وبين «صبح» وتمكَّن في قلبها، وتمكنت في قلبه، فعيَّنته حاجبًا — أي: رئيس وزارة — وأطلقت يده في الحكم، فتسلم كل أعمال الخلافة، وحجر على هشام، فلم يسمح له إلا باللهو واللعب، ومغازلة النساء، حتى ينهار، ولكن لَغِطَ الناس كثيرًا، فهم قد ألفوا البيت الأموي وأطاعوه قرونًا، والناس عبيد الإلف لا يرضون أن يغيروا من استعبدهم، ولو ظلمهم. فعمل المنصور بن أبي عامر كثيرًا في إغداق الأموال، وقتل منافسيه أو تشريدهم، وتنظيم الجيش، عن عرب وبربر، حتى جنَّد فرقة من النصارى، وسيرهم في محاربة أهل دينهم، ووضع خطة جديدة، وهي أنه لا ينتظر الإسبان ليهاجموا البلاد، بل يبدأ هو بالهجوم، واتخذ سِمَة الملك، وضربت باسمه النقود، ودُعي له على المنابر، وأمر أن يحيا تحية الملوك، ووفقه الله في الحروب، فانتصر في نحو خمسين غزوة. ومن غير شك إذا غضضنا النظر عن ألاعيبه مع «صبح» وحجره على الخليفة، واختيار الخلافة لنفسه، رأينا أنه رجلًا عظيمًا، استطاع أن يتغلب على كل العقبات، وساس البلاد نحو عشرين سنة.

وقد سقنا هذه الأحداث التاريخية؛ لأنها كانت ذات أثر فعال في الشعر، فالخلافة الأموية لما ضعفت ضعف الشعر، كضعفه لما ضعفت الدولة العباسية، فلما جاءت الدولة العامرية، ورأت أن تستعين بالشعراء في تحويل أنظار الشعب عن الملوك الأمويين، والاعتماد عليهم في تحسين سمعتهم، وتمجيد ذكرهم، خصوصًا وقد أغدق عليهم ابن أبي عامر المال الجزيل — علا شأن الشعر بعد ضعفه، وقد روي أنه كان يستعين بالشعراء في إعلاء شأنه، ويأخذ معه طائفة منهم في غزواته. فعاد شأن الشعر رفيعًا كما كان في عهد الدولة الأموية أيام عِزِّهَا، ورأينا أمثال ابن شُهَيْد، وابن حزم، وابن دراج — وحكى المقري أن الشعراء اجتمعوا مرة لمديح المنصور، وكان فيهم الرمادي الشاعر الكبير فأعطاه، ثم سأله: كيف عطائي لك؟ قال الرمادي: «أعطيتني فوق قدري ودون قدرك». فغضب المنصور، فلما خرج الرمادي، كان في المجلس من يحسده على مكانه، فوقع فيه، وعابه، فنهره المنصور، وأحقَّه فيما قال، وقال: واللهِ لو حكمته في بيوت الأموال لرأيت أنها لا ترجع ما تكلم به ذرَّة، وأنبه على ذلك، ثم أمر أن يرد الرمادي وطلب منه أن يعيد ما قال، وزاد في عطائه، والتفت إلى العائبين عليه، وقال: العجب من قوم يقولون: الابتعاد عن الشعراء أولى من الاقتراب. نعم، ذلك لمن ليس له مفاخر يريد تخليدها، ولا أياد يرغب في نشرها، فأين الذي قيل فيه:

إنما الدنيا أبو دُلَفِ
بين باديهِ ومحتضره
فإذا ولَّى أبو دلف
ولت الدنيا على أثره
لقد كان في الإسلام أكرم منه، ولكن خلدته الأمداح، وخصته بمفاخر عصره.٦
قال في المعجب: «إن المنصور بن أبي عامر كان يعقد طول أيام مملكته في كل أسبوع مجلسًا، يجتمع فيه أهل العلم للمناظرة بحضرته، ما كان مقيمًا بقرطبة، وكان كثير الغزوات، وملأ الأندلس غناءً، وسبيًا من بنات الروم وأولادهم ونسائهم، وفي أيامه غالى الناس بالأندلس فيما يجهزون به بناتهم من الثياب والحلي والدروع، وذلك لرخص أثمان بنات الروم، فكان الناس يرغبون في بناتهم بما يجهزونهن به مما ذكرنا، ولولا ذلك لم يتزوج أحد حرة؛ بلغني أنه نودي على ابنة عظيم من عظماء الروم بقرطبة، وكانت ذات جمال رائع، فلم تساوِ أكثر من عشرين دينارًا».٧ وقد روى لنا في موضع آخر مثلًا من أمثلة هذه المناظرات، فقال مثلًا: «إن أبا العلاء صاعدًا سأل جماعة من أهل الأدب في مجلس المنصور بن أبي عامر عن قول الشماخ:
دار الفتاة التي كنا نقول لها
يا ظبْية عُطُلًا حسَّانة الجيد
تدني الحمامة منها وهي لاهية
من يانع المرد قِنْوان العناقيد

ما هي الحمامة؟ قالوا: هي الحمامة تنزل على غصن الأراكة أو الكرمة، فتنفضه، فتتمكن الظبية منه فترعاه، فأنكر ذلك عليهم صاعد وقال: إن الحمامة في هذا البيت هي المرأة، وهي اسم من أسمائها، فأراد أن هذه الجارية المشبهة بالظبية، إذا نظرت في المرآة أدْنَت المرآة من شعرها الذي هو كقنون العناقيد من يانع الكرم أو المرد فرأته»، وهذا يعطينا مثلًا من أمثلة ما كان يجري في مجلس ابن أبي عامر من المناظرات.

ولما مات المنصور تولى الإمارة من بعده ابنه إلى باقي أسرته، وسميت دولتهم الدولة العامرية.

ومع كل ما تقدم ظل قوم طول مدة دولتهم يدبرون المكائد لإسقاط العامريين وإعادة الأمويين؛ ولذلك كانت أكبر تهمة يتهم بها الرجل أعداءه عند المنصور وأولاده، أنه أموي، أو أن له ميلًا أمويًّا، أو أنه يعمل مع المتآمرين لإرجاع الدولة الأموية، وأخيرًا رجعت الدولة الأموية إلى حين، ولكن لم تدُم طويلًا.

وإتمامًا لهذا نقول: إنه أثناء هذه الفتن في قرطبة، وإشبيلية كان هناك رجل اسمه «ابن جهور» لم يدخل في فتن الناس، فلفت أنظارهم فساروا إليه، يطلبون توليته قرطبة، فرفض أولًا، ثم قبل على شرط أن يكوِّن حوله مجلسًا شوريًّا لا يقطع أمرًا دونه. وسار سيرًا عادلًا، وكسر دِنَانَ الخمر، وغسل يده من مال الدولة، فوكَّل عليه من يحفظه، وظل في مسكنه، ولم يرضَ أن ينتقل إلى مساكن الخلفاء قبله، ورفع المظالم عن الناس، وكلما ورد عليه طلب خاص حوله على مجلس الشورى للنظر فيه، وحسَّن العلاقة بينه وبين الممالك المجاورة، وظل هو الآخر يخشى من الدسائس التي تريد عودة البيت الأموي.

وفي هذا العهد تفرَّقت الأندلس بعد الخلافة الأموية والدولة العامرية، وتفرق أهلها شيعًا، وقام في كل ناحية أمير دولة، وسمِّي هذا العهد لأجل ذلك «عهد ملوك الطوائف». قال ابن حزم: «كانت طرطوشة وسرقُسطة ولاردة في يد بني هود، وبلنسية في يد عبد العزيز، والثغر — أي: ما فوق طليطلة من جهة الشمال — في يد بني زرين، وطليطلة في يد ذي النون، وقرطبة في أيدي أبناء جهور، وإشبيلية في يد بني عباد، ومالقة والجزيرة الخضراء في يد بني برزال من البربر، ودانيه والجزائر الشرقية في يد مجاهد العامري، وبطليوس ولشبونة وشَنتَرين في يد بني الأفطس».

وكل هذه الأحداث والاضطرابات والفتن كان لها دخل كبير في سيرة الشعراء الذين سنتكلم عنهم، كابن درَّاج القسطلي، وابن شُهيد، وابن حزم، وابن زيدون. وسنلقى في سيرهم كلهم أحداثًا وأشعارًا، لا نستطيع أن نفهمها إلا بفهمنا هذا الوضع السياسي.

(١-٢) ابن درَّاج القسطلي

هو أبو عمر أحمد بن محمد، ولد سنة ٣٤٧ﻫ ومات سنة ٤٢١ﻫ، يعد من كبار شعراء الأندلس، أو أكبر شاعر في عصره. وقد قال تلميذه ابن حزم: «إنه في المغرب، كالمتنبي في المشرق». واشتهرت هذه الجملة، فكانت على لسان كل من ترجم له. ووصل شعره إلى المشرق، فمدحه الثعالبي في اليتيمة وقال هذا القول.

والحق أنه كان هناك بذور في الأندلس مشرقية مختلفة الأنواع، فأخذ كل شاعر أندلسي البذرة التي تناسبه، وامتصَّت من نفسه كل ما يناسبها، هذا يألف شعر أبي نواس فيقلده، وهذا يألف شعر المتنبي فيحاكيه، وهذا يألف شعر العباس بن الأحنف فيتشبه به. وكان ابن درَّاج هذا على رأس أربعين شاعرًا تقريبًا يمدحون المنصور بن أبي عامر، ويأخذهم معه في غزواته، فكان أيضًا ممن مدحه، وكان في ديوان الإنشاء له، وشعره تقريبًا كله أو أكثره فيما وصل إلينا مديح ابن درَّاج المنصور ومن بعده ومن بعده، وهذا أيضًا وجه شبه آخر، وهو من أصل بربري، ولد في قسطلة من أعمال البرتغال.

وكان للمنصور بن أبي عامر مجلس تتبارى فيه الشعراء، فكان هو من أعظمهم، وإن شئت فقل: أعظمهم، وكما حُسد المتنبي حسد هو، واتهموه بأنه سرَّاق لمعاني غيره، فرد عليهم بقدرته على الارتجال فيما يقترح عليه. ومن أحسن قصائده قصيدة قالها عند فتح المنصور «شَنْتِيَاقُوب»، وقد مدحها مدحًا كبيرًا ابن حزم.

وبعد موت المنصور بن أبي عامر كان شاعر البلاط لابنه المظفر، وبسقوط الدولة العامرية اتصل ببقايا الدولة الأموية التي عادت من بعد، ثم رأيناه يذهب إلى بَلَنْسِية، ثم سرقُسطة، ويمدح أميرها المنذر بن يحيى الذي آواه وأكرمه، وبقي عنده حتى مات؛ ومدحه أيضًا ابن خلدون في مقدمته، وعده من كبار أدباء الأندلس. والحق أن شعره كما سترى يشبه شعر المتنبي في المظهر دون المخبر، فشعر المتنبي في مظهره أسلوب فخم قوي، تسمعه كأنه قعقعة سلاح، ومكنته قدرته على أن يأتي بألفاظ جزلة، وأساليب عربية يستطيع أن يرغمها على التقديم والتأخير، والذكر والحذف … إلخ. ولكم لم يكن لابن درَّاج قوة المتنبي في المعاني الذهنية الدقيقة، ولا حِكَمه الرفيعة، إنما هو تلميذ المتنبي في فخامة شكله. وهي مدرسة كان على رأسها ابن درَّاج، ومن تلاميذها ابن شهيد، وابن هانئ، وقد قال المعرِّي في ابن هانئ: «إن شعر ابن هانئ يشبه رحًى تطحن قرونًا» أي: أنه قعقعة ولا طحن، أو طحن من غير جدوى.

وفي الحقيقة أنك إذا قرأت شعر هؤلاء الثلاثة أدركت أن شعرهم من رأسهم، على حين أنك تشعر أن شعر الغزال وابن زيدون الذي سيأتي بعد وأمثالهما من قبلهم لا من رأسهم. وفرق بين الصوت القوي الأقرع الذي يخرج من الرأس، وبين الصوت الحنون الذي يخرج من القلب. ومن السهل تقسيم الشعر الأندلسي، بل والشعر العربي عامة إلى مدارس: فهؤلاء الثلاثة مدرسة، وابن عبد ربه والغزال وابن زيدون مدرسة أخرى.

وقد روي أن لابن درَّاج ديوانًا من جزأين ولكن مع الأسف لم يصل إلينا، وقد روى لنا صاحب نفح الطيب قطعتين في المديح، وشاد بذكرهما، أولاهما:

ألم تعْلَمي أن الثواء هو التَّوَى٨
وأن بيوت العاجزين قبور
وأن خطيرات المهالك ضمَّن
لراكبها أن الجزاء خطير
تخوِّفني طول السفار وإنه
بتقبيل كفِّ العامري جدير
مُجِير الهدى والدِّين من كل ملحِد
وليس عليه للضلال مجير
تلاقت عليه من تميم ويَعْرُب
شموس تلاقَى في العُلا ويدور
هم يستقلون الحياة لراغب
ويستصغرون الخطب وهو كبير
ولَّما توافوا للسلام ورفعت
عن الشمس في أفق الشروق ستور
وقد قام من زرق الأسنة دونها
صفوف ومن بيض السيوف سطور
رأوا طاعة الرحمن كيف اعتزازها
وآيات صنع الله كيف تنير
وكيف استوى بالبر والبحر مجلس
وقام بعبء الراسيات سرير
فجاءوا عجالًا والقلوب خوافق
وولَّوْا بطاء والنواظر صور
يقولون والإجلال يخرس ألسُنًا
وحارت عيون مِلئها وصدور
لقد حاط أعلام الهدى بك حائط
وقدر فيك المكرمات قدير

•••

قالت وقد مزج الفراق مدامعًا
بمدامع وترائبًا بترائب
أتفرق حتى بمنزل غربة
أم نحن للأيام نهبة ناهب
ولئن جنيت عليك نزحة راحل
فأنا الزعيم لها بفرحة آيب
هل أبصرت عيناك بدرًا طالعًا
في الأفق إلا من هلال غارب

قال ابن شهيد وهو من هو: «الفرق بين ابن درَّاج وغيره، أن ابن درَّاج مطبوع النظام، شديد أسر الكلام، زاد في أشعاره من الدليل على العلم بالخبر واللغة والمثل، وما تراه من حوْكه للكلام، وملكه لأحرار الألفاظ، وسعة صدره، وجيشة بحره، وصحة قدرته على البديع، وطول طلقه في الوصف، وبغيته للمعنى وترديده، وتلاعبه به وتكريره، وراحته بما يتعب الناس، وسعة نفسه فيما يضيق الأنفاس».

ومن شدة متابعته للمتنبي أنه رأى المتنبي يمدح ابن العميد فيقول:

مَنْ مبلغ الأعراب أني بعدها
جالست رسطاليس والإسكندرا
ولقيت بطليموس دارس كتبه
متبدِّيًا في ملكه متحضرا
ولقيت كل الفاضلين كأنما
رد الإله نفوسهم والأعصُرا

فقال ابن درَّاج:

أبنيَّ لا تذهب بنفسك حسرة
عن غول رحلي منجدًا أو مغورا
فلئن تركت الليل فوقي داجيًا
فلقد لقيت الصبح بعدك أزهرا
وحللت أرضًا بدلت حصباؤها
ذهبًا يرف لناظريَّ وجوهرا
ولتعلم الأملاك أني بعدها
ألفيت «كل الصيد في جوف الفرا»
ورمى عليَّ رداءه من دونهم
ملك تخير للعُلا فتخيرا
كلَّا وقد أنست من هود هدًى
ولقيت يغرب في القيول وحِمْيرا
وأصبْتُ في سبأ مورِّث ملكها
يسبي الملوك ولا يدُب له الضَّرا
فكأنما تابعت تبَّع رافعًا
أعلامه ملِكًا يدين له الورَى
وحطَطْت رحلي بين ناري حاتم
أيام يقري موسرًا أو معسرا
وأتيت نجدك وهو يرفع منبرًا
للدين والدنيا ويخفض منبرا
تلك البدور تتابعت وخلفتها
سعيًا فكنت الجوهر المتخيرا

فترى من هذا محاكاته للمتنبي في الوزن والقافية، وتقليده له في أسلوبه ومعانيه، وقد وصف الأسطول وصفًا لطيفًا إذ قال:

إليك شحنَّا الفلك تهوي كأنها
وقد ذُعِرَت من مغرب الشمس غِرْبان
على لجج خضر إذا هبت الصبا
ترامى بنا فيها ثبير وثهلان
موائل ترغى في ذراها موائلًا
كما عُبِدت في الجاهلية أوثان
يُردِّدن في الأحشاء حر مصائب
تزيد ظلامًا ليلها وهي نيران
إذا غيض ماء البحر منها مدَدْنه
بدمع عيون تمتريهن أشجان
وإن سكنت عنها الرياح جرى بها
زفير إلى ذكرى الأحبة حنان
يقلن وموج البحر والهم والدجى
تموج بما فيها عيون وآذان
ألا هل إلى الدنيا معاد وهل لنا
سوى البحر قبر أو سوى الماء أكفان؟

… إلخ.

وحتى هذا الوصف الجميل للأسطول إنما ورد أثناء مدحه للأمير، وكذلك وصفه لأشياء أخرى، فهو قد جنى على نفسه بتوجيهها إلى المديح فقط، والمديح غالبًا لا ينبع من القلب وإنما ينبع من غريزة الطمع؛ وحتى الأسطول والإشادة به، كان أولى أن يُشاد بعظمته، لا أنه من نتاج أمير؛ بل لأنه دليل على عظمة الأمة وقوتها، واعتزازها بأدوات القتال المتنوعة.٩

(١-٣) ابن هانئ الأندلسي

يلقب بابن هانئ الأندلسي تمييزًا له عن ابن هانئ المشرق وهو أبو نواس، وقد ولد في قرية من قرى إشبيلية بالأندلس نحو سنة ٣٢٠ﻫ، وعدَّه بعضهم أشعر شعراء الأندلس من المتقدمين والمتاخرين، وقال عليه: إنه متنبي المغرب، وهو من أصل أزدي يمني، حتى قالوا: إنه من نسل المهلب بن أبي صفرة، وهو كذلك أزدي؛ ولذلك توصف قصائده بأنها أزدية يمنية. اتصل بصاحب إشبيلية أول أمره فأكرمه، وأقام معه زمانًا، ثم غضب الناس عليه لاتهامهم إياه بالفلسفة، ويظهر ذلك من مزجه الدعوة الفاطمية في شعره بشيء من التفلسف، وكانت الفلسفة في جوه مكروهة. والظاهر أنهم نقموا عليه دعوته الفاطمية، وهم ذوو نزعة أموية، وتعددت نقمتهم عليه إلى ملك إشبيلية فأشار عليه بالمغيب عن البلدة مدة ينسى فيها خبره، فخرج إلى المغرب، ولقي القائد جوهرًا، ومدحه فأعطاه مائتي درهم، فاستقلها.

وأخيرًا بلغت مقدرته الشعرية المعز لدين الله فاتح مصر، فبالغ في إكرامه، ورأى أنه إن فتح مصر احتاج إليه كثيرًا في مدحه وإعلاء شأنه، كما يحتاج الفاتحون عادة إلى الجرائد، فأكرمه إكرامًا عظيمًا، وأهدى إليه تحفًا كثيرة، وأقام له قصرًا في القيروان، ودعاه إلى أن يسافر معه في فتح مصر، فطلب أن يتخلف قليلًا حتى يعدل أمره، ويصطحب أهله، فلما وصل إلى برقة أضافه شخص من أهلها، ثم عربدوا عليه فقتلوه وهو سكران، وقيل: إنه وجد في ساقية من سواقي برقة مقتولًا. ويظهر أن دعاة الأمويين خافوا من دعوته الشيعية الفاطمية، وكرهوا ذلك منه فقتلوه، وذلك سنة ٣٦٢ﻫ، فيكون عمره إذ ذاك نحو اثنتين وأربعين سنة.

وقد أجمع المؤرخون على أنه من فحول الشعراء، قال ابن الخطيب: «كان ابن هانئ من فحول الشعراء، لا يدرك شأوه، ولا يشق غباره، مع المشاركة في العلوم». وقال ابن شرف: «إنه نجدي الكلام، سردي النظام، وإذا ظهرت معانيه في جزالة مبانيه، رمى بها عن منجنيق لا يؤثر في النفيق. وله غزل معَدِّيٌّ١٠ لا عُذري … كان في دينه في أسفل منزلة، ولو عقل ما ضاقت عليه معاني الشعر، حتى يستعين عليه بالكفر». ويقول ابن رشيق في تعداد أصناف الشعراء: «وفرقة أصحاب جلبة وقعقعة بلا طائل معنى، إلا القليل النادر، كأبي القاسم ابن هانئ ومن جرى مجراه، فإنه يقول أول مذهبته:
أصاخت فقالت: وقع أجرد شيظم
وشامت فقالت: لمع أبيض مِخْذَم
وما ذعرت إلا بجرس حليها
ولا رمقَت إلا بُرى في مُخَدَّم١١

وليس تحت هذا كله إلا الفساد وخلاف المراد. وما الذي يفيدنا أن تكون هذه المنسوب بها لبست حليها فتوهمته بعد الإصاخة والرمق وقع فرس، أو لمع سيف».

والحق أن شعره فخم ضخم مملوء بالقعقعة، جاهلي الأسلوب، يشبه في ذلك المتنبي، غير أن المتنبي أدق معنى، وابن هانئ أطول نفَسًا. وسميت قصيدته هذه مذهَّبة؛ لأنه أنشأها على نحو معلقة عنترة، وكانت المعلقات تسمى المذهبات. وقال فيه فون كريمر الألماني: «إنه قوي البيان، كثير التمثيل، جيد الألفاظ، حسن الوصف، لا يقدر على مسايرته في هذا الوصف إلا القليل». وأكثر شعره في مدح الفاطميين، وإشاعة محامدهم، ومن قرأه شعره يرى أنه فيه خصائص:
  • (١)

    أن من فهم كلامه بعد التعب، تلذذ من شعره، وأعجب بفنه.

  • (٢)

    طول نفسه، فهو يتعرض للمعنى حتى يصفيه، شأن ابن الرومي لولا كثرة غريبه.

  • (٣)

    عنايته بالمقابلة بين الشطر الأول، والشطر الثاني في كثير من أبياته مثل قوله:

    ففي ناظري عن سواكم عمى
    وفي أذني عن سواكم صمم
    ولا كل ما في أكف ندًى
    ولا كل ما أنوف شمم
    فما فارق البشر لما اكفهر
    ولا نسي العفو لما انتقم
  • (٤)

    شبه شعره بالشعر الجاهلي في القوة، ومتانة السبك، وقدرة استخدام الألفاظ، وبساطة المعاني عند فهمها.

  • (٥)

    اتصال شعره اتصالًا كبيرًا بالدين، إذ كانت دعوته فاطمية فكان متأثرًا بتعاليمهم، معتمدًا نشرها بين قرائه. ويقع أحيانًا على معانٍ كثيرة عرض لها المتنبي، فمثلًا يقول المتنبي:

    كل حِلْم أتى بغير اقتدار
    حجة لاجئ إليها اللئام

    ويقول ابن هانئ:

    وكل أناة في المواطن سؤدد
    ولا كأناة من قدير محكم

    ويقول ابن هانئ:

    وإذا خامر الهوى قلب صب
    فعليه لكل عين دليل

    ويقول ابن هانئ:

    ألم يبْد سر الحب أن من الضنا
    رقيبًا وإن لم يهتك السر هاتك؟

    ويقول المتنبي:

    يكاد من صحة العزيمة ما
    يفعل قبل الفعال ينفعل

    ويقول ابن هانئ:

    عرفت في كل صنع الله عارفة
    فما تهم بأمر غير منفعل

والقارئ لديوانه يرى تعالم الشيعة مبثوثة فيه، فشروط الدعوة والإمام المعصوم، وحقه في الخلافة، وبطلان الدعوة العباسية، وكل الاصطلاحات الإسماعيلية مبثوثة في ديوانه، فهو يضفي على الممدوحين من الخلفاء صفة التقديس تقريبًا، فيقول مثلًا:

وما هو إلا أن يُشير بلحظه
فتمخر فلك أو تهز مقانيب١٢

•••

هو علة الدنيا ومن خلقت له
ولعلةٍ ما كانت الأشياء
من صفو ماء الوحي وهي محاجة
من حوضه الينبوع وهو شفاء

واتبع تعاليم الشيعة في القول بتقديس الإمام، وأن فيه قبسًا من نور الله:

هذا أمين الله بين عباده
وبلاده إن عدت الأمناء

•••

هو الوارث الأرض عن أبوين
أب مصطفى وأب مرتضى

•••

بالله من سبب بالله متصل
وظل عدل على الآفاق ممدود
هذا الشفيع لأمةٍ تأتي به
وجدوده لجدودها شفعاء

وهم يقولون بعصمة الإمام:

من كان سيما القدس فوق جبينه
فأنا الضمين بأنه لا يجهل

•••

مؤيد باختيار الله يصحبه
وليس فيما أراه الله من خلل

والإمام قد عصمه الله، وهو مظهر من نور الله:

وما كُنْه هذا النور نور جبينه
ولكن نور الله فيه مشارك

•••

وبذا تلقى آدم من ربه
عفوًا وفاء ليونس اليقطين

•••

لو كان علمك بالإله مقسمًا
في الناس ما بعث الإله رسولا

•••

لو كان لفظك فيهم ما أنـ
ـزل القرآن والتوراة والإنجيلا
هذا ضمير النشأة الأولى التي
بدأ الإلهُ وغيبها المكنون
من أجل هذا قدر المقدور في
أُمِّ الكتاب وكون التكوين

ويقول:

تالله لو كانت الأنواء تشبهه
ما مر بؤس على الدنيا ولا قنط
أبدى الزمان لنا من نور طلعته
عن دولة ما بها وهن ولا سقط
إمام عدل وفى في كل ناحية
كما قضوْا في الإمام العدل واشترطوا
قد بان بالفضل عن ماضٍ ومؤتنف
كالعقد عن طرفيه بفضل الوسط
لا يغتدي فرحًا بالماء يجمعه
ولا يبيت بدنيا وهو مغتبط
إن الملوك وإن قيست إليك معًا
فأنت من كثرةٍ بَحْرٌ وَهُمْ نُقَطُ

ويقول:

ولم أجد الإنسان إلا ابن سعيه
ومن كان أسمى كان بالمجد أجدرا

ويقول:

فليس لمن لا يرتقي النجم همَّة
وليس لمن لا يستفيد الغنى عُذر

ويقول:

صدق الفناء وكذَّب العمر
وجلا العظات وبالغ النذر
إنَّا وفي آمال أنفسنا
طول وفي أعمارنا قصر
لنرى بأعيننا مصارعنا
لو كانت الألباب تعتبر

ويصور ابن هانئ مجلسًا من مجالس الشراب أحسن تصوير في قصيدته المعروفة بقصيدة النجوم فيقول:

أليلتنا إذ أرسلت واردًا وحفا
وبتنا نرى الجوزاء في أذنها شنفا١٣
وبات لنا ساق يقوم على الدجى
بشمعة نجم لا تقط ولا تطفا١٤
أغن غضيض خفف اللين قده
وأثقلت الصهباء أجفانه الوطفا١٥
ولم يبق إرعاش المُدام له يدًا
ولم يبق إعتاق التثني له عطفا١٦
يقولون: حقف فوقه خيزرانة
أما يعرفون الخيزرانة والحقفا١٧
جعلنا حشايانا ثياب مدامنا
وقدَّت لنا الظلماء من جلدها لُحفا١٨
فمن كبد تدني إلى كبد هوى
ومن شفة توحي إلى شفة رشفا١٩
بعيشك نبَّه كأسه وجفونه
فقد نبه الإبريق من بعد ما أغفى٢٠
وقد فكت الظلماء بعض قيودها
وقد قام جيش الليل للفجر واصطفَّا٢١
وولت نجوم للثريا كأنها
خواتيم تبدو في بنان يد تخفى٢٢

ومما استحسنوا له:

ولما التقت ألحاظنا ووشاتنا
وأعلن سر الوشي ما الوشي كاتم
تأوه إنسي من القدر ناشج
فأسعد وحشي من السدر باغم٢٣
مؤيد العزم في الجلى إذا طرقت
مندد السمع في النادي إذا نودي٢٤
لكل صوت مجال في مسامعه
غير العنيفين من لوم وتفنيد٢٥
وعند ذي التاج بيض مكرمات وما
عندي له غير تمجيد وتحميد
أتبعته فكري حتى إذا بلغت
غاياتها بين تصويب وتصعيد٢٦
رأيت موضع برهان يبين وما
رأيت موضع تكييف وتحديد٢٧

ومن محاسن قوله:

أبني العوالي السَّمْهَرية والسُّيو
ف المشرفية والعديد الأكبر٢٨
من منكم الملك المطاع كأنه
تحت السوابغ تبع في حِمْيَر
كل الملوك من السروج سواقط
إلا الملك فوق ظهر الأشقر

ومما يتغنى له قوله:

فتكات طرفك أم سيوف أبيك
وكئوس خمر أم مراشف فيك٢٩
أجلاد مرهفة وفتك محاجر
ما أنت راحمة ولا أهلوك
يا بنت ذي السيف الطويل نجاده
أكذا يجوز الحكم في ناديك٣٠
قد كان يدعوني خيالك طارقًا
حتى دعاني بالقنا داعيك
عيناك أم مغناك موعدنا وفي
وادي الكرى نلقاك أو واديك
منعوك من سنة الكرى وسروا فلو
عثروا بطيف طارق ظنوك٣١
ودعوك نشوى ما سقوك مدامة
فإذا تثنى عطفك اتهموك
حسبوا التكحل في جفونك حلية
تالله ما بأكفهم كحلوك٣٢
وقد عد له الأدباء مزايا وعيوبًا، فمن مزاياه:
  • (١)

    قوة بيانه وجودة كلامه وشدة تأثره في سامعيه، إذا فهما معانيه.

  • (٢)

    شعره جزل السبك، مليح التأليف، حتى إنك لو سمعت المصراع الأول، تكاد تحزر المصراع الثاني.

  • (٣)

    شعره مطبوع تلمح فيه الجزالة التي في الشعر الجاهلي.

أما عيوبه:
  • (١)

    فكثرة استعماله للغريب من الألفاظ، مثل: اطلخلَم الأمر، وارْجَحَن الشباب، وتغشْمَرَت، وتكعْكَعَت.

  • (٢)

    أن شعره أحيانًا كثير الجلبة، قليل المعنى، كما ذكر ابن رشيق.

(١-٤) ابن شُهَيد وابن حزم

كانا متعاصرين، وكان صديقين، وكانا وزيرين، وكان يعملان للدولة العامرية، وكان ذوي ميول أموية، مكنت من الدسائس لهما، وكانا في الشعر وسطًا، ولعب الحب بهما معًا. فأما ابن شهيد، فقد قعد به عن الجودة في الشعر تفوقه في النثر، فهو في الشعر أضعف منه في النثر، وقلَّما نجد في التاريخ من مَلَك ناصية النوعين، وبرز في القولين، فغاية الأديب أن يكون قويًّا في أحدهما، وسطًا في الآخر، وقد اشتهر ابن شهيد بفصوله ورسائله وروايته «التوابع والزوابع»، وسيأتي الكلام عليها في النثر. وقد شعر في المديح والوصف والغزل، حتى خافت جاريته منه مرة أن يتغزل فيها فيفضحها، واشتهر بالنادرة اللطيفة الحلوة، ورووا أنه أصيب بالصمم فمنعه ذلك عن الاشتغال بالسياسة.

قال فيه ابن حيان: «كان ابن شهيد يبلغ المعنى، ولا يطيل سفر الكلام … والعجب منه أنه كان يدعو قريحته إلى ما شاء من نظمه ونثره في بديهته ورويته، فيقول الكلام كما يريد، من غير اقتناء لما كتب، ولا اعتناء بالطلب، ولا رسوخ في الأدب، فإنه لم يوجد له فيما بلغنا بعد موته كتاب يستعين به على صناعته، ويشحذ من طبعه، إلا ما لا قدر له، فزاد ذلك في عجائبه، وإعجاز بدائعه. وكان في تنميق الهزل والنادرة الحارة أقدر منه على سائر ذلك، وشعره حسن عن أهل النقد، وله رسائل كثيرة في فنون الفكاهة، وأنواع التعريض، والأهزال. وكان في سرعة البديهة وحضور الجواب وحدته آية من آيات الله، «مع هواه الشديد»٣٣ وعدم تقصيره في ارتكاب أي قبيحة، من أصح الناس رأيًا لمن استشاره، وأضلهم عنه في ذاته، وكان له في الكرم والجود انهماك، حتى شارف الإملاق».

فمن شعره:

كَلِفْت بالحب حتى لو دنا أجلي
لما وجدت لطعم الموت من ألم
وعاقني كرمي عمَّن ولهت به
ويلي من الحب أو ويلي من الكرم٣٤

وقوله:

أصباح شيم أم برق بدا
أم سنا المحبوب أورى زندا
هب من مَرْقده منكسرًا
مسبلًا للكُم مرخ للرِّدا
يمسح النعسة من عيني رُشا
صائدًا في كل يوم أسدا
فهو من دل عراه زُبْدة
من صريح لم يخالط زبدا
قلت: هب لي يا حبيبي قبلة
تشف من عمك تبريح الصدا
فانثنى يهتزم من منكبه
مائلًا لطفًا وأعطاني اليدا
كلما كلمني قبَّلته
فهو إمَّا قال قولًا رٌدِّدا
كاد أن يرجع من لثمي له
واكتشاف الثغر منه أدردا
شربت أعطافه ماء الصبا
وسقاه الحسن حتى عربدا

ويقول في وصف عاصفة:

وقد فغرت فاها دجى كل زهرة
إلى كل ضرع للغمامة حافل
ومرت جيوش المزن رهوًا كأنها
عساكر زنج مذهبات المناصل

وقد طلب منه أن يجيز قول الشاعر: «مرض الجفون ولثغة في المنطق».

فقال بديهة:

مرض الجفون ولثغة في المنطق
سيَّان جرا عشق من لم يعشق
من لي بألثغ لا يزال حديثه
يذكي على الأكباد جمرة محرق
ينبي فيَنْبو في الكلام لسانه
فكأنه من خمر عينيه سقي
لا ينعش الألفاظ من عثراتها
ولو أنها كتبت له في مهرق

وقال يتغزل:

مر بي في فلك من ربرب
قمر مبتسم عن شنب
زينوا أعلاه بالدر كما
ثقلوا أسفله بالكتب
فازدهتني أريحيَّات الصبا
واستخفتني دواعي طربي
فتعرَّضت لتسليم له
فإذا التياه لا يعبأ بي
قال هذا العبد من دلله:
ما الذي أمنه من غضبي؟
يا ظُبا لحظي خذي لي رأسه
فهو لا شك من أهل الريب
فانبرت ألحاظه تطلبني
وأنا قدَّامها في الهرب
لو تراني وأنا ألطفه
وأداريه مداراة الصبي
خلته جبار قوم مردوا
وأنا في لطف الوعظ نبي

ويقول في وصف وقعة:

سقيا لأسد تساقي الموت أنفسها
وتلبس الصبر في يوم الوغى حلقا
قامت بنصرك لما قام مرتجلًا
خطيب جودك فيها ينثر الورقا
سريت تقدم جيش النصر متخذًا
سبل المجرة في إثر العلا طرقا
في ظل ليل من الماذي معتكر
يجلو إلى الخيل منه وجهك الفلقا
وصفح قرن غداة الروع يكتبه
من الظبا فلم لا يعرف المشقا
أجريت للزنج فوق النهر نهر دم
حتى استحال سماء جللت شفقا
وساعد الفلك الأعلى بقتلهم
حتى غدا الفلك بالناجي به غرقا

إلخ … إلخ.

وله من قصيدة:

فريق العدا من حد عزمك يفرق
وبالدهر مما خاف بطشك أولق
عجبت لمن يعتد دونك جنة
وسهمك سعد والقضاء مفوِّق
ومن يبتني بيتًا ليقطع دونه
ممر رياح النصر وهو الخَورْنق
توهم فيه الرُّعْن حصنًا فزرته
بأرعن فيه مرعد الموت مبرق
وحولك أسياف من السعد تُنْتَضَى
وفوقك أعلام من النصر تخفق
بأبيض مسود الدِّلاص كأنه
شهاب عليه من دجى الليل يلمق
وخيل تمشَّى للوغى بجفونها
إذا جعلت بالمرتقى الصعب تزلق

ويقول وقد أزمع على الخروج من قرطبة:

أرى أعينًا ترنو إليَّ كأنما
تساور منها جانبي أراقم
أدور فلا أعتام غير محارب
وأسعى فلا ألقى امرأ لي يسالم
ويجلب لي فهمي ضروريًّا من الأذى
وأشقى امرئ في قرية الجهل عالم
وأوجع مظلوم لقلب وذي حجا
فتًى عربي تزدريه أعاجم
سلام عليكم لا تحية شاكر
ولكن شجى تنسد منه الحلاقم
وما قرعت سني عليكم ندامة
وأوشك غدا أن يقرع السن نادم
عليكم بداري فاهدموها دعائما
ففي الأرض بناءون لي ودعائم
لئن أخرجتني عنكم شر عصبة
ففي الأرض إخوان عليَّ أكارم

وفيها يقول:

ولما فشا بالدمع من سر وجدنا
إلى كاشحينا ما القلوب كواتم
أمرنا بإمساك الدموع جفوننا
ليشجى بما تطوي عذول ولائم
فظلَّت دموع العين حيرى كأنها
جلال مآقينا لآل توائم
أبى دمعنا يجري مخافة شامت
فنظمه بين المحاجر ناظم
وراق الهوى منا عيون كريمة
تبسمْن حتى ما تروق المباسم

وقد مرض ابن شهيد في آخر أيامه وأصيب بالفالج في سنة ٤٢٥ﻫ، فمنعه عن الحركة والتقلب، وكان أولًا يمشي على عصا، واعتمادًا على إنسان، إلى ما قبل وفاته بعشرين يومًا، فإنه صار حجرًا لا يبرح ولا يتقلب، ولا يحتمل أن يحرك.

وفي ذلك يقول:

أنوح على نفسي وأندُبُ نبلها
إذا أنا في الضراء أزمعت قتلها
رضيت قضاء الله في كل حالة
عليَّ وأحكامًا تيقنت عدلها
أظل قعيد الدار تجنبني العصا
على ضعف ساق أوهن السقم وجلها
ألا رب خصم قد كفيت وكربة
كشفت ودار كنت في المحل وَبْلَها
ورب قريض كالجريض بعثه
إلى خطبة لا ينكر الجمع فضلها
فمن مبلغ الفتيان أن أخاهم
أخو فتكة شنعاء ما كان شكلها
عليكم سلام من فتًى عضه الرَّدى
ولم ينس عينًا أثبتت فيه نبلها
يبين وكف الموت يخلع نفسه
وداخلها حب يهون ثكلها

وكتب للفقيه ابن حزم في مرضه الذي مات به قال:

ولما رأيت العيش ولَّى برأسه
وأيقنت أن الموت لا شك لاحقي
تمنيت أني ساكن في غيابة
بأعلى مهب الريح في رأس شاهق
خليلي من ذاق المنية مرة
فقد ذقتها خمسين: قولة صادق
كأني وقد حان ارتحالي لم أفز
قديمًا من الدنيا بلمحة بارق
فمن مبلغ عني ابن حزم وكان لي
يدًا في مُلِمَّاتي وعند مضايقي
عليك سلام الله إني مفارق
وحسبك زادًا من حبيب مفارق
فلا تنس تأتيني إذا ما فقدتني
وتذكر أيامي وفضل خلائقي
فلي في ادِّكاري بعد موتي راحة
فلا تمنعونيها عُلالة زاهق
وإني لأرجو الله فيما تقدمت
ذنوبي مما درَى من حقائقي

وأما ابن حزم فقد عاقه عن بلوغ الغاية في شعره كثرة علمه وفقهه، فالأسلوب العلمي الفقهي غلب عليه فنجد له معاني لطيفة جدًّا، ولكنها في أسلوبها تتلون بألوان أساليب الفقهاء، كالذي لاحظه ابن خلدون من أنه هو قعد به عن الشعر حفظه المتون، وذكر أن فقيهًا شعر فقال:

لم أدر حين وقفت بالأطلال
ما الفرق بين جديدها والبالي

فقال: إن التعبير ﺑ «ما الفرق» بين كذا وكذا، أشبه بتعبير الفقهاء، وقد تربى ابن حزم تربية عالية، فأبوه كان وزيرًا عظيمًا، تسرح في داره الفتيات الجميلات من المغربيات، ومن فتيات الحروب المأسورات، وكان يُحضر له المعلمين والمعلمات، حتى روى أنه أحفظته القرآن جارية في القصر، كما أحضر له بعض مشاهير شيوخ العلم. فوقع بين رغبتين: رغبة في العلم والدين والتقى، ورغبة في مغازلة الجواري والسير مع الهوى، والجمع بينهما كالجمع بين الماء والنار، ولكن يظهر أنه استطاع الجمع بينهما، فحمَّله ذلك من العذاب ألوانًا، وأكثر شعره الذي بلغنا ما كان في كتابه «طوق الحمامة» يصف في خلجات نفسه، وضناه من حبه، نثرًا ونظمًا.

والقارئ لشعره يرى أنه صادق العاطفة، لطيف المعاني الذهنية، بعيد الخيال، ولكنه مقصر بعض الشيء في الأسلوب، وهو معذور في ذلك، فالذي يؤلف «الفصل في الملل والنحل»، و«الإحكام في أصول الأحكام» وما إلى ذلك من مئات الكتب الشرعية، ليس من السهل عليه أن يبلغ القمة في الشعر. وقد عُدَّ عند كثير من الناس أعلم أهل الأندلس، ولكن لم يعدوه أشعرهم. وكان ابن حيان دقيقًا في قوله: «إن شعره حسن» من غير طنطنة ولا فخفخة كعادته في وصف الشعراء الكبار.

وحدثت له حادثتان أثرتا في حياته، وفي شاعريته الأولى: حُبُّه كالذي ذكرنا، والثانية: ما كان من اتهامه في عهد الدولة العامرية بأنه يعمل لإعادة الخلافة الأموية.

وقد كان العداء بين العامريين والأمويين في الغرب، كالعداء بين العلويين والعباسيين في الشرق، فعزل عن الوزارة من أجل ذلك، وعُذِّبَ، وأهين، ونُفي، وخرِّبت دياره، وزال عنه النعيم الذي كان يعيش فيه، فكان ذلك نقمة عليه، ونعمة على العلم والأدب، ومن مزايا نشأته في بيت العز، وتمكنه من نفسه، ونزعته إلى الزهد، أنه لم يهن نفسه في شعره بمديح مفرط، أو غزل فاجر، إنما قال الشعر استجابة لخلجات نفسه، أو تفريجًا لهمه، أو إرضاءً لفنه، أو إرضاءً لخاطرة خطرت له. وله قصيدة لطيفة قوية بلغة مائة وأربعين بيتًا، أجاب بها ملك الروم عن رسالة أرسلها إلى المسلمين، يهددهم ويتوعدهم.٣٥

ونشأته العلمية حمته من اللعب بالألفاظ، والإطالة في القول، وتفكيره الخلقي، وتجاربه الاجتماعية، أنطقاه بالحكم، مثل:

أفعال كل امرئ تُنْبي بعنصره
والعين تغنيك عن أن تطلب الأثَرَا
وهل ترى قط دِقْلَى أنبتت عنبًا
أو تذْخر النخل في أوكارها الصَّبرا؟

وقد امتلأ كتابه «طوق الحمامة» بالنثر والشعر الذي يمليه عليه حبه، مع دعابة أحيانًا كقوله:

وذي عَذَل في من سباني حسنه
يطيل ملامي في الهوى ويقول
أَمِن أجل وجه لاح لم تر غيره
ولم تدر كيف الجسم أنت عليل
فقلت له: أسرفت في اللوم فاتَّئد
فعندي ردٌّ لو أشاء طويل
أم تر أني ظاهري وأنني
على ما أرى حتى يقوم دليل؟

وتجد في هذه القطعة مصداق ما قلناه «فعندي رد طويل» تعبير علماء الكلام، والبيت الأخير ينضح بذلك. ويقول:

لئن أصبحت مرتحلًا بجسمي
فقلبي عندكم أبدًا مقيم
ولكن للعيان لطيف معنى
له سأل المعاينة الكليم

وهو أيضًا نضح للثقافة الدينية، وخصوصًا البيت الثاني. ويقول:

لا تلمني لأن سبقة حظ
فات إدراكها ذوي الألباب
يسبق الكلب وثبة الليث في العد
ويعلون النخال فوق اللباب

فقوله: «لأن» في هذه الأبيات تعبير فقهي. ويقول:

لي خلتان أذاقاني الأسى جُرَعا
ونغَّصا عيشتي واستهلكا جلدي
كلتاهما تطَّبيني٣٦ نحو جبلتها
كالصيد ينشب بين الذئب والأسد
وفاء صدق فما فارقت ذا مقة
فزال حزني عليه آخر الأبد
وعزة لا يحل الضيم ساحتها
صرامة منه بالأموال والولد

فترى في هذه القطعة التقسيم المنطقي الذي يتبعه العالم، وقل أن يسلكه الشاعر. ويقول:

جعلت اليأس لي حصنًا ودرعًا
فلم ألبس ثياب المستضام
وأكثر من جميع الناس عندي
يسير صانني دون الأنام
إذا ما صح لي ديني وعرضي
فلست لما تولى ذا اهتمام
تولى الأمس والغد لست أدري
أأدركه ففيما ذا اهتمامي؟

فالشطرة الأخيرة علمية أكثر منها شعرية، وكذلك قوله: «فلست لما تولى ذا اهتمام».

وأحيانًا يسمو بشعره فيما وراء الطبيعة كقوله:

أَمِن عالم الأملاك أنت أم إنسي
أَبِنْ لي: فقد أزرى بتمييزي العي
أرى هيئة إنسية غير أنه
إذا أُعمل التفكير فالجرم علوي
تبارك من سوَّى مذاهب خلْقِه
على أنك النور الأنيق الطبيعي
ولا شك عندي أنك الروح ساقه
إلينا مثال في النفوس اتصالي٣٧
عدمنا دليلًا في حدوثك شاهدًا
نقيس عليه غير أنك مرئي
ولولا وقوع العين في الكون لم نقل
سوى أنك العقل الرفيع الحقيقي

ومن قوله، وهو يدل على عاطفة حارة مشبوبة أضناها الحب:

وددت بأن القلب شق بمدية
وأدخلت فيه ثم يطبق في صدري
فأصبحت فيه لا تحلين غيره
إلى مقتضى يوم القيامة والحشر
تعيشين فيه ما حييت فإن أمت
سكنت شغاف القلب في ظلم القبر

فهذا القول صادق العاطفة، وهو ترجمة صحيحة لمشاعره، ولكن قوله: «إلى مقتضى يوم القيامة والحشر» تعبير ديني.

وعلى الجملة فهو شاعر عالم، طغى علمه على شعره.

انظر قوله:

ودادي لك الباقي على حسب كونه
تناهى فلم ينقص بشيء ولم يزد
وليست له غير الإرادة علة
ولا سبب حاشاه يعلمه أحد
إن ما وجدنا الشيء علة نفسه
فذاك وجود ليس يفنى على الأبد
وإما وجدناه لشيء خلافه
فإعدامه في عدمنا ما له وجد

وقوله:

ما على النصر في الأعداء نعرفها
وعلة الفر منهم أن يفرونا
إلا نزاع نفوس الناس قاطبة
إليك يا لؤلؤًا في الناس مكنونا
من كنت قدامه لا ينثني أبدًا
فهم إلى نورك الصَّعَّاد يعشونا
ومن تكن خلقه فالنفس تصرفه
إليك طوعًا فهم دأبًا يكرونا

وقوله:

أرعى النجوم كأنني كلِّفت أن
أرعى جميع ثبوتها٣٨ والخنس
فكأنها والليل نيران الجوى
قد أضرمت في فكرتي من حندس
وكأنني أمسيت حارس روضة
خضراء وشح نبتها بالنرجس
لو عاش بطليموس أيقن أنني
أقوى الورى في رصد جري٣٩ الكنس

وقال على عادة الشعراء المتماجنين:

خلوت بها والراح ثالثة لنا
وجنح ظلام الليل قد مد واتَّلج
فتاة عدمت العيش إلا بقربها
فهل في ابتغاء العيش ويحك من حرج؟
كأني وهي والكأس والخمر والدجى
ثرى وحيا والدر والتبر والثبج٤٠

•••

وصفوك لي حتى إذا أبصرت ما
وصفوا علمت أنه هذيان
فالطبل جلد فارغ وطنينه
يرتاع منه ويفرق الإنسان
يعيبونها عندي بشقرة شعرها
فقلت لهم: هذا الذي زانها عندي
يعيبون لون النور والتبر ضلة
لرأي جهول في الغواية ممتد
وهل عاب لون النرجس الغض
ولون النجوم الزاهرات على البعد
وأبعد خلق الله من كل حكمة
مفضل جرم فاحم اللون مسود
به وصفت ألوان أهل جهنم
ولبسة باكٍ مثكل الأهل محتد٤١
ومذ لاحت الرايات سودًا تيقنت
نفوس الورى أن لا سبيل إلى الرشد٤٢

فتعبيراته كلها مقتبسة من الفقه والكلام والمنطق، وإلهيات الفلسفة، فيصعب علينا أن نعده من الشعراء الخالصين، وإن امتاز بصدق الشعور، وصدق التعبير، وجمال الخيال. وسيأتي مقامه في النثر عند الكلام على النثر.

إلى هنا كان الشعر قد بلغ حدًّا كبيرًا من الرقي في عهد الأمويين والعامريين، وسبب ذلك أن الأمويين والعامريين كانوا يجزلون العطاء ويقدرون قيمة الشعراء في الدعوة لهم، حتى كانوا يحملون الشعراء على السفر معهم في غزواتهم، وسبب آخر، وهو أن آخر عهد الأمويين، ومدة العامريين كانت عهود فتن واضطرابات، والفتن والاضطرابات تحرك المشاعر، وأذكر أن ابن سلام في طبقاته قال عن قبيلة من القبائل: إنها لم تقل شعرًا؛ لأنها لم تكن قبيلة محاربة … هذا إلى طبيعة الأندلسيين الشعرية، فيكاد يكون كل مثقف، ولو ثقافة بسيطة شاعرًا. وقد قال الأندلسيون في كل فن وباب مقلدين في ذلك المشرق من الزهد والوصف والرثاء والغزل … إلخ. فإذا نحن وصلنا إلى عصر ملوك الطوائف رأينا الشعر قد نما وكثر أيضًا؛ بسبب أن المملكة قد انقسمت إلى إمارات كثيرة، يحكم كل قسم منها أمير، وكان بين الأمراء تنافس على التعمير والعلم، ومن ذلك الشعر؛ ولذلك وجد شعراء لا يقلون شأنًا عن السابقين، إن لم يفوقوهم أحيانًا، أمثال: ابن زيدون وابن عباد وابن سهل الإسرائيلي وغيرهم. وربما عمل في تكوينهم أكثر من الأولين أنهم انتفعوا بمن سبقهم، فقد خلفوا ثروة كبيرة من الأخيلة والأساليب والمعاني؛ يضاف إلى ذلك أنه ما كاد يظهر شاعر في المشرق إلا وينقل شعره سريعًا إلى المغرب ثم يقلد، ويدهش الإنسان لهذه السرعة، فقد كانت حركات الرحلات شديدة قوية، مع صعوبة المواصلات، وكان الحج موسمًا تتلاقى فيه العلماء والأدباء، فيتناقلون كتبهم، فكان الشعر في عهد الطوائف أرقى منه على ما يظهر في العهود التي كانت قبلهم، وإن كان الأندلسيون من الناحية السياسية والحربية أضعف.

وشاهد هذا العصر تغلب النصارى الإسبان على بلاد الأندلس، بلدًا فبلدًا، فإذا حل النصارى بلدًا هجرها أهلها، ورثوها بشعرهم، فوجد عندنا في الأندلس ما لا نجده في الشرق إلا نادرًا من رثاء البلاد رثاءً قويًّا يدل على عاطفة مشبوبة، ولكن هناك ظاهرة أخرى، وهي أن الحروب بين الإسبان والأوربيين عمومًا وبين المسلمين لم تنقطع، فيكاد يكون في كل سنة حرب ووقائع، تشيب لها النواصي، ولكن مع الأسف كمية الشعر التي رويت في هذا الباب أقل مما يلزم كشأن المسلمين في الحروب الصليبية، وفي حروب صلاح الدين وخلفائه، فقل الشعر العربي في هذا المعنى. ولعل السبب في ذلك أن الأولين لم يشعروا كثيرًا في باب الحروب، وشعرهم كان شعرًا تقليديًّا، فلما رأوا أن من قبلهم لم يشعروا كثيرًا في هذه المعاني، لم يشعروا هم أيضًا كثيرًا، والواقع أن حروب الأندلس، وحروب الصليبيين، كان يجب أن تغذي الشعراء بما يصوغون من قصائد.

(١-٥) ابن زيدون

هو أحب شعراء الأندلس إلى نفسي، وأقربهم إلى قلبي، ويظهر أنه استصفى غزل العباس بن الأحنف، ومسلم بن الوليد، وغيرهما، وأخذ ديباجة البحتري، وحُسن سبكه، ونصاعة أسلوبه، وأخذ طول نفس ابن الرومي وتدفقه حتى يأتي على آخر المعنى الذي يرده. وقد حدثت له حادثتان ألهبتا قلبه، وجعلتاه يشعر من قلبه، لا من رأسه؛ أولاهما: حبه لولَّادة، فقد هام في حبها، وجرب كل أنواع التجارب في الحب من لذة وصال، وألم فراق، وأحاديث نفس، وغيرة من عذول … إلخ. وثانيتهما: كثرة حساده وتآمرهم عليه، ووضع الدسائس له عند الأمير المقرب إليه، حتى سجنه، فذاق ألوانًا من العذاب في سجنه، وكانت له قدرة على صياغة أدق المشاعر في شعر جميل، وأسلوب جذاب، ومع هذا لم يخلُ من قول الشعر الرقيق في الموضوع التقليدي الذي هو المديح.

وقد رويت له مدائح كثيرة لأمراء كثيرين، وهو أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن أحمد بن غالب المخزومي، من نسل أحد أفراد قبيلة مخزوم الذين رحلوا إلى الأندلس أيام الفتح، وكان أبوه مشهورًا بأنه فقيه أديب، فأورث ابنه حبه الأدب. وقد ولد ابن زيدون في قرطبة سنة ٣٩٤ﻫ، ومات في إشبيلية سنة ٤٦٣ﻫ، ومع أنه تعلم الشعر ممن ذكرنا من الشعراء، فهناك خيوط يظهر فيها أثر بيئته.

ويدل شعره على أنه واسع الاطلاع على شعر المشرق، وشعر من قبله من الأندلسيين واستفادته من كل ذلك، مع احتفاظه بشخصيته. وقد أخذ عن عالمين كبيرين في الأندلس، هما أبو بكر مسلم بن أحمد بن اللبانة، وأبو بكر بن ذكوان، وقد لفت نظر الناس إلى شعره منذ شبابه.

وشاء حظه أن يقع في حب ولَّادة بنت الخليفة المستكفي، وقد كان المستكفي هذا فاجرًا، مستهترًا، سيئ الحكم، قَلَّ ماله فأحب أن يرضي الناس بوعوده، وبما يوزعه من ألقاب، حتى زهد الناس فيها، وخلف بنتًا اسمها ولَّادة، خلفها من مولاة له إسبانية، وكانت ولادة هذه بيضاء اللون، حمراء الشعر، زرقاء العينين، لا تلتزم الحجاب المعتاد للنساء فاتخذت في بيتها ناديًا (صالونًا) يجتمع فيه الأدباء من شاعرين وناثرين، وتسمع منهم، ويسمعون منها. وكانت هي الأخرى قادرة على الشعر، وكانت حادة المزاج، قاسية، صريحة، فما أن رآها ابن زيدون وجالسها، حتى ملأت قلبه. وقد وصفها ابن بسَّام في الذخيرة بقوله: «كانت في نساء أهل زمانها، واحدة أقرانها، حضور شاهد، وحرارة أوابد، وحسن منظر ومخبر، وحلاوة مورد ومصدر، وكان مجلسها بقرطبة منتدى لأحرار المصْر، وقناؤها ملعبًا لجياد النظم والنثر، يعشو أهل الأدب إلى ضوء غرتها، ويتهالك أفراد الشعراء والكتاب على حلاوة عشرتها، إلى سهولة حجابها، وكثرة منتابها، تخلط ذلك بعلو نصاب، وكرم أنساب، وطهارة أثواب، على أنها — سمح الله لها وتغمد زللها — اطَّرحت التحصيل، وأوجدت إلى القول فيها السبيل؛ لقلة مبالاتها، ومجاهرتها بلذاتها، كتبت — فيما زعموا — على أحد عاتقي ثوبها:

أنا والله أصلح للمعالي
وأمشي مشيتي وأتيهُ تيها

وكتبت على الآخر:

وأُمكن عاشقي من صحن خدي
وأعطي قبلتي من يشتهيها»

ولسنا نظن كما قال ابن بسام أنها كانت على طهارة أثواب، وقد وصف ابن زيدون ليلة معها من ليالي شبابه فقال: «وبِتنا بليلة نجني أقحوان الثغور، ونقطف رمان الصدور، فلما انفصلت عنها صباحًا أنشدتها:

ودع الصبر محب ودعك
ذائع من سره ما استودعك
يقرع السن على أن لم يكن
زاد في تلك الخطا إذ شيعك
يا أخا البدر سناء وسنى
حفظ الله زمانًا أطلعك
إن يطل بعدك ليلي فلَكَمْ
بت أشكو قصر الليل معك

فكانت ولَّادة في حياتها ومنتدياتها أشبه بعلية بنت المهدي في المشرق، وقد بدأ حب ابن زيدون لها، وعلاقته بها في سنة ٤٢٢ﻫ؛ أي: وهو في سن التاسعة والعشرين بعد سقوط الدولة الأموية، وولاية أبي الحزم بن جهور على قرطبة، وكان ابن زيدون مقربًا من ابن جهور، يشغل عنده منصبًا عاليًا، ولكن سرعان ما تغير عليه قلب ابن جهور، وأودعه في السجن، وأجرى عليه أنواعًا من العذاب. ولكن ما تهمة ابن زيدون؟

الغالب على الظن أنه طمح لأن يكون أميرًا، فليس هو أقل ممن وثبوا على إمارات الأندلس، واستولوا عليها. وهو شاب حسيب نسيب، مملوء قوةً، أديب كبير، فما يمنعه أن يكون كابن جهور، وابن عباد، وابن الأفطس، وأمثالهم، فلما سجن اجتمع له في سجنه الغرام بولَّادة، وحزنه على نفسه في السجن، وبلوغه أن ابن عبدوس وزير ابن جهور الغني الكبير يغازل ولَّادة بدله، ويريد أن يحل محله، كما بلغه أن ولَّادة من ناحيتها استجابت له، أعرضت عن ابن زيدون؛ كل هذا مع دقة مشاعره، جعله يلتهب نارًا، فهو يشعر في كل هذه المعاني، طورًا بألمه في الفراق، وطورًا في عتاب ابن جهور، وغير ذلك، فلئن كان سجنه نقمة عليه، فقد كان نعمة على الأدب. ويظهر أنه في هذه الآونة قال في ولَّادة:

متى أبثك ما بي
يا راحتي وعذابي
متى ينوب لساني
في شرحه عن كتابي
الله يعلم أني
أصبت فيك لما بي
فلا يطيب طعامي
ولا يسوغ شرابي
يا فتنة المتعزي
وحجة المتصابي
الشمس أنت توارت
عن ناظري بالحجاب
ما البدر شف سناه
على رقيق السحاب
إلا كوجهك لَّما
أضاء تحت نقاب

ويقول أيضًا:

ألا هل لنا من بعد هذا التفرق
سبيل، فيشكو كل حب بما لقي
وقد كنت أوقات التزور في الشتا
أبيت على جمر من الشوق محرق
فكيف وقد أمسيت في حال قطعة
لقد عجل المقدور ما كنت أتقي
تمر الليالي لا أرى البين ينقضي
ولا الصبر من رق التشوق معتقي
سقى الله أرضًا قد غدت لك منزلًا
بكل سكوب هاطل الوبل مغدق

ويقول:

شحطنا وما بالدار نأي ولا شحط
وشط بمن نهوى المزار وما شطوا
وأما الكرى مذ لم أزركم فهاجر
زيارته غب وإلمامه فرط
إذا ما كتاب الوجد أشكل سطره
فمن زفرتي شكل ومن عبرتي نقط
مئون من الأيام خمس قطعتها
أسيرًا وإن لم يبدُ شد ولا قحط
بلغت المدى إذ قصروا فقلوبهم
مكامن أضغان أساودها رقط
فررت فإن قالوا: الفرار إرابة
فقد فر موسى حين هم به القبط

ويقول:

فديتكِ ليس لي قلب فأسلو
ولا نفس فآنف إن جفيت
فإن يكن الهوى داءً مميتًا
لمن يهوى فإني مستميت
أسر عليك عتبًا ليس يلقى
وأضمر فيك غيظًا لا يبيت
وما ردي على الواشين إلا
رضيت بحب قاتلتي رضيت

•••

أنَّى أضيع عهدك
أم كيف أخلف وعدك
وقد رأتك الأماني
رضا فلم تتعدَّك
يا ليت ما لك عندي
من الهوى لي عندك
وطال ليلك بعدي
كطول ليلي بعدك
سلي حياتي أهبها
فلست أمك ردك
الدهر عبدي لما
أصبحت في الحب عبدك

ولما كان ابن زيدون مكلوم الفؤاد، معذب القلب بالحب، أجاد في الرثاء كلما أجاد في الغزل، ورأى الرثاء وسيلةً من وسائل دموعه، فله في ديوانه قصائد جيدة في الرثاء، منها رثاء في أستاذه القاضي أبي بكر بن ذكوان وكان قاضيًا عدلًا، مطلعه:

انظر لحال السر وكيف تحال
والدولة العلياء كيف تدال
من سر لما عاش قل متاعه
فالعيش نوم والسرور خيال

ويقول فيها:

نقصت حياتك حين فضلك كامل
هلا استضيف إلى الكمال كمال
من للقضاء يعز في أثنائه
إيضاح مشكلة لها إشكال
من لليتيم تتابعت أرزاؤه
هلك الأب الجاني وضاع المال
هيهات لا عهد كعهدك عائد
إذ أنت في وجه الزمان جمال

ورثى أبا الحزم بن جهور بقصيدة مطلعها:

ألم تر أن الشمس قد ضمها القبر
وأن قد كفانا فقدها القمر البدر

وقال في رثاء أم أبي الوليد بن جهور قصيدة مطلعها:

هو الدهر فاصبر للذي أحدث الدهر
فمن شيم الأحرار في مثلها الصبر
فإن أنثت فالنفس أنثى نفيسة
إذ الجسم لا يسمو بتذكيره ذكر
حصان إذا التقوى استبدت بذكرها
فمن صالح الأعمال يستوضح الدهر

إلخ … إلخ.

ومن مشهور قصائده التي عارضها كثير من الشعراء من بعده، فلم يبلغوا مبلغه، قوله:

أضحى التنائي بديلًا من تدانينا
وناب عن طيب لقيانا تجافينا
ألا٤٣ وقد حان صبح البين صبحنا
حينٌ فقام لنا للحين ناعينا
من مبلغ الملبسينا بانتزاحهم
حزنًا مع الدهر لا يبلى ويبلينا
إن الزمان الذي ما زال يضحكنا
أنسًا بقربهم قد عاد يبكينا
غيظ العدا من تساقينا الهوى فدعوا
بأن نغص فقال الدهر: آمينا
فانحل ما كان معقودًا بأنفسنا
وانْبَتَّ ما كان موصولًا بأيدينا
وقد نكون وما يُخشى تفرقنا
فاليوم نحن وما يرجى تلاقينا
يا ليت شعري ولم نعتب أعاديكم
هل نال حظًّا من العتبى أعادينا؟
بِنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا
شوقًا إليكم ولا جفت مآقينا
تكاد حين تناجيكم ضمائرنا
يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سودًا وكانت بكم بيضًا ليالينا

… إلخ. وكلها على هذا النمط من الجمال.

وله أشعار من نوع آخر غير النمط التقليدي كقوله:

سقى الله أطلال الأحبة بالحمى
وحالك عليها ثوب وشْي منمنما
وأطلع فيها للأزاهر أنجما
فكم رفلت فيها الخرائد كالدمى
إذ العيش غض والزمان غلام
أهيم بجبار يعز وأخضع
شذا المسك من أردانه يتضوَّع
إذا جئت أشكوه الجوى ليس يسمع
فما أنا في شيء من الوصل أطمع
ولا أن يزور المقلتين منام
قضيب من الريحان أثمر بالبدر
لواحظ عينيه ملئن من السحر
وديباج خديه حكى رونق الخمر
وألفاظ في النطق كاللؤلؤ النثر
وريقته في الارتشاف مُدام

ومن قوله أيضًا على النمط المأثور:

يجوز على قلبي هوًى ويجير
ويأمرني: إن الحبيب أمير
أغار عليه من لحاظي صيانة
وأكرمه: إن المحب غيور
أخِفُّ إلى لقيا الحبيب وإنني
لعمرك في جلي الأمور وقور

وقال:

رعى الله من يصلي فؤادي بحبه
سعيرًا وعيني منه في جَنَّة الخلد
غزالية العينين شمسية السنا
كثيبية الرِّدفين غصنية القد
شكوت إليها حبها بمدامعي
وعلمتها ما قد لقيت من الوجد
فجادت وما كادت عليَّ بخدها
وقد ينبع الماء النمير من الصَّلْد
فقلت لها: هاتي ثناياك إنني
أفضل نوَّار الأقاحي على الورد
وميلي على جسمي فانثنت
تعيد الذي أملت منها كما تبدي
فيا ساعةً ما كان أقصر وقتها
لديَّ تقضَّت غير مذمومة العهد

وله يتغزل في ولَّادة أيضًا:

يا نازحات وضمير القلب مثواه
أنستك دنياك عبدًا أنت مولاه
ألهتك عنه فكاهات تلذُّ بها
فليس يجري ببال منك ذكراه
علَّ الليالي تبقيني إلى أمل
الدهر يعلم والأيام معناه

ويقول:

غريب بأقصى الشرق يشكو معصبًا
يحملها منه السلام إلى الغرب
فما ضر أنفاس الصَّبا في احتمالها
سلام فتى يهديه جسم إلى قلب

وحدث أن كان لولَّادة جارية سوداء تغني لها، وربما كانت إرثًا من قصر أبيها، فغازل ابن زيدون هذه الجارية السوداء، فاغتاظت ولَّادة غيظًا شديدًا، وربما فعل ابن زيدون هذا ليثير فيها غريزة الغيرة، فقالت:

لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا
لم تهوَ جاريتي ولم تتخير
وتركت غصنًا مثمرًا بجماله
وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني بدر السما
لكن ولعت لشوقتي بالمشتري

وربما اتصلت ولَّادة هي الأخرى بابن عبدوس انتقامًا منه، وإثارة لغيرته، جزاءً وفاقًا.

ولما علم ابن زيدون أن ابن عبدوس اتصل بها، قال فيه:

أكرم بولَّادة ذخرًا لمدَّخر
لو فرَّقت بين بيطار وعطار
قالوا: أبو عامر أضحى يلم بها
قلت: الفراشة قد تدنو من النار
عيرتمونا بأن قد صار يخلفنا
فيمن نحب وما في ذاك من عار
أكل شهي أصبنا من أطايبه
بعضًا، وبعضًا صفحنا عنه للفار

والظاهر أنها لم تكن تحب ابن عبدوس كابن زيدون، وإنما بهرها ابن عبدوس بماله، أو حدث ما جعلها تغيظ ابن زيدون في التظاهر بحب ابن عبدوس.

على كل حال بقي في السجن على حسب قوله نحو خمسمائة يوم، أي: سنة ونصف تقريبًا، وزارته أمه يومًا في السجن، فبكت وأثارت شجونه، فقال في ذلك قصيدته الجميلة التي مطلعها:

ألم يأن أن يبكي الغمام على مثلي
ويطلب ثأري البرق منصلِتَ النصل
وهل أقامت أنجم الليل مأتمًا
لتندب في الآفاق ما ضاع من نثلي٤٤

ومنها:

ولو أنني أسطيع كي أُرْضِيَ اليدا
شريت ببعض الحلم حظًّا من الجهل

وفيها يخاطب أمه فيقول:

أقِلِّي بكاءً لست أول حرة
طوت بالأسى كشحًا على مضض
وفي أم موسى عبرة أن رمت به
إلى اليم في التابوت فاعتبري واسلي
لعل المليك المجمل الصنع قادرًا
له بعد يأس سوف يجمل صنعًا لي٤٥

ثم استرسل في عتاب ابن جهور. ولكن يظهر أن التهمة التي اتهم بها كانت لم تحتمل الشك، فقد تركه ابن جهور في السجن، وكان لا يفارقه حب ولَّادة، فبعث إليها بقصيدة طويلة يقول فيها:

إني ذكرتُكِ بالزهراء مشتاقًا
والأفق طلق ومرأى الأرض قد راقا
وللنسيم اعتلال في أصائله
كأنه رق لي فاعتل إشفاقًا
والروض عن مائه الفضِّيِّ مبتسم
كما شققت عن اللَّبَّات أطواقا٤٦
كل يهيج لنا ذكرَى تشوقنا
إليك لم يعد عنها الصدر أن ضاقا
لا سكن الله قلبًا عن ذكركم
فلم يطر بجناح الشوق خفاقا
فالآن أحمد ما كنا لعهدكم
سلوتم وبقينا نحن عشاقا

وبعثها إليها فلم ترد عليه، واستشفع بأستاذه الذي ذكرناه قبل، وهو أبو بكر مسلم بن أحمد، ورجاه أن يتوسط له عن ابن جهور، وبعث إليه بقصيدة مرَّ بعضها ويقول فيها:

عليك أبا بكر بكَرْتُ بهمَّة
لها الخطر العالي وإن نالها الحط
أبى بعدما هيل التراب على أبي
ورهطي فذا حين لم يعبق لي رهط
ولولاك لم تقدح زناد قريحتي
فينتهب الظلماء من نارها سقط

•••

أتدنو قطوف الجنتين لمعشر
وغايتي السدر القليل أو الخمط

•••

يولونني عُرض الكراهة والقِلَى
وما دهرهم إلا النفاسة والغمط
وقد وسموني بالتي لست أهلها
ولم يُمْنَ أمثالي بأمثالها قط

•••

وإني لراج أن تعود كبدئها
لي الشيمة الزهراء والخلق السَّبْط
فما لك لا تختصُّني بشفاعة
يلوح على دهري لميسمها علط٤٧

ويظهر أن تدخل أستاذه قد نجح، فقد رأيناه عاد إلى البلاط، ونراه بعد ذلك يمدح ابن جهور، ولكن لم نر ولَّادة قد عادت إلى صداقتها القديمة لابن زيدون، بل نرى أنها انسحبت بعد ذلك من الميدان الأدبي، وعاشت سنين في بيت ابن عبدوس، ورأينا بعد ذلك أن أبا الوليد بن جهور بعد أن مات أبوه وتولى هو مكانه، قد أشفق على ابن زيدون من ضناه في الحب، فأرسله سفيرًا عنه إلى بعض أمراء الأندلس، لعله ينسى حبه.

ثم إن الزمان الذي يشيب كل شاب، ويهرم كل فتًى وفتاة، ويميت كل حي، قد عدا على ولَّادة، فأذهبها نضرة شبابها، ونظرت فإذا هي في الثمانين من عمرها من غير زواج، ولكنها كانت خليلة هذا أو ذاك.

ونظرت أيضًا فرأت أن حرارتها في الحب قد هدأت، وأن من كانوا يحبونها لم يعودوا يتشببون بها؛ لأن الناس إنما كان يعجبهم فيها شبابها، فإذا ولَّى الشباب ولَّى الحب، وسلا ابن زيدون، وسلا ابن عبدوس، وعاشت هي بذكريات أمسها لا بيومها.

وقد روَوْا أن ولَّادة أخذت على ابن زيدون بعض معايب كانت تقصها على الوسطاء، وتعتذر بها عن نَبْوَتِهَا عنه. ولسنا نبرئ ابن زيدون من كل عيب، فلا بد له من عيوب فيه حالت بينه وبين استمرار ولَّادة في حبه، وكثرة الناقمين عليه من أصحابه. والناس يخلطون كثيرًا في الصفات فينسبون إلى النابغة في ناحية كمالًا في النواحي الأخرى، وهذا غير صحيح، فقد يكون زعيمًا كبيرًا، أو شاعرًا عظيمًا في نواحٍ خاصة، على حين أنه ساقط كل السقوط في نواحٍ أخرى، بل قد تكون نقطة قوته نامية على حساب ضعفه في النواحي الأخرى، كالأعمى ينمو سمعه على حساب بصره. ولعل مترجمي ابن زيدون قد وقعوا في هذا الخطأ، فجندوا أنفسهم للدفاع عنه في كل منقصة تنسب إليه، ولعل خصومه كانوا محقين في توجيه اللوم له على بعض تصرفاته، ولكن لعلنا لم نظفر بأشعار ابن زيدون الجميلة إلا لما فيه من مزايا وعيوب، وأي الناس تصفو مشاربه؟!

ولما استطال ابن زيدون مدة سجنه، كتب إلى أبي الوليد بن جهور أن يستشفع له عند أبيه أبي الحزم، فعفا عنه، ثم لما مات أبو الحزم وتولى مكانه ابنه أبو الوليد قربه إليه، ولكن سرعان ما سمع أبو الوليد لأقوال وشاة ابن زيدون؛ وهمَّ بإعادته إلى السجن، فخاف ابن زيدون إذ كان قد ذاق مرارة السجن، واعتزم أن يفرَّ من قرطبة إلى إشبيلية، حيث كان يحكمها المعتضد بن عباد، ولم يشأ أن يفر مفاجأة، فراسل أصدقاءه هناك، والمعتضد نفسه، فوعدوه أن يستقبلوه استقبالًا حسنًا، ففر إليها، وصادف أن كان وقت نزوله عيد الأضحى، فجاشت نفسه بالشعر فقال:

خليلي لا فطر يسُرُّ ولا أضحى
فما حال من أمسى مشوقًا كما أضحى

وظل مدة المعتضد بن عباد مكرمًا معززًا، ولما مات المعتضد رثاه رثاءً طويلًا في قصيدة مطلعها:

أعبَّاد يا أوفى الملوك لقد عدا
عليك زمان من سجيَّته الغدر

وكذلك كان شأنه مع ابنه المعتضد بن عباد. ثم إن حسَّاد ابن زيدون نشطوا من جديد، كشأنهم معه في كل بلد حلَّ فيه، فأرادوا أن يغيروا عليه قلب المعتضد بن عباد، فكانوا يرمون الرُّقع، ويقصدون القصائد في تحذيره من ابن زيدون، فلم يأبه لهم، ولم يسمع لكلامهم، فلما يئسوا من ذلك أوعزوا إلى ابن عباد أن يرسل ابن زيدون في جيش لإخماد فتنة حتى يستريحوا منه، وقالوا لابن عباد: إن له من الشجاعة والفتوة، وحب الناس له ما يجعله أهلًا لذلك. فسمع لكلامهم، فأمره بالسفر مع الجيش مع أنه كان مريضًا، فخضع للأمر، وسافر، وعاد فلم يلبث إلا قليلًا حتى مات رحمه الله … ولابن زيدون ناحية نثرية بديعة سنتكلم عنها في النثر.

(١-٦) ابن عبَّاد

أسرة بني عباد أسرة تنتمي إلى النعمان بن المنذر اللخمي، آخر ملوك الحيرة، الملقب بماء السماء، وكثيرًا ما كان يمدحه الشعراء بماء السماء، مستخدمين الاسم والمعنى، وأفرادها يعتزون بالانتساب إليها، وقد كانوا أشهر ملوك الطوائف، فملكوا إشبيلية وقرطبة، وفيهم يقول القائل:

مِن بني النذرين وهو انتساب
زاد في فخرهم بنو عباد
فتية لم تلد سواها المعالي
والمعالي قليلة الأولاد

عرفوا بالفقه والأدب والشجاعة وعلو الهمة، وكان المعتضد أبو المعتمد شاعرًا، ولكنه دون ابنه المعتمد.

وقد تجمعت للمعتمد أسباب كثيرة ألهبت عواطفه، على اختلاف أنواعها، فهو محب شرِّيب تلعب به عواطف الحب، ثم تلهبها الخمر، ومن ناحية أخرى يعتز أحيانًا في ملكه، فتمدحه الشعراء ويلهبون عنده عواطف المجد والفخر؛ ومن ناحية يفقد ولديه في الحروب، وكانا شابين ماجدين، فتثور عنده عاطفة الحزن، وأخيرًا يذهب عنه عزه وملكه، فيذل بعد العزة، ويهون بعد العلو، ويفتقر بعد الغنى، وينظر لحاله من جميع النواحي، فيرثى لها، ويبكي عليها بكاءً مرًّا، كل هذه الأسباب إذا اجتمعت في شاعر، أنطقته بخير الأقوال، وهو في شعره هذا لا يتملق بمديح، ولا يتزلف لسلطان، إنما يشعر لنفسه، فحياته شعره، وشعره حياته.

ويمكن تقسيم حياته إلى ثلاث فترات:
  • (١)

    حياته الأولى في شبابه، تغمرها مجالس الأنس: خمر ونساء، ومجالس أنس وأدب، وحرب أحيانًا. وهذا قبل أن يتولَّى الملك. وفي هذه الفترة كان يسير مرة مع صديقه الشاعر الكبير ابن عمَّار على شاطئ نهر، فخطر على بال ابن عبَّاد شطر بيت وهو:

    صنع الريح من الماء زرد
    … … … …

ثم أُرتج عليه فام يستطع إكماله، فقال لابن عمار: أَجِزْ. فأُرتج عليه أيضًا، فسمع جارية وراءه تقول:

… … … …
يا له درعًا منيعًا لو جمد

وفي رواية أخرى:

… … … …
أي درع لقتال لو جمد

فالتفت وراءه، فرأى فتاة أعجب بجمالها، وبحسن بديهتها، وكان مولاة يظهر أنها أسرت في الحروب، أو مولَّدة، فسأل عن اسمها، فقيل: إن اسمها «اعتماد»، وكان سيدها يسمى «رُميْك بن الحجاج» فاشتراها منه، وأحبها وملأت قلبه، وشغلت جزءًا كبيرًا من حياته، وتسمى «اعتماد الرُّميْكيَّة». وقد أنجب منها بعض أبنائه فشاركته في نعيمه وبؤسه، ويحكون أنها رغبت مرة أن تسير في طين كعادتها قديمًا، فعمل لها ابن عباد وحلًا من مسك وعنبر وكافور، تدليلًا لها، فلما غضبت مرة كعادة النساء أيام بؤسه وقالت له: «لم أنل منك يوم سرور»، رد عليها وقال: «ولا يوم الطين؟» فخجلت وسكتت.

على كل حال كانت هذه فترة مرح وسرور وترف ونعيم.
  • (٢)
    ثم تولى المُلك، فزاد ترفه ونعيمه وعظمته ومسئوليته، وقصده الناس من كل فج، واتسع ملكه اتساعًا كبيرًا، فضم قرطبة إلى إشبيلية، وفي ذلك الحين قالوا: إنه لم يقف بباب أحد من الشعراء ما وقف ببابه. ثم عدا عليه الزمان الذي لا يرحم، فجاءت فترة قوي فيها ملك الإسبان، حتى وضع الجزية على ابن عباد. وأخيرًا لما أحس ملك الإسبان بقوته رفض أن يأخذ الجزية، وأرسل رسولًا إليه، فضرب ابن عباد الرسول، وقتل من معه، وقال كلمته المشهورة: «لأن أكون راعي جمل عند يوسف بن تاشفين،٤٨ خير من أكون قائدًا كبيرًا عند الأذفونش».

أحس الناس في ذلك الوقت الخطر الداهم عليهم من الإسبانيين، حتى قال قائلهم:

حثوا رواحلكم يأهل أندلس
فما المُقام بها إلا من الغلط
السلك ينثر من أطرافه وأرى
سلك الجزيرة منثورًا من الوسط
من جاور الشر لم يأمن عواقبه
كيف الحياة مع الحيات في سَفَط
فلما سمع رجال الأندلس، أعيانها وفقهاؤها بذلك، اجتمعوا وقالوا: هذه مدن الإسلام قد تغلب عليها الفرنج، وملوكنا يقاتل بعضهم بعضًا، وإن استمر الحال على هذا المنوال ملك الفرنج جميع البلاد، وجاءوا إلى القاضي عبد الله بن محمد بن أدهم، وفاوضوه فيما نزل بالمسلمين، وتشاوروا فيما يفعلون، وآخر ما اجتمع عليه رأيهم أن يكتبوا إلى يوسف بن تاشفين ملك الملثمين «المرابطين» بالمغرب يستنجدونه، فاجتمع القاضي بالمعتمد، وأخبره بما جرى، فوافق على أنه مصلحة، وقال له: تمضي إليه بنفسك، فكتب القاضي إليه، فما لبث ابن تاشفين أن خرج مسرعًا إلى مدينة «سبتة» وعبر هو وعسكره إلى الجزيرة الخضراء، وهي مدينة في بر الأندلس، وأرسل إلى جيوشه أن يلحقوا به، وكتب إلى ابن عباد بذلك، ووقعت وقعة كبيرة بين ابن تاشفين ومن تبعه من رجال الأندلس، وبين الأذْقونش، وهي الوقعة المشهورة بوقعة الزلاقة، وفيها انهزم الإسبانيون ومن معهم بعد قتال شديد، وكان ذلك في سنة ٤٧٩ﻫ، واتخذ هذا عامًا مشهورًا يؤرخون به، فيقولون: «عام الزلاقة». وحارب مع ابن تاشفين ابن عبَّاد، وأبلى بلاءً حسنًا، وجرح مرارًا، وتعرض للموت مرارًا.٤٩
وكان المظنون أن يرحل ابن تاشفين عن الأندلس نهائيًّا بعد انتصاره ويعود إلى بلاده، ولكن أطمعه أصحابه في البلاد فسمع لقولهم بعد أن رأى ثروتها ونضارتها، وكثرة مالها، وربما فكر أيضًا من ناحية صلاح المسلمين، فرأى أن البلاد مقسَّمة إلى أمراء لا رابطة بينهم، وأنهم بهذا الوضع لا يستطيعون أن يصدوا الإسبانيين، وأن القوة في الوحدة؛ فعزم أن يزيل ملوك الطوائف، ويضع يده على البلاد. وأيًّا ما كان فقد رحل يوسف بن تاشفين، ثم عاد إلى الأندلس ببرْبَرِه الأجلاف، وأزال ملوك الطوائف، ومن بينهم المعتمد بن عباد.
  • (٣)

    قاتل ابن عباد أشد قتال، دفاعًا عن بلاده، حتى اضطربت إشبيلية اضطرابًا خرج الناس معه من منازلهم، وبعضهم ألقى نفسه في البحر. وفي ذلك يقول:

    لما تماسكت الدموع
    وتنهنه القلب الصديع
    قالوا: الخضوع سياسة
    فليبدُ منك لهم خضوع
    وألذ من طعم الخضو
    ع على فمي السم النقيع
    إن تستلب عني الدُّنا
    ملكي وتسلمني الدموع
    فالقلب بين ضلوعه
    لم تسلم القلب الضُّلوع
    لم أستلب شرف الطبا
    ع أيسلب الشرف الرفيع
    قد رمت يوم نزالهم
    ألا تحصِّنني الدروع
    وبرزت ليس سوى القميـ
    ـص عن الحشا شيءٌ دفوع
    وبذلت نفسي كي تسيـ
    ـل إذا يسيل بها النجيع
    أجلي تأخر لم يكن
    بهواي ذلي والخشوع
    ما سرت قط إلى القتا
    ل وكان من أملي الرجوع
    شيم الألى أنا منهم
    والأصل تتبعه الفروع

وشنت الغارة في البلد، ولم يترك البربر لأحد من أهلها ثبدًا ولا لبدًا، وانتُهِبت قصور المعتمد نهبًا قبيحًا، وأُخذ هو وأهله ووضعوا في السفن، وكان له ولدان؛ المعتمد بالله، والراضي بالله، وكانا بمعقلين من معاقل الأندلس المشهورة، لو شاءا أن يمتنعا بهما، لم يصل أحد إليهما، فضيق على المعتمد بن عباد، وأُثقل بالحديد، ليكتب لابنيه بأن يسلِّما، فلما أكثر أبوهما من ذلك استسلما، ثم قتلا غيلة. وللمعتمد شعر كثير في رثاء ولديه هذين، كقوله:

يقولون صبر لا سبيل إلى الصبر
سأبكي وأبكي ما تطاول من عمري
هوى الكوكبان الفتح ثم شقيقه
يزيد فهل بعد الكواكب من صبر
أفتح لقد فتحت لي باب رحمة
كما بيزيد الله قد زاد في أجري
هوَى بكما المقدار عني ولم أمت
وأُدْعَى وفيًّا! قد نكصت إلى الغدر
تولَّيتما والسن بعد صغيرة
ولم تلبث الأيام أن صغرت قدري
فلو عدتما لاخترتما العود في الثرى
إذا أنتما أبصرتماني في الأسر
يعيد على سمعي الحديد نشيجه
ثقيلًا، فتبكي العين بالحس والنَّقْر
معي الأخوات الهالكات عليكما
وأمكما الثكلى المضرمة الصدر
فتبكي بدمع ليس للقطر مثله
وتزجرها التقوى فتُصغي إلى الزجر
أبا خالد أورثتني البث خالدًا
أبا النصر مذ ودعت ودَّعني نصري٥٠
وقبلكما ما أودع القلب حسرة
تجدَّد طول الدهر، ثُكل أبي عمرو٥١

ولما انهزم ابن عباد، وخرج بجواريه وأمواله، أخذ الناس يبكون بدموع غزار عندما علموا بخروجه، وقال في ذلك الشاعر المشهور ابن اللَّبَّابة قصيدة مطلعها:

تبكي السماء بدمع رائح غادي
على البهاليل من أبناء عبَّاد

ومنها:

يا ضيف أفقَر بيت المكرُمات فخذ
في ضم رحلك واجمع فضلة الزاد

وقال ابن حَمْدِيس:

ولما رحلتم بالندى في أكفِّكم
وقلقل رضوى منكم وثبير
رفعتُ لساني ﺑ «القيامة قد دنت»
فهذي الجبال الراسيات تسير

وأُخرج من ملكه، ووضع في بلدة تسمى «أغماتْ» قرب مراكش، وقال في ذلك أبو بكر الداني وهو ابن اللبانة أيضًا:

لكل شيء من الأشياء ميقات
وللمنى من مناياهن غايات
والدهر في صبغة الحرباء منغمس
ألوان حالاته فيها استحالات
ونحن من لعب الشطرنج في يده
وربما قمرت بالبيدق الشاة
انفض يديك من الدنيا وساكنها
فالأرض قد أقفرت والناس قد ماتوا
وملء لعالمها الأرضي قد كتمت
سريرة العالم العلوي أغمات

فكان في أسره فقيرًا معذبًا، وما زال حاله يسوء حتى أصبح في عيشة ضنك … مر العيد عليه مرة، فذكر ما هو فيه من بؤس، وما كان فيه من عز، فقال:

فيما مضى كنت بالأعياد مسرورا
فساءك العيد في أغمات مأسورا
ترى بناتك في الأطمار جائعة
يغزلن للناس لا يملكن قطميرا
برزن نحوك للتسليم خاشعة
أبصارهن حسيرات مكاسيرا
يطأن في الطين والأقدام حافية
كأنها لم تطأ مسكًا وكافورا
قد كان دهرك إن تأمره ممتثلًا
فردك الدهر منهيًّا ومأمورا
من بات بعدك في ملك يسر به
فإنما بات بالأحلام مغروا

وثقلت عليه القيود مرة، وعضَّت ساقيه، فقال:

قيدي: أما تعلمني مسلمًا
أبيت أن تُشفق أو ترحما
دمي شراب لك واللحم قد
أكلته! لا تهشم الأعظما
يبصرني فيك أبو هاشم
فينثني والقلب قد هشما
ارحم طفيلًا طائشًا لبه
لم يخش أن يأتيك مسترحما
وارحم أخيَّات له مثله
جرعتهن السم والعلقما
منهن من يفهم شيئًا فقد
خفنا عليه للبكاء العمى
والغير لا يفهم شيئًا فما
يفتح إلا لرضاع فما

والغريب أن الشعراء لم يخجلوا أن يسألوه وهو على تلك الحال فقال:

سألوا اليسير من الأسير وإنه
بسؤالهم لأحق منهم فاعجب
لولا الحياء وعزة لخْمِيَّة
طَيَّ الحشا لحكاهم في المطلب

وهكذا كان كل شيء يذكره بماضيه، فيُشعر فيه، وشعره كله صادق، إن كان في لهوه وعزه فشعره عزة ولهو، وإن مات بعض أولاده فشعره رثاء وحنين، وإن وقف فارسًا في موقف البطولة فشعره بطولة، وإن أُسر وسجن فشعره بكاء وحزن وذكر لماضٍ، وكلها أدب صادق حي، يستطيع القارئ أن يلحظ هذه الفترات كلها في شعره، فهو ظل له. فإن رأيت غزلًا هادئًا، وحبًّا صادقًا، فذلك في الفترة الأولى، مثل قوله:

فتكت مقلتاه بالقلب مني
وبكت مقلتاي شوقًا إليه
فحكى لحظه لنا سيف عبَّا
د ولحظي له سحاب يديه

وقوله:

كتبت وعندي من فراقك ما عندي
وفي كبدي ما فيه من لوعة الوجد
وما خطت الأقلام إلا وأدمعي
تخُط سطور الشوق في صفحة الخد
ولولا طلاب المجد زرتك طيه
عميدًا كما زار النَّدى ورق الورد

ومثل قوله:

ولقد شربت الراح يسطع نورها
والليل قد مد الظلام رداء
حتى تبدَّى البدر في جوزائه
ملكًا تناهى بهجة وبهاء
وتناهضت زهر النجوم يحفه
لألاؤها فاستكمل اللألاء
لما أراد تنزُّها في غربه
جعل المظلة فوقه الجوزاء
وترى الكواكب كالمواكب حوله
رفعت ثرياها عليه لواء
وحكيته في الأرض بين مواكب
وكواعب جمعت سنا وسناء
إن نشرت تلك الدروع حنادسًا
ملأت لنا هذي الكئوس ضياء
وإذا تغنت هذه في مزهر
لم تأل تلك على التَّريك غناء

وقوله:

يا صفوتي من البشر
يا كوكبًا، بل يا قمر
يا غصنة إذا مشت
يا رشأ إذا نظر
يا نفس الروضة قد
هبَّت لها ريح سحر
يا رَّبة اللحظ الذي
شد وثاقًا إذ فتر
متى أداوي بندا
ي السمع مني والبصر
ما بفؤادي من جوًى
بما بفيك من خصَر

وإذا رأيت شعره فخرًا وشممًا مملوءًا حماسة أو رثاءً فذلك في الفترة الثانية، وإذا رأيت بكاءً على الماضي، ومقارنة بين ماضٍ زاهر، وحاضر بائس فاعلم أن هذا ظل للفترة الثالثة كقوله:

قُبِّح الدهر فماذا صنعا
كلما أعطى نفيسًا نزعا
قد هوى ظلمًا بمن عادته
أن ينادي كل من يهوى «لَعَا»
راح لا يملك إلا دعوة
جبر الله العفاة الضيَّعا

وقوله:

بكيت إلى سرب القطا إذا مَرَرْن بي
سوارح لا سجن يعوق ولا كبل
ولم يك والله المعيد حسادة
ولكن حنينًا أن شكلي لها شكل

•••

لنفسي إلى لُقْيا الحمام تشوُّق
سوائي بحب العيش في ساقه حجل
ألا عصم الله القطا في فراخها
فإن فراخي خانها الماء والظل

وقوله:

كنت حلف النَّدا ورب السماح
وحبيب النفوس والأرواح
إذ بيميني للبذل يوم العطايا
ولقبْض الأرواح يوْم الكفاح

•••

وأنا اليوم رهن أسر وفقر
مستباح الحِمَى مهيض الجناح
لا أجيب الصريخ إن حضر النا
س ولا المعتفين يوم السماح
عاد بشري الذي عهدت عبوسًا
شغلتني الأشجان عن أراحي
فالتماحي إلى العيون كريه
ولقد كان نزهة اللَّماح

… إلخ.

وشعره من روح شعر ابن زيدون، وقد كانا متعاصرين، وكان ابن زيدون يمدح ابن عبَّاد، فلئن كان ابن عباد أرفع شأنًا وأعلى نفْسًا فابن زيدون أغزر معنًى، وأطول نفَسًا.

وتبعة ابن تاشفين قوية على كل حال، فمهما كانت الأسباب التي حملت على إزالة ملوك الطوائف، سواء كانت أسبابًا وضيعة كحبه لمال الأندلس وخيراتها، أو كانت أسبابًا شريفة كتوحيد المملكة ضد أعدائه، فقد كان يستطيع أن يحبس ابن عباد في قصر فخم يليق به، من غير قيود وأغلال، ويجري عليه من الرزق ما يكفيه عن سعة. وبذلك يضمن تحصيل رغبته، ويخفف من وقع الألم عن ابن عباد، ولكنه بدوي جلف، لا يفهم كثيرًا معنى الإنسانية.

وقد كان حول ابن عبَّاد شعراء كثيرون يمدحون ويلهون معه، وهو فيهم كالبدر حوله الهالة، من أشهرهم ابن عمَّار، وابن زيدون وابن اللبَّانة، والحصري، وابن حمديس الصقلي، وعلي بن حصن وغيرهم. فابن عمار شاعر كبير، ويظهر أنه نشأ نشأة فقيرة في شِلْب وقرطبة، أخذ يتجول في بلاد الأندلس، يمدحهم وينال منهم، حتى حط رحاله عند المعتمد بن عباد، فوجد منه ابن عباد أنيسًا لطيفًا، وسميرًا وأديبًا، يشعر فيما يشعر فيه ابن عباد، غاية الأمر أن ابن عمار خضع لنشأته الفقيرة، فكان لا يأمن الدهر، ولا يطمئن إليه، ولكنه مع ذلك كان يشارك ابن عباد في التِهام المسرات، فأخذ يمدحه ويقول فيه مثلًا:

أدر الزجاجة فالنسيم قد انبرى
والنجم قد صرف العنان عن السُّرَى
والصبح قد أهدى لنا كافوره
لما استرد الليل منَّا العنبرا
والروض كالحسنا كساه زهره
وشيًا وقلده نداه الجوهرا
أو كالغلام زها بورد رياضه
خجلًا وتاه بآسِهِنَّ معذَّرا
روض كأن النهر فيه معصم
صاف أطَل على رداء أخضرا
وتهزُّه ريح الصبا فتخاله
سيف ابن عباد يبدِّد عسكرا
ملك إذا ازدحم الملوك بمورد
ونحاه لا يردون حتى يصدرا

كان المعتمد بن عباد واليًا أول الأمر على إشبيلية من قِبَل أبيه المعتضد، فصاحبه ابن عمار، وحضه على الإسراف في الترف والنعيم، واللهو والمجون، فلما علم المعتضد بذلك أراد أن يصرفه عن ابنه، حتى يلتفت إلى أمور الولاية، فنفاه عن إشبيلية، فلما مات المعتضد وصار الأمر للمعتمد استقدمه إلى غرناطة وجعله شاعره كما كان، وجعله وزيرًا له، ولكن يظهر أنه كان طموحًا وكان شجاعًا غازيًا، ويظهر أنه قد حدثته نفسه أن يحل محل سيده ابن عباد، فاتهموه بأنه يدبر الدسائس لذلك، وكان له أعداء في البلاط يدسون له ويدس لهم كابن زيدون. وأخيرًا وبعد جملة حوادث غضب عليه الأمير ابن عباد وقتله. وله شعر كثير مبثوث في كتب الأدب يدل على عظيم شاعريته وانتحائه منحى أميره. ولم يكن ابن عباد فيما يظهر متجنيًا، فقد عثر على قصيدة لابن عمار عنيفة جدًّا ذم فيها المعتمد وآله وزوجه، ويظهر أن بلاط الأمراء كعادته مملوء بالدسائس والأكاذيب والفتن، وهذا الذي وقع لابن عمار وقع قريبًا منه لابن زيدون كما ذكرنا ذلك من قبل.

وأما ابن اللبانة فكان شاعرًا كبيرًا، وكان أستاذًا لابن زيدون. وأكبر ما يؤثر عنه في هذه الكارثة أنه وصف وصفًا مؤثرًا رحيل ابن عباد لما وقع أسيرًا في يد المرابطين ونفيت أسرته، قال:

حموا حريمهم حتى إذا غلبوا
سيقوا على نسق في حبل مرتاد
وأنزلوا عن متون الشهب واحتملوا
فُويْق دُهْم لتلك الخيل أنداد
وعيث في كل طوق من دروعهم
فصيغ منهن أغلال لأجياد
والناس قد ملئوا العبرين واعتبروا
من لؤلؤ طافيات فوق أزياد
حط القناع فلم تستر مخدَّرة
ومزقت أوجه تمزيق أبراد
حان الوداع فضجت كل صارخة
وصارخ من مُفَدَّاة ومن فادي
سارت سفائنهم والنوم يصحبها
كأنها إبل يحدو بها الحادي
كم سال في الماء من دمع وكم حملت
تلك القطائع من قطعات أكباد
من لي بكم يا بني ماء السماء إذا
ماء السماء أبى سقيًا حشا الصادي

وأما الحصري فهو صاحب «زهر الآداب» المشهور، وقد أُخذ عليه أنه استجدى ابن عباد من منفاه، وكان فقيرًا، فأخذت ابن عباد أريحيته وبعث إليه بكل ما معه، وبعث مع ذلك بقطعة يعتذر فيها عن قلة ما منحه. واستبشع مؤرخو الأدب فعلة الحصري وقالوا: «إنه جرى مع المعتمد على سوء عادته، من قُبح الكُدية، وإفراط الإلحاف».

وأما ابن حمديس فصقلي الأصل، ولد حوالي سنة ٤٤٧ﻫ في سرقوسة بصقلية، واشتهر بالشعر من صغره، ولما سقطت صقلية في يد النورمانديين سنة ٤٧١ﻫ فرَّ ابن حمديس إلى الأندلس، وكان شاعرًا في بلاط المعتمد أيام كان أميرًا على إشبيلية، فلما أصيب ابن عباد بالمحنة وفَى له ابن حمديس، وعاش معه. وله ديوان شعر كبير، نشره «أَمَارِي» وهو يمثل حياته حينما عاش في صقلية، وحينما كان في بلاط ابن عباد في إشبيلية، وحين كان مع ابن عباد في سجنه.

أما علي بن حصن فهو شاعر يمثل خاصة شعراء الأندلس في التكلُّف في الاستعارة والاصطناع في التشبيه، كقوله يصف فرخ حمام:

وما هاجني إلا ابن ورقاء هاتف
على فنن بين الجزيرة والنهر
مُفَستَق طوقٍ لازَوَرْدي كلكلٍ
موشَّى الطَّلا أحوى القوادم والظهر
أدار على الياقوت أجفان لؤلؤ
وصاغ من العقيان طوقًا على الثغر
جديد شبا المنقار داجٍ كأنه
شبا قلم من فضة مُد في حبر
توسد من فرع الأراك أريكة
ونام على طي الجناح مع النحر
ولما رأى دمعي مراقًا أرابه
بكائي فاستولى على الغصن النضر
وحث جناحيه وصفق طائرًا
وطار بقلبي حيث طار ولا أدري

وهو نوع من الشعر لا أحبه؛ لأنه لا يدل على عاطفة صادقة، وإنما يدل على لعب بهلوانية.

وعلى الجملة فقد كان ابن عباد أيام نعيمه وأيام بؤسه نعمة على الأدب بما قاله في وصف مشاعره، وبما قاله الأدباء فيه.

(١-٧) ابن سهل

هو إبراهيم بن سهل الإسرائيلي، كان إسرائيليًّا فأسلم وتعلم العلم عن رجال الأندلس، وكانت حلقات العلم شائعة بين المسلمين والنصارى واليهود، لا يحجب عنها من أراد، فمن أساتيذه مثلًا أبو علي الشلوبيني، واشتهر ابن سهل بهوى يهودي اسمه موسى، كاد يخصص فيه كل شعره، فأعاد لنا ذكرى أبي نواس في شعره في المذكر، غير أن ابن سهل كان أسهل لفظًا، وأحسن معنًى، أما أبو نواس فكان أجزل لفظًا، وأمرح في غزله نفسًا، وكان أبو نواس متعدد النواحي، يقول في المديح وفي الرثاء وفي غزل المذكر والمؤنث، وفي الزهد. أما هذا فشعره كله تقريبًا في غزله في محبوبه موسى، وهو في الرقة كابن زيدون. وقد قالوا: إنه أحب بعد ذلك فتى اسمه محمد، وقال في التورية في ذلك:

تركت هوى موسى لحب محمد
ولولا هدى الرحمن ما كنت أهتدي
وما عن قِلى منِّي تركت وإنما
شريعة موسى عُطِّلت بمحمد

ومن شعره:

ردوا على طرفي النوم الذي سلبا
وخبروني بقلبي أيةً ذهبا
علمت لما رضيت الحب منزلة
أن المنام على عينيَّ قد غضبا
إني له عن دمي المسفوك معتذر
أقول حملته في سفكه تعبا
نفسي تلذ الأسى فيد وتألفه
هل تعلمون لنفسي في الجوى نسبا
قالوا: عهدناك من أهل الرشاد فما
أغواك؟ قلت: اطلبوا في لحظه السببا
من صاغه الله من ماء الحياة وقد
أجرى بقيته في ثغره شنبا
كم ليلة بتُّها والنجم يشهد لي
رهين شوق إذا غالبته غلبا
مردِّدا في الدجى لهفًا ولو نطقت
نجومها رددت من حالتي عجبا
ماذا ترى في محب ما ذكرت له
إلا بكى أو شكا أو حَنَّ أو طربا؟

وقوله:

كأن الحال في وجنات موسى
سواد العتب في نور الوداد
أخط لصدغه في الحسن واوًا
قنقطة خاله بعض المداد
لواحظه محيرة ولكن
بها اهتدت الشجون إلى فؤادي

وقوله:

بكيت على النهر أخفي الدموع
فعرَّضها لونها للظهور
وقفت سُحيرًا وغالبت شوقي
ونادى الأسى حسنه: مَن مجير؟
أنار وقد نفحت زفرتي
فصار الغدو كوقت الهجير
أموسى: تَهنَّ نعيم الكرى
فليلي بعدك ليل ضرير

وقوله:

سل في الظلام أخاك البدر عن سهري
تدري النجوم كما تدري الورى خبري
أبيت أسجع بالشكوى وأشرب من
بين الرياض وبين الكاس والوتر
بعض المحاسن يهوى بعضها، عجبًا
تأملوا كيف هام الغنج بالخفر
إن تقصني فنفار جاء من رشأ
أو تضنني فمحاق جاء من قمر

وقال:

وإني لثوب الحزن أجدر لابس
وموسى لثوب الحسن أحسن مرتدي
تأمل لظى شوقي وموسى يشبُّها
«تجد خير نار عندها خير موقد»
إذا ما رنا شزرًا فقل: لحظ أحور
وإن يلو إعراضًا فصفحة أغيد
وعذَّب بالي أنعم الله باله
وسهَّدني، لا ذاق طعم التسهد
شكوت فجاءوا بالطبيب وإنما
طبيب سقامي في لواحظ مسعد

إلى أن يقول:

وكان الهوى ما بين عينيك كامنًا
كمون المنايا في الحسام المهند
أظل ويومي فيك هجر ووحشة
ويومي بحمد الله أحسن من غدي
وصالك أشهى من معاودة الصبا
وأطيب من عيش الزمان الممهد
عليك فطمت العين من لذة الكرى
وأخرجت قلبي طيب النفس من يدي

ويقول:

يقولون: لو قبَّلته لاشتفى الجوى
أيطمع في التقبيل من يعشق البدرا
ولو غفل الواشي لقبلت نعله
أنزهه أن أذكر الجِيد والثغرا
وما أنا من يستحمل٥٢ الريح سره
أغار حفاظًا أن أذيع له سرَّا
إذا فئة العذال جاءت بسحرها
ففي وجه موسى آية تبطل السحر

وقال فيه موشحات أيضًا ربما تذكر بعضها بعد، وقد مات غريقًا سنة ٦٤٩ﻫ قبل سقوط الأندلس بقليل، وشعره يدل على أن الأندلس انهارت سياسيًّا بتفرق أهلها وأمرائها، ولكن لم تسقط أدبيًّا.

(١-٨) ابن قُزْمان

هو شاعر من نوع آخر. لئن كان الذين سبقوا شعروا لخلفاء وأمراء ووزراء وعلماء، أو شعروا لأنفسهم من غزل ونسيب ونحو ذلك فابن قزمان شعر للشعب، وقد رأى أن يطرب الناس بالزجل والموشحات، فقال في ذلك شعرًا، وجال به في الآفاق، فنراه في إشبيلية وقرطبة وبلنسية وغير ذلك من البلاد، ويظهر أنه كان من صميم الشعب، وإن كان بعض المترجمين لقبه بالوزير، فيظهر أن أكثر من واحد لُقب بابن قزمان. وإذ كان ديوانه باللهجة الشعبية، ولهجة الأندلس تخالف بقية اللهجات، كان فهم ديوانه عسيرًا. يضاف إلى ذلك أن الأزجال والموشحات وأدب الشعب على العموم ليس كالأدب الكلاسيكي، وديوانه طرفة من الطرف الشعبية، لولا أن لغته الدارجة صعبة الفهم علينا؛ لأن فيها تعبيرات أندلسية تخالف ما لنا، وهذا عيب اللغة الدارجة، فلئن كانت اللغة الفصحى قدرًا شائعًا بين المتكلمين باللغة العربية في جميع الأقطار، فاللغة الدارجة لهجة محلية قلَّ أن يفهمها إلا أهلها. وهذا الديوان يخرج عن حد الوقار كديوان ابن حجاج وابن سكرة، يشيع فيه الفحش والعبث ولا يخضع لأي نوع من أنواع المنطق، ولما استحسنها الشعب لانسجامها مع ذوقه شاعت بينهم، وترفعت عنه الفئة المهذبة المثقفة.

والأدب الشعبي يُسمع أحسن مما يقرأ؛ لذلك صعبت قطع كثيرة في ديوانه عن أن تفهم. وقد عُني بعض المستشرقين بشعره كثيرًا؛ لأن شعره أكثر دلالة على حالات الشعب من الشعر الكلاسيكي. والغالب أنه كتب باللغة القرطبية وهو مجال دراسة طويلة لمن يريد أن يدرس الزجل والموشحات، وتدل أشعاره على فقره وتعبه في الحياة، ومجاهدته في تحصيل العيش، ولا يزال ديوانه المنشور موضع دراسات كثيرة من نواحٍ مختلفة مع التصحيح والتعليق، وعلى يده تقدم الزجل والموشحات، ويظهر من ديوانه أنه مثقف ثقافة أدبية، فهو يذكر أسماء كثيرة من الشعراء وهو يذكرنا بزجَّالي مصر الأدباء، أمثال النجار، والقوصي.

ومن قوله:

يملك الفارس رمحًا بيد
وأنا أمسك فيها قصبه
فكلانا بطل في حربه
إن الأقلام رماح الكتبه

وطلب منه صديق أن يدعوه إلى مجلس مؤانسة فقال:

أتى من المجد أمر لا مرد له
نمشي على الرأس فيه لا على قدم
رقز٥٣ ورقص وما أحببت من ملح
عندي وأكثر ما تدريه من شيمي
حتى يكون كلام الحاضرين بها
عند الصباح وما بالعهد من قدم
«يا ليلة السفح هلَّا عدت ثانية
سقى زمانك هطَّال من الدِّيم»٥٤

ويقول:

لا تطمئن إلى أحد
واحذر وشمر واستعد
فالكل كلب مؤسد
إلا إذا وجدوا أسد

وهو عادة يخلط المديح بالغزل، بالطلب، بالفكاهة، وهكذا. وسنأتي أمثلة من زجله وموشحاته عند الكلام على الزجل والموشحات.

هذا الذي ذكرنا يمثل إلا شعر الشعراء الذي تخصصوا للشعر، مع أن جزءًا كبيرًا من الشعر صدر عن جماعة غير متخصصين له، لا بد أن نضيف نموذجًا منه، فمثلًا يقول أحدهم في ساقية:

لله دولاب يفيض بسلسل
في جنة قد أينعت أفنانا
أضحت تطارحه الحمائم شجوها
فيجيبها ويرجع الألحانا
وكأنه دنف أطاف بمعهد
يبكي ويسأل فيه عمن بانا
ضاقت مجاري جفنه عن دمعه
فتفتقت أضلاعه أجفانا

ويقول آخر في زجاجة سوداء:

سأشكو إلى الندمان أمر زجاجة
تردت بثوب حالك اللون أسحم
صببت بها شمس المدامة بيننا
فتغرب في جنح من الليل مظلم
وتجحد أنوا الحمَيَّا بلونها
كقلب حسود جاحد يد منعم

ويقول آخر في الخال:

ألُوَّامي على كلفي بيَحيَى
متى من حبه أرجو سراحا
وبين الخد والشفتين خال
كزنجي أتى روضًا صباحا
تحير في جناه فليس يدري
أيجني الورد أم يجني الأقاحا

ويقول آخر في مشهد حب:

يا حسنه والحسن بعض صفاته
والسحر مقصور على حركاته
بدر لو انَّ البدر قيل له: اقترح
أملًا، لقال: أكون من هالاته
وإذا هلال الأفق قابل شخصه
أبصرته كالشكل في مرآته
والخال ينقط في صحيفة خذه
ما خط فيها الصدغ من نوناته
صاحبته والليل يدني تحته
نارين من نفسي ومن وجناته
وضممته ضم البخيل لماله
أحنو عليه من جميع جهاته
أو ثقته في ساعدي؛ لأنه
ظبيٌ أخاف عليه من فلتاته
وأبى عفافي أن أقَبِّل ثغره
والقلب مطوي على جمراته
فاعجب لملتهب الجوانح غلة
يشكو الظما والماء في لهواته

وقال آخر في وصف الحبيب:

وُضعتْ في الزجاج فالتهبت
وكسته ثوبًا من اللهب
وعلا فوقها الحباب فلم
تبصر العين مثل ذا العجب
ضرم النار فوقه برد
كائن عنه منه في النسم

وقال آخر في وصف زورق:

وسابح بان لا تُثنى قوائمه
كالصقر ينحط مذعورًا لثعبان
كأنه مقلة للجو شاخصة
ومن مجاذيفه أهداب أجفان

… إلخ.

فكان غير الشعراء الرسميين يتظرَّفون بذكر ما يعرض من مناظر، وفي مجالس الأنس وفي الغزل، لا في المديح وأمثاله، مما تركوه للشعراء الرسميين. وهذا الذي فعله غير الرسميين أقرب إلى معنى الشعر. وعلى العموم فهو يكمل الصورة التي للشعر الأندلسي.

(٢) الموشحات والأزجال

بقي الشعر في الأندلس مقلِّدًا للشعر الكلاسيكي في الشرق، ثم سبق الأندلسُ إلى نوع طريف من الشعر الشعبي، هو الموشحات والأزجال، لا يقصدون منهما إلى المثقفين وحدهم، بل يقصدون بهما الشعب كله، عالمه وعاميه، ولا يزال البحث مستمرًّا في علة ذلك، وسبب ظهوره، وهل كان اختراعه عربيًّا بحتًا، أو متأثرًا بآداب أخرى مجاورة. على كل حال تمتاز الموشحات بطابع مخصوص من الأوزان والتقاطيع، غير الأنواع المألوفة في الشعر القديم.

وقد عقد ابن خلود فصلًا دقيقًا في مقدمته في الشعر، تعرَّض فيه للموشحات والأزجال، ملخص ما قاله: إنهم في الموشحات «ينظمونها أسماطًا أسماطًا، وأغصانًا أغصانًا، ينْسُبون فيها ويمدحون، كما يُفعل في القصائد، وقد استظرفها الناس وجملة الخاصة والكافة، لسهولة تناولها، وقرب طريقها، وكان المخترع لها في جزيرة الأندلس مقدِّم بن معافى القبْري، من شعراء الأمير عبد الله بن محمد، وأخذ عنه ذلك ابن عبد ربه صاحب العقد، ثم برع في هذا الشأن بعدهما عبادة القزاز، شاعر المعتصم بن صُماح، ثم جاءت الحلبَة التي كانت في أيام الملثمين «المرابطين» فظهرت لهم البدائع».

ولنذكر بعض الأمثلة من هذه الموشحات:

موشحة منسوبة لابن زهر:

أيها الساقي إليك المشتكى
قد دعوناك وإن لم تسمع
ونديمٍ همتُ في غرته
ويشرب الراح من راحته
كلما استيقظ من سكرته
جذب الزق إليه واتكا
وسقاني أربعًا في أربع
ما لعيني عشِيَتْ بالنظر
أنكرَت بعدك ضوء القمر
فإذا ما شئت فاسمع خبري
عشيَت عيناي من طول البكا
وبكى بعضي على بعضي معي
غصن بانٍ مال من حيث التَوَى
بات من يهواه من فرط الجوى
خفق الأحشاء موهون القوى
كلما فكر في البين بكى
ويحه يبكي لما لم يقع
ليس لي صبر ولا لي جلد
يا لقومي عَذَلوا واجتهدوا
أنكروا دعواي مما أجد
مثل حالي حقه أن يشتكي
كمد اليأس وذل الطمع
كبدٌ حرَّى ودمعٌ يكف
يذرف الدمع ولا ينذرف
أيها المعرض عما أصف
قد نما حبي بقلبي وزكا
لا تخل في الحب أني مدَّعي

ولابن سهل الإسرائيلي الأندلسي:

هل دَرى ظبي الحِمَا أن قد حِميَ
قلب صب حله من مكنس
فهو في حر وخفق مثلما
لعبت ريح الصبا بالقبس
يا بدورًا أشرقت يوم النوَى
غررًا تسلك بي نهج الغرر
ما لنفسي في الهوى ذنب سوى
منكم الحسنى ومن عيني النظر
أجتني اللذات مكلوم الجوى
والتداني من حبيبي بالفكر
كلمات أشكوه وجدي بَسَمَا
كالرُّبا بالعارض المنبجس
إذ يقيم القطر فيها مأتمًا
وهي من بهجتها في عرس

… إلخ.

وقال لسان الدين بن الخطيب:

جادك الغيث إذا الغيث همَى
يا زمان الوصل بالأندلس
لم يكن وصلك إلا حُلُمًا
في الكرى أو خِلْسة المختلس

•••

إذ يقود الدهر أشتات المُنى
ينقل الخطو على ما يرسم
زمرًا بين فرادى وثنى
مثلما يدعو الوفود الموسم
والحيا قد جلَّل الروض سَني
فثغور الروض عنه تبسِم
ورَوَى النعمان عن ماء السما
كيف يروي مالك عن أنس
فكساه الحسن ثوبًا مُعْلَما
يزدَهي عنه بأبهى ملبس

ولأبي بكر الأبيض الوشَّاح:

ما لذَّ لي شرب راح
مما أباد القلوبا
على رياض الأقاح
يمشي لنا مُستريبا
لولا هضيم الوشاح
يا لحظه رد نوبا
إذا أسا في الصباح
ويا لماه الشَّنيبا
أو في الأصيل
برِّد غليل
أضحى يقول:
صب عليل
ما للشمول
لا يستحيل
لطمت خدي
فيه عن عهدي
وللشمال
ولا يزال
هبَّت فمال
في كل حال
هبت اعتدال
يرجو الوصال
ضمه بردي
وهو في الصَّد

وقد انتقل فن الموشحات والأزجال من الأندلس إلى سائر البلاد الشرقية، وكل نظمه بلغته لاختلاف اللغات الدارجة في الأمصار، فإن أزجال ابن قزمان وموشحات الأندلس كانت تروى في جميع البلاد. قال ابن سعيد: ورأيت أزجال ابن قزمان مروية ببغداد أكثر مما رأيتها بحواضر المغرب، فاشتهر في تونس مثلًا مَدْغلِّيس، فقال في زجله:

ورَذاذ دِقْ ينزل
وشعاع الشمس يضرب
فترى الواحد يفضَّض
وترى الآخر يذَهَّب
والنبات يشرب ويسكر
والغصون ترقُص وتطرب
وتريد تيجي إلينا
ثم تستِحيي وتهرب

ووضع ابن سنا الملك المصري موشحة أولها:

حبيبي ارفع حجاب النور
عن العذار
ننظر المسك على الكافور
في جُلَّنار
كلِّلي يا سحب تيجان الربا بالحلي
واجعلي سوارها منعطف الجدول

وقال أحد أهل فاس:

المال زينة الدنيا وعز النفوس
يبهي وجوهًا ليس هي باهيهْ
فها كل من هو كثير الفلوس
ولَّوه الكلام والرتبة العاليهْ
يكبَّروا من كُتُر ماله ولو كان صغيرْ
ويصغروا عزيز القوم إذا يفتقر
من ذا ينطبق صدري ومن ذا يغير
وكاد ينفقع لولا الرجوع للقدر
حتى يلتجي من هو في قومه كبير
لمن لا أصل عندُو ولا لو خطر

وعلى أساس الزجل هذا اخترع عامة بغداد فنًّا من الشعر سمَّوه المواليا، وتبعهم في ذلك أهل مصر والقاهرة. قال:

ناديتها ومشيبي قد طواني طي
جودي عليَّ بقُبْلة في الهوى يا مي
قالت وقد كَوت داخل فؤادي كي:
ما ظن ذا القُطْن يغشى فم من هو حي

ومنها:

عيني التي كنت أرعاكم بها باتت
ترعى النجوم، وبالتسهيد اقتاتت
وأسهم البين صابتني ولا فاتت
وسلوتي عظم الله أجركم ماتت

… إلخ.

وهنا ملاحظات نذكرها على فن التوشيح والزجل:
  • (١)

    أن طبيعة التوشيح والزجل تجعلهما يُسمعان أحسن مما يقرآن، وبعبارة أخرى يقوِّمان بالأذن أكثر مما يقوِّمان بالعين؛ وذلك لأنها في كثير من الأحيان يعوَّض فيها نقص الوزن بمد الحرف أو قصره أو غنته أو نحو ذلك. فهذه كلها تعوض في زيادة حرف أو نقصان حرف، فكانت تسمع خيرًا مما تقرأ.

  • (٢)

    تخضع الموشحات والأزجال لخصائص كل بلدة؛ لأن اللغة العربية الفصحى عامة في جميع الشعوب العربية. أما اللغة الدارجة فخاصة بكل قطر؛ ولذلك نرى أن الشعر الكلاسيكي قلَّ أن يفرق بينه باختلاف الأقطار، أما الموشحات والأزجال فخاضعة لألفاظ كل قطر وأساليبه؛ ولهذا كان من الصعب أن يفهم قطر زجل القطر الآخر أو موشحاته؛ ولهذا أيضًا صعب علينا مثلًا أن نفهم ديوان ابن قزمان؛ لأن اللغة الأندلسية الدارجة تختلف عن اللغة المصرية الدارجة.

  • (٣)

    أخطأ المؤلفون الأرستقراطيون في احتقار الموشحات والأزجال؛ لأنها شعبية، واعتذر المقري عن إيراد بعض ذلك في كتبه، فقال في كتابه «أزهار الرياض»: «كأن بمنتقد ليس له خير، يسدد سهام الاعتراض ويتولى كبره، ويقول: ما لنا وإدخال الهزل في معرض الجد الصُّراح، وما الذي أحوجنا إلى ذكر هذا المنحى، والأليق كرحه كل الاطِّراح؟» وأجاب عن ذلك بأنه من باب ترويح القلب، والعون على الجد، واستشهد بقول القائل:

    قل للأحبة والحديث شجون:
    ما ضر أن شاب الوقار مجون

    مع أنَّا نلاحظ أن الموشحات والأزجال فيها من البلاغة والاستعارات والمجازات ما لا يقل عمَّا في اللغة الفصحى، وليست كلها هزلًا ومجونًا، بل قد يكون فيها جد ووعظ ودعوة إلى أخلاق عالية، عدا ما فيها من بلاغة. فنحن لا ننقد المقري ولا ابن خلدون وأمثالهما بروايتهم هذا الضرب من الأدب، بل ننقد غيرهم لعدم روايته، والسكوت عنه، فإذا كان للأرستقراطيين متعة في الأدب الأرستقراطي، فللشعب حق في أن يستمتع بأزجاله وموشحاته. ومؤرخ الأدب لا يصح أن يغفل هذا الضرب منه؛ لأن فيه خيرًا كثيرًا. وقد اقتصر جامعو المختارات على الفنون الجميلة كأنها وحدها هي الأدب.

    على أن الأدب بمعناه الواسع أشمل من ذلك، فمقدمة ابن خلدون أدب، وسراج الملوك للطرطوشي أدب، والموشحات والأزجال أدب، وشعر التصوف أدب، فاقتصارهم في الاختيار على الغزل والمديح ونحوهما باللغة الفصحى جعل كثيرًا من الناس يرمون الأدب العربي بالقصور، ولو وسعوا اختيارهم لأبانوا غنى الأدب العربي وتعدد مناحيه.

    والواقع أن الأدب الشعبي يحتاج إلى تأريخ كأدب اللغة الفصحى، كيف نشأ وكيف تطور، وله مناحٍ كثيرة تحتاج إلى التأريخ كالفكاهة والأمثال العامية، وكيف نبعت وانتشرت، والأزجال والموشحات وخصائص كل قطر فيها. ومع الأسف لم يؤرخ ذلك تأريخًا شاملًا من مبدئه إلى منتهاه.٥٥
  • (٤)

    الفرق بين الموشحة والزجل: أن الموشحة باللغة الفصحى إلا قليلًا، وأما الزجل فهو باللغة الدارجة. وكان للأندلسيين لغة خاصة هي خليط من اللغة العربية والبربرية والإسبانية، وإن شئت فقل: واللاتينية، والأزجال في أغلب الأحيان متبذلة وخصوصًا أزجال ابن قزمان، ليس فيها أي تحفُّظ أو احتشام، فيها ما يجري بين الماجنين في الملاهي، وفيها فحش مخجل، والغالب أنها كانت لشهرتها وملاءمتها لروح الشعب تقال جماعيًّا، على العود والطنبور والدف، في الشوارع وفي الأندية الشعبية، وفي دور الملاهي؛ ولأن أزجاله وأزجال غيره على هذه الحال، صعب فهمها، حتى لنرى أحيانًا في ابن قزمان بعض عبارات عربية وبعض عبارات إسبانية، فالإسبانية مثل قوله في بعض زجله:

    مَخْشَلْ دِشُولْ، وهي مأخوذة من الإسبانية mijell des sol، بمعنى: خد كأنه الشمس.٥٦

على كل حال ابتكر الأندلسيون فن الموشحات والأزجال في أوربا، وهذا يضاف إلى تأثير الأندلسيين في الغرب، وقد دعاهم إلى ذلك ما أحسوا من ثقل القيود في الشعر الفصيح، من أوزان ووحدة قافية وقيود إعراب، فجاءت نوبة هاجوا فيها على هذه الأوضاع كما هاج أبو نواس على بكاء الأطلال، وكما هاج الموحدون على التقليد في الفقه والنحو وغير ذلك.

غاية الأمر أن دعوة كل هؤلاء ضاعت، فعاد أبو نواس يبكي الأطلال كما بكوا، ويشعر الشعر الجاهلي كما شعروا، وعاد النحو إلى تقدير العوامل، وعاد الموحدون إلى اضطهاد الفلاسفة بعد أن قربوهم إليهم. أما الموشحات والأزجال فقد نجحت؛ لأن الناس استجابوا إليها في حماسة، إذ رأوها تعفيهم من القيود، وتحررهم من التزام قافية واحدة، وتسمح لهم باستعمال الكلمات العامية، والتعبيرات العامية الظريفة، وتحررهم من قيود الإعراب؛ ولذلك كانت البدع الشائع. كما امتازت الموشحات والأزجال بأنها تتبع النغمات الموسيقية، لا التفاعيل العروضية؛ ولذلك تجدهم يزيدون كلمات لحفظ الوزن، مثل: يا لَلَلِّي، ونحو ذلك، وبذلك ربطوا بين الشعر والغناء والرقص، كما هو العادة في نشأة هذه الفنون.

قال ابن سنا الملك في دار الطراز: «ليس للموشحات عروض إلا التلحين، ولا ضربٌ إلا الضرب، ولا أوتار إلا الملاوي، وأكثرها مبني على الأرْغُن»، وتحرروا أيضًا من التقيد بستة عشر بحرًا، فقالوا من الأوزان ما شاءوا أن يقولوا، فالأذن الموسيقية هي الحكم، لا أبحر الخليل.

قال ابن سنا الملك أيضًا في هذا الكتاب: إنه حاول حصر أوزان الموشحات فأخفق، «وكنت أردت أن أقيم للموشحات عروضًا يكون دفترًا لحسابها، وميزانًا لأوتارها، فعز ذلك وأعوز لخروجها عن الحصر، وانفلاتها من الكف».

وتعددت قوافي الموشحة، حتى بلغت العشرات، لما رأوا أن التزام القافية لا يترك وراءه إلا السآمة والملل، كالنغمة الواحدة تكرر مرارًا، وخرجوا عن أعاريض الشعر المعروفة، حتى قال ابن بسام صاحب الذخيرة: «إن أكثر الموشحات على غير أعاريض الشعراء، وعلى أشطار، كما أن أكثرها على الأعاريض المهملة غير المستعملة، وقد أخذ واضع الموشحة اللفظ العامي والعجمي، وسماه المركز، ووضع عليه موشحة دون تضمين ولا أغصان». وامتازت الموشحات والأزجال بالسهولة، وهذه هي التي أكسبتها الحياة، فمن أراد في الموشحة أو الزجل أن يتقعر كان سخيفًا، قال ابن حردون: «ما الموشح بالموشح، حتى يكون عاريًا على التكلف»، ولم يتورع الخاصة عن الاشتراك في التأليف في الموشحات والأزجال، فرويت لنا موشحات عن الطبيب ابن زهر، والفيلسوف ابن باجة، والوزير الخطير لسان الدين بن الخطيب. ومما قاله ابن خلدون في بحثه: «وأما أهل الأندلس فلما كثر الشعر في قطرهم، وتهذبت مناحيه وفنونه، وبلغ التنسيق فيه الغاية، استحدث المتأخرون منهم فنًّا منه، وسموه بالموشح» … إلى آخر ما ذكرناه من هذا البحث في صدر الكلام عن الموشحات.

وكان أول من برع بعد «مقدَّم» و«ابن عبد ربه» في هذا الشعر هو عبادة القزاز، إذ قال:

بدر تم شمس ضحى
غصن نقا مسك شم
ما أتم ما أوضحا
ما أورقا ما أنم
لا جرم من لمحا
قد عشقا قد حرم

ثم جاءت حلبة في مدة الملثمين فظهرت لهم البدائع، وفرسان حلبتهم الأعمى التُّطِيلي، وله من الموشحات قوله:

كيف السبيل إلى
صبري وفي العالم
أشجان
والركب وسط الفلا
بالخُرَّد النواعم
قد بانوا

وذكروا أن جماعة من الموشحين اجتمعوا في مجلس بإشبيلية، وكان كل واحد قد صنع موشحة وتأنق فيها، فتقدم الأعمى التطيلي للإنشاد، فلما افتتح موشحته المشهورة بقوله:

ضاحك عن جمان
سافر عن بدر
ضاق عنه الزمان
وحواه صدري

مزق الباقون موشحاتهم، ولابن بقي موشحه مطلعها:

أما ترى أحمد
في مجده العالي
لا يُلحق
أطلعه المغرب
فأرنا مثله
يا مشرق

ولما شاع فن التوشيح في أهل الأندلس، وأخذ به الجمهور لسلاسته، وتنميق كلامه، وتصريح أجزائه، نسجت العامة من أهل الأمصار على منواله، ونظموا على طريقته بلغتهم الحضرية، من غير أن يلتزموا فيه إعرابًا، واستحدثوا فنًّا سمَّوه بالزجل … وأول من أبدع في هذه الطريقة الزجلية أبو بكر بن قزمان، وهو إمام الزجالين على الإطلاق، ولقبوه شيخ الصناعة. يقول وقد خرج إلى متنزه مع بعض أصحابه، فجلسوا تحت عريش، وأمامهم تمثال أسد من رخام يخرج الماء من فيه على صفائح من حجر:

وعريش قد قام على دكان
بحال رواق
وأسد قد ابتلع ثعبان
في غلظ ساق
وفتح فمو بحال إنسان
به الفُواق
وانطلق يجري على الصفاح
وألقى الصياح

… إلخ.

وتبعه بعده كثيرون من الزجالين.٥٧ وليست الأزجال إلا موشحات تقال بلغة عامية، وإنما أكثرنا من نماذج الموشحات والأزجال لنبين كثرة أشكالها، واختلاف أوزانها.

من كل ما عرضنا من شعر الشعراء الرسميين والوشاحين والزجالين نرى مصداق ما قلنا من أن الشعر الأندلسي جرى مجرى الشعر المشرقي، من مديح وهجاء ونسيب ورثاء … إلخ، وأنه كما حذا المشرقيون حذو الجاهليين في الموضوعات والأساليب، حذا الأندلسيون حذو المشارقة. غاية الأمر أن شعراء الأندلس اختلفوا فيمن يقلدون من شعراء المشرق، كل حسب مزاجه، فمنهم من يقلد أبا نواس، ومنهم من يقلد المتنبي ونحو ذلك. وكانت القصيدة، سواء عند الأندلسيين والمشارقة على النمط الجاهلي، من بدء بالنسيب، وانتقال منه إلى وصف الشاعر لرحلته، ثم الانتقال إلى المديح، وقد يجعلون في النسيب أيضًا أبياتًا خمرية، جرى على هذا المنوال شعراء الجاهلية، ثم الشعراء الإسلاميون، ثم الأندلسيون، وكل قصدهم هو استجداء الممدوحين. ويمتاز شاعر عن شاعر، بحسن تخلصه من الرحلة إلى المديح؛ ولذلك اشتهرت في الأندلس النونية في مدح إدريس بن يحيى بن حمود التي مطلعها:

قد بدا لي وضح الصبح المبين
فاسقِنيها قبل تكبير الأذين
اسقنيها مزة مشمولة
لبثت في دنِّها بضع سنين

وظل على هذا المنول إلى أن وصل للمديح فقال:

وكأن الشمس لما أشرقت
فانثَنَت عنها عيون الناظرين
وجه إدريس بن يحيى بن علي
ابن حمود أمير المؤمنين

… إلخ … إلخ.

وربما كان من الإنصاف لأهل الأندلس أنهم فاقوا شعراء الشرق في وصغ الطبيعة خاصة، وفي الوصف عامة، وربما كان هذا أثرًا من جمال بيئتهم الطبيعية. ونلاحظ أيضًا أن الأندلسيين قصروا على المشرقيين في الحكم والزهد.

وهناك نوع آخر فاق فيه الأندلسيون المشارقة، وهو البكاء على البلاد، فما سقطت بلدة، أو أشفت على السقوط حتى قالوا فيها شعرًا قويًّا حزينًا، وربما كان من خير الأمثلة على ذلك قصيدة ابن عبدون، ومطلعها:

الدهر يفجع بعد العين بالأثر
فما البكاء على الأشباح والصور
أنهاك أنهاك لا آلوك معذرة
عن نومة بين ناب الليث والظفر
فالدهر حرب وإن أبدى مسالمة
والسود والبيض مثل البيض والسُّمر

وقد استطاع أن يذكر فيها مصائب الزمان، ونوائب الحدثان، وكل ما جرى من مصائب للأمراء والأعيان، مما جعلها سجلًّا تاريخيًّا للمصائب، وقلده فيها كثيرون، وشرحها ابن بدرون.

ومثل قصيدة أبي البقاء الرُّندي في رثاء الأندلس وغلبة النصارى على قواعدها، ومطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان
فلا يغر بطيب العيش إنسان

وهي أقل من الأولى بلاغة وعظمة، وفيها يطلب من المسلمين أن يسرعوا إلى إنجاد الأندلس التي كادت تسقط. ولكنها كانت صرخة في وادٍ، فلم ينقذ الأندلس أحد كما لم ينقذ فيما بعد فلسطين أحد.

ثم لهم المقطَّعات اللطيفة في موضوعات طريفة، مثَّلنا ببعضها فيما سبق.

ومع تعداد كل هذه الميزات لا يزال التقليد عليهم غالبًا، وربما كان خير مقياس للتقليد والابتكار، أن أساس التشبيهات عند الشرقيين والأندلسيين يكاد يكون واحدًا. غاية الأمر أن الأندلسيين قد يتفوقون في إجادة التشبيه وتزويقه، واللعب فيه، ولكن أساس التشبيه واحد، وهو التشبيه الشرقي.

(٣) النثر الفني

تطوَّر النثر العربي في الشرق تطورًا كبيرًا، بحيث يمكننا أن نقسمه إلى خمس مراحل: المرحلة الأولى يمثلها أقوال الخلفاء الأربعة، والخلفاء والأمراء الأمويين، والمرحلة الثانية يمثلها عبد الحميد الكاتب، والثالثة عبد الله بن المقفع، والرابعة الجاحظ، والخامسة ابن العميد، ولكل مرحلة من هذه خصائص. وعلى العموم، فالذوق العربي في مراحله المختلفة يحب في النثر الفني السجع، وخصوصًا ما وافق الطبع، فإن لم يكن سجع، فهو يحب المزاوجة، مثل المؤمنين، وعظيم؛ لأن عنده الحاسة الموسيقية نامية، فأذنه تَسْتَعيض عن السجع بالمزاوجة، وهذا فاشٍ في كل العصور، ولكن حدث له ما حدث للشعر، فبعد أن كان الشعر الجاهلي مثلًا يتزين ببعض أنواع البديع يأتي عفوًا، أغرقه أبو تمام ومن بعده في البديع المتصنع، فكذلك النثر بدأ فيه سجع مطبوع، أو مزاوجة مطبوعة من غير التزام، وختمه ابن العميد بالسجع الملتزم، والتكلف المصطنع.

فأما المرحلة الأولى التي يمثلها أقوال الخلفاء والأمراء، ففيها سجع أحيانًا من غير تكلف، وأحيانًا مزاوجة، وأحيانًا استرسال.

ومن خصائص هذا العصر الجمل المتقطعة من غير رابطة يربطها، وإلى ذلك إيجاز تام من غير إشباع للمعنى وتوليد للأفكار، حتى ليصعب عليك إذا سئلت أن تحدد موضوع الكلام، مع جمال في المعنى واللفظ.

وقد نشأ هذا من الطبيعة العربية، تحب الجمال وتأنس به، وتلهج بذكره، ويدل على ذلك غزلهم، والبكاء حتى على أطلالهم، وإلفهم لأوطانهم، ونحو ذلك، فهم يحبون البلاغة ويعتبرونها أقوى ملكة، ويفخرون بها، ويعجبون بفنها. ولأمر كان أهم معجزة للإسلام المعجزة التي تأتي من الناحية الفنية أو من ناحية البلاغة (القرآن)، وقد تأثرت بلاغة هذا العصر به أثرًا كبيرًا، واحتذوه وزينوا به كلامهم، فنحن نرى أن أسلوب النثر كان أسلوبًا يزينه السجع والمزاوجة، ويعتمد على الجمل القصار، وتوضع الجمل في إطار محكم، ويؤتى بالجملة، ثم يوضع لِفْق لها من جملة تشبهها أو تقاربها. حتى جاء عبد الحميد الكاتب وهو من أصل فارسي، فأطنب في موضوع الكتابة، وفصله وجعل من الكتابة موضوعًا يشرحه ويولده، حتى يأتي على آخره، وضع أنماطًا للكتابة في الشئون الخاصة بتدبير الملك، ولم يلتزم السجع كذلك، وإن أتى في كتابته عرضًا، ونظرته إلى الكتابة تستفاد بوضوح من رسالته إلى الكُتَّاب، وهذا يسلمنا إلى مرحلة ابن المقفع، فقد عني ببسط المعاني وتأكيدها، وتكرير الجمل المتقاربة في معناها، وعني بالتحليل النفسي، والتجارب الأخلاقية، ولم يعن بالسجع إلا ما جاء عفوًا، وله فضل كبير في تطويع اللغة للمعاني المستحدثة، والمدنية الواسعة.

وجاء بعد ذلك الجاحظ، فأسهب في الكلام وأطنب، ونوَّع موضوعات الأدب، وجعل كل شيء يصلح لأن يكون أدبًا، من معلِّمين، وجوارٍ، ولصوص، وحسدة إلى غير ذلك، وكان قلمه طيِّعًا، فوسَّع معاني الأدب في كل نواحيه، ولولا أنه كان مرحًا فكهًا مستطردًا لمُلَّ. ثم جاء بعده ابن العميد ومدرسته، فالتزم السجع وأمعن فيه، ولم يخرج عنه، وقصر الجمل لتؤدي مهمة السجع، وملأ كتابته بأنواع البديع، حتى أصبحت كتابته كقطعة من الفن المعماري المملوءة بالتزاويق.

كل هذا الذي في المشرق كان مثله في الأندلس، وكان الانتقال من فن إلى فن يكاد يكون متبعًا نفس التطور الذي حدث في المشرق، فقد رأينا المكاتبات التي تصدر عن الأمراء الأولين وعن صدور الخلفاء الأمويين تشبه تلك التي كانت تصدر عن الخلفاء الأمويين في المشرق، ثم تحولت بعض الشيء إلى تحليل نفسي، وغزارة معنى كالذي عند ابن المقفع على يد ابن حزم الأندلسي، ثم كان ما يشبه أسلوب الجاحظ عند العلماء الذين رحلوا من المشرق إلى الأندلس، أمثال صاعد بن الحسن البغدادي، فقد كانت كتابته أشبه ما تكون بكتابة الجاحظ من تلاعب بالمعاني وغزارة فيها، من غير التزام سجع، كقوله من رسالة له يستعطف فيها الوزير أبا جعفر ليشفع عند الخليفة للوزير عبد الله بن مسلمة لما نكب: «لمَّا جمع الله طوائف الفضل عليك، وأذْلَقَ بك الألسن، وأرهف فيك الخواطر، ورفرف عليك طير الآمال، ونُفِضَت إليك علائق الرجال، لم أجد لابن مسلمة، حين عضه الثِّقاف، وضاق به الخناق، وانقطع به الرجاء، وكبا به الدهر، ملجأ غيرك. فعطفك على والهٍ نبهه النحس من سِنَة السعد، وأيقظته الآفات رقدة الغفلة، ورشقته سهام الزمان بصنوف الامتهان، حتى لقب المنية أمنية، وسمى الموت فوتة … إلخ».

ورأيناهم وقد طلع عليهم بديع الزمان والحريري، وأمثالها يقلدونهم ويجرون على منوالهم، ويصنعون رسائل ومقامات تشبه رسائلهم ومقاماتهم كابن شهيد في التوابع والزوابع. ثم لما بلغتهم صنعة ابن العميد ومدرسته رحبوا بها كل ترحيب؛ لأنها وافقت أذواقهم، حتى التزموها في رسائلهم الخاصة، وكتبهم المؤلفة، فإذا نحن قرأنا لابن بسام في الذخيرة أو لابن حيان في تاريخه، أو في قلائد العقيان ومطمع الأنفس في ملح الأندلس، رأينا سجعًا ملتزمًا قل أن يشذ، ورأيناهم يحتذون حذو «الفيْح القُسِّي في الفتح القدسي» للعماد الأصفهاني ونحو ذلك. غاية الأمر أنه كان لهم أنواع من الابتكار سبقوا بها المشرق كما سننبه عند الكلام تفصيلًا على بعض الناثرين.

وكثير من الأدباء كان يجمع بين النثر والشعر، وكان عند الأدباء ملكة لطيفة يميزون بها بين الموضوعات التي تصلح للشعر والتي تصلح للنثر، فهم يشعرون حين تهيم عواطفهم، ويحسون أنهم في حاجة إلى تعبير وجداني يغذيها، ويلجئون إلى النثر عندما يكون الموضوع أميل إلى العقل. وشاع عند الأندلسيين الوصف الدقيق لنفوس الكبراء والأمراء، والقواد عند مديحهم، كما نبغوا في المناظرات الخيالية كالمناظرة بين السيف والقلم، والمناظرة بين بلاد الأندلس، كما كاتبوا في الابتهالات ومناسك الحج. وكانوا أحيانًا يخلعون على النثر من الأخيلة والسجع ما يجعله أقرب أن يكون شعرًا منثورًا. وقد امتازوا بالإطناب كما امتاز المشارقة بالإيجاز. وسيظهر كثير من هذه الخصائص عند كلامنا على الكُتَّاب الناثرين تفصيلًا.

(٣-١) ابن عبد ربه

ذكرنا قبل٥٨ ابن عبد ربه مؤلفًا لكتاب كبير في الأدب وهو العقد، وعرضنا لشيء من شعره،٥٩ وهو أيضًا ناثر كبير تتجلى قوته في النثر في فرش الكتب التي قدمها بين يدي أبواب كتابه، فقد تصنع فيها ما شاءت له الصنعة، وجوَّد ما شاء له التجويد، ونراه فيه قد يسجع، ولكن لا يلتزم السجع، فإذا فاته السجع عمد إلى المزواج، فاستغنى به السجع، وهو أشبه ما يكون برجل يلبس طقمًا خاصًّا عند المقابلات الرسمية، فلا يترك الكلام على سجيته، وإنما يتعمَّل له ويتصنَّع، فمثلًا يقول في أول كتاب الياقوتة في العلم والأدب: «قد مضى قولنا في مخاطبة الملوك ومقاماتهم، وما تفنَّنوا فيه من بديع حكمهم، والتزلف إليهم بحسن التواصل، ولطيف المعاني، وبارع منطقهم، واختلاف مذاهبهم. ونحن قائلون بحمد الله في العلم والأدب، فإنهما القطبان اللذان عليهما مدار الدين والدنيا، وفرق ما بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطبيعة الملكية والطبيعة البهيمية، وهما مادة العقل، وسراج البدن، ونور القلب، وعماد الروح، وقد جعل الله لطيف قدرته، وعظيم سلطانه بعض الأشياء عمدًا لبعض، ومتولدًا من بعض، فإجالة الوهم فيما تدركه الحواس، تبعث خواطر الذكر، وخواطر الذكر تنبه روية الفكر، وروية الفكر تثير مكامن الإرادة، والإرادة تحكم أسباب العمل … والعلم علمان علم حُمِل، وعلم استعمل. فما حُمِل منه ضر، وما استعمل منه نفع … وقليل العلم يستعمله العقل، خير من كثيره يحفظه القلب».

ويقول في أول باب الأمثال: «والأمثال وَشْيُ الكلام وجوهر اللفظ، وحَلْي المعاني والتي تخيرتها العرب، وقدمتها العجم، ونطق بها في كل زمان وعلى كل لسان، فهي أبقى من الشعر، وأشرف من الخطابة، لم يسر شيء مسيرها، ولا عم عمومها، حتى قيل: أَسْيَرُ من مثل، وقال الشاعر:

ما أنت إلا مثل سائر
يعرفه الجاهل والخابر

وقد ضرب الله الأمثال في كتابه، وضربها رسول الله في كلامه … إلخ». فهو يذكرنا في ذلك من حيث أسلوبه وغزارة معانيه، واستعماله للمزاوجة أحيانًا، والسجع أحيانًا بالجاحظ في كل ذلك.

(٣-٢) ابن برد

من أشهر كُتَّاب الأندلس، ويلقب بأبي حفص بن برد، وكان هناك ابنا برد أحدهما يلقب بالأكبر، والثاني بالأصغر، لم يعرف من أخباره — أي: الأصغر — إلا القليل، والذين ترجموا لابن برد الأكبر وصفوه بأنه كاتب بليغ، وأنه غُذِّي بالأدب، وعلا إلى أسمى الرتب، وقد اعتز به حفيده فقال:

من شاء خُبري فأنا ابن بُرْد
حدُّ حسامي قطعة من حدي
وأرفع الناس بناء جدي
من نظم الألفاظ نظم العقد
ونقد الكلام حق النقد
وكف بالأقلام أيدي الأسُد

وربما كان من أسباب شهرته أنه كان رئيس ديوان الإنشاء للمكتفي، ومن آثاره في هذا المنصب ما قاله فيمن يجب أن يشغل هذه الوظيفة. ومن الأسف أننا لم نعثر على كتاباته الإخوانية، ولا بد أن يكون له منها الكثير، وإنما بقي لنا بعض كتبه الديوانية. ويظهر من أخلاقه أنه كان موظفًا مطيعًا، يؤمر فيأتمر، ويكتب لأميره المعاني التي يريدها منه؛ كما كان يفعل القاضي الفاضل لصلاح الدين. وقد كتب أخيرًا لابن أبي عامر وأولاده، فمن أقواله على لسان المظفر بن أبي عامر: «ومن أعجب العجب، ما يجترئ عليه بعض خدمتنا من نبذ عهودنا، ولا أحسب الذي غرَّهم بنا، إلا ما وهبه الله لنا من القدرة من الحلم والكظم، وقد كانت سجية غالية، وخَليقة لازمة».

وقد روى ابن بسَّام في كتابه الذخيرة بعض كتبه، وهو الذي وضع العهد الذي تنازل فيه هشام المؤيد لعبد الرحمن بن المنصور عن الملك، ويقول فيه:

بعد اطِّراح الهوى، والتحري للحق … لم يجد أحدًا أجدر أن يوليه عهده، ويفوِّض إليه الخلافة بعده، لفضل نفسه، وكرم خِيمه، وشرف مرتبته وعلو منصبه، مع تقاه وعفافه ومعرفته وحزمه ونقاوته، من المأمون الغيب، الناصح الجيب، عبد الرحمن بن منصور.

وقد توفي ابن برد هذا سنة ٤١٨ﻫ بعد أن عاش نحو ثمانين سنة.

ونرى من هذا أن كتابته التي وصلت إلينا أشبه بكتابة رؤساء دواوين الإنشاء في مصر، وهم الذين روى القلقشندي أمثلة لهم في صبح الأعشى وغيره.

(٣-٣) ابن شُهَيْد وابن حزم

ذكرنا ابن حزم قبلُ عالمًا دينيًّا٦٠ وشاعرًا وابن شُهَيْد شاعرًا،٦١ ونذكرهما هنا ناثرين، فابن شُهَيْد كاتب كبير، ويظهر أنه كان من بيت كبير، ولكن منعه صممه عن البقاء في الوزارة. ومن مجموع رسائله نرى أنه كاتب قدير مبتكر، قد رويت له رسائل كثيرة تدل على قدرته الكتابية والخيالية، وله رسائل أشبه بالمقامات، ومن أشهرها رسالة «التوابع والزوابع» وهي رسالة مشهورة، ومعنى التوابع: الجن تصحب الإنسان، كالقرين والقرينة؛ والزوابع: العواصف، وتستعمل الزوبعة أيضًا بمعنى رئيس الجن. وسماها بهذا الاسم؛ لأن الرسالة وضعت لبيان آراء ابن شهيد في الكُتَّاب والأدباء والمشكلات الأدبية، على لسان الجن. وأشبه ما يكون بها رسالة الغفران لأبي العلاء.

وقد ظن قوم أن التوابع والزوابع وضعت تقليدًا لرسالة الغفران، ورأى بعض الباحثين من المستشرقين أن العكس هو الصحيح، وأن أبا العلاء هو الذي قلد ابن شهيد، ورجَّح أن التوابع والزوابع أُلِّفت قبل رسالة الغفران بنحو عشرين سنة؛ وذلك لأن ابن شهيد ذكر في رسالته ما يدل على أنه ألفها في عهد المستعين، وهو سليمان بن الحكم بن سليمان بن عبد الرحمن الناصر، وكانت مدة حكم المستعين هذا من سنة ٤٠٠ﻫ إلى ٤٠٧ﻫ، كما نعلم أن أبا العلاء ألَّف رسالة الغفران ردًّا على ابن القارح. وكان أبو العلاء قد بلغ نحو السبعين، كما تدل عليه فقرة في الرسالة نفسها، فيكون كتب رسالته حوالي سنة ٤٢٢ﻫ، وعلى هذا تكون رسالة التوابع والزوابع كتبت قبلها بنحو ٢٠ سنة، وقد أخذ أبو العلاء الفكرة وطبقها تطبيقًا لطيفًا، ونحا بها نحوًا يخالف بعض الشيء رسالة ابن شهيد، وإن كان أساس الفكرة عند ابن شهيد، وأبي العلاء، ودانتي واحدًا.

وقد روى ابن بسَّام في الذخيرة أكثر هذه الرسالة. وقد حشا ابن شهيد رسالته هذه بالمُلَح والتعبيرات اللطيفة، فجنِّيه مثلًا أطلعه على بركة فيه أوز، فيقول في وصفها: «أوزة بيضاء شهلاء، في مثل جثمان النعامة، كأنما ذُرَّ عليها الكافور، أو لبست غلالة من دِمقْس الحرير … في ظهرها صفاء، تُثنِي سالفتها، وتكسر حدقتها، وتُلَوْلِب فترى الحسن مستعارًا منها، والشكل مأخوذًا عنها».

وقد أنطق الجن في هذه الرسالة بكل آرائه في الأدباء والشعراء، وأصدقائه وأعدائه، وآرائه في الأدب وفي السجع، وغير ذلك، فمثلًا ينطق الجني بقوله في أعدائه: «عدمت ببلدي فرسان الكلام، ودُهيت بغباوة أهل الزمان … ويصيح الجني: إنا لله ذهبت العرب بكلامها، ارمهم بسجع الكهان، فعسى أن ينفعك عندهم، ويطير لك ذكرًا فيهم. وما أراك مع ذلك إلا ثقيل الوطأة عليهم، كريه المجيء إليهم». وأحيانًا يمدح نفسه فيقول له الجني مثلًا: «إن لسجعك موضعًا من القلب، ومكانًا من النفس، وقد أغرته من طبعك، وحلاوة لفظك، وطلاوة سوقك، ما أزال أفَنَه، ورفع غبنه، وقد بلغنا أنك لا تجارَى في أبناء جنسك، ولا يُمَلُّ من الطعن عليك، والاعتراض لك … إلخ».

ويظهر من مجموعة ما نقل عنه أنه كان واسع الاطلاع، غزير المعاني والخيال، ولكن إذا نحن قارنَّاه ببديع الزمان وابتكاراته، كان بديع الزمان أخف روحًا، وأرشق لفظًا ومعنًى.

وقد أثرت عن ابن شهيد أقوال في البلاغة والنقد تدل على ذوقه ومنهجه، نسوق هنا بعضًا منها: من ذلك أنه يرى أن البلاغة لا تكون إلا إذا وهب الأديب ملكة بيانية، فإن لم يوهبها لم ينفعه نحو ولا صرف ولا بلاغة. وقد جَّرب ذلك في شابين أحدهما مسلم والآخر يهودي. فالتمرين على الأدب جعل اليهودي أقرب إلى أن يكون أديبًا، لما عنده من استعداد. فالمسلم لم يستطع ذلك؛ لأنه ليس له استعداد موهوب. ويقول: إن للخطباء والكُتَّاب شياطين، وإنه صادف في أرض الجن شيطان الجاحظ، وشيطان بديع الزمان، وشيطان عبد الحميد، وهو يعيب على لسان الجني التزام السجع، فالجني يخاطب ابن شهيد بقوله: «إنك لخطيب، وحائك للكلام مجيد، لولا أنك مغرم بالسجع، فكلامك لا نثر ولا نظم». وقد روي عنه أنه خاف في آخر حياته من الموت كثيرًا، واستودع إخوانه بقوله:

أستودع الله إخواني وعِشرتهم
وكل خِرْق إلى العلياء سبَّاق

… إلخ.

وأوصى أن يكتب على قبره: «بسم الله الرحمن الرحيم، قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (ص: ٦٧، ٦٨)، هذا قبر أحمد بن عبد الملك بن شهيد المذنب، مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله، وأن الجنة حق، والنار حق، والبعث حق، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ (الحج: ٧)».

وأما ابن حزم الناثر، فأكبر أثر أدبي له في النثر كتابه «طوق الحمامة» فهو كتاب فذ، ترجم فيه لنفسه، ودوَّن خلجاتها، مما يدل على أنه كان حييَّ النفس، دقيق الحس، وقد علمنا أن أباه كان وزيرًا كبيرًا، وأنه هو نفسه كان وزيرًا خطيرًا، حتى كُنَّ هُنَّ اللائي علمنه القرآن، فلما شب أحب، ولوَّعه الحب وذاق ألم الضنى، ودون كل ذلك في كتابه «طوق الحمامة» وشرح لنا فيه حبه أول ما لقي، فقال: «إني أحببت في صباي جارية لي شقراء الشعر، فما استحسنت من ذلك الوقت سوداء الشعر، ولو أنه على الشمس، أو على الحسن نفسه، وإني لأجد هذا في أصل تركيبي من ذلك الوقت، ولا تواتيني نفسي على سواها، ولا تحب غيره البتة، وهذا العارض بعينه عرض لأبي رضي الله عنه».

ويذكر لنا أن خلفاء بني مروان كانوا يحبون الشقر من النساء، حتى أتى أغلبهم أشقر أشهل، نزَّاعًا إلى أمه. ويحدثنا عن فاجعة له بحبيبة حلت من قلبه أسمى محل، فظل ابن حزم بعدها يطيب له عيش، ولا يجد عنها سلوى، وقد أثرت في نفسه أبلغ الأثر، حتى ما كاد ينتفع بنفسه بعد، وحتى فاضت قريحته بمقطوعة من أصدق الشعر. ويقول: «إن محبوبته ماتت فأقام بعدها سبعة أشهر لا يتجرد عن ثيابه، ولا تجف له دمعة، مع جمود عينه، وإنه ما سلاها حتى مر عليه خمس عشرة سنة، ولم يطب له عيش بعدها، ولا نسي ذكرها».

ويخبرنا عن محبوبة أخرى لم تستجب له، وبقي متسعَّرًا عليها سنين طويلة، ثم برد فجأة حين رأى محبوبته هذه بعد غياب وقد غاض جمالها، وهو يصف غير الحب أيضًا النكبات التي نزلت به وبقومه، فقد كان هو وأبوه مواليَيْن للأمويين، فلما جاء المنصور بن أبي عامر وأراد محو آثار الأمويين، اضطُهد وأُهين وعذب. ويقول في هذه الرسالة: «إننا امتُحنا بالاعتقال والتغريب، والإغرام الفادح والاستتار، وأرزمت٦٢ الفتنة وألقَت باعها، وعمت الناس وخصَّتْنا، وأجلينا عن منازلنا، وتقلبت بي الأمور إلى الخروج عن قرطبة، وسكني مدينة المرية، واعتُقلنا أشهرًا، وأخبرني بعض الواردين من قرطبة أنه رأى دورنا وقد انمحت رسومها، وطمست أعلامها، وخفيت معاهدها، وغيَّرها البلى، وصارت صحارى مجدبة بعد العمران، وفيافي موحشة بعد الأنس، وخرائب منقطعة بعد الحسن، وشعابًا مفزعة بعد الأمن، ومأوى للذئاب، وعازف للغيلان، وملاعب للجان، ومكامن للوحوش … فكأن تلك المحاريب المنمَّقة، والمقاصير المزيَّنة، التي كانت تشرق إشراق الشمس، ويجلو الهموم حسن منظرها، تؤذن بفناء الدنيا، وتريك عواقب أهلها، وتخبرك عما يصير إليه كل من تراه قائمًا فيها، وتزهد في طلبها، بعد أن طالما زهدت في تركها».

وعلى الجملة فقد ملأ طوق الحمامة بتجاربه في حبه، وأحاديث نفسه، وما اعتراه من فتن، وما أصيب به من محن، وملأه شعرًا ونثرًا، أما شعره فقد بيَّنَّا قبل رأينا في قيمته. وأما نثره فقيمته في صراحة معناه وغزارته، لا في ناحيته الفنية، فهو من حيث تأليفه في الحب من أول الناس وأسبقهم إلى قيد منازع الحب. نعم قد سبقه إلى التأليف في ذلك محمد بن داود الظاهري أيضًا في كتابه الزهرة، ولكن ابن حزم تفوَّق عليه فكان كتابه «طوق الحمامة» أبرع وأثمن وأوفى.

ومما يدل على لوعته في الحب وتقديره للوصال قوله: «ولقد جرَّبت اللذات على تصرفها، وأدركت الحظوظ على اختلافها، فما للدنو من السلطان، ولا المال المستفاد، ولا الوجود بعد العدم، ولا الأوبة بعد طول الغيبة، ولا الأمن بعد الخوف من الموقع في النفس ما للوصل، لا سيما بعد طول الامتناع، وطول الهجر، حتى يتأجَّج عليه الجوى، ويتوقد لهيب الشوق، وتنصرم نار الرجاء، وما ازدها النبات بعد غب القطر، ولا إشراق الأزاهير بعد إقلاع السحاب … ولا خرير المياه المتخللة لأفانين النوار، ولا تألق القصور البيض قد أحدقت بها الرياض الخضر، بأحسن من وصل حبيب، فقد رُضيت أخلاقه، وحمدت غرائزه، وتقابلت في الحسن أوصافه».

ويؤخذ من كلامه أنه قد مضى عليه زمان أحب فيه حبًّا عذريًّا، صوره تصويرًا لطيفًا، ودل فيه على عاطفة نبيلة رفيعة، حتى لقد يكفيه من محبوبه، شعوره بسلامة الحبيب، وتقبيله أثره، والتراب الذي وطئه.

وروعة ابن حزم في تعدد مناحيه من دين وفقه وأصول وشعر وتأليف في الغرام، وغير ذلك، أكثر من روعته في فن الأدب وحده.

(٣-٤) ابن زيدون ٦٣

لابن زيدون ناحية نثرية بجانب ناحيته الشعرية، ومن أهم نثره رسالتان شهيرتان: إحداهما رسالته الهزلية كتبها يسخر من منافسه في حب ولَّادة، وهو ابن عبدوس، فهو يؤنبه أحيانًا، وينسب إليه سخرية كل حادث عظيم في الدنيا أحيانًا، ويقول فيها: «أما بعد، أيها المصاب بعقله، المورَّط بجهله، البيِّن سقطه، الفاحش غلطه، العاثر في ذيل اغتراره، الأعمى عن شمس نهاره، الساقط سقوط الذباب على الشراب، المتهافت تهافت الفراش في الشهاب! فإن العجب أكذب، ومعرفة المرء نفسه أصوب، وإنك راسلتني مستهديًا من صلتي ما صَفِرَت منه أيدي أمثالك، متصديًا من خُلَّتي لما قُرعت دونه أنوف أشكالك، مرسلًا خليلتك مرتادة، مستعملًا عشيقتك قوَّادة، كاذبًا نفسك أنك ستنزل عنها إليه، وتخلف بعدها عليه … زاعمة أن المروءة لفظ أنت معناه، والإنسانية أنت جسمه وهَيولاه، قاطعة أنك انفردت بالجمال، واستأثرت بالكمال … حتى خيَّلت أن يوسف — عليه السلام — حاسنك فغضضت منه، وأن امرأة العزيز رأتك فسلَتْ عنه، وأن قارون أصاب بعض ما كنزت، والنَّطف عثر على فضل ما ركزت، وكسرى حمل غاشيتك، وقيصر رعى ماشيتك … وأن مالك بن نويرة إنما أردف لك، وعروة بن جعفر إنما رحل إليك … وإياس بن معاوية إنما استضاء بمصباح ذكائك، وسحبان إنما تكلم بلسانك … وأن الحجاج تقلد ولاية العراق بجدك، وقتيبة فتح ما وراء النهر بسعدك، والمهلب أوهن شوكة الأزارقة بيدك، وأن أفلاطون أورد على أرسطاطاليس ما نقل عنك، وبطليموس سوَّى الإصطرلاب بتدبيرك، وصوَّر الكرة على تقديرك» … إلخ.

وهو في هذه الرسالة يذكرنا برسالة التربيع والتدوير التي كتبها الجاحظ في السخرية بأحد كُتَّاب عصره، وهو أحمد بن عبد الوهاب، فهو فيها يهزأ بجسمه وينسب إليه سخرية علم كل شيء، إلا أن رسالة ابن زيدون أدق وأوفى وألذع، وهي تدل على علم واسع بأحداث التاريخ، وقدرة فائقة في التهكم بها على غريمه.

وأما الرسالة الجدية فهي رسالة كتبها وهو في السجن لابن جهور، يعتب ويستعطف ويبرأ مما اتُّهِمَ به، وأسلوبها أيضًا في غاية القوة، يذكرنا بعض معانيها بمعاني علي بن الجهم، وقد سجن هو أيضًا فأرسل يستعتب ويتعزى ويعتذر. يقول ابن زيدون فيها: «يا مولاي وسيدي، الذي ودادي له، واعتمادي عليه، واعتدادي به … ومن أبقاه الله ماضي حد العزم، واري زند الأمل … إن سلبتني لباس نعمائك، وعطَّلتني من حلى إيناسك … ونفضت مني كف حياطتك، وغضضت عني طرف حمايتك، بعد أن نظر الأعمى إلى تأميلي لك، وسمع الأصم ثنائي عليك، فلا غرو، قد يغص بالماء شاربه، ويقتل الدواء المستشفي به، ويؤتى الحذر من مأمنه، وتكون منية المتمني في أمنيته …

كل المصائب قد تمر على الفتى
وتهون غير شماتة الأعداء

هل أنا إلا يد أدماها سوارها، وجبين غض به إكليله … هذا العتب محمود عواقبه، وهذه النَّبْوَةُ غمرة ثم تنجلي، وهذه النكبة سحابة صيف عن قليل تقشع … وأعود فأقول: ما هذا الذنب الذي لم يسعه عفوك، والجهل الذي لم يأتِ من ورائه حلمك …

إلا يكن ذنب فعدلك واسع
أو كان لي ذنب ففضلك أوسع

حنانيك، قد بلغ السيل الزُّبى، ونالني ما حسبي به وكفى، وما أراني إلا أمرت بالسجود لآدم فأبيت واستكبرت، وقال لي نوح: اركب معنا، فقلت: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء، وأمرت ببناء الصرح لعلِّي أطلع إلى إله موسى، وعكفت على العجل، واعتديت في السَّبت، وتعاطيت فعقرت، وشربت من النهر الذي ابْتُلِيَتْ به جيوش طالوت، وقُدْتُ الفيل لأبرهة … ونفرت إلى العير ببدر، وانخذلت بثلث الناس يوم أحد … إلخ.

وعلى الجملة، فرسالتاه سواء الهزلية أو الجدية، تدلَّان على باع طويل في كتابة النثر، ومقدرة فائقة في تنويع الأساليب، وغزارة المعاني، فإذا أضيفت هذه الموهبة النثرية إلى موهبته الشعرية، عثرنا فيه على أديب بارع في الشعر والنثر، وقلَّ أن يجتمعا في أديب.

(٣-٥) ابن أبي الخصال

لا يفوتنا هنا أن نذكر كلمة عن كاتب كبير من أواخر كُتَّاب الأندلس، وهو ابن أبي الخصال: كان من قرية من قري جَيَّان، وكان يلقَّب برئيس كُتَّاب الأندلس، وكان صديقًا لابن عبدون وابن بسام. قال فيه صاحب المعجب: «هو آخر الكُتَّاب وأحد من انتهى إليه علم الأدب، وله مع ذلك في علم القرآن والحديث والأثر وما يتعلق بهذه العلوم الباع الأرحب، واليد الطولى». وقد روي لنا أنه ألَّف كتابًا اسمه «سراج الأدب» لم يصل مع الأسف إلينا، وقد روى له القلقشندي في «صبح الأعشى» جملة كثيرة متفرقة من رسائله ومن شعره، من أرادها فلينظرها هناك.

(٣-٦) ابن الخطيب

هو لسان الدين بن الخطيب، وهو وزير مشهور، من أجله ألَّف المقري الكتاب الكبير «نفح الطيب وغصن الأندلس الرطيب في ترجمة لسان الدين بن الخطيب» في أربعة أجزاء كبار، ذكر فيها الأندلس وما جرى لها من مبتدئها ومنتهاها، ولسان الدين وشيوخه ورسائله … إلخ. فكان الكِتَاب نعمةً من آثار ابن الخطيب. وقد ولد لسان الدين بمدينة غرناطة في سنة ٧١٣ﻫ، وكان أبوه ذا شأن عظيم عند ملوك بني الأحمر، فربَّاه تربية دقيقة واسعة، علَّمه الطب والفلسفة والأدب والفقه والتفسير والحديث، فكان عالمًا أديبًا. وقد ألف في ذلك، وقالوا: إنه أصيب بالأرق، فاستعان بالتأليف عليه، وكان واسع بالتاريخ، وألَّف في علماء غرناطة كتابه «الإحاطة».٦٤ وله رسائل أدبية وسياسية تتصف بالإطناب والتزام السجع حتى تمل، وابتُلي كما ابتلي غيره من علماء الأندلس بالحسد من خصومه، ودس الدسائس له، حتى اتهم في دينه بالزندقة، وقوله في كتبه أشياء لا يقرها الدين. ولعب في السياسة كثيرًا حتى احترق بها، واتخذت الزندقة ذريعة للنيل منه.

وأخيرًا أفتى الفقهاء بقتله، فخُنِق في سجنه، وألَّف كتبًا كثيرة، وكان صديقًا لابن خلدون بعض الوقت، ثم فسد ما بينهما. وتمتاز رسائله بدقة الوصف، وغزارة المعنى، مثال ذلك ما كتبه في استدعاء إمداد، وحض على الجهاد: «أيها الناس، رحمكم الله تعالى، إخوانكم المسلمون بالأندلس قد دهم العدو ساحته، ورام الكفر استباحته، ورجفت أحزاب الطواغيت إليهم، ومد الصليب ذراعيه عليهم، وأيديكم بعزة الله أقوى، وأنتم المؤمنون أهل البر والتقوى، وهو دينكم فانصروه، وجواركم القريب فلا تخفروه، وسبيل الرشد قد وضح فلتبصروه. الجهادَ الجهادَ فقد تعين، فالجارَ الجارَ، فقد قرر الشرع حقه وبيَّن، الله اللهَ في الإسلام، اللهَ الله في أمة محمد — عليه السلام — الله اللهَ في المساجد المعمورة بذكر الله، الله اللهَ في وطن الجهاد في سبيل الله. قد استغاث بكم الدين فأغيثوه، وقد تأكد عهد الله وحاشاكم أن تنكثوه. أعينوا إخوانكم بما أمكن من الإعانة، أعانكم الله عند الشدائد، جددوا عوائد الخير، يصل الله تعالى لكم جميل العوائد، صِلُوا رحم الكلمة، واسُوا بأنفسكم وأموالكم تلك الطوائف المسلمة: كتاب الله بين أيديكم، وألسنة الآيات تناديكم، وسنة رسول الله قائمة فيكم، والله يقول: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَىٰ تِجَارَةٍ تُنجِيكُم.

ماذا يكون جوابكم لنبيكم
وطريق هذا العذر غير ممهد
إن قال: لِم فرَّطتم في أمتي
وتركتموهم للعدو المعتدي
تالله لو أن العقوبة لم تخف
لكفا الحيا من وجه ذاك السيد

اللهم اعطف علينا قلوب العباد، اللهم بُثَّ لنا الحمية في البلاد، اللهم دافع عن الحريم والضعيف والأولاد، اللهم انصرنا على أعدائك بأحبائك وأوليائك، يا خير الناصرين» … إلخ.

ويقول مثلًا في ترجمة ابن عبد ربه صاحب العقد: «عالم ساد بالعلم ورأس، واقتبس به من الحظوة ما اقتبس، وشهر بالأندلس حتى صار إلى المشرق ذكره، واستطار شَرَر الذكاء فكره … وكانت له عناية بالعمل وثقة، ورواية متَّسقة، وأما الأدب فهو كان حجته، وبه غمرت الأفهام لجته، مع صيانة وورع، وديانة ورد ماءها فكَرَع، وله التأليف المشهور الذي سماه بالعقد، وحماه عن عثرات النقد؛ لأنه أبرزه مثقف القناة، مرهف الشباة، تقصر عنه ثواقب الألباب، وتبصر السحر منه في كل باب، وله شعر انتهى منتهاه وتجاوز سماك الإحسان وسماه … إلخ».

وله مقامة في السياسة على نحو مقامات الحريري بناها على أن هارون الرشيد ضاق صدره يومًا، فطلب أن يُحضر إليه من يُعثر عليه، فحُشر له بعض القوم، وكان منهم رجل غريب المنظر؛ فسأله الرشيد عن أصله وفنِّه، فقال: إنه فارسي وفنه الحكمة، فسأله عن السياسة فأبدع فيها حتى انتصف الليل، ثم استدعى عودًا وظل يغني عليه حتى أنام الحاضرين كلهم، وخرج فلم يعثر له على خبر.

وقد تعرَّض في هذه المقامة إلى الرعية والسلطان والوزير والجند والعمال والولد والخدم والحرم، فقال في الرعية: «رعيتك ودائع الله قِبَلك، ومرآة العدل الذي عليه جَبَلَك، ولا تصل إلى ضبطهم إلا بإعانة الله التي وهب لك. وأفضل ما استدعيت به عونه فيهم، وكفايته التي تكفيهم، تقويم نفسك عند قصد تقويمهم، ورضاك بالسهر لتنويمهم، وحراسة كهلهم وربيعهم، والترفع عن تضييعهم، وأخذ كل طبقة بما عليها وما لها، أخذًا يحوط ما لها، ويحفظ عليها كمالها، حتى تستشعر عليتها رأفتك وحنانك، وتعرف أوساطها في النصب امتنانك، وتحذر سِفلتها سنانك … وامنع أغنياءها من البطر والبطالة، والنظر في شبهات الدين بالتمشدق والإطالة، وحدِّد البخل على أهل اليسار، والسخاء على أُولي الإعسار».

وقال للسلطان: «واعلم يا أمير المؤمنين سدد الله سهمك لأغراض خلافته، وعصمك من الزمان وآفته، أنك في مجلس الفصل، ومباشرة الفرع من ملكك والأصل … فلتكن قدرتك وقفًا على الاتصاف بالعدل والإنصاف، واحكم بالسوية، واجنح بتدبيرك إلى حسن الروية، وخف أن تقعد بك أناتك عن حزم تعيَّن، أو تستفزك العجلة في أمر لم يتبين، وأطع الحجة ما توجَّهت إليك، ولا تحفل بها إذا كانت عليك، فانقيادك إليها أحسن من ظفرك، والحق أجدى من نَفَرك … واحرص على أن لا ينقضي مجلس جلسته، أو زمن اختلسته، إلا وقد أحرزت فضيلة زائدة، أو وثقت منه في معادك بفائدة … والمال نعمة الله، فلا تجعله ذريعة إلى خلافه، وتجمع بالشهوات بين إتلافك وإتلافه».

وقال في الوزير: «والوزير الصالح أفضل عددك، وأوصل مددك … وليكن الوزير معروفًا بالإخلاص لدولتك، معقود الرضا والغضب برضاك وصَوْلتك، زاهدًا عمَّا في يديك، مؤثرًا لكل ما يَزْلف لديك، بعيد الهمة، راعيًا للأذمَّة، رحيب الصدر، رفيع القدر، معروف البيت، نبيه الحي والميت، مؤثرًا للعدل والإصلاح، دَرِيًّا بحمل السلاح، جادًّا عند لهوك، متيقظًا في حال سهودك … إلخ».

وقد استقى هذه الأمور كلها من تجاربه، إذ كان وزيرًا، وكان مطلعًا على التواريخ، وخصوصًا تاريخ بلاده، وقال في الإحاطة في ترجمة ابن خلدون إذ كان صديقًا له، بعد أن ذكره نسبه: «رجل فاضل، حسن الخُلُق، جم الفضائل، باهر الخِصَل، رفيع القدر، ظاهر الحياء، أصيل المجد، وقور المجلس، خاصِّيُّ الزي، عالي الهمة، عزوف عن الضيم، صعب المقادة، قوي الجأش، طامح لقُنَن الرياسة، متقدم في فنون عقلية ونقلية، متعدد المزايا، سديد البحث، كثير الحفظ، صحيح التصور، باع الحظ، حسن العشرة، مبذول المشاركة … مُغْفِل التحفظ ممَّا يريب، وقع من أجل ذلك في محنة فلم يخشع ولم يتوسل، وأباد المكسوب في سبيل النفقه»٦٥ … ولما استقر ابن خلدون في الحضرة، جرت بيني وبينه مكاتبات، وأقطعها الظرف جانبه، وأوضح الأدب مذاهبه … فمن ذلك ما خاطبته به وقد تسرى — أي: ابن خلدون — جارية رومية اسمها هند صبيحة الابتناء بها، وقد أطال في هذا الكتاب فيما يتخيله من سرور ابن خلدون بالابتناء بها، وقضاء ليلة سعيدة معها بالتفصيل والتصريح، من غير إجمال ولا إيماء. «وقد شرح ابن خلدون البردة شرحًا بديعًا، دل به على انفساح ذرعه، وتفنن إدراكه، وغزارة حفظه، ولخص كثيرًا من كتب ابن رشد، ولخص محصل الإمام فخر الدين الرازي، وألف كتابًا في الحساب».

ويظهر أنه كتب هذه الترجمة قبل أن يؤلِّف ابن خلدون كتابه التاريخي الذي اشتهر به، وقد ذكر ابن خلدون في بعض كتبه «لسان الدين» وأثنى عليه ولكنه قال: «إنه لما كان بالأندلس، وحَظِيَ عند السلطان أبي عبد الله، شم من ابن الخطيب رائحة الانقباض، فقوَّض الرحال، ولم يرضَ عن الإقامة بحال. ولعبت بكرته صوالجة الأقدار، حتى حل بالقاهرة المعزِّيَّة، واتخذها خير دار … إلخ».

ومن نثر ابن الخطيب مثلًا قوله في تقلب الأحوال بالعظماء ما رآه من أمرائه أو سمعه عن ابن حزم وأمثاله: «بينما ترى الدَّست عظيم الزحام، والموكب شديد الالتحام، والوزعة تشير والأبواب يقرعها البشير، والسرور قد شمل الأهل والعشير، والأطراف تلثمها الأشراف، والطاعة يشهرها الاعتراف، والرايات تعقد، والأعطيات تنقد، إذ رأيت الأبواب مهجورة، والدسوت لا مؤمَّلة ولا مزورة، والحركات قد سكنت، وأيدي الإدالة قد تمكنت، فكأنما لم يسمُر سامر، ولا نهى ناهٍ ولا أمر آمر، ما أشبه الليلة بالبارحة، والغادية بالرائحة، إنما مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ (الكهف: ٤٥)».

وقال في الحب على طريقة المتصوفة: «المحبة رقة، ثم فكرة مسترقة، ثم ذوق يطير به شوق، ثم وَجَل لا يبقى معه طوق، ثم لا تحت ولا فوق:

أينما كنت لا أخلف رحلًا
من رآني فقد رآني ورحلي

الهوى هوان، وَحِمَامٌ له ألوان، دمع ساجم، ووجد هاجم، وهيام لا يبرح، ثم وراءه ما لا يُشرح.

قال: بمن جن؟ وهل في الورى
ما يبعث الخبل سوى حبه؟

من اقتحم بحر الهوى هوى، لا تدخل في بحر الهوى حتى تشاور صبرك، وتجاور قبرك … الهوى طريق، ولسلوكه فريق، الزاد سر مكتوم، ووفاء معلوم.

وللميادين أبطال لها خلقوا
وللدواوين حُسَّاب وكُتَّاب

الحب حَجٌّ ثان، لا يثني نفس المريد عنه ثان، طريقه التجريد، وزاده الذكر، وطوافه المعرفة، وإفاضته الفناء، فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ» (البقرة: ١٩٨). الغرام صعب المرام، والدخول فيه حرام، ما لم يكن فيه شرط كرام. مَنْ عرف ما أخذ، هان عليه ما ترك، وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ (القصص: ٦٨). ظهر الهوى طريقًا سهلًا، فكثر التائهون جهلًا.

إذ لم يكن عون من الله للفتى
أتته الرزايا من وجوه الفوائد»

وله كتب كثيرة نحا فيها نحو المتصوفة، فله مثلًا كتاب اسمه «المحاضرات»، وهو عبارة عن جمل مختارة من أقوال مشاهير المتصوفة، وله المواعظ الصوفية اللطيفة، ثم له إلى جانب ذلك كتب في الأدب. قال المقري: «إن كتبه الآن في المغرب قبلة أرباب الإنشاء، التي إليها يصلُّون، وسوق دُرَرهم النفيسة التي يزينون بها صدور طروسهم ويحلون، وخصوصًا كتابه «ريحانة الكُتَّاب، ونجعة المنتاب»، فإنه وإن تعددت مجلداته، على فن الإنشاء والكتابة مقصور».

وكما برز ابن الخطيب في النثر، فقد برز في الشعر، فله الشعر الكثير، وله الموشحات اللطيفة، والأزجال الظريفة، وهي لا تقل شأنًا عن قيمته في النثر.

فالذي يظهر لنا أن الثقافة الأندلسية من أولها في الأندلس إلى آخرها قد صفيت، وتقطرت في لسان الدين بن الخطيب في تعدد مناحيه، وسعة علمه، وكثرة إنتاجه. ولعل هذا المعنى هو الذي شعر به المقري فألَّف فيه كتابه «نفح الطيب» وفيه كل ثقافة الأندلس، وسماه باسمه كأنما هو هي.

(٣-٧) ابن خلدون

وقد عددناه من كُتَّاب الأندلس، وإن عاش أكثر حياته في بلاد المغرب وفي مصر؛ لأنه أندلسي الأصل، فهو من إشبيلية، من أصل عربي يمني، وهو إن ولد في تونس، فقد درس على علماء أندلسيين وأقام في الأندلس زمنًا، وهو مع ابن الخطيب يتوِّجان الحركة الثقافية الأندلسية، وهما يمتازان بسعة الاطلاع وكثرة العلم وتنوعه، ولكن ابن خلدون يمتاز بالعمق في التفكير السياسي الاجتماعي، وابن الخطيب يمتاز بأدبه بالمعنى الواسع.

وقد سفر ابن خلدون إلى الملك بدْرُو في إشبيلية سنة ٧٦٤ﻫ، فأعجب بدرو بعقله، وطلب منه أن يقيم في بلده في نظير أن يرد عليه أموال أسرته فاعتذر. وكما قلنا من قبل: إنه صحب ابن الخطيب نحو سنتين، ثم تعكَّر الجو بينهما. وابن خلدون من العلماء القلائل من المسلمين الذين ابتكروا ولم يقلدوا، فهو واضع أساس علم الاجتماع بمقدمته، وإن كان أكمله علماء الإفرنج لا العرب، وقد تعرض لطبائع البشر وأسباب تغيرها، وقيام الدول وأن لها عمرًا كعمر الأفراد، كل ذلك في عمق. ومن أبدع نظراته نظرته إلى التاريخ وأنه يجب أن ينبني على تعليل الحوادث، ومعرفة أسرارها ومطابقاتها لقانون السبب والمسبب، ولا يصح أن يبنى التاريخ على مجرد النقل إذا خالف العقل. والمؤرخ محتاج إلى معارف متنوعة وحسن نظر وتثبت تؤدي به إلى الحق، وتنكب به عن المزلات والمغالط.

وفي قسم من المقدمة أرَّخ العلوم الإسلامية كلها تأريخ خبير عالم، وأسلوبه فيها أسلوب رزين لم يعمد فيه إلى فخفخة السجع الكاذب، ولا إلى الإطناب الممل. فإذا كان عند البلاغيين ثلاثة أنواع؛ إيجاز وإطناب ومساواة، فإن أسلوبه ينطبق على المساواة، فاللفظ بقدر المعنى لا أكثر ولا أقل. وقد تقلب في مناصب سياسية كثيرة من سفارة وقضاء، ويظهر أنه كان حسن الحديث، قوي التأثير في النفوس، فقد رأينا أنه لما سفر إلى بدرو وأعجبه وقربه إليه، ومرة ثانية لما سفر إلى تيمورلنك بدمشق، وتيمورلنك هو القاسي الجبار الفاتك، دخل ابن خلدون في مزاجه، ودعاه إلى أن يقيم معه، فرأى ابن خلدون من الحيلة أن لا يرفض، ولكنه قال: إنه يذهب ليحضر أهله ويعود، فذهب ولم يعد، كما يظهر أنه خبير بنفسية من يخاطبه ولو كان من غير جنسه، فإذا حدثه استلب عقله، وعرف من أين تؤكل الكتف.

ولكن هناك ظاهرة أخرى في حياة ابن خلدون وهي النفور منه، وتنحيته عن المنصب بعد أن يعين فيه، وعداؤه بعد الصداقة. وقد رأينا أن ابن الخطيب عاداه بعد أن صادقه، وأنه تولى مناصب خطيرة في تونس ثم عزل، وولي منصب قاضي القضاة في القاهرة ست مرات، يعزل ثم يولى ثم يعزل ثم يولى. وقد يفسر هذا إما بصلابته في رأيه فليس يلين، وإما بأنه محسَّد لفضله، فإذا رئي منه كثرة الصلابة في الحق، واعتداده بنفسه، حرض ذلك غيره ممن هم أقل منه على الدس له، والنيل منه كما يظهر أنه صريح، يقول ما يعتقده من الحق، ولم آلم الناس كقوله: إن العرب إذا نزلوا بلدة أسرع إليها الخراب، وإن أكثر العلماء من الموالي لا من العرب ونحو ذلك، كما أنه كان في قضائه يحكم بين الناس بالعدل ولو أغضب في ذلك ملوك زمانه وأمراءه. ولا نبرئه من حدة في المزاج وسرعة في الانفعال، كما لا نبرئه من جمود في العواطف، فقد غرقت زوجته وأولاده في البحر، ثم لا نراه يبكي لذلك، ولا يتحسر عليهم، بكاءً أو تحسرًا يتناسب مع الفجيعة.

ومقدمته كاملة مصقولة. أما تاريخه فمهوَّش لم يصقل، ولم يسر فيه على القواعد التي وضعها في مقدمته. ويظهر أن الزمن لم يمهله حتى يحقق كل مطالبه. ومن الأمثلة على أسلوبه وتفكيره قوله في الفرق بين البدو والحضر مثلًا: «إن أهل الحضر ألقوا جنوبهم على مهاد الرحلة والدعة، وانغمسوا في النعيم والترف، ووكلوا أمرهم في المدافعة عن أموالهم وأنفسهم إلى واليهم والحاكم الذي يسوسهم، والحامية التي تولت حراستهم، واستناموا إلى الأسوار التي تحوطهم، والحرز الذي يحول دونهم، فلا تهيجهم هيعة، ولا ينفر لهم صيد، فهم قارُّون آمنون، قد ألقوا السلاح، وتوالت على ذلك منهم الأجيال، وتنزلوا منزلة النساء والولدان … حتى صار ذلك خُلقًا يتنزل منزلة الطبيعة».

«وأهل البدو لتفردهم عن المجتمع، وتوحشهم في الضواحي، وبعدهم عن الحامية، وانتباذهم عن الأسوار والأبواب قائمون بالمدافعة عن أنفسهم لا يكلونها إلى سواهم، ولا يتقون فيها بغيرهم، فهم دائمًا يحملون السلاح، ويتلفتون عن كل جانب في الطريق، ويتجافون عن الهجوع إلا غرارًا في المجالس، وعلى الرحال وفوق الأقتاب، ويتوجسون للنبآت والهيْعات، ويتفردون في الفقر والبيداء، مُدلين ببأسهم، واثقين بأنفسهم، قد صار لهم البأس خُلُقًا، والشجاعة سجية، يرجعون إليها متى دعاهم داعٍ، أو استنفرهم صارخ».

نعم: إن المقدمة لها أصول من كتب عربية كسراج الملوك للطرطوشي، وكتب مترجمة عن اليونانية، ولكن إذا قارن الإنسان بينها وبين ما كتب ابن خلدون وجده ابتكر فيها وزاد عليها، وأخرجها مخرجًا جديدًا — قد يظهر بعض خطئه في نظريات قالها إذا نحن نظرنا إليها على ضوء ما وصل إليه علم الاجتماع الحديث، ولكن مَن من الناس لا يخطئ، ولا يصحح قوله؟ خصوصًا وقد مرت على أقواله أجيال، وكفاه فخرًا أنه أدرك في زمانه ما لم يدركوه إلا بعد قرون طويلة، وتعد مقدمته وتاريخه من غير شك تدوينًا يكاد يكون تامًّا للحضارة الإسلامية.

وله كتب أخرى في علم الكلام وفي التصوف ولكنها كلها لا تبلغ مبلغ مقدمته. وعلى الجملة، فابن الخطيب وابن خلدون جمعا في شخصهما ما وصل إليه العلم العربي في الشرق قبلهما، ثم هضماه وعرضاه عرضًا وافيًا، كل حسب استعداده وميوله، ابن الخطيب في الأدب والتصوف والتاريخ، وابن خلدون في التاريخ والاجتماع، وقلَّ أن يكون هناك علم عربي لم يتعرضا له إجمالًا أو تفصيلًا، ونكاد نقول: إن العلم والأدب والتاريخ تحجرت بعدهما إلى أن أتت النهضة الحديثة.

(٤) أثر النساء في الأدب

كان للنساء أثر كبير في الأدب من ناحيتين:
  • (١)

    ناحية ما لهن من جمال وفتنة حرَّكا نفوس الأدباء للغزل والنسيب.

  • (٢)

    أنه كان منهن الأديبات اللاتي ساهمن في الحركة الأدبية بما أنتجن من أدب، وكان هذا هو الشأن في المشرق، فكان كذلك في المغرب، غاية الأمر أن النساء الجميلات الأديبات كن في المشرق فارسيات أو بربريات أو تركيات، وكن في الأندلس إسبانيات أو أوربيات من أسرى الحروب، فكن يسكنَّ قصور الخلفاء والأمراء والأغنياء، ويعلمن الأدب فيخرج منهم أديبات. وأول ما بلغنا من النساء الأديبات ما روي عن جملة من النساء القادمات من المشرق على الأندلس، وذلك أن الخطة التي وضعها الخلفاء الأمويون بالأندلس كانت نقل ما تُزين به قصور الخلفاء من أمويين وعباسيين، فرأوا أن قصور الخلفاء تزين بالشعراء واللغويين والفتيات المغنيات، فأوفدوا لإحضار كل ذلك من المشرق، حتى يوجدوا نواة في الأندلس تثمر فيما بعد. فكما استوفدوا أبا علي القالي اللغوي المشهور، وصاعدًا وغيرهما، استوفدوا أيضًا جواري من المشرق للغناء والأدب، فذهبت إليهم فرقة ممن نشأن في المدينة أو في بغداد، كما تذهب الفرق المصرية اليوم إلى الشام أو العراق، وكان ممن ذهب إلى الأندلس في أول العهد عايدة، وكانت من خريجات المدينة، وكانت جارية سوداء حالكة اللون، وكذلك «فَضْل» المدنيَّة، وكانت حاذقة في الغناء، وأصلها من جواري إحدى بنات هارون الرشيد، واشتراها عبد الرحمن الداخل، ومنهن «قمر» وكانت أديبة تعرف صوغ الألحان، واشتهرت بالظرف والأدب والجمال، ولا ننسى هنا ذكر الجواري اللائي علمهن زرياب كما أسلفنا من قبل.

كل هؤلاء وأمثالهن علمن بعض نساء الأندلس الغناء والألحان والأدب، فنشأ بعدهن جيل جديد من نساء أهل الأندلس يغنين ويقلن الشعر، كالذي رأينا من ولَّادة مع ابن زيدون، وكان لولَّادة هذه صاحبة اسمها «مهجة» القرطبية، اشتهرت بجمالها وأحبتها ولَّادة، ولازمت تأديبها، وكانت من أخف النساء روحًا، ثم وقع بينها وبين ولَّادة ما يقع بين الفتيات الجميلات عادة، كما اشتهر من النساء الأديبات «اعتماد» جارية المعتمد وقد تقدم ذكرها، وبثينة بنت المعتمد، وحفصة بنت حمدون، و«غاية المنى»، و«نزهون»، والغرناطية وغيرهن، كل أولئك ملأن كتب الأدب شعرًا ونكتًا وأحداثًا استوجبت غزلًا كثيرًا، وعتابًا كثيرًا، وملاحاة كثيرة، وعلى الجملة فقد كُنَّ سببًا في الحياة الأدبية بجانب السبب الآخر، وهو عطاء الأمراء ورغبتهم في المديح والثناء، وكانا هما السببين في الحياة الأدبية في الشرق والغرب على السواء.

وعلى الجملة فنحن إذا نظرنا إلى الحياة الأدبية في الأندلس رأينا خطوطها الرئيسية تشبه تمامًا الخطوط الرئيسية في المشرق، سواء من حيث الموضوعات الأدبية، أو من حيث الأوزان العروضية أو من حيث البواعث النفسية. ولم يكن شيء يظهر في المشرق حتى يكون له صدى في الأندلس، يؤلف الثعالبي يتيمة الدهر في ترجمة الشعراء ترجمة مسجوعة، فيقلده ابن بسَّام في الأندلس، ونرى هذا الشاعر الأندلسي كالغزال يقلد أبا نواس، وابن زيدون يقلد البحتري، وابن هانئ يقلد المتنبي، وصاعدًا يقلد الجاحظ، وابن الخطيب يقلد ابن العميد، وجواري الأندلس يقلدن جواري المدينة وبغداد وهكذا؛ ولهذا قلنا: إن الخطوط الرئيسية تكاد تكون واحدة في الشرق والأندلس إلا خيوطًا ضعيفة قليلة يظهر فيها أثر الأندلس. فإن قلنا: إن الأدب العربي نهر جارٍ، فالأندلس رافد من روافده؛ لا نهر مستقل موازٍ له. وبعبارة أخرى: فالأندلسيون وسعوا النهر الأصلي، ولم ينشئوا نهرًا جديدًا.

ولئن دمغ الأدب الجاهلي الأدب المشرقي، فالأدب المشرقي مع الأدب الأندلسي، وكان الظن أن يؤثر الأدب الإسباني والفرنسي أثرًا غير تأثير الأدب الفارسي واليوناني في المشرق، ولكن حدث أن تأثر الأندلسيون بالمشرق أكثر من تأثرهم بالإسبانيين لوحدة اللغة وحدة الدين، والخلاصة أن الأندلسيين في أدبهم وسعوا الإنتاج أكثر مما نوَّعوه، فبدل أن ينتجوا باءً بجانب الألف وهو الأدب المشرقي، أنتجوا ألفًا أخرى تتشابه مع الأولى في الموضوع والوزن والقافية والسجع ونحو ذلك. وكأنهم كانوا يحسون مركب النقص بالنسبة لأدباء المشرق، فكملوه بمجاراتهم بدعوى التفوق عليهم، ولكنهم لم يتفوقوا، والظاهر أن تيار المشرق كان قويًّا حتى استحوذ على أدب المغرب، ولم يسمح له بالخروج عنه، وكان شأن الأدب في ذلك شأن الفقه والتصوف واللغة والفلسفة وسائر فروع العلم.

نذكر هذا بعد أن قرأنا كثيرًا من آثار الأندلسيين، وقد دخلنا في بحث الموضوع، ونحن نعتقد أننا قادمون على شيء جديد مبتكر، فإذا نحن أمام ثروة كبيرة مقلدة، وقد حدث لنا هذا مرة أخرى عندما دسنا الأدب المصري، وكنا نظن أن المصرية ستتضح في فروع العلوم والآداب، وأن سنكون أمام شخصية تنتج من الأدب أنواعًا جديدة غير التي أنتجها العراق، فلم نَرَ بعد الدرس هذا الرأي، اللهم إلا مسحة خفيفة عارضة كالمسحة التي رأيناها في الأندلس، ولعل الزمن يظهر هذا لمن بعدنا أكثر مما ظهر لنا.

هوامش

(١) أما الأدب التأليفي فقد مَرَّ في الباب الذي قبله.
(٢) نسبت كتب العرب هذه الحادثة إلى إمبراطورة القسطنطينية، ويظهر أنهم خلطوا بين إمبراطور القسطنطينية وملك الدانمرك.
(٣) أي: أنها لحسنها تقوم مقام الشمس فلا تغرب.
(٤) انظر: فصل «الحركة الدينية».
(٥) الذحل: الثأر.
(٦) انظر: الحكاية بطولها في الجزء الثاني من نفح الطيب، الطبعة الأميرية.
(٧) ص٣٨ من المعجب المطبوع في القاهرة.
(٨) الثواء: الإقامة. والتوى: أي إن البقاء في مكان واحد خمود وهلاك.
(٩) انظر: جملة أخرى صالحة من شعره في يتيمة الدهر للثعالبي والذخيرة لابن بسام.
(١٠) نسبة إلى معد وهو اسم ممدوحه المعز لدين الله.
(١١) أصاخت: أصغت. والشيظم: الطويل الجسيم من الناس والخيل والإبل. والمخدم: القاطع من السيوف. والجرس: الصوت الخفي. والبرى والبرين، جمع برة وهي كل حلقة من سوار وقرط وخلخال. وهي أيضًا حلقة تجعل في أنف البعير، والمخدَّم: موضع الخلخال من الرِّجل. والمعنى: أن العشيقة المتزوجة التي بجانب زوجها أو حارسها إذا أحست بأن عاشقها واصل إليها وعازم على قتال بعلها وهي تعلم أن عاشقها شجاع قوي، عندما تسمع صوت حليها تتوهمه وقع أرجل فرس، وإذا نظرت إلى خلخالها تخيلته لمع سيف، فصور الشاعر صورة فزعها تصويرًا لطيفًا؛ لأن الخائف يتخيل ما لا حقيقة له. أخذ ذلك من قول جرير:
ما زلت تحسب كل شيء بعدهم
خيلًا تكر عليهم ورجالا
وقول المتنبي:
يرون من الذعر صوت الرياح
صهيل الجياد وخفق البنود
(١٢) انظر: ديوان ابن هانئ، نشر الدكتور زاهد علي.
(١٣) الوارد من الشعر: الطويل المترسل، ووحف الشعر والنبات وحفا: كثف واسْوَدَّ. والشنف: القرط الأعلى، والمعنى: جعل الليل امرأة وظلامه شعر رأسها الطويل، وجعل الجوزاء شنفها في أذنها.
(١٤) قط القلم والفتيلة: قطع رأسه عرضًا. وعلى الدجى بمعنى في الدجى؛ أي: بات لنا ساقٍ يسقينا الخمر في الليل المظلم الذي لا ضوء فيه إلا ضوء نجم كأنه شمعة، لا تحتاج إلى القط ولا الطفي. وكانوا يشربون الخمر في أواخر الليل حين يختلط ظلامه بنور الصبح.
(١٥) الأغن: ذو الغنة، وهو صوت من اللهاة والأنف، والغضيض: الطرف الفاتر المسترخي الأجفان، والصهباء: الخمر. والوطف جمع أوطف، من الوطف وهو: كثرة شعر الحاجبين والعينين، والمعنى أن الساقي ليس من العرب، بل من قوم في لسانهم غنة وقد اشتهر الفرس بتجارة الخمر.
(١٦) المُدام: الخمر. وأعنت عليه: أدخل عليه مشقة شديدة. والعطف: الجنب. والمعنى: يصف شدة ارتعاش يد الساقي وتمايل جنبه، كأنه فقد توازنه.
(١٧) الحقف: ما اعوَجَّ من الرمل واستطال، والجمع: أحقاف، والمعنى: شبه ردف الساقي بكثيب رمل، لكبره، كما شبه قده الأعلى بخيزرانة، لدقته واستوائه، والمراد أن هذا الكثيب والغصن أحسن من الكثيب والغصن المعروفين.
(١٨) الحشايا: الفراش المحشو بالقطن ونحوه، إذا ملئت، وقَدَّ الشيء: قطعه مستأصلًا. واللحف جمع لحاف ككتب وكتاب. والمعنى: لم يكن عند الشراب فراش نضطجع عليه، ولا لحاف نلتحف به، فجعلنا الثوب الذي شربنا فيه الخمر فراشنا، والظلام الذي قضينا فيه الليل لحافنا، أي: إنا قضينا الليل في شرب بلا فراش ولا لحاف.
(١٩) الرشف: مص الماء بالشفتين. أي: أن الخمر تقرب حب كبد إلى كبد، وتبلغ خبر رشف من شفة إلى شفة. يعني أن شراب الخمر بعضهم أحباء بعض.
(٢٠) غفا الرجل: نام نومًا خفيفًا، وهو يخاطب نديمه فيقول: بحقك نبه الساقي من سكرة الخمر، واحمله على إدارة الكأس، فقد انكشفت أفواه الأباريق عمَّا كان عليها من فدام.
(٢١) جعل الفجر والليل جيشين يقاتل أحدهما الآخر، هذا بضوئه وذاك بظلامه، فانهزم الظلام وغلب الضوء.
(٢٢) أي: غربت نجوم الثريا، وكانت كخواتم في بنان يد خفية، أي: كانت كخواتم بلا بنان يد.
(٢٣) الوشي: الحلية على الثياب. وتأوه: شكى وتوجع، والناشج من غص بالبكاء في حلقه من غير انتحاب. ونشيج القِدر: غليانها، والسدر: شجرة النبق، وباغم أي: لا ينطق بوضوح. والمعنى لما اجتمعنا نحن والواشة معًا، واطلعوا على سر حبنا المكتوم تأوه على حبنا ناشج من القِدر، وأعانه على تأوهه ظبي باغم من السدر.
(٢٤) الجلى: الخطب العظيم. والتنديد: رفع الصوت. والمعنى: عزمه مؤيد من الله في كل خطب جليل، وسمعه حديد إلى صوت من ناداه، ولو كان مشغولًا بأهل مجلسه.
(٢٥) فنده: خطأه، والمعنى أنه يسمع كل صوت إلا صوتين: لوم اللائمين، وتفنيد المفندين.
(٢٦) صعد في الجبل: رقي، وصعد في النظر وصوبه، نظر إلى أعلاي وأسفلي.
(٢٧) كيفه، فتكيف، أي: جعل له كيفية.
(٢٨) السمهرية: الرماح.
(٢٩) المراشف: جمع مرشف وهو الشفة. ورشف الماء: مصه بشفتيه. والمحاجر: العيون. والمعنى أنه يشك فيما أصابه، هل هو من سيوف أبيك الماضية، أو نظرات عينيك الفاتكة، وهل ما أصابه أيضًا من كئوس خمر أم من مراشف فيها، لقرب أثرهما بعضه من بعضه.
(٣٠) المعنى: أتجمعين عليَّ إصابة بسهام عينيك وفتك محاجرك، أما عندك رحمة.
(٣١) السِّنة: الوسن وهو فتور يتقدم النوم، يسأل الشاعر عن موعد لقاء معشوقته ويقول: إنهم منعوا طيفك أن يزورنا ليلًا، حتى إنهم لو عثروا في سيرهم على طيف طارق لظنوه طيفك فمنعوه عنا.
(٣٢) المعنى: أن حسنك طبيعي لا صناعي، فتثنيك من رقة خصرك، وقد أخطئوا فظنوه من أثر شرب الخمر، وتكحلك طبيعي في عينيك، فظنوه من صنع صانع.
(٣٣) هذه الزيادة مستفادة من النص.
(٣٤) أو بمعنى الواو.
(٣٥) انظرها في الجزء الثاني من طبقات الشافعية للسبكي.
(٣٦) اطَّبى: ادَّعى: والجبلة: الطبيعة.
(٣٧) في هذا البيت يتبع نظرية أفلاطون في المثال.
(٣٨) الثبوت: النجوم الثوابت، والخنس: الكواكب السيارة.
(٣٩) سير النجوم.
(٤٠) الثرى: التراب، والحيا: المطر، والدر: اللؤلؤ، والتبر: الذهب، والثبج: الخرز الأسود،
(٤١) أي: حزين يلبس الحداد.
(٤٢) يشير إلى العباسيين عند محاربة الأمويين وقد اتخذ العباسيون شعارهم الراية السوداء.
(٤٣) بمعنى هلا.
(٤٤) النثل: ما جمعه الإنسان في حياته من جاه ومال ومنصب … إلخ.
(٤٥) أي لعل الملك حال كونه قادرًا على صنع جميل سوف يعمل على خلاصي.
(٤٦) اللبات: موضع القلادة من الصدر.
(٤٧) العلط: الوشم عرضًا في العنق.
(٤٨) كان ابن تاشفين ملك المغرب إذ ذاك.
(٤٩) انظر: ابن خلكان.
(٥٠) أبو خالد، هو ابنه يزيد، وأبو النصر: هو ابنه الآخر الفتح.
(٥١) أبو عمرو هذا هو ابن ثالث له قُتل في قرطبة في فتنة ابن عكاشة.
(٥٢) يستحمل: بمعنى يحمّل.
(٥٣) الرقز: ضرب من الرقص.
(٥٤) هذا البيت للشريف الرضي.
(٥٥) انظر: مادة فكاهة وأدب شعبي وترجمة البهاء زهير وابن دانيال وما يتعلق بذلك في كتابنا «قاموس العادات والتقاليد والتعبيرات المصرية».
(٥٦) انظر: البحث الذي وضعه الدكتور عبد العزيز الإهواني.
(٥٧) لابن قزمان ديوان مطبوع يرجع إليه من شاء، وقد كتب فيه بعض المستشرقين أبحاثًا مستفيضة.
(٥٨) انظر: «الحركة التأليفية».
(٥٩) انظر: «الحركة النحوية واللغوية والتأليف الأدبي» وما بعدها.
(٦٠) انظر «الحركة التأليفية».
(٦١) انظر «الشعر والشعراء».
(٦٢) اشتدت.
(٦٣) انظر: «ابن زيدون الشاعر».
(٦٤) طبع منه في مصر جزءان، ولم يطبع الثالث، ومع ذلك فالجزءان لم يطبعا طبعة علمية دقيقة ولا مستوفية.
(٦٥) تصرفنا هنا تصرفًا قليلًا في بعض التعبيرات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤