التاريخ والجغرافيا
التاريخ
أولع الأندلسيون كما أولع المشرقيون بتاريخ بلادهم وملوكهم وحوادثهم، وتراجم علمائهم وأدبائهم، والراحلين من بلادهم والوافدين عليها. ويظهر أن الاشتغال بالحديث كان هو الذي أسلم إلى الاشتغال بالتاريخ، فكان المحدثون يجمعون أحاديث من كل نوع، بعضها يتصل بالعبادات والمعاملات، وبعضها يتصل بسير النبي ﷺ والصحابة، فأسلم ذلك أولًا إلى جمع سيرة النبي، ثم أسلمهم شيئًا فشيئًا إلى كتابة التاريخ.
ونجد بعد ذلك تاريخ ابن القوطية الذي ذكره في الحركة النحوية واللغوية؛ ولهذا الكتاب قيمة من ناحية خاصة، وهي تفسيره لحوادث إسبانية لم يكن يعرفها العرب، واسم كتابه «تاريخ افتتاح الأندلس»، وقد قالوا: إنه كان رجلًا متدينًا جميلًا وطال عمره ونفع الله به الناس، وقد عثر على هذا الكتاب ونشر، وفيه صبغة فقهية مالكية، وميل إلى أصوله من القوط مما يخالف فيه المؤرخين الآخرين.
ثم نجد بعده عريب بن سعد المتوفى سنة ٣٦٩ﻫ، وكان من أصل قرطبي نصراني أسلم آباؤه، وكان سعد هذا كاتبًا عند الحكم المستنصر، وقد اختصر تاريخ الطبري وزاد عليه أخبار المغرب والأندلس، وله ذيل مطبوع لتاريخ الطبري، وجاء بعده سيد مؤرخي الأندلس ابن حيان.
وكان ابن حيان هذا من كُتَّاب المنصور بن أبي عامر، وكان أديبًا ماهرًا، إلى جانب أنه مؤرخ كبير، وقد ضاعت أكثر كتبه، ولم يبق منها إلا بقايا من كتابيه «المقتبس» و«المتين»؛ فأما «المقتبس» فيقع في عشرة أجزاء، لم يبقَ منها إلا ثلاثة، وكلها في تاريخ الأندلس من أول فتحها على يد طارق إلى زمن المؤلف. وأما «المتين» فقالوا: إنه يقع في ٦٠ جزءًا، لم يبقَ منه إلا فقر في بعض الكتب كالذخيرة لابن بسام. وقد وصفه المؤرخون والمترجمون له بأنه كان صادق الرواية، جميل الأسلوب، جزل التعبير، ولو بقيت كتبه لكشفت نواحي كثيرة من النواحي الغامضة في تاريخ الأندلس.
ولئن كان كثيرون من مؤرخي المسلمين يتحرجون من ذكر معايب الشخص، ويكتفون بمدائحه ويجرون حسب الحديث المشهور: «اذكروا محاسن موتاكم»، فكان ابن حيان في منتهى الصراحة، يذكر المحاسن ولا يتعفف عن ذكر المساوئ، ولا يومئ إليها إيماءً، بل يقولها في جرأة وشدة حتى إن بعض المؤرخين تبرأ إلى الله من قوله. وكان إذا أراد أن يقتبس شيئًا من ذلك حذف اسم المؤرخ له واكتفى بالتكنية عنه بفلان، ولم يسلم من لسانه حتى العظماء، فيذكر مثلًا عن الأمير المنذر فضائله ثم يعقب ذلك بنقائصه، فيقول: إنه كان شديد البخل، ويأخذ عليه الاستهانة بدماء الناس والإسراع إلى سفكها، حتى ولديه وإخوته وصحابته ورعيته وأخذه في ذلك بالظنة، ومع أنه — كما قلنا — من كُتَّاب المنصور بن أبي عامر، لم يتحرج من أن يتناول بالهجاء ولو من بعيد هذه الأسرة، وأن يأسف على زوال الدولة الأموية في الأندلس، ويبكي على ما كان للدولة الأموية من البهجة، وما حل محلها من دولة بربرية ليس لها ما للأموية من جلال وقدم.
وَلْنَسُقْ بعض الأمثلة للدلالة على صراحته وشدة نقده: «فلان معدن من معادن الجهل والأفن والغباوة، وحجة الله في الرزق، واستظهر — لما رأى الناس فيه من شدة وطأة المجاعة — بما شاء من ادِّخَار القوت والطعام … وولي المظالم صدر اكتهاله:
ويقول: «ومضى فلان فأُدْرج في جنَنِه غير فقيد، لم تبكِ عليه غير نفسه، إذ لم يكن لغيره نصيب في خيره؛ لأنه كان جَهْم المحيا، باسِرَ اللقاء، مُشَنَّأ إلى الورى، شكس الجبلة، كز الخلقة».
ويقول في ابن باشة: «كان هدَّام القصو، مُبَوِّر المعمور، وكان من التبحبح في اللؤم والالتحاف للشؤم، مع دناءة الأصل والفزع وتنكب السداد، وتَقَبُّل الفاسد، على ثَبَج عظيم، بيده بادت قصور بني أمية الرفيعة، ودرست آثارهم البديعة، وحُطَّت أعلامهم المنيعة، قدمه ابن السقاء مدبر قرطبة لجمع آلات ما هدم من القصور المعطلة، فاغتدى عليها أعظم آفة، يبيع أشياء جليلة القدر، رفيعة القيمة، في طريق الأمانة، ولم يَكُ مأمونًا على باقة بقل، فعاث فيها عياث النار في يبيس العرفج، وباع آلاتها من رفيع المرمر، ومثمَّن العم ونُضار الخشب، وخالص النحاس، وصافي الحديد والرصاص، بيع الإدبار. ولم يزل ينفق ما غل بمرأى ومسمع في أبواب الباطل، حُمِلت عنه في التبذير نوادر، تشهد بأن الدار ليست بدار مثوبة ولا جزاء. وكانت رُسُل الأملاك تأتيه لشراء تلك الآلات بأغلى الأثمان، فيبذلها هو في أنواع الضلالات … إلخ».
وقد قال عن نفسه: إنه أولع بالتاريخ من صغره وشغف به حبًّا، وأعد لهذا الأمر عدته. وربما مكَّن له من الصراحة أنه كما قال كان يؤلف هذا الكتاب لنفسه ويخبِّئه لابنه، ثم غير رأيه فنشره في الناس. ويقول ابن بسام: «إنه مرَى سحابه فصاب، وأخطأ التوفيق وما أصاب، إذ جاء أكثر كلامه كما قال ابن الرومي:
ومن علم أن كلامه من عمله، أقل إلَّا فيما ينفعه، ومن اعتقد أنه مسئول عما يقول، وكُتب عليه ما يَكتب، لم يستفرغ المجهود في القول، فضلًا عن أن يثلب:
مع ذلك فقد كان سهمًا لا يُنْمى رميُّه، وبحرًا لا يُنْكش آذِيُّه، لو قلب الماء لما نقع، أو تعرض لابن ذكاء ما سطع، يتناول الأحساب قد رسخت في التخوم، وأنافت على النجوم، فيضع منارها، ويطمس أنوارها، بلفظ أحسن من لقاء الحبيب عند العُوَّد. فرب شامخ بأنفه، ثانٍ من عطفه، قد مر في كتابه ينصل جرده لوضع حسبه، وخلده أحدوثة باقية في عقبه فيرده ورود الظمآن الرَّنَق، ويلبسه لبس العريان الخلق».
ونحن إلى مذهب ابن حيان أميل. فالمؤرخ عليه أن يتحرى الصق في المدح والذم، والنافع والضار، أما اقتصاره على المدح دون الذم، فتقصير في رواية الحقيقة، وقوله لنصف الحق، وليس الرجل المشهور في التاريخ ملكًا لنفسه، بل أصبح ملكًا لشعبه، يشرح المؤرخ الحصيف كما يشرح الطبيب المريض، فنحن مع ابن حيان لا ابن بسام. وكثيرًا ما ضقت ذرعًا بالمؤرخين لا يذكرون إلا المحامد، ويغضون الطرف عن المفاسد، بل قد يخلقون المدائح خلقًا وإن لم يصح نسبتها إليهم حقًّا. وهذا إن جاز للشاعر المستجدي، فلا يجوز للمؤرخ الثَّبْت المتحرِّي للصواب. غاية الأمر أننا نخالف ابن حيان في أنه يعبر عن مذامِّ الشخص تعبيرًا صارخًا ليس فيه رقة ولا ذوق ولا إيماء، والحق إن عُري من ثيابه تعرَّى من جماله.
ولئن تفوَّق ابن حيان بتاريخه الشامل للسياسة، والأحداث الاجتماعية، وتراجم بعض الأفراد، فقد تخصَّص مؤرخ آخر لتراجم علماء الأندلس، وهو «ابن الفَرَضي»، وهو أبو الوليد عبد الله محمد المعروف بابن الفرضي، من مشاهير المحدثين والمؤرِّخين، ولد في قرطبة سنة ٣٥١ﻫ، ودرس الفقه والحديث والأدب والتاريخ في قرطبة، وحج وانتهز فرصة الحج، ورحل إلى بلاد كثيرة: القيروان والقاهرة ومكة والمدينة، ولما عاد إلى الأندلس درَّس بها مدة طويلة، وولي القضاء في بلنسية، وقُتل بداره سنة ٤٠٢ﻫ أيام ثورة البربر، واشتهر بعلمه في فن الحديث، وعلم الرجال والأدب، واطَّلع على كتب كثيرة في رحلاته، ومن مؤلفاته كتاب نُشر ضمن سلسلة المكتبة الأندلسية، وهو الكتاب الذي كمَّله ابن بشكوال وهو المسمَّى «تاريخ علماء الأندلس».
ثم اشتهر من مؤرخي الأندلس ابن بشكوال، وكان أيضًا من المحدثين والمؤرخين معًا، ولد في قرطبة سنة ٤٩٤ﻫ، وقد اتَّسعت أولًا معارفه بالحديث، ومن ثَمَّ اتسع علمه بتاريخ بلاده، وقد استفاد كثيرًا من أساتذته العظام أمثال أبي بكر بن العربي. وقالوا: إنه كان آخر أقطاب المحدثين في الأندلس، وأنه ألف نحو خمسين مؤلفًا. ولم يبقَ منه كتبه التاريخية إلا كتابه «الصلة في تاريخ أئمَّة الأندلس»، وهو تتمة لكتاب ابن الفرضي السابق الذكر، وهو يدلُّ دلالة واضحة على سعة اطلاعه ووفرة علمه.
فإذا تخطَّينا نحو بعض العصور عثرنا من المؤرخين على ابن الأبَّار، وهو أيضًا محدث ومؤرِّخ، ولد في بلنسية سنة ٥٩٥ﻫ، وظل أكثر من عشرين عامًا يتتلمذ لأبي الربيع بن سالم أعظم محدثي الأندلس في عصره. وقد ألف كتابًا سماه «التكملة لكتاب الصلة»، فيكون لنا مجموعة متسلسلة في أخبار العلماء، كتاب ابن الفرضي والصلة لابن بشكوال، وتكملة الصلة لابن الأبار. ولما أحس باضطراب الأمر في بلنسية هاجر منها إلى تونس واشتغل بالتدريس بها، وقد استقبله أمير تونس استقبالًا حسنًا أول الأمر، ولكنه انقلب عليه أخيرًا وصادر كتبه، فوجد فيها هجاءً للسلطان أغضبه، حتى إنه لما مات في السجن أمر فأحرق رفاته. وقد بقي من مؤلفاته كتاب «تكملة الصلة، والحلة السيراء».
وقد نشأ في بيت حسب ونسب في شنترين، ولكن من الأسف أن هذه البلدة وقعت في يد النصارى، واستولوا على كل أملاكه، فخرج منها صفر اليدين. وفي ذلك يقول: «وعلم الله أن هذا الكتاب لم يصدر إلا عن صدر مكلوم الأحْناء، وفكر خامد الذكاء، بين جهر متلوِّن تلوُّن الحرباء، لانتباذي من شنترين، قاصية الغرب، مغلول الغَرْب، مروع السِّرب، بعد أن استنفد الطريف والتلاد، وأتى على الظاهر والباطن النفَّاد، بتواتر طوائف الروم علينا في عُقر ذلك الإقليم، وقد كنا غنينا هنالك بكرم الانتساب عن سوء الاكتساب، واجتزأنا بمذخور العناد عن التقلب في البلاد، إلى أن نثر علينا الروم ذلك النظام، «ولو تُرك القطا ليلًا لنام»، وحين اشتد الهول هنالك، اقتحمت بمن معي المسالك، على مهامِهَ تكذب فيها العين الأذن، وتُستشعر المِحَن:
ويقول في سبب تأليفه هذا الكتاب: إنه رأى في الأندلس «قومًا هم ما هم، طيب مكاسر، وصفاء جواهر، وعذوبة موارد ومصادر، لعبوا بأطراف الكلام المشقق، لعب الدُّجَى بجفون المؤرق … نثر لو رآه البديع لنسي اسمه، أو اجتلاه ابن هلال لولَّاه حكمه، ونظم لو سمعه كثير ما نسب ولا مدح، أو تتبَّعه جرول ما عوى ولا نبح، إلا أن أهل هذا الأفق أبوا إلا متابعة أهل المشرق، يرجعون إلى أخبارهم المعتادة، رجوع الحديث إلى قتادة، حتى لو نعق بتلك الآفاق غراب، أو طن بأقصى الشام والعراق ذباب، لجثَوْا على هذا صنمًا، وتلَوْا ذلك كتابًا مُحكمًا، وأخبارهم الباهرة، وأشعارهم السائرة، لا يعمر بها جنان ولا خلد، ولا يصرف فيها لسان ولا يد، فغاظني منهم ذلك، وأنفت مما هنالك، وأخذت نفسي بجمع ما وجدت من حسنات دهري، وتتبع محاسن أهل بلدي وعصري، غيرة لهذا الأفق الغريب، أن تعود بدوره أهلة، وتصبح بحاره ثمادًا مضمحلة، مع كثرة أدبائه، ووفور علمائه. وقديمًا ضيعوا العلم وأهله، ويا رُبَّ محسن مات إحسانه قبله. وليت شعري: من قصر العلم على بعض الزمان، وخص أهل المشرق بالإحسان».
وهو يدل على شكواه من أهل الأندلس من أنهم ينظرون إلى النتاج المشرقي نظرة إعجاب ولو كان تافهًا، وإلى نتاج بلادهم نظرة احتقار ولو كان نابهًا. وهو يدل أيضًا على أن أهل الأندلس كان عندهم مركب نقص أمام المشارقة، كالذي عند الشرق اليوم أمام الغرب. وقد حكى لنا هذا أيضًا ابن حزم في رسالته في فضل الأندلس، فشكا من أن كثيرًا من علماء الأندلس وأدبائه، قلَّت قيمتهم في نظر الأندلسيين؛ لأنهم من وطنهم، ولو كانوا من المشرق، لأعلوا شأنهم وزيد في قدرهم. وقديمًا قالوا: «زامر الحي لا يطرب»، و«أزهد الناس في عالم أهله».
وكان قريع ابن بسَّام في بابه الفتح بن خاقان، ولد بقرية قريبة من غرناطة، وكان فقيرًا وليس الفقر عيبًا، ولكنه كان أيضًا وضيعًا، مدمنًا للخمر، مسرفًا في تعاطيها، يتردد في البلاد لينشد أمثاله من متعاطي الخمور، ويطلب الصلة، وأسوأ ما فيه أنه كان يمدح أو يذم، تبعًا لهذا العطاء أو الضَّن، فمن أعطاه مدحه ومن حرمه قدحه، وأحيانًا يمدح الشخص ويذمه، تبعًا لصلته الشخصية.
فابن بسام في الذخيرة يفوقه بمراحل، من ناحية تحريه للتاريخ الصحيح، وبذله المدح والذم تبعًا لصفات الممدوح أو المذموم لا لعلاقته الشخصية، ومن شر ما وقع فيه الفتح بن خاقان تصرفه مع ابن باجة، فقد مدحه مدحًا صعد به السماء، ثم ذمَّه ذمًّا نزل به إلى الحضيض لحسن العلاقة بينهما أولًا وسوئها أخيرًا، فإذا نظرنا إلى أسلوب الذخيرة وأسلوب الفتح، وجدنا أن أسلوب الذخيرة أقرب إلى نفوسنا، فهو لا يلتزم السجع كما يفعل الفتح بن خاقان، وأسلوب الفتح هذا أجوف، يلعب بالألفاظ والاستعارات لعب البهلوان.
وقد ألَّف الفتح كتابين مشهورين «مطمح النفس ومسرح التأنس»، والثاني: «قلائد العقيان ومحاسن الأعيان»، فأما المطمح فذكر أعيان الأندلس، ومن اشتهر بكرم والظرف. أما القلائد فقد تعرض لمحاسن الرؤساء وأبنائهم، مع ذكر نماذج من مستعذب أقوالهم، وفيه تراجم تشترك مع تراجم المطمح. ومن أمثلة كتابته قوله في ذم ابن باجة وقد ذكرناه عند الكلام عليه في الفلسفة، ونذكر هنا مدحه فيه، للدلالة على أسلوبه، وعلى أنه يبني تراجمه من مدح أو ذم على اعتبارات شخصية، من غير تحرٍّ لصدق، أو التزام لحق، كأنه يرى أن المسألة مسألة ألفاظ جوفاء، واستعارات خيالية، وتزويقات لفظية.
قال في ابن باجة: «نور فهم ساطع، وبرهان علم لكل حجة قاطع، تتوجت بعصره الأعصار، وتأرجت من طيب ذكره الأمصار، وقام وزن المعارف واعتدل، ومال للأفهام فَنَنًا وتهدَّل، وعطل بالبرهان التقليد، وحقق بعد عدمه الاختراع والتوليد. إذا قدح زند فهمه، أورى بشررٍ للجهل محرق، وإن طما بحر خاطره، فهو لكل شيء مغرق؛ مع نزاهة النفس وصونها، وبعد الفاسد من كونها، والتحقيق الذي هو للإيمان شقيق، والجد الذي يخلق العمود وهو مستجد، وله أدب يود عطارد أن يلتحفه، ومذهب يتمنى المشتري أن يعرفه، ونظم تعشقه اللبات والنحور، وتدعيه مع نطاسة جوهرها البحور»، وقد مات الفتح ميتة شنيعة إذ وجد مخنوقًا في فندق في درب من دروب مراكش سنة ٥٢٩ﻫ.
وقد سمَّى كل جزء يتصل ببلد اسمًا خاصًّا مقلدًا في ذلك ابن عبد ربه فيما صنع في العقد، فمثلًا كتاب «الحلة المذهبة في حلى مملكة قرطبة»، وكتاب «الفردوس في حلى مملكة بطليوس»، وكتاب «الخلب في حلى مملكة شلب»، وكتاب «النفحة المندلية في حلى المملكة الطليطلية» … إلخ.
وأخيرًا ألف لسان الدين بن الخطيب كتابه «الإحاطة في أخبار غرناطة» ترجم فيه لكل علماء غرناطة وفضلائها ترجمة أدبية يسودها السجع.
- (١)
أن منهج التعليم في الأندلس كان منهجًا دقيقًا شديدًا، يسوده فقه الإمام مالك وما ينبغي عليه من حديث وتفسير، فكان الاشتغال بالفقه والحديث يسلمهم غالبًا من ترجمة رجال الحديث إلى ترجمة رجال العلم والأدب؛ ولذلك نرى أكثر المؤرخين فقهاء أشبه ما يكونون بالطبري في المشرق. فقد كان فقيهًا مؤرخًا، ولكن قلَّ أن نجد بالأندلس مثل: المسعودي واليعقوبي وأبي الفدا من مؤرخي المشرق غير الفقهاء.
- (٢)
ربما نلاحظ أن التاريخ الأندلسي اتصل بالأدب أكثر مما اتصل المؤرِّخ الشرقي به، وسبب ذلك أن أكثر المؤرخين الأندلسيين كانوا أدباء شاعرين أو ناثرين، وسبب آخر وهو أن عواطف الأندلسيين نحو بلادهم كانت أقوى، فكلما سقطت بلدة في يد النصارى رثاها الأدباء وحلل وقائعها المؤرخون. فمثلًا لما سقطت طليطلة وكانت أول ما سقط، تكلموا عن سقوطها كثيرًا، وحللوا أسباب سقوطها تحليلًا كبيرًا. وكذلك لما سقطت بلنسية استغاثوا بصاحب إفريقيا أبي زكريا بن أبي حفص، وقال قائلهم القصيدة المشهورة:
أدرك بخيلك خيل الله أندلساإن السبيل إلى منجاتها درسايا لجزيرة أضحى أهلها جزرًاللحادثات وأمسى حدها نفساتقاسم الروم لا نالت مقاسهمإلا عقائلها المحجوبة الأنساوفي بلنسية منها وقرطبةما ينسف النفس أو ما ينزف النفسامدائن حلها الإشراك مبتسمًاجذلان وارتحل الإيمان مبتئساوهي قصيدة قوية طويلة تفيض بكاءً. وأخيرًا سقطت الأندلس كلها، فقيل في رثائها الكثير، ومن أحسنه:
لكل شيء إذا ما تم نقصانفلا يغر بطيب العيش إنسانهي الأمور كما شاهدتها دولمن سره زمنه ساءته أزمانتبكي الحنيفية السمحاء من أسفكما بكى لفراق الإلف هيمانعلى ديار من الإسلام خاليةقد أقفرت ولها بالكفر عمرانحيث المساجد قد صارت كنائس مافيهن إلا نواقيس وصلبانحتى المحاريب تبكي وهي جامدةحتى المنابر ترثي وهي عيدانيا غافلًا وله في الدهر موعظةإن كنت في سنة فالدهر يقظانيا من لذلة قوم بعد عزهمأحال حالهم كفر وطغيانبالأمس كانوا ملوكًا في منازلهمواليوم هم في بلاد الكفر عبدانفلو تراهم حيارى لا دليل لهمعليهم من ثياب الذل ألوانولو رأيت بكاهم عند بيعتهملهالك الأمر واستهوتك أحزانويختمها بهذا البيت:
لمثل هذا يذوب القلب من كمدإن كان في القلب إسلام وإيمانلقد رأينا مدنًا في الشرق تتساقط تساقط أوراق الشجر، تستوجب الرثاء والبكاء، كما سقطت بغداد في يد التتار، وأزالوا كل ما فيها من مظاهر مدنية وحضارة، وفعل التتار فيها ما لا يقل عما فعله الإسبانيون في الأندلس، وغزا هولاكو وتيمورلنك ونحوهما بلاد الشام، وأسقطوها بلدًا بلدًا، فما رأينا عاطفة قوية، ولا رثاءً صارخًا ولا أدبًا رقيقًا ولا تاريخًا مسجلًا، كالذي رأيناه في الأندلس، فإن قلنا: إن هذه الناحية في التاريخ الأندلسي أقوى وأشد، لم نبعد عن الصواب.
- (٣)
رأينا في الأندلس أيضًا صنفًا من التاريخ لم نجده كثيرًا في الشرق. قد رأينا في ترجمة ابن عبد ربه أنه وضع ملحمة في أعمال عبد الرحمن الناصر وغزواته مؤرخة بالسنين، ورأينا ملحمة أخرى لأبي طالب عبد الغفار مما لم نجد له نظيرًا في الشرق، نعم: رأينا أرجوزة مطولة لابن المعتز في تسجيل الأحداث في زمانه، ولكن قصيدة ابن المعتز في باب الاجتماع أدخل، وملحمة ابن عبد ربه وأبي طالب في باب التأريخ أدخل. والله أعلم.
الجغرافيا
جمع بعض العلماء في كتبه بين معلومات تاريخية ومعلومات في صميم الجغرافيا، ومن أشهر هؤلاء ابن حيان السابق الذكر، فإنه يرد في ثنايا كلامه التاريخي وصفٌ جغرافي كقوله في بعض كتبه:
ابتدأ الناصر ببناء الزهراء اول يوم سنة ٣٢٥ﻫ، وجعل طولها من شرق إلى غرب ٢٧٠٠ ذراعًا، وتكسيرها ٩٩٠٠٠٠، وكان يثيب على كل رخامة كبيرة أو صغيرة عشرة دنانير، سوى ما كان يلزم على قطعها ونقلها ومئونة حملها، وجلب إليها الرخام الأبيض من المرية، والمجزع من رية، والوردي والأخضر من إفريقيا، والحوض المنقوش المذهَّب من الشام، وقيل: من القسطنطينية، وفيه نقوش وتماثيل وصور على صور الإنسان، وليس له قيمة — أي: لا يقوَّم — … فأمر الناصر بنصبه في وسط المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس، ونصب عليه اثني عشر تمثالًا، وبنى في قصرها المجلس المسمَّى بقصر الخلافة، وكان سمكه من الذهب والرخام الغليظ الصافي لونه، المتلونة أجناسه، كانت حيطان هذا المجلس مثل ذلك، وجعلت في وسطه اليتيمة التي أتحف الناصر بها إليون ملك القسطنطينية، وكانت قرامد هذا القصر من الذهب والفضة، وهذا المجلس في وسطه صهريج عظيم مملوء بالزئبق، وكان في كل جانب من هذا المجلس ثمانية أبواب قد انعقدت على حنايا من العاج والأبنوس المرصع بالذهب وأصناف الجواهر، قامت على سوار من الرخام الملون، والبلور الصافي، وكانت الشمس تدخل الأبواب، فيضرب شعاعها في صدر المجلس وحيطانه، فيصير من ذلك نور يأخذ بالأبصار، وكان الناصر إذا أراد أن يفزع أحدًا من مجلسه أومأ إلى أحد صقالبته، فيحرك ذلك الزئبق، فيظهر في المجلس كلمعان البرق في النور، ويأخذ بمجامع القلوب، وبها من المرمر والعمد كثير، وأحدق بها البساتين، وفيها يقول الشاعر:
واخترعوا طريقة لطيفة لإظهار محاسن كل مدينة، وهي طريقة إقامة مناظرة بين المدن الأندلسية المختلفة تفخر بنفسها، وتظهر مزاياها التي لا توجد في مدن أخرى، وترد الثانية عليها، كما روي أن مالقة قامت فقالت: «لي البحر العجاج؛ والسبل الفجاج، والجنات الأثيرة، والفواكه الكثيرة، ولدي من البهجة ما يستغني به الحمام عن الهديل، ولا تجنح الأنفس الرقاق الحواشي إلى تعويض عنه وتبديل … فقامت مرسية وقالت: أمامي تتعاطون الفخر، وبحضرة الدر تنفقون الصخر، إن عدَّت المفاخر فلي منها الأول والآخر، أين أوشالكم من بحري، وخرزكم من لؤلؤ نحري، وجعجعتكم من نفثات سحري، فلي الروض النضير، والمرأى الذي ما له نظير، فأبنائي فيه في الجنة الدنيوية مودعون، يتنعمون فيها يأخذون ويدعون، ولهم فيها ما تشتهي أنفسهم ولهم فيها ما يدَّعون … فقامت بلنسية وقالت: فيم الجدال والقراع؟ وعلام الاستهام والاقتراع؟ وإلام التعريض والتصريح، وتحت الرغوة اللبن الصريح؟ … فلي المحاسن الشامخة الأعلام، والجنات التي تلقي إليها الآفاق يد الاستسلام، وبرصافتي وجسري أعارض مدينة السلام … فأنا حيث لا تدركون … إلخ.
وهكذا قامت كل مدينة تفتخر بما عندها، وتعتب على غيرها في شكل أدبي لطيف.
وعلى الجملة فكان علمًا عظيمًا من أعلام الجغرافيين الأندلسيين.
واشتهر كذلك في الجغرافيا الشريف الإدريسي، وربما كان أكبر جغرافيي المسلمين ويعرف عنه الأوربيون كثيرًا، وهو أبو عبد الله محمد بن محمد، ويسمَّى بالشريف لنسبته إلى الحسن، وأحيانًا يلقب بالقرطبي. والسبب في معرفة الأوربيين له أنه اتصل ببلاط روجر الألماني ملك صقلية، وقربه إليه وحط رحاله عنده، بعد رحلات طويلة في ممالك مختلفة. وكان روجر هذا يشجعه على التأليف في الجغرافيا ورسم الخطط له؛ ولذلك قد يسمَّى الشريف الإدريس الصقلي. وألَّف في الجغرافيا كتابه المشهور «نزهة المشتاق في ذكر الأمصار والأقطار والبلدان والجزر والمدائن والآفاق»، وشحنه بالخرائط اللازمة التي تزيد عن الأربعين خريطة، وكان أعظم كتاب في الجغرافيا في زمنه؛ ولذلك ترجم إلى اللغة اللاتينية وطُبع.
وفي الحقيقة أن من قرأ الكتاب استدل منه على معرفة واسعة بالبلاد وخبرة تامة بمواقعها وميزاتها، ونباتها وحيوانها، وغير ذلك مما يعجب منه القارئ، ويتصل بالجغرافيا أكبر اتصال الرحلات، وقد كان في المشرق رحالون كثيرون أفضلهم المقدسي، وكان في الأندلس أيضًا رحالون كثيرون، وربما كان الأندلسيون أقدر على الرحلة لما يغلب عليهم من الدروشة والتصوف، فكانوا يجدون سهولة كبيرة في التنقل والإقامة في البلاد التي ينزلونها، ويُستقبلون استقبالًا حسنًا في الرباطات والخانقاهات، ومن أشهر رحالي الأندلس ابن جبير وابن بطوطه، فابن جبير أبو الحسين محمد، ولد ببلنسية سنة ٥٤٠ﻫ، ودرس الفقه والحديث في شاطبة، ثم حج فذهب من غرناطة إلى سبتة عن طريق جزيرة طريف، ومن سبتة ركب البحر إلى الإسكندرية، ثم مرَّ بالقاهرة، فقوص فعيذاب فجدة، وفي رجوعه رحل إلى العراق فزار بغداد والكوفة والموصل، ورحل إلى الشام فزار حلب ودمشق، وركب البحر من عكا إلى صقلية، ومن صقلية عاد إلى غرناطة، ورحل بعد ذلك رحلتين إلى المشرق: أولاهما من سنة ٥٨٥ﻫ إلى ٥٨٧ﻫ، والثانية سنة ٦١٤ﻫ. ويظهر أنه كان ينوي الرحلة بعيدًا ولكنه لما وصل إلى الإسكندرية مات. وقد ملئت رحلته بالفوائد فهو يذكر العلماء الذين رآهم ويصفهم، والوعاظ وطريقة وعظهم، والمكَّاسين وطريقة أخذهم للضرائب، هذا عدا وصف المدن أو البلاد التي كان يمر بها.
وعلى الجملة فكتابه أوفى رحلة وصورة اجتماعية وجغرافية للبلاد التي مَرَّ بها، حتى إن الإفرنج اهتموا كثيرًا بالقسم من رحلته الذي دوَّن فيه حالة صقلية في عهد وليم الصالح، وترجموا نصه وعلقوا عليه.
وكان مثقفًا دقيق الملاحظة، بليغًا في الوصف، فمثلًا يقول وقد أتى شهر رمضان عليه وهو في مكة: «وكان صيام أهل مكة يوم الأحد بدعوى في رؤية الهلال لم تصح، لكن أمضى الأمير ذلك، ووقع الإيذان بالصوم بضرب دبادبه لموافقته مذهبه، ومذهب شيعته العلويين ومن إليهم؛ لأنهم يرون صيام يوم الشك فرضًا. ووقع الاحتفال في المسجد الحرام لهذا الشهر من تجديد الحصر، وتكثير الشمع والمشاعل وغير ذلك من الآلات، حتى تلألأ الحرم نورًا، وسطع ضياء، وتفرقت الأئمة لإقامة التراويح فرقًا» إلخ من وصف مفصل دقيق.
ويقول لما وصل بغداد: «هذه المدينة العتيقة، وإن لم تزل حضرة الخلافة العباسية، قد ذهب أكثر رسمها ولم يبقَ منها إلا شهير اسمها، وهي بالإضافة إلى ما كانت عليه قبل إنحاء الحوادث الطامس، أو تمثال الخيال الشاخص، فلا حسن فيها يستوقف البصر، ويستدعي من المستوفز العقلة والنظر … وأما أهلها فلا تكاد تلقى منهم إلا من يتصنع التواضع رياءً، ويذهب بنفسه عجبًا وكبرياءً. يزدرون الغرباء، ويظهرون لمن دونهم الأنفة والإباء، ويستصغرون عمَّن سواهم الأحاديث والأنباء … إلخ».
ويلي ابن جبير في الزمن ابن بطوطة، وقد ضبطه ابن خلدون في نسخته بضم الباء، وكثيرًا ما يلقب بالطنجي؛ لأنه ولد بطنجة سنة ٧٠٣ﻫ، ولكن أهله كانوا بالأندلس، ومنهم من تولى القضاء ببعض مدنها، وكان أكثر دروشة في سفره من ابن جبير. بدأ رحلته بالحج إلى مكة عن طريق شمالي إفريقيا فمصر فالبحر الأحمر، ولمَّا لم يجد الطريق أمامه مفتوحًا، عاد ووصل إلى مكة عن طريق الشام وفلسطين، ومن مكة وصل إلى العراق، ثم زار بلاد فارس والموصل وديار بكر، ثم زار مكة للمرة الثانية، وقضى فيها عامين، ورحل رحلة ثالثة إلى جنوب بلاد العرب، فإفريقيا الشرقية، ورحل منها إلى الخليج الفارسي، ثم عاد إلى آسيا الصغرى وبلاد القرم عن طريق مصر والشام، وزار القسطنطينية في حاشية الأميرة اليونانية زوجة السلطان محمد أوزْبِك، واخترق خوارزم وبخارى وأفغانستان، ثم رحل إلى الهند وولي القضاء في دلهي، وسار في بعثة سياسية إلى الصين فوصل إلى جزائر مولديف، ومنها سافر إلى الصين عن طريق سيلان والبنغال والهند الأقصى.
ثم رحل إلى بلاد العرب عن طريق جزيرة سوماطرة، فترى من هذه حبه الكثير للتجوال، وكان في كل بلدة ينزلها يختلط بأهلها وبأميرها، وكثيرًا ما يتزوج منها مما يسهل له وصف مناظرها، وشرح عوائدها، وكان يهتم اهتمامًا كبيرًا برجال الدين؛ ولذلك يعد كتابه وصفًا شاملًا للحياة الاجتماعية في عصره، كما يدل وصفه على كيفية تصوره للمسائل.
وقد أفادتنا رحلته ورحلة ابن جبير فوائد أكثر مما أفادتنا كتب التاريخ المؤلفة في عصرهما؛ لأن تاريخهما تاريخ حي، يعنى بالحياة الحية أكثر مما يعنى بالحروب والفتوح والجنود وعددها وغلبتها … إلخ.
ومما يتصل بالرحلات ما ذكره الشريف الإدريسى عن الإخوة المغررين من أنهم: «خرجوا من أشبونة أولًا إلى ناحية الغرب، وساروا «في البحر» اثني عشر يومًا، فلم يجدوا شيئًا، فانعطفوا إلى ناحية الجنوب، فساروا اثني عشر يومًا أخرى، فوصلوا إلى جزيرة لم يجدوا فيها إلا غنمًا لحومها مُرَّة لا تؤكل، فانعطفوا أيضًا إلى الجنوب، وساروا اثني عشر يومًا إلى أن وصلوا إلى جزيرة وجدوا فيها بشرًا، وأُخِذوا إلى أمير الجزيرة وجرى معهم ما جرى».
والذي يظهر من هذا أنهم وصلوا أولًا إلى جزيرة بين أمريكا الشمالية وأمريكا الجنوبية، وقد سار في نفس الطريق كولمبس، ولا شك أنه وقف على رحلة هؤلاء الإخوة واستفاد مما ورد عنهم. ويظهر أن قول الإدريسي: أنهم ساروا مسافة اثني عشر يومًا حتى وصلوا ما وصلوا إليه ليس بدقيق؛ فإن المسافة تقطع في المراكب الشراعية في أطول من هذا، ومما يروى أن كولمبس قد اطلع على كتب كثيرة قبل رحلته، منها ما أخذه عن العرب كما ورد في دائرة المعارف الفرنسية، فهم بهذا كانوا أسبق في اكتشاف أمريكا، لولا سوء الظروف التي منعت من نجاحهم.