ظهور المعتزلة
وكان مبدؤهم أول أمرهم البعد عن السياسة، والتفرغ لعبادتهم ودعوتهم، ولذلك لما انتُقِد المنصور في حدوث الجور والظلم في الدولة، دعا عمرو بن عبيد المعتزلي وفرقته إلى أن يتعاونوا معه في تدبير الدولة فأبوا، ولكنهم تحولوا عن هذا المبدأ بعد ذلك، وانغمسوا في السياسة، وصاروا وزراء وعمالًا، وأطلق المأمون، والمعتصم، والواثق أيديهم في السياسة، فنكلوا بخصومهم، وأذاقوا الناس العذاب إذا هم لم يقولوا بخلق القرآن، وأقاموا في البلاد ضجة ليس لها مثيل من محاكم تقام، ويعرض فيها على العلماء والقضاة القول بخلق القرآن، فمن لم يقل عُذِّب وأهين.
وسمّى المؤرخون هذه الفترة بمحنة خلق القرآن، وكانت سطوتهم في ذلك قد بلغت الذروة، فلما بلغوها أخذوا ينحدرون عنها.
وجاء المتوكل فرأى نارًا تتقد في كل مكان، وامتحانات ومحاكمات، وضربًا ونفيًا وتشريدًا، والرأي العام ساخط على هذه الحالة، ومن لم يقل بخلق القرآن، وتحمل العذاب عدّ بطلًا؛ فأراد الخليفة المتوكل أن يحتضن الرأي العام، وأن يكسب تأييده، فأبطل القول بخلق القرآن، وأبطل الامتحانات، والمحاكمات، ونصر المُحَدثين. وعلى الجملة فقد انضم إلى المعسكر الآخر معسكر غير المعتزلة، وأكثر الناس عبيد السلطة، فما إن رأوا تحول السلطة عن المعتزلة حتى هجروهم، وأصبح القول بالاعتزال يحدث في الغالب سرًّا بعد أن كان جهرًا، ويتطلب شجاعة كبيرة، وجرأة شديدة، ولذلك قل عدد المعتزلة، وعدد رؤسائها.
يضاف إلى ذلك أنه وجدت عوامل أخرى تهاجم المعتزلة من فقهاء، ومحدثين، وروافض، ونصارى، ويهود، وتجمع هؤلاء ضدهم، حتى إن بعض من كان معهم خرج عليهم، كما سنرى في الكلام على أبي الحسن الأشعري.