تطور المعتزلة
وجهم هذا هو جهم بن صفوان، وقد ظهر بترمذ في آخر الدولة الأموية، ثم انتقل المذهب إلى بلخ، وكان جهم هذا صديقًا لمقاتل بن سليمان العمدة المشهور في تفسير القرآن، وكان جَهم متصلًا اتصالًا شديدًا أيضًا بالحارث بن سريج عظيم الأزد بخراسان، وقد شوَّهت سمعة الجهم والحارث بن سريج تشويهًا كبيرًا، خصوصًا على يد المحدثين، وعلى يد الساسة؛ لأنهما أعلنا الثورة على الدولة الأموية، وطالباها بالعمل بالكتاب والسنة والشورى.
وأرادت الدولة الأموية أن تعطيهما مالًا كثيرًا لقاء سكوتهما عنها فأبيا، وألحا في طلب العدل، وكانا من أول الخارجين عليها، وتكوين الجيوش ضدها في الحركة التي انتهت بسقوط الدولة الأموية، كما يؤخذ من كتب التاريخ، ولكنهما — كما يظهر — لم يكونا على علم كبير بالحديث، وإنما كانا عقليّين في تفكيرهما، فهاجمهما رجال الحديث، وشوَّهوا سمعتهما، ومن سوء الحظ أنهما قُتلا في عهد مروان بن محمد آخر الدولة الأموية.
ثم جاءت الدولة العباسية، وجاء الجهمية بشكل جديد هو المعتزلة، وكانت خلاصة مذهب جهم القول بنفي التشبيه، وتأويل الآيات التي وردت مما تشعر بالتشبيه، كيد الله، ووجهه سبحانه وتعالى.
ومن أقواله أيضًا نفي صفات الله كالعلم والقدرة، وقوله: إن صفاته عين ذاته، أي أنه ليس قادرًا بقدرة غير ذاته، ولا مريدًا بإرادة غير ذاته.
وأرجعوا الصفات كلها إلى ذاته، ورأوا أن ذلك أدل على التنزيه، واقتضاهم ذلك القول بأن الله لا يرى حقيقة في الآخرة، ولا يتكلم حقيقةً، وإنما كل هذه مجازات، كما قالوا بخلق القرآن، وذلك أنهم قالوا: إن بعض الآيات والأحاديث إذا أخذت على ظاهرها أفادت التشبيه بصفات المخلوقين وهو مستحيل، والله لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ (الشورى: ١١).
وهي تعاليم — كما ترى — تطرقت إلى المعتزلة، وتطورت، ودعوا إليها، ومن هذا نرى أن هؤلاء الجهمية وجهة نظر محترمة، ولكنهم لما خرجوا على الأمويين شنَّع هؤلاء عليهم، ورموهم بأنهم دهريون، مع أن الدهريين هم الملحدون، ولا إلحاد عند الجهميين، وإنما هم طلاب عدل.
ثم لما لم يكونوا من أهل الحديث، ولم يتبعوا بعضه شنّع عليهم المحدثون أيضًا، وكان ذلك هو الشأن مع المعتزلة ورثة الجهمية.
جاء المعتزلة بعد ذلك، وقالوا بخلاصة ما قال به الجهمية، وانتشرت الفلسفة في العراق؛ فدخل كثير منها في الاعتزال، وكان خصوم المعتزلة من أهل المذاهب، والديانات يجادلونهم في بعض العقائد والآراء، فيرد عليهم المعتزلة، وتكون الردود ضمن الاعتزال.
وعمرو بن عبيد هو الذي صَفَّى مذهب الجهمية، وقوَّى حججه، وجاء بعده أبو الهذيل العلاف، وكان ذا علم واسع، واطلاع على الفلسفة، فزاد كثيرًا في تعاليم المعتزلة، وكان فصيحًا بليغًا، رد على الدهرية ردودًا كثيرة، وتكلم في التوحيد كلامًا حسنًا، وتكلم في التولد وفي الاستطاعة، وقال: إن الأرض لا تخلو في كل عصر من العصور من أئمة مجتهدين، يعرفون الحق، ويدعون إليه.
وجاء بعده النَّظام فتناول مسائل كثيرة عُدَّت من مسائل الاعتزال، فرد كثيرًا على شبه الملحدين وعلى من يعتقدون بالنور والظلمة، وتكلم في الجزء الذي لا يتجزأ، وطبائع الأجسام، وفي اتصال الشكل بالشكل، وفي الألوان، والطعوم، والروائح، ونفى قدرة الله على الظلم، وتكلم في إعجاز القرآن، وفي القياس والإجماع، وشرَّح في جرأة أعمال الصحابة، ونسب إلى بعضهم الخطأ.
وتكلم بصراحة في الفاضل والمفضول، وأيهم أصاب سياسيًّا، وأيهم أخطأ، وطالب بعرض الأحاديث على العقل، ونفْي ما لم يقبله العقل منها، وتوسع في درس طبائع الحيوان، وكان قد تكلم فيها قبله ثمامة بن الأشرس، وبشر بن المعتمر؛ فزاد على قولهما.
وبالجملة فقد أدخل في باب الاعتزال مسائل كثيرة، بعضها سياسي، وبعضها فقهي، وبعضها أصولي، وبعضها طبيعي.
وجاء بعده الجاحظ، وكان لسان المعتزلة في عصره، فرد على المشبّهة، وتكلم في إعجاز القرآن، وألف في الاحتجاج للنبوة، ونصرة الرسالة، وفي الطبائع، مع اعتماده على التجارب دون النظريات، وتكلم في الخلود في الآخرة.
ومن أشهر هذه الطبقة من المعتزلة أبو مجالد، وقد وصفه ابن الخياط بأنه: «رجل جمع العلم بالحديث، والفقه، والكلام، وتفسير القرآن مع حسن بيان، وفصاحة لسان، وإظهار للحق، والدعاء إليه، والقصص به أيام حياته، والصبر على الأذى في الله، حتى لحق به، رحمه الله …»، ثم قال: «وما رأيت أحدًا قط كان أغلظ على من صدّق بالنجوم منه.»
ثم جاء بعدهم الطبقة الثامنة، وهم الذين كانوا في عصرنا الذي نؤرخه، وأعني بهم من مات في النصف الأخير من القرن الثالث الهجري، أو القرن الرابع، وكان منهم أبو علي الجُبائي المتوفى سنة ٣٠٣ﻫ، وأبو القاسم عبد الله البلخي الكعبي المتوفى سنة ٣١٩ﻫ، وأبو مضر بن أبي الوليد بن أحمد بن أبي دؤاد، فهؤلاء كلهم زادوا في مسائل الاعتزال، وردوا على مخالفيهم.
وحدث حادث جدير بالنظر، وهو أن المعتزلة لما ذهبت دولتهم على يد المتوكل تنمَّر الناس لهم، ونالوا منهم، فنصب الجاحظ نفسه للدفاع عنهم، وألّف كتابًا سماه «فضائل المعتزلة»، ولم يكن الكتاب كله في بيان الفضائل، بل تعرض لمسائل أخرى، كالرد على ألد خصومهم، وهم «الرافضة»، ولكن حدث أن جاء رجل اسمه «ابن الراوندي»، تثقف على يد المعتزلة حتى مهر في الاعتزال، ولكن خرج على المعتزلة في بعض تعاليمهم الأساسية؛ فطردوه من زمرتهم، وكان فقيرًا بائسًا يحقد على الجاهل غناه مع بؤس أمثاله من العلماء، ويقول:
فلما طرده المعتزلة، وتنكروا له، ورأى أن الدولة ليست لهم، بل هي عليهم، تنكر هو أيضًا؛ فوضع ثقافته، وبلاغته في يد خصومهم يؤلّف لهم، فألف لليهود ضد المسلمين، وألف للرافضة ضد المعتزلة، وكان مما ألّفه ابن الراوندي هذا كتاب «فضائح المعتزلة»، شنع عليهم فيها تشنيعًا كبيرًا، ونسب إليهم أحيانًا ما لم يقولوه.
وابن الراوندي هذا فارسي، من نواحي أصبهان، سكن بغداد، وعرف بمذهب الاعتزال، ثم اتهم بالإلحاد والزندقة، وعرف بالحذق، ومعرفة دقائق علم الكلام وجليله، وألف كتبًا كثيرة، ككتاب «التاج»، يحتج فيه على قدم العالم، وكتاب «الزمردة»، يحتج فيه على بطلان الرسالة. ونسبوا إليه أنه قال: «إنا نجد في كلام أكثم بن صيفي شيئًا أحسن من: إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (الكوثر: ١).
ومما قاله استهزاء بوصف الجنة عند سماعه أن فيها أنهارًا من لبن: «أنه لا يكاد يشتهيه إلا الجائع»، وقال: «من تخيل أنه في الجنة يلبس الإستبرق، ويشرب الحليب والزنجبيل صار كعروس الأكراد والنبط.»
ونخشى أن تكون هذه الأشياء مما وضعها عليه خصومه من المعتزلة لما خرج عليهم. فانبرى أبو الحسين بن الخياط المعتزلي فألف كتابًا في الرد عليه سماه «الانتصار»، ومعنى الانتصار: الانتصار للمعتزلة ضد ابن الراوندي، ومن حسن الحظ أن الكتاب بقي لنا إلى اليوم، وقد نهج في هذا الكتاب منهجًا يحكي فيه قول ابن الراوندي، ثم يعقب قوله بالنقض له، فمثلًا يقول ابن الراوندي: «إن الرافضة لو نظرت في الكلام — يقصد علم الكلام — لوجدت في مقالات المعتزلة من فاحش الخطأ، وعظيم الكفر ما يربي قليله على عظيم كفر اليهود والنصارى.» فرد عليه ابن الخياط يقول: «أما جملة قول المعتزلة الذي يشتمل على جماعتها فليس يمكنك عيبه، ولا الطعن عليه؛ لأن الأمة بأسرها تصدق المعتزلة في أصولها التي تعتقدها، وتدين بها، وهو أن الله واحد ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار، ولا تحيط به الأقطار، وأنه لا يحول ولا يزول، ولا يتغير ولا ينتقل، وأنه الأول والآخر والظاهر والباطن، وأنه في السماء إله، وفي الأرض إله، وأنه أقرب إلينا من حبل الوريد، مَا يَكُونُ مِن نَّجْوَىٰ ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ (المجادلة: ٧) لعباده، وأنه لا يحب الفساد، ولا يرضى لعباده الكفر، ولا يريد ظلمًا للعالمين؛ وأن خير الخلق أطوعهم له، وأنه الصادق في أخباره، الموفي بوعده ووعيده، وأن الجنة دار المتقين، والنار دار الفاسقين، وهذه الأقاويل الأمة مجمعة عليها، ومصدقة قول المعتزلة فيها.»
وهكذا سار على هذا النمط، وقد انتفع بالكتاب كثيرًا البغدادي في كتابه «الفرق بين الفرق»، والشهرستاني في «الملل والنحل»، وغير ذلك من الكتب، فنسبوا للمعتزلة ما قاله ابن الراوندي، وشنعوا على المعتزلة من غير تحقيق.
ثم إن كل إمام كبير من أئمة المعتزلة كانت له أقوال في مسائل خاصة غير أصول الاعتزال، وتبعه عليها بعض تلاميذه، فانقسم المعتزلة إلى فرق، أو إلى مدارس؛ نسبةً إلى رئيسهم، مثل: الواصلية نسبة إلى واصل بن عطاء، والهذيلية نسبة إلى أبي الهذيل العلاف، والنظامية نسبة إلى إبراهيم بن سيار النظام، والجاحظية نسبة إلى الجاحظ، والخياطية، والكعبية، والجبائية … إلخ.
ونحن نورد أمثلة مما كانوا يتباحثون فيه وفقًا للمجموعات الأربع التي ذكرناها من قبل؛ إذ حصرنا أقوالهم تقريبًا في الإلهيات، والطبيعيات، والفقه، والأصول، والحديث، وتشريح أعمال الصحابة، ومن هو أحق بالإمامة.
(١) في الإلهيات
بحثوا كثيرًا في أفعال العباد، فقال أهل السنة: إن أفعال العباد مخلوقة خلقها الله في الفاعلين لها، أما أكثر المعتزلة فقد قالوا: إن أفعال العباد محدثة، خلقها فاعلوها، ولم يخلقها الله.
وقال الجاحظ من المعتزلة: «إن أفعال العباد تنسب إلى العباد مجازًا، وإنما هي أفعال الطبيعة تظهر فيهم، إلا الإرادة فإنها فعل الإنسان، ونظير ذلك فعل النار للإحراق، وفعل الثلج للتبريد، وفعل المسهل للإسهال.» وكأنه يريد أن أفعال الإنسان كما يقول بعض الفلاسفة في عصرنا نتيجة حتمية طبيعية للبيئة والوراثة، وأن الإنسان لا يمكنه أن يفعل غير ما فعل، فمن كان في وسط مهذب متعلم صدرت عنه أفعال خاصة غير التي تصدر في بيئة أخرى وهكذا.
وإنما استثنى الجاحظ الإرادة؛ لأنها — على ما أظن — هي الصفة الخادعة؛ إذ يظن الإنسان أنه يريد ما يفعل خداعًا، مع أنه يفعل ما يراد منه ليس إلا.
ودار الجدل كثيرًا حول هذه المسألة، وكلٌّ يستدل على ما يقول، فأما من قال: إن أفعال العباد هي أفعال الله، فاستدل بنصوص القرآن، وببراهين عقلية؛ فمن النصوص قول الله — عز وجل — في القرآن: هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللهِ (فاطر: ٣)، وقوله: وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (النحل: ٢٠) وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (الفرقان: ٣)، وقوله: أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لَّا يَخْلُقُ ۗ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (النحل: ١٧)، وقوله تعالى: هَذَا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِن دُونِهِ (لقمان: ١١) ومعنى هذا أن الله خلق كل ما في العالم، وأن من، دونه لا يخلق شيئًا، فلو كان الله خالقًا لبعض الأشياء، والناس خالقين لبعضها لكانوا شركاء في الخلق، فنتج من ذلك أنه لا يخلق شيئًا غير الله. وقال تعالى: وَالله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (الصافات: ٩٦). ومما استدلوا به أن كل المسلمين يعتقدون أن الله تعالى إله العالم، ورب كل شيء، ومن المحال أن يكون الله إلهًا لما لم يخلق.
أما المعتزلة فقد استدلوا بقوله تعالى: فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِندِ اللهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا (البقرة: ٧٩)، وقوله: لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللهِ (آل عمران: ٧٨)، وقوله: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (المؤمنون: ١٤)، مما يدل على أن هناك خالقًا غيره، كالإنسان يخلق أفعال نفسه، وقوله مخاطبًا للكافرين: وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا (العنكبوت: ١٧)، واستدلوا ببعض الحجج العقلية أيضًا.
وقالوا: لو كان الله خالق أعمال العباد لاقتضى ذلك أنه يغضب مما خلق ويكرهه، ولا يرضى ما فعل وما دبّر.
وقالوا: إن كل من فعل شيئًا فهو مسمّى به، ومنسوب إليه، فلو خلق الله الخطأ والكذب والظلم والكفر، لنسب كل ذلك إليه، تعالى الله عن ذلك.
ومن حججهم أيضًا: أنه إذا كانت أفعال العباد لله، فهذه الأعمال تنقسم قسمين: أعمال صالحة، وأعمال سيئة، ولا معنى للإثابة والعقاب ما دام العبد لم يفعلها، وإنما فعلها الله، فإذا أثابنا فقد أثابنا على ما فعل، وإن عذبنا فقد عذبنا على ما فعل، وهذا لا يستقيم في العقل.
هذه هي أصول احتجاجات الطرفين، وكانت النتيجة أن كل من أدلى من أحد الفريقين بحجة ردَّ الآخر عليه بما ينقضها، ولهذا تعددت الأقوال والبراهين والردود إلى ما لا نهاية لها مما لا يخرج عن هذا.
وفي الحقيقة أن في القرآن لمحة من هذا، ولمحة من ذلك، فلما جاء المفسرون انقسموا هذين القسمين، فمن اعتقد أن أفعال العباد منسوبة إلى الله أوَّل ما ورد مما يفيد غير ذلك من الآيات، والعكس، ولهذا كانت تفاسير أهل السنة تخالف تفاسير المعتزلة.
وكل من الطائفتين يحذّر الآخر من اتجاهاته، فمثلًا: قال الله تعالى: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (البقرة: ٦)، وقال: خَتَمَ الله عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ (البقرة: ٧)، أي لا يؤمنون لأجل الختم، أي أن سبب امتناعهم عن الإيمان هو ختم الله على قلوبهم.
وظاهر الآية يدل على أنهم ليسوا مختارين، ولو كانوا مختارين لآمنوا، فأوّل المعتزلة الآية، وقالوا: منعهم الله الإخلاص الموجب لقبول العمل، فكانوا كمن يمنع دخول الإيمان قلبه بالختم عليه. وهكذا تجد في تفسير الزمخشري كثيرًا من هذه التأويلات.
ولما حار الأشاعرة بين هذه الأدلة قالوا: ﺑ «الكَسْب»، أي أن الله تعالى يخلق أعمال العبد، وليس للإنسان فيها إلا الكسب.
فقال لهم المعتزلة: ما هذا الكسب؟ أهو عمل من أعمال الإنسان؛ فيكون الله خلقه أيضًا، أو هو ليس عملًا من أعمال الإنسان فلا حاجة إليه؟!
وقد أثارت مسألة أفعال العباد مسائل كثيرة تولدت عنها، فكانت موضع بحث بينهم، فمثلًا: هناك مسألة التولّد؛ ومعنى التولد: نشوء عمل من عمل، مثل: أن يضرب رجل آخر، فيتولد من الضرب الموت، أو يتولد منه الألم، أو يخلط شخص طعامًا بطعام، فيتولد منهما طعام سامٌّ مميت.
فلما قال أهل السنة بأن كل أفعال العبد من خلق الله لم يكونوا بحاجة إلى القول بالتولد؛ فالكل من فعل الله. ولما قالت المعتزلة: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه، ويُسأل عنها ويُحاسب عليها قالوا بالتولد، وأن الإنسان مسئول عما تولّد من عمله.
ومن البحوث التي ترتبت حول هذه المسألة أيضًا البحث في الاستطاعة ما هي؟ وهل تكون قبل الفعل، أو مع الفعل، أو قبله ومعه؟
فَفَرَّق المعتزلة بين الاستطاعة والمستطيع، إلا أنَّ منهم من أخطأ فجعلهما شيئًا واحدًا، ولما قالوا: إن أعمال الإنسان من صنعه، قالوا الاستطاعة فعل الله — عز وجل — وأن أحدًا لا يفعل خيرًا ولا شرًّا إلا بقوة أعطاه الله إياها.
وقال جمهور المعتزلة أيضًا: إن الاستطاعة هي سلامة الجوارح، وارتفاع الموانع، وأنهما معًا يكونان قبل الفعل، كما لا بد أن يكونا مع الفعل. وما لم توجد صحة الجوارح وارتفاع الموانع لا يوجد الفعل، ولا يكون المرء مخاطبًا مكلفًا مأمورًا منهيًّا.
وساقهم البحث إلى التساؤل عن الكافر المأمور بالإيمان، أهو مأمور بما لا يستطيع أم بما يستطيع؟ كما بحثوا فيما ورد في القرآن كثيرًا من الهدى والضلال، فلما قالوا: بأن العبد يخلق أفعال نفسه، قالوا: إنَّ معنى الهدى ليس إلا إنارة الطريق أمام العبد، وليس من مستلزمات إنارة الطريق أن يسير الإنسان فيه، فقد يستنير الطريق أمامه، ولكنه يمشي في الظلام، بدليل قوله تعالى: وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَىٰ عَلَى الْهُدَىٰ (فصلت: ١٧)، وقوله سبحانه: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (الإنسان: ٢–٣)، فهذا دليل على أن الهداية لا توجب أن يسير الشخص في الطريق المستقيم.
وقال خصومهم: إن من هداه الله اهتدى، ومن أضلّه ضلَّ، بدليل قوله تعالى: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا الله وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ،فهذا دليل على أنّ الذين هداهم الله بعض الناس لا كلهم، وهم الذين ساروا في الطريق المستقيم، وقال تعالى: إِن تَحْرِصْ عَلَىٰ هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لَا يَهْدِي مَن يُضِلُّ (النحل: ٣٧)، وقال تعالى: مَن يُضْلِلِ الله فَلَا هَادِيَ لَهُ (الأعراف: ١٨٦)، وقال: فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ ۖ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ (الأنعام: ١٢٥) فأخبر بذلك أن الذين هداهم الله غير الذين أضلهم، ووفق خصومهم بين آيات القرآن، فقالوا: إنه هدى ثمود فلم يهتدوا، وهدى الناس كلهم السبيل، ثم هم بعد ذلك إما شاكرون وإما كافرون.
وفي آيات أخرى أنه هدى قومًا، فلم يهتدوا، ولم يهد آخرين فضلّوا، فالتوفيق بين الآيات يوجب أن الهدى نوعان: نوع أعطاه الله جميع الناس، وهو إنارة السبيل أمامهم، وهذا الهدى هو الذي استعمله في آية ثمود، أي أنه دلهم على الطاعات والمعاصي، وعرَّفهم ما يسخطه، وما يرضيه.
وهدى آخر بمعنى التوفيق، والعون على الخير، والتيسير له، وهذا الهدى هو الذي منحه الله للمهتدين، ومنعه الكفار.
والذي دعا المعتزلة إلى هذا: قولهم الأساسي بخلق الإنسان أفعال نفسه، وأن الله لم يحمل المؤمن على الإيمان، ولا الكافر على الكفر، بل هو فعل ذلك باختياره، ولذلك كان هناك معنى للثواب والعقاب.
وهكذا أثاروا مسائل كثيرة من هذا القبيل.
(٢) في الأصوليات
- (أ)
كثير منهم حصروا المعجزات في دائرة ضيقة، فالنظَّام مثلًا يكاد يقصر القول بالمعجزات على القرآن، وينكر انشقاق القمر، ويقول: إنه لو كان صحيحًا لكان شيئًا عامًّا يشهده كل الناس المعاصرين له، ويخالف رواية ابن مسعود في ذلك، كما ينكر نبع الماء من بين أصابع النبي ﷺ.
- (ب)
ينكر كرامة الأولياء، وينكر الحكايات الواردة في ذلك؛ لأنه يرى أن هناك قانونًا طبيعيًّا كتب الله على نفسه اتباعه إلا عند ضرورة المعجزات. قالوا: فلا نؤمن بتغير القوانين الطبيعية إلا بالبرهان القاطع.
- (جـ)
أنكر المعتزلة رؤية الجن كما يروي العامة، بل كانوا يؤنبون من اعتقد بها، أو اعتقد رؤيتها، أو حكى مشاهدة أعمالها.
- (د) فسروا السحر بأنه لعب الساحر بعين المسحور أو بخياله؛ فالساحر لا يقلب حقائق الأشياء بدليل قوله تعالى: سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ (الأعراف: ١١٦) فليس للساحر قدرة على قلب الحقائق، وإنما له قدرة على قلب أوهام الرائي.
- (هـ)
أثاروا مسألة على جانب كبير من الأهمية من هذا الباب أيضًا، وهي مسألة التحسين والتقبيح العقليين، وملخصها أنهم تساءلوا: هل العقل قادر وحده على أن يعرف أن الشيء حسن أو قبيح؟ فقالوا هم بذلك، أي أن العقل يمكنه وحده أن يدرك حسن الشيء أو قبحه، وأن يرى أن إنقاذ الغرقى والهلكى، وشكر المنعم، والصدق حسنة بطبعها، وأضدادها قبيحة. قالوا: نعم، إن هناك أشياء لا يدرك حسنها إلا بالشرع، كالصلاة في أوقاتها، وعدد ركعاتها، والمسح على الخفين، ونحو ذلك، أما أصول المسائل، كالصدق، والكذب، والعدل، والظلم، ونحوها، فيمكن إدراكها بالعقل.
أما مخالفوهم فقالوا: إذا لم يرد شرع فلا يتميز فعل عن فعل، ولا يمكن أن يعرف أحسن هو أم قبيح.
واحتج المعتزلة بأن الناس كلهم … متدينين وغير متدينين … متفقون على أشياء أنها حسنة، وأشياء أنها قبيحة. وقالوا: إن من استوى عنده أن يصدق ويكذب فضَّل الصدق إنْ كان فاضلًا، وأن الرجل الغنيّ الوجيه الذي ليس له رغبة في مال، ولا جاه لو رأى مشرفًا على الهلاك أنقذه، ولو لم يعتنق دينًا، إلى غير ذلك من البراهين.
وبناءً على ذلك تساءلوا: هل الجاهليون قبل الإسلام مسئولون عن أعمالهم التي يدركها العقل، كالصدق، والكذب، والقتل، والعدل، أو غير مسئولين …؟ فمن قال: إن العقل يدرك ذلك كله، ولو لم يرد فيه شرع جعلهم مسئولين، ومن لم يقل بذلك جعلهم غير مسئولين … ومن ذلك اختلافهم أيضًا في شكر المنعم: هل هو واجب عقلًا أو شرعًا؟؟ فالمعتزلة قالوا: إنه يجب شكر المنعم عقلًا، والذين يقولون بالتحسين والتقبيح الشرعيين فقط أنكروا وجوب شكر المنعم عقلًا.
- (و) حكّموا العقل حتى في الحديث، فهم لقولهم بسلطان العقل كانوا يعرضون الحديث على العقل، فما قبله العقل قبلوه، وما لم يقبله لم يقبلوه، وربما كان أصرحهم في ذلك النظام، فقد حكى الجاحظ٣ مثلًا عنه ما معناه: أنه لما روي له حديث أن النبي ﷺ أمر بقتل الكلاب، واستحياء السنانير، والحديث عن السنانير: «أنهن من الطوافات عليكم»، لم يؤمن بهذا الحديث، وقال: إن السنور ليس له كبير نفع، وإنه كثير الأذى، وإن الكلب أنفع منه، فليس الحديث صحيحًا، أما إن كان الحديث يقبله العقل، فالنظَّام يقبله، فإن عارضه العقل، ولم يجد له تأويلًا، ولا سببًا فإنه لا يقبله كما يستخلص من كلام ابن قتيبة في كتابه «تأويل مختلف الحديث». وكل هذه الفروع مبنية على أساس القول بسلطان العقل، ولهذا أباحوا لأنفسهم أن يفسروا القرآن بالعقل؛ اعتمادًا على معرفتهم باللغة، وأساليب القرآن وروحه، كما فعل الزمخشري في الكشّاف، أما غير المعتزلة فأكثر اعتمادهم في التفسير على المنقول من الرواية.
حتى في باب اللغة والنحو كانوا يميلون إلى العقل، فزعيم القائلين بالقياس، واستعمال ما لم يرو العرب قياسًا على ما رواه — وذلك من غير شك يحتاج إلى قوة عقلية لا مجرد رواية — هو أبو علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، وهما من المعتزلة.
(٣) في الطبيعيات
أما آراؤهم في الأبحاث الطبيعية، فمثل أقوالهم في الروائح، والطعوم، والضوء؛ فقد أثار النظام أسئلة، وعرض آراء في ذلك: هل المشمومات، والطعوم، والأضواء أجسام أو أعراض؟ وهو يقول: إنها أجسام لا أعراض، بمعنى: أننا نشم الوردة لانبعاث ذرات صغيرة منها تلامس غدد الأنف؛ فيحدث الشم. وفي الطعوم كالسكر والملح تذوب ذرات منها، وتتصل بغدد الذوق؛ فيحصل الذوق بالحلاوة، أو الملوحة. وكذلك قال في الضوء، أي أن الشيء المرئي تنبعث منه ذرات تأتي إلى العين فتدرك بياض الشيء أو سواده، وهكذا.
والإنسان يعجب أولًا من سعة عقلهم في التفكير، وثانيًا من دخول هذه المباحث في علم الكلام. وقد أقر العلم الحديث نظرية النظام هذه في المشمومات؛ فهو يقول: إننا نشم رائحة الوردة الجميلة بناءً على ذرات انبعثت من الورد، فلامست الخيشوم، وإنا إنما نتذوق حلاوة الشيء، أو مرارته بناءً على ذوبان ذرات تلامس غُدَدَ الذوق، فإذا لم تتحلل الذرات كالحصى أو الماس مثلًا لم ندرك لها ذوقًا.
أما العلم الحديث، فيخالف النظام في نظريته في الضوء، فليست تنبعث ذرات إلى العين — كما يقول — فيدرك بياض الشيء أو سواده، ولكن علة رؤية اللون أبيض أو أزرق هي أن كل لون يتشرب ألوان الطيف ما عدا اللون الذي يرى، فالأحمر مثلًا يتشرب ألوان الطيف كلها ما عدا الحمرة، فتصل إلى العين عن طريق الموجات. فترى هذه المسائل الطبيعية أو الفيزيقية، كالبحث في الطعوم، والروائح، والألوان، ما دخلها في الدين، وعلم الكلام؟ والظاهر لنا أن الذي ألجأ إليها المناقشات الدينية، فمثلًا: لما تعرّضوا لخلق الأفعال تساءلوا: هل خلق الله الجسم والعرض، أو خلق الجسم، وليس العرض إلا صفة من صفاته؟ فجرّهم ذلك إلى البحث في الروائح مثلًا، هل هي أجسام، أو هي أعراض تابعة للأجسام؟ فلم يتكلموا فيها كما يتكلم علماء الطبيعة اليوم، إنما تكلموا فيها لأنها متصلة بعقيدة من العقائد الدينية من قريب أو من بعيد، وهكذا شأنهم في كل ما تكلموا فيه من أمور الطبيعة حسب ما نعتقد.
والواقع أن المعتزلة في علم الكلام لم يكن موقفهم كموقف منْ يؤلّف كتابًا فيختار مناهجه، ويرتب أبوابه، إنما كانوا يتكلمون في المسائل حسب ما تقتضيه الأحوال من مهاجمتهم لخصومهم، أو مهاجمة خصومهم لهم، أو نحو ذلك، كالجيش في القتال، قد يضطر إلى عمل لم يكن رَسَم خطته من قبل، ولكن اضطره إليه حركة من حركات خصومه.
إلى جانب ذلك نراهم تعرضوا لمسائل تكاد تكون سوفسطائية مثل: الإلهُ قادر على الظلم أو لا؟ هل الجنة موجودة اليوم أو لا؟ هل قدرة الله تتعلق بالمحال؟ هل الكافر قادر على الإيمان، والمؤمن قادر على الكفر؟ إلى كثير من أمثال ذلك. وكان من قولهم، وقول خصومهم أن تكوَّن علم الكلام؛ فعلم الكلام وليد أقوال المعتزلة وخصومهم، حتى أهل السنة وأئمتهم كأبي الحسن الأشعري ما كانوا يبحثون مسائلهم لولا أبحاث المعتزلة، كما سنبين ذلك في الكلام على أبي الحسن الأشعري.
والظاهر أن هذه الحركة الكلامية كانت في منتهى النشاط في الدوائر العلمية، كما نرى ذلك في حركة خلق القرآن، وفي المناظرات في مجالس الخلفاء، وفي المساجد، وفي الشوارع، وفي الجنائز، وكانت كل هذه الأشياء تأخذ من أزمانهم وعقولهم الوقت الطويل، والمجهود الكبير، فلما جاء المتوكل، واضطهد المعتزلة، وأزال دعوتهم، خفت صوت علم الكلام بعض الشيء، ومَنْ كان معتزليًّا رجع عن اعتزاله أحيانًا، وتستر أحيانًا، إلا من كان جريئًا لا يتصل بالدولة من قريب أو من بعيد، أو كان في حمى دولة تكره الاعتزال، كما سنبينه بعد.
(٤) في المسائل السياسية
وأما المجموعة الرابعة، وهي المسائل السياسية؛ فقد تعرضوا للإمامة، ومن هو أحق بها، وتعرضوا للأحداث السياسية كواقعة الجَمَل، ومقتل عثمان، والخلاف بين علي ومعاوية، وشرّحوها كلها تشريحًا دقيقًا. وكان المعتزلة مختلفين في ذلك، فمنهم من قال بأفضلية عليّ، واستحقاقه الخلافة لمجموع صفات فيه، ولكنهم قالوا ذلك باعتدال؛ فعرفوا لأبي بكر وعمر مزاياهما، وقالوا بصحة خلافتهما، وإن كان الأوْلى غير ذلك، فكانوا بذلك قريبين من الشيعة، بعيدين عن الروافض، وهم الذين رفضوا القول بإمامة أبي بكر وعمر، وتبرءوا منهما، ومن أجل ذلك نرى بعض الناس شيعيًّا معتزليًّا معًا، وبعض المعتزلة قال بغير ذلك؛ فكان معتزليًّا لا شيعيًّا. ونحن ننقل الآن بعض أقوالهم الدالة على مذاهبهم.
(٤-١) في الإمامة
لقد بحثوا في الإمامة، ومعنى الإمامة: الولاية على المسلمين، والمعتزلة يوافقون المتكلمين الآخرين، ما عدا أتباع نَجْدة من الخوارج، إذ يقول المعتزلة وغيرهم بوجوب انقياد الأمة لإمام عادل، يقيم فيهم أحكام الله، ويسوسهم بأحكام الشريعة، بدليل قوله تعالى: وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ (النساء: ٥٩) ولأن من طبيعة الناس أن، يَزَعَهم السطان أكثر مما يزعهم القرآن، فلا بد من وال تُسْنَدُ إليه الأحكام في الأموال، والزواج، والطلاق، ومنع الظالم، وإنصاف المظلوم … إلخ، وخيرٌ أن يكون الإمام واحدًا حتى لا يتنازعا، ولا بد أن يكون فاضلًا، عالمًا، حسن السياسة، قادرًا على التنفيذ. وبعد ذلك اختلف المعتزلة فيما بينهم، فقال بعضهم بتفضيل أبي بكر وعمر على عليّ، وخالفوا بذلك الشيعة، وقال بعضهم بأفضلية عليّ؛ فوافقوا بذلك الشيعة. فقُدَماء المعتزلة من البصريين كعمرو بن عُبَيد، وإبراهيم النظام، والجاحظ، وثمامة بن الأشرس، قالوا: إن أبا بكر أفضل من عليّ، وجعلوا ترتيب الخلفاء الأربعة في الفضل كترتيبهم في الخلافة. وقال البغداديون من المعتزلة كبشر بن المعتمر، وأبي جعفر الإسكافي، وأبي الحسين الخياط، وأبي القاسم البلخي، والجبائي: إنَّ عليًّا أفضل من أبي بكر، فكانوا في ذلك كالشيعة. ولكن سواء منهم من قدم أبا بكر، أو قدم عليًّا، فقد كانوا معتدلين في حكمهم إذ يقولون: سواء كان أبو بكر أفضل، أو علي أفضل، فالبيعة لأبي بكر وعمر كانت بيعة صحيحة، قالوا: ألا ترى أن البلد قد يكون فيه فقيهان، أحدهما أعلم من الآخر بطبقات كثيرة، فيجعل السلطان الأنقص علمًا منهما قاضيًا؛ فيتألم الأعظم، وينفث أحيانًا بالشكوى، فلا يكون ذلك طعنًا في القاضي الثاني، ولا حكمًا بأنه غير صالح، وهذا أمر مركوز في طبائع البشر، ومجبول في أصل الغريزة والفطرة، فأصحابنا لمّا أحسنوا الظن بالصحابة، وحملوا ما وقع منهم على وجه الصواب، وأنهم نظروا إلى مصلحة الإسلام، وخافوا فتنة لا تقتصر على ذهاب الخلافة، فعدلوا عن الأفضل الأشرف الأحق إلى فاضل آخر فعقدوا له، كان ذلك عقدًا صحيحًا، وقالوا: إنه كان يجب على عليّ أن يعذر الصحابة الذين بايعوا أبا بكر في العدول عنه، ويعلم أن عقدهم لغيره هو المصلحة للإسلام، فلا يشكوا منهم، ولا يتوجّد عليهم.
ثم إن المعتزلة فيما بينهم تنازعوا تنازعًا شديدًا في أفضلية أبي بكر أو علي، ونسوق هنا مثلًا لما كان بينهم من جدل، وذلك هو الجدل بين الجاحظ والإسكافي، وكلاهما معتزلي.
يقول الجاحظ في كتابه المشهور بكتاب «العثمانية»: إن أبا بكر أسلم وهو ابن أربعين سنة، وعليًّا أسلم ولم يبلغ الحُلُمَ، فكان إسلام أبي بكر أفضل، وهو أول من أسلم على أصح الروايات، وعليّ أسلم وهو حدث غرير، وطفل صغير، فلم نستطع أن نلحق إسلامه بإسلام البالغين؛ لأن المقلِّلَ قال: إن عليًّا أسلم وهو ابن خمس سنين، والمكثر زعم أنه أسلم وهو ابن تسع سنين. وأيّا كان فإسلام الكبير الناضج الذي يفقه معنى الإسلام خير من إسلام الصبي.
وقد رد عليه الإسكافي في ذلك بأنه لم يكن طفلًا يوم أسلم، ودعوى أنه أسلم وهو طفل دعوى غير مقبولة، والإسلام والإيمان والكفر، والطاعة والمعصية إنما تقع على البالغين دون الأطفال، بدليل عرض النبي — عليه السلام — وهو لا يعرضه على صبي.
وقال الجاحظ: لو أن عليًّا كان بالغًا حين أسلم، لكان إسلام أبي بكر أفضل؛ لأن إسلام المتقدم في السن الذي يعاني مئونة الروية، واضطراب النفس، ومشقة الانتقال من دين قد طال الفهم له، خير من إسلام من نشأ في بيئة إسلامية، ولم يعان مثل ما عانى أبو بكر.
قال الإسكافي: إنَّ عليًّا لم يولد في دار الإسلام، ولا غُذِّي في حجر الإيمان، وإنما استضافه رسول الله إلى نفسه سَنَةَ القحط، والمجاعة، وعمره يومئذ ثمان سنين، فمكث معه سبع سنين حتى أتى النبي الوحي، وهو بالغ، كامل العقل، فأسلم بعد مشاهدة المعجزة، وبعد إعمال النظر والفكر، فإنْ كان عليٌّ أجابه فإنما أجابه عن نظر، ورؤية معجزة. وقد كان أبو بكر قبل إسلامه رئيسًا معروفًا، يجتمع إليه كثير من أهل مكة، فينشدون الأشعار، ويتذاكرون الأخبار، وقد سافر إلى البلدان، ووصلت إليه الأخبار، وعرف دعوى الكهَنة، وحِيَل السحرة، ومن كان كذلك كان انكشاف الأمور له أظهر، والإسلام عليه أسهل، والخواطر على قلبه أقل. وكل ذلك عَوْنٌ لأبي بكر على الإسلام، ولذلك لما قال النبي: أتيت بيت المقدس، سأله أبو بكر عن المسجد، ومواضعه؛ فصدَّقه، وبان له أمره، وخفّت مئونته.
أما عليّ فقد خُلّي وعقله، وأُلْجئ إلى نظره مع صغر سنّه، واعتلاج الخواطر على قلبه، والغالب على أمثاله وأقرانه حب اللعب واللهو، فآمن بما ظهر له من دلائل الدعوة، ولم يتأخر إسلامه، فقهر شهوته، وغالب خواطره. وخرج من عادته، وعظم استنباطه، ورجح فضله، ولم يأخذ من الدنيا بنصيب، ولا تنعم فيها بنعيم، وحمى نفسه عن الهوى، وكسر شِرَّةَ حداثته بالتقوى.
واحتج الجاحظ بأنه كان لعلي ظهرٌ يحميه كأبي طالب وبني هاشم، ولم يكن لأبي بكر شيء من ذلك. وردّ الإسكافي بأنه لو كان ذلك صحيحًا لأضعف ذلك من نبوّة رسول الله ﷺ؛ لأن أبا طالب ظَهْرُه، وبني هاشم ردؤه.
قال الجاحظ: ولأبي بكر فضيلة في إسلامه: أنه كان قبل إسلامه كثير الصَّديق، عريض الجاه، ذا يسار وغنى، يعظَّم لماله، ويستفاد من رأيه، فخرج من عز الغِنى، وكثرة الصديق إلى ذلّ الفاقة، وعجز الوحدة. وهذا غير إسلام من لا عزَّ له، ولا جاه له. وزِدْ عليه أن عليّ بن أبي طالب إن لم يكن قد شهره سنّه، فقد شهره نسبه، وموضعه من بين هاشم، فليس تَيْم في بعد الصيت كهاشم، ولا أبو قحافة كأبي طالب.
قال أصحاب علي: إنكم تُثْبتون لأبي بكر فضيلة صحبة الرسول ﷺ من مكة إلى يثرب، ودخوله معه في الغار، وقلتم: إنه كان شريكه في الهجرة، وأنيسه في الوحشة، فأين هذه من صحبة علي — عليه السلام — له في خلوته، وحيث لا يجد أنيسًا غيره في ليله ونهاره أيام مقامه بمكة يعبد الله معه سرًّا، ويتكلف له الحاجة جهرًا، ويخدمه كالعبد يخدم مولاه، ويشفق عليه ويحوطه. ولئن صحب أبو بكر رسول الله في رحلته، فإن عليًّا نام موضع رسول الله حين أراد الهجرة، ولولا أن رسول الله ﷺ علم أنه أهل لذلك لما أهَّلَه له، ولو كان عنده نقص في صبره، أو في شجاعته، أو في مناصحته لابن عمه لما اختاره لذلك، وقد كان لعليّ أن يعتلّ بعلّة، أو نحو ذلك.
وقد عقد الجاحظ فصلًا طويلًا بين مبيت عليّ موضع الرسول، وبين مبيت أبي بكر في الغار، وردّ عليه الإسكافي ردًّا طويلًا، ثم أطال الجاحظ في ذكر فضائل لأبي بكر من شجاعة، وسخاء بالمال، وغير ذلك، فرد عليه الإسكافي بالموازنة بين شجاعة أبي بكر، وعلي، وموقف هذا وموقف ذاك … إلخ. كما جرهم ذلك إلى البحث في صحة إمامة المفضول، وسبب ذلك: أن الروافض قالوا بوجود نص من النبي على خلافة علي؛ لأنه أفضل الصحابة، فتولية من هو أقل منه فضلًا باطلة. فقال جمهور المعتزلة: إن ولاية المفضول صحيحة، ولذلك كانت ولاية أبي بكر، وعمر، وعثمان صحيحة، حتى ولو كان عليّ أفضل منهم.
واستدلوا بجملة أدلة: منها أن أبا بكر قال يوم السقيفة: «قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين …» يعني أبا عبيدة، وعمر، وأبو بكر أفضل منهما، ولم يقل أحد من المسلمين إذ ذاك إنه لا يحل في الدين ذلك، ودعت الأنصار إلى بيعة سعد بن عبادة، ولا شك أن غيره في المسلمين مَنْ هو أفضل منه. ولما عهد عمر إلى ستة رجال كان جائزًا بالضرورة أن يكون بعضهم أفضل من بعض، فإذا وقع الاختيار على المفضول كان تنفيذًا لقول عمر. وقد سلَّم الحسن الأمر إلى معاوية، وهو يعتقد من غير شك أنَّه خيرٌ منه، فقالوا: إن الصحابة تفرقوا في البلدان وهم كثير. فتقييد الإمامة بالأفضل تعجيز، خصوصًا أن الصحابة تفرقوا في البلاد من أقصى السند إلى أقصى الأندلس إلى أقصى اليمن، إلى أقصى أرمينية وأذربيجان وخراسان، فكيف يعرف حالهم، ثم كيف يعرف أفضلهم، ثم نحن لو سئلنا عن معارفنا وأصحابنا: أيهم أفضل؟ لصعب الجواب، والرسول ﷺ قد قلّد كثيرًا من الصحابة كثيرًا من البلدان، فاستعمل على اليمن معاذ بن جبل، وأبا موسى الأشعري، وخالد بن الوليد، وعلى عمان عمرو بن العاص، وعلى نجران أبا سفيان، وعلى مكة عتاب بن أسيد، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى البحرين العلاء بن الحضرمي.
ولا خلاف في أن كثيرًا من الصحابة أفضل منهم كأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وطلحة، والزبير. وأيضًا فإن الفضائل كثيرة، منها العفة عما في أيدي الناس، ومنها الشجاعة والإقدام، ومنها الحزم والبت في الأمور، وقلّما تجتمع هذه الصفات الفاضلة في أحد، فقد يكون بعضها في بعض، وبعضها في البعض الآخر، ففي أيها يراعى الفضل؟
وفي الحقيقة للولاية صفات لا بد منها في الوالي، كالسياسة، وحسن تدبير الأمور، وقد يكون شخص أفضل من نواحٍ أخرى كثيرة غير هذه، ثم لا يصلح أن يكون واليًا، فلا بد لاستقامة الأمور من القول بصحة إمامة المفضول حتى تسير الأمور ولا تتعطل.
(٤-٢) جواز خطأ الصحابة
وقد وضع المعتزلة لأنفسهم مبدأ هامًّا جدًّا، وهو أن الصحابة ليسوا معصومين، وأن الخطأ يجوز عليهم، سواء في ذلك كبيرهم وصغيرهم، وقد مكنهم هذا المبدأ من الحرية في نقد أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، كما مكنهم من تحليل الأحداث التاريخية، عكس ما قاله أهل السنة من الكف عن نقد الصحابة بالإجمال.
وقد استدل المعتزلة على ذلك بما كان من نقد الصحابة بعضهم لبعض، حتى لقد يبلغ النقد أحيانًا مبلغ السباب، فلما عهد أبو بكر بالخلافة لعمر قال طلحة: «ماذا تقول لربك إذا سألك عن عباده، وقد وليت عليهم فظًّا غليظًا؟» فهل قول طلحة هذا إلا طعن في عمر. وقد روي أنه كان بين أبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود سباب شديد. وروي أن عثمان قال لعبد الرحمن بن عوف: يا منافق، فقال عبد الرحمن: «ما كنت أرى أن أعيش حتى يقول لي عثمان يا منافق … والله لو استقبلت من أمري ما استدبرت، ما ولَّيت عثمان شسع نعلي … اللهم إن عثمان قد أبى أن يقيم كتابك، فافعل به وافعل.» وروي أن عثمان قال لعليٍّ في كلام دار بينهما: «أبو بكر وعمر خير منك. فقال عليٌّ: كذبتَ، أنا خير منك ومنهما، عبدتُ الله قبلهما، وعبدته بعدهما.» وقد أنكرت عائشة على أبي سلمة قوله في عِدَّة المتوفّى عنها زوجها وهي حامل. وروى بعض الصحابة عن النبي أنه قال: «الشؤم في ثلاثة: المرأة، والدار، والفَرَس»؛ فأنكرت عائشة ذلك، وكذَّبت الراوي، وقالت: إنه إنما قال — عليه السلام — ذلك حكاية عن غيره. وروى بعض الصحابة أن النبي قال: «التاجر فاجر»؛ فأنكرت عائشة ذلك، وكذَّبت الراوي، وقالت: إنما قال ذلك في تاجر دلَّس. وأنكر قوم من الأنصار رواية أبي بكر: «الأئمة من قريش»، وقالوا: «إنه اختلق هذه الكلمة». وباع معاوية أوانيَ ذهب وفضة بأكثر من وزنها، فقال له أبو الدرداء: سمعتُ رسول الله ينهى عن ذلك، فقال معاوية: أما أنا فلا أرى به بأسًا. فقال أبو الدرداء: «من عذيري من معاوية، أخبره عن الرسول وهو يخبرني عن رأيه … والله لا أساكنك بأرض أبدًا.» وقال علي لعمر، وقد أفتاه الصحابة في مسألة، وأجمعوا عليها: «إن كانوا راقبوك فقد غشوك، وإنْ كان هذا جهد رأيهم فقد أخطئوا.» وأنكرت الصحابة على أبي موسى قوله: «إن النوم لا ينقض الوضوء.» ولم يصدقوا الخبر المروي عن رسول الله: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم.» وقالوا: هذا يوجب أن يكون أهل الشام في صفين على هُدًى، وكيف يكون ذلك؟ وكان يجب أن يكون عمرو بن العاص ومعاوية اللذان كانا يلعنان عليًّا وولديه على هدى. وقد كان في الصحابة من يشرب الخمر كأبي محجن الثقفي، ومن يرتد عن الإسلام كطليحة بن خويلد، وإنما هذا الحديث من موضوعات متعصبة الأموية، فإنَّ لهم مَنْ ينصرهم بلسانه، وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف.
وقال: إنه يجوز الخطأ على الصحابة بدليل أن جماعة من كبار الصحابة حاصروا عثمان وهذا خطأ، وهذا المغيرة بن شعبة، وهو من الصحابة ادُّعِيَ عليه بالزنا، وشهد عليه قوم بذلك، فلم ينكر ذلك عمر، ولا قال هذا محال؛ لأن هذا صحابي. وقدامة بن مظعون لما شرب الخمر في أيام عمر أقام عليه الحدّ، وهو رجل من علية الصحابة من أهل بدر المشهود لهم بالجنة، فلم يرد عمر الشهادة، ولا درأ عنه الحد، وقد ضرب عمر أيضًا ابنه حَدًّا فمات، وكان ممن عاصر رسول الله، ولم تمنعه معاصرته له من إقامة الحدّ عليه. وهذا عليّ يقول: ما حدَّثني أحد بحديث عن رسول الله ﷺ إلا استحلفته عليه، واستحلافه عليه معناه اتهامه بالكذب، وما استثنى أحدًا من المسلمين إلا أبا بكر، وقد صرح غير مرة بتكذيب أبي هريرة، وقال: لا أحد أكذب من هذا الأوسيِّ على رسول الله ﷺ.
وقال أبو بكر في مرضه الذي مات فيه: وددت أني لم أكشف بيت فاطمة، ولو كان أغلق على حرب. فندم، والندم لا يكون إلا عن ذنب. وقد تأخر عليّ عن البيعة لأبي بكر ستة أشهر إلى أن ماتت فاطمة، فإن كان مصيبًا فأبو بكر على خطأ في انتصابه على الخلافة، وإن كان أبو بكر مصيبًا فعليٌّ على الخطأ في تأخره عن البيعة. وقال أبو بكر في مرض موته: «لما استخلفت عليكم خيركم في نفسي — يعني عمر — فكلكم ورم أنفه، يريد أن يكون الأمر له لما رأيتم الدنيا قد جاءت، أما والله لنتخذن ستائر الديباج، ونضائد الحرير.» وهذا طعن في الصحابة إذ نسبهم لحَسَدِ عمر. وكان بين أُبيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود سباب كثير، حتى نفى كل واحد منهما الآخر عن أبيه. وروى سفيان بن عيينة عن عمرو بن دينار قال: «كنت عند عروة بن الزبير فتذاكرنا: كم أقام النبي بمكة بعد الوحي، فقال عروة: أقام عشر سنين، فقلت: كان ابن عباس يقول: ثلاث عشرة سنة. فقال: كذب ابن عباس». وقال ابن عباس: المتعة حلال، فقال له جبير بن مطعم: كان عمر ينهى عنها، فقال: يا عدوَّ نفسه، من ههنا ضللتم، أحدثكم عن رسول الله ﷺ، وتحدثني عن عمر؟!
وسَبُّ بعض الصحابة لبعضٍ، وقدح بعضهم لبعض في المسائل الفقهية أكثر من أن يحصى … مثل قول ابن عباس، وهو يرد على زيد مذهبه العول في الفرائض: «من شاء باهلته إن الذي أحصى رمل عالج عددًا أعدل من أن يجعل في مال نصفًا ونصفًا وثلثًا، هذان النصفان قد ذهبا بالمال، فأين موضع الثلث؟؟» وقال عليّ في أمهات الأولاد، وهو على المنبر، كان رأيي ورأي عمر أن لا يُبَعْنَ، وأنا أرى الآن بيعهن، فقام إليه أبو عبيدة السلماني، فقال: «رأيك في الجماعة أحب إلينا من رأيك في الفرقة.»
وكان أبو بكر يقضي القضاء فينقضه عليه أصاغر الصحابة، كبلال وصُهَيب وغيرهما. وقيل لابن عباس: إن عبد الله بن الزبير يزعم أن موسى صاحب الخضر ليس موسى بني إسرائيل. فقال: كذب عدو الله. وطعن ابن عباس في أبي هريرة إذ يروي أنَّ رسول الله قال: «إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخلن يده في الإناء حتى يتوضأ»، وقال: فما نصنع بالمهراس؟! وقال ابن عباس: ألا يتقي الله زيد بن ثابت، يجعل ابن الابن ابنًا، ولا يجعل أب الأب أبًا؟ وقال جرير بن كليب: رأيت عمر ينهى عن المتعة، وعليًّا يأمر بها، فقلت: إن بينكما لشرًّا، فقال عليّ: ليس بيننا إلا الخير، ولكن أخيرنا أتبعنا للدين. قالوا: فكيف يصح أن يقول رسول الله: «أصحابي كالنجوم، بأيهم اقتديتم اهتديتم»؟ قلنا لهم: إن هذا من موضوعات متعصِّبة الأموية، فإن لهم من ينصرهم بلسانه، وبوضعه الأحاديث إذا عجز عن نصرهم بالسيف. ومثل هذا: «خير القرون قرني»، ومما يدل على بطلانه أن القرن الذي جاء بعده بخمسين سنة شر قرون الدنيا، وهو أحد القرون الذي ذكره النص، فهو القرن الذي قتل فيه الحسين، وحوصرت فيه مكة، ونقضت فيه الكعبة، وشربت الخلفاء، والقائمون مقامهم والمنتصبون في منصب النبوة الخمور، وارتكبوا الفجور، كما جرى ليزيد بن معاوية، والوليد بن يزيد، وأُريقت الدماء الحرام، وقتل المسلمون وسُبِيَ الحريم، واستعبد أبناء المهاجرين والأنصار، ونقش على أيديهم كما ينقش في أيدي الروم، وذلك في خلافة عبد الملك بن مروان والحجاج، وإذا تأملت كتب التاريخ وجدت أن الخمسين سنة التالية كلها لا خير فيها، ولا في رؤسائها، ولا أمرائها، فكيف يصح الخبر، ولو كان هذا صحيحًا، وأنَّ الصحابة لا يخطئون لما احتاجت عائشة إلى نزول براءتها من السماء، بل كان الرسول من أول الأمر يعلم كذب أهل الإفك، وصفوان بن المعطل من الصحابة، فكان ينبغي أن لا يضيق صدر رسول الله ﷺ، ولا يحمل الهم والغم الشديدين، وكان يقول: صفوان من الصحابة، وعائشة من الصحابة، والمعصية منهما ممتنعة.
وقد نفّذ المعتزلة هذا المبدأ بالفعل، فقد روي عن النظام من ذلك الشيء الكثير. وقال الجاحظ في كتابه المعروف بالتوحيد: «إن أبا هريرة ليس بثقة في الرواية»، وانتقد عمر بن عبد العزيز في بعض أعماله، وقد فتح هذا أيام المعتزلة بابًا واسعًا، فقالوا أقوالًا كثيرة تحرَّج عنها غيرهم، فمثلًا: أنكر النظام الإجماع، وقال: إنه ليس بحجة، وجرَّه ذلك إلى القول بعيوب الصحابة، ولم يتورع عن الطعن الشديد اللهجة.
والحق أيضًا أن المعتزلة تألفت منهم في ذلك فرق، ففرق تنتقد حسبما تعتقد، وفرقٌ ترُد على النقد حسبما تعتقد أيضًا، والكل أحرار، فمثلًا نقد بعضهم أبا بكر نقودًا كثيرة، وردّ بعضهم عليها، ونقدوا عمر، وعثمان، وعليًّا، وردَّ الآخرون عليهم، ووقفوا عند قول عمر: «إن بيعة أبي بكر كانت فلتة.» فهل معنى فلتة زلّة وخطيئة؟ وقال أبو علي الجبائي المعتزلي: «إنها ليست بمعنى زلّة، وإنما بمعنى بغتة، يريد عمر أنها حصلت فجأة، ولكن الله تعالى دفع شرها، ولذلك قال عمر: فمن عاد إلى مثلها فاقتلوه، وهذا تحذير عن أن يبايع الناس من غير مشاورة.»
وقد جرّهم ذلك إلى تعمق في التحليل النفسي، للكراهة مثلًا التي بين عائشة وعليّ، وعائشة وفاطمة، ولم كانت العرب تكره أن يكون عليٌّ خليفة؟ إلى أشياء كثيرة من هذا القبيل.
(٤-٣) المقارنة بين سياسة عمر، وسياسة علي
ووقفوا عند المقارنة بين سياسة عمر وسياسة علي، ولِمَ كانت سياسةُ عمر ناجحةً وسياسة عليّ فاشلة، ولِمَ قال الناس: إن عمر كان أسوس، وإن عليًّا كان أعلم؛ بل قالوا إن معاوية كان أسوس من عليّ، وأصحّ تدبيرًا. وقالوا: إن النجاح في السياسة لا يمكن إلا إذا كان السائس يعمل برأيه أحيانًا، وبما يرى فيه صلاح ملكه، وتمهيد أمره، وتوطيد قاعدته، سواء وافق الشريعة، أو لم يوافقها، وإلا لم ينتظم أمره.
وعمر كان مجتهدًا يعمل بالقياس والاستحسان، ويرى تخصيص النص بالرأي، ويكيد لخصومه، ويأمر أمراءه بالكيد والحيلة، ويؤدب بالدِرَّة، ويصفح عن قوم اجترموا، كل ذلك بقوة اجتهاده، وما يؤديه إليه نظره.
هذه كانت سياسته، أما عليّ فكان يقف مع النصوص والظواهر، ولا يتعداها إلى الاجتهاد والأقيسة، ولا يضع، ولا يرفع إلا بالكتاب والنص، فاختلفت طريقتاهما في الخلافة والسياسة. وعمر كان شديدًا، وعليّ كان كثير الحلم، فازدادت خلافة عمر قوة، وازدادت خلافة عليّ خلافًا. زد على ذلك ما حدث من الفتن الكثيرة أيام عليّ من فتنة قتل عثمان، وفتنة الجمل، وفتنة صفّين، فشتان بين الخلافتين فيما يعود إلى انتظام المملكة.
وقد رُدَّ على هذا القول بأن الرسول ﷺ كان يلتزم الدين بالضرورة، ويدبر أموره وفقًا للدين، ولم يكن الخلاف عليه كالخلاف على عليّ، ولم يكن اتباعه للدين سببًا في ضعف سياسته.
وأجابوا بأن النبي كان يتصرف عن وحي، والله يقول: لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله (النساء: ١٠٥) قالوا: وليس بصحيح أن الناس لم يختلفوا على رسول الله كما اختلفوا على عليّ؛ فالقرآن مملوء بذكر المنافقين والشكوى منهم، والتألم من أذاهم. وكثير من المسلمين التووا عليه في الحروب، وكثير نازعوا في الأنفال، وطلبوها لأنفسهم، وكرهوا لقاء العدو، وقال الله فيهم: كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (الأنفال: ٦) وعلى الجملة، ففي القرآن كثير من الشكوى من المنافقين وغيرهم، فلئن كان عمر ومعاوية أسوس من عليّ، فسببُ ذلك حريتهم أمام الدين حيث يتقيد عليٌّ بنصوص الدين.
(٤-٤) العداء بين عائشة وعليّ
وحلّلوا العداء بين عائشة من جهة، وعليّ وفاطمة من جهة أخرى، فقال بعضهم: أول بدء هذه العداوة أن رسول الله ﷺ تزوج عائشة عقب موت خديجة فأقامها مقامها، وفاطمة هي ابنة خديجة. ومعلوم أن ابنة الرجل إذا ماتت أمها، وتزوج أبوها أخرى كان بينها وبين المرأة كدر وبغض؛ لأن الزوجة تنفس عليها ميل الأب إليها، والبنت تكره ميل أبيها إلى امرأة غير أمها. وكان رسول الله ﷺ يُظهر حب عائشة فيزداد ما عند فاطمة، ويكرم فاطمة إكرامًا شديدًا، فيزيد ما عند عائشة. وكان رسول الله يقول عن فاطمة: «إنه يؤذيني ما يؤذيها، ويغضبني ما يغضبها.» فيزيد ذلك من غيظ عائشة، فلما تزوج عليّ فاطمة بالطبيعة تُسِرُّ إليه ما في نفسها من عائشة، كما أن عائشة كانت تُسرُّ إلى أبيها أبي بكر ما في نفسها من فاطمة؛ ولذلك لم تحسن الصلة أيضًا بين عليّ وأبي بكر. ولما حدثت حادثة الإفك قال عليّ للنبي ﷺ لما استشاره: إن النساء غيرها كثير، وقد جرت العادة أن الناس لا يتورَّعون عن نقل أحاديث هذا إلى ذاك، أو هذه إلى تلك، بل ربما يزيدون عليها ما يوسّع شقة الخلاف.
كل ذلك زاد من بغض كل لصاحبه، ثم إن فاطمة ولدت أولادًا كثيرة بنين وبنات، ولم تلد عائشة ولدًا، وكان رسول الله يقيم بني فاطمة مقام بنيه، والزوجة إذا حرمت الولد لم تحب أولاد بنت زوجها، وحدث أن رسول الله سدّ باب أبي بكر إلى المسجد، وفتح باب عليّ، فعمل ذلك في نفسها، وحدث أيضًا أنْ وُلِدَ لرسول الله ﷺ إبراهيم من مارية، فأظهر عليٌّ السرور بذلك كثيرًا، غيظًا في عائشة، وكان عليّ يتعصب لمارية، ويقول بأمرها عند رسول الله، فكان ذلك يوغر صدر عائشة، ثم مات إبراهيم فأبطنت فاطمة وعلي الشماتة، وإن أظهرا كآبة …
وهكذا من التحليلات الدقيقة التي قامت مقام ما يفعله علماء النفس اليوم في تعليل الحوادث من جهة، ومن جهة أخرى تدل على أن كثيرًا من المعتزلة شرحوا الحوادث بين كبار الصحابة، حتى في امرأة النبي ﷺ، كما يشرحون الحوادث العادية من غير فرق.
هذه أمثلة مختلفة من الاتجاهات التي كان يتجهها المعتزلة: فأمور ميتافيزيقية، وأمور فيزيقية، وأمور في الفقه والحديث والأصول، وأمور في السياسة، وقد كان يمكن أن تكون الأمور السياسية أبحاثًا خارجة عن الدين كما تبحث المسائل السياسية اليوم، ولكنهم ألصقوها بالدين بالحكم على الموافق منهم لآرائهم بالصلاح والتقوى، والمخالف لآرائهم بالفسوق والعصيان. وكثيرًا ما كانوا إذا تعرضوا لعمل من أعمال الصحابة حكموا بعصيانه، أو بعدم عصيانه، وبأنه يستحق الجنة أو النار، وبأن عمله يوافق الدين أو يخالفه، وسلك خصومهم مسلكهم، فكان من ذلك أن اصطبغت الأمور السياسية بالصبغة الدينية.