الفصل الخامس

القاضي عبد الجبار

وابن عباد أعظم وزراء البويهيين كان معتزليًّا أيضًا، وكان يقرب العلماء والأدباء، وقالوا: إنه كان يرسل إلى بغداد كل سنة خمسة آلاف دينار لتفرق على الفقراء، وأهل الأدب، وكان هو نفسه عالمًا أديبًا حتى ألّف في اللغة معجمًا كبيرًا يقع في سبع مجلدات سماه «المحيط»، كما كان محدِّثًا، كما ألف في إمامة عليّ بن أبي طالب، وقد عين المعتزلي الكبير عبد الجبار قاضي القضاة له، وجاء في رسائل الصاحب العهد الذي عهد به الصاحب إليه، وجاء فيه: «هذا ما عهد مؤيد الدولة إلى عبد الجبار بن أحمد، ولّاه قضاء القضاة بالريِّ، وقَزْوين، وسُهْرورد، وقُمْ، وما يجري معها، ويتصل بها، علمًا بما لديه من علم يهتدى بأضوائه، وورع يستسقى بأنوائه، وكفاية يكتنفها الحلم والحجي، وأمانة يبعثها النسك والتقى، وموقع في علية أهل الدين ترمقه النواظر، ومكان من صفوة المسلمين تعقده الخناصر.» وبعد أن أمره باتباع الكتاب والسنة والإجماع، قال: «وإذا عرض في الأحكام ما يعضل استخراجه، ويستبهم رتاجه، فليتبين ويتئد، وليفكر ويجتهد، ويستشر أماثل العلماء ويستحدّ، ويأخذ من آراء الفقهاء، ولا يستبدّ، حتى إذا وضحت له القضية أكمل فضل الاستشارة، بيمن الاستخارة، وأمضى من الحكم، ما يأمن فيه مصارع الظلم، وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ الله فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (المائدة: ٤٥) إذا اشتجرت، والألحاظ إذا تصرّفت، والألفاظ إذا جرت، بين الغني المثري، والفقير المقوى، والقوي الموقر، والضعيف المستحقر، فليس بالثراء تشرف المنازل وترتفع، ولا بالإقواء تضعف الوسائل وتضع. وبعد فكل عباد الله يسعهم فضله، ومشرع في حكم الله، يشملهم عدله: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ (الحجرات: ١٣).١ وتدل الرسائل على أن الصاحب بن عباد كان يعزّ القاضي عبد الجبار ويوقره، ويواليه بالكتابة على تشيّع واعتزال عُرِفا عن البويهية.
وقد ألف عبد الجبار كتبًا كثيرة وصل إلينا: «شرح الأصول الخمسة عند المعتزلة» في أجزاء عدة شرحًا مستفيضًا مسهبًا، يبين أصول المعتزلة ونظراتهم في إسهاب،٢ ونقلت عنه أقوال كثيرة كان يحاج بها الشريف المرتضى.
وقد كان الشريف المرتضى نقيب الطالبين ببغداد، وكان عالمًا كبيرًا، بقيت لنا من تآليفه «أمالي المرتضى — الغرر والدرر — الشيب والشباب»، وكان شيعيًّا على مذهب الإمامية.٣

وكان يرى في الإمامة، وفي تفسير أعمال الصحابة ما يوافق مذهبه، وكان قاضي القضاة عبد الجبار شيعيًّا معتزليًّا، ومعنى هذا أنه أقل تعصبًا للتشيع، وأكثر تحكيمًا للعقل؛ لذلك جرى بين العالمين الكبيرين جدال طويل في مسائل كثيرة نسوق أمثلة منها. وأنت إذا رأيت في الكتب كلامًا يسند إلى النقيب فهو الشريف المرتضى، فإن أسند إلى قاضي القضاة فهو عبد الجبار.

وربما صورنا أصول الخلاف بين الشريف المرتضى، وعبد الجبار في كلمة صغيرة، وهي أن الشريف المرتضى لما كان شيخًا للإمامية في عصره، كان يرى بطبيعة الحال أنَّ هناك نصًّا من النبي على استخلافه لعلي، لا من طريق الكفاية وحدها، بل إن النبي نَصَّ عليه بالاسم، بل إن الخلافة فيه، وفي أبنائه من فاطمة من بعده. وإذ كان عليّ معيَّنًا بالاسم، فأبو بكر وعمر مغتصبان حقه، ظالمان له، وذلك عكس الزيدية من الشيعة؛ إذ كانوا يرون أن النبي عيَّنه بالوصف لا بالشخص، فهم يعتقدون صحة إمامتهما، وأن خلافتهما صحيحة، وكثير من المعتزلة على هذا الرأي؛ إذ كانوا قد قالوا بصحة إمامة المفضول كما ذكرنا من قبل؛ فكان الشريف المرتضى من الرأي الأول القائل ببطلان إمامة أبي بكر وعمر وعثمان، وكان للقاضي عبد الجبار من الرأي الثاني القائل بصحة إمامة المفضول.

وطبيعي أنّ الإمامية — ومنهم الشريف المرتضى — لم تتحرج من نقد أبي بكر وعمر وعثمان، وتفسير الأحداث التاريخية وفق مذهبهم، كما أن من الطبيعي دفاع القاضي عبد الجبار عنهم، والرد على مطاعن الإمامية؛ فقامت بذلك ثورة عنيفة بين العالمين.

قال الإمامية: إن الرسول نص على إمارة عليّ نصًّا صريحًا جليًّا غير نَصِّ يوم الغدير،٤ فإنه كان تلميحًا، بل إنه نَصّ عليه بالخلافة، وبإمرة المؤمنين، وأمر المسلمين أن يسلموا عليه بها، وصرح لهم في كثير من المقامات بأنه خليفة عليهم من بعده، وأمرهم بالسمع والطاعة له. أما الشيعة من المعتزلة فتقول: إنه إن لم يكن هناك نص صريح مقطوع به، وإن يكن شيء فتلميح وإيماء يحتمل الدلالة عليه، ويحتمل غيرها.

ومن المؤسف أنه قد اختُلِقت أحاديث كثيرة زادت في شناعة الموقف، كإسنادهم أن عمر ضرب فاطمة بالسوط، وضغطها بين الباب والجدار حتى صاحت: «يا أبتاه»، وأنه هدد عليًّا بالقتل إن لم يبايع، إلى آخر الأحداث التي لم تثبت تاريخيًّا.

أما المعتزلة فقالوا: إنه لو كان هناك نص صريح لا يحتمل الشك ما تجرأ جمهور الصحابة على مخالفته، ولكان عليٌّ نفسه عند مخالفتهم له قد ذكَّرهم بهذا النص؛ فعدلوا عن مبايعة غيره، بل لو كان هذا النص موجودًا ما بايع عليّ غيره، وكانت مبايعته لأبي بكر وعمر وعثمان خطأ منه، خصوصًا أنه لم يصلنا خبر عن أن أحدًا من هؤلاء أكرهه إكراهًا شرعيًّا، وكل ما في الأمر أن كثيرًا من الصحابة عرفوا مزايا علي من شجاعةٍ وعلمٍ، ونحو ذلك، ولكن لاعتبارات دينية واجتماعية ومصلحية فضلوا أن يبايعوا أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان، فلما جاء دور علي لم يتأخروا عن مبايعته.

ولما لم يعجب الإمامية هذا الكلام وجهوا نقودًا كثيرة إلى من سبق عليًّا من الأئمة. فمثلًا: ثارت ضجة كبيرة حول مسألة «فدك»، وهي قرية اختلف عليها أبو بكر من ناحية، وعلي وفاطمة من ناحية أخرى، وهي قطعة من الأرض كانت مما أفاء الله على رسول الله، فدخلت في ملكه ومات عنها، فهل تورث أو لا تورث؟ وإن وُرثت ففاطمة أحق بها، ووجهة نظر أبي بكر أنه علم أن رسول الله قال: «نحن معشر الأنبياء لا نورث، ما تركنا صدقة.» وكان رسول الله يتصدق بغَلتها، فكان أبو بكر يصنع فيها ما كان يصنع رسول الله، وجاء عمر فعمل ما كان يعمل أبو بكر. وفاطمة وعلي كانت وجهة نظرهما أن المال مال النبي، وأنه يعود عليهما بالإرث، وقد أنصفهما أبو بكر إذ رُويَ أنه قال لفاطمة: «أنت عندي صادقة أمينة، إن كان رسول الله عَهِد إليك في ذلك عهدًا أو وعدك به وعدًا صدقتك، وسلمته لك، فقالت: لم يعهد إليّ في ذلك بشيء، ولكن الله تعالى يقول: يُوصِيكُمُ الله فِي أَوْلَادِكُمْ (النساء: ١١) فقال أبو بكر: أشهد لقد كان رول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث»، ثم اتسعت شقة الخلاف بين، فقال أبو بكر: أشهد لقد كان رسول الله يقول: «إنا معاشر الأنبياء لا نورث»، ثم اتسعت شقة الخلاف بين الرأيين، واتهموا أبا بكر بالخطيئة، واتهموا عمر بممالأة أبي بكر، وشغلت الحادثة الناس زمنًا طويلًا حتى أتت إلى عبد الجبار وخصومه، فقال عبد الجبار: «إن الخبر الذي احتج به أبو بكر هو: نحن معاشر الأنبياء لا نورث، لم يقتصر على روايته هو وحده، بل استشهد عليه عمر، وعثمان، وطلحة، والزبير، وسعد بن أبي وقاص، وعبد الرحمن بن عوف؛ فشهدوا كلهم به، فكان لا يحلُّ لأبي بكر وقد صار الأمر إليه أن يقسم التركة ميراثًا فيعطي فاطمة حقها، حتى لقد روي أن فاطمة لما سمعت شهادة هؤلاء الشهود كفّت، ولكن بعض الشيعة تعصب لها أكثر من نفسها، فقالوا: قال الله:وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ (النمل: ١٦)؛ فهذا نبي ورث، فرد الآخرون عليهم بأنه ورثه العلم والحكمة، لكنه لم يورثه المال، وقد صمم أبو بكر وعمر على رأيهما. هذه خلاصة وجيزة لهذه الحادثة.

وماتت فاطمة وعلي وأبو بكر وعمر، فلا ندري معنى لأن يبقى الخلاف قائمًا بعد مرور نحو ثلاثة قرون، بل إلى الآن، ويدخل الأمر في الدين، وتنقسم المذاهب المختلفة، بل من العجيب أن تستمر إلى يومنا هذا مع التناحر والتخاصم.

نعم، إننا نفهم أن تكون المسألة مما يصح أن يعرض له المؤرخون اليوم وأمس وغدًا، شأنها في ذلك شأن المسائل التاريخية، أما أن تكون سببًا للتنافر والتخاصم بعد زوال أصحابها بقرون، فأمر يدعو إلى العجب.

وقس على هذا كثيرًا من المسائل التي من هذا القبيل.

بعد هذا نعرض لمَثَلٍ من نقد الشيعة الإمامية لأبي بكر؛٥ فقد نقدوه بأنه هو وعمر كانا من جيش أسامة الذي أرسله النبي للغزو، وقد تأخرا عن السير معه، فتأخُّرُهما يقتضي مخالفة للرسول، فأجاب قاضي القضاة بأن أبا بكر لم يثبت أنه كان في جيش أسامة، والمسألة مسألة مصالح عامة، وقد اختير أبو بكر ليكون أمير المؤمنين، فالمصلحة تقتضي بقاءه لتيسير الأمور، وإلا ساءت حال المسلمين … وقد استأذن أسامة في أن يبقى معه عمر ليعينه.

ونقدوا أبا بكر أيضًا في قصة خالد بن الوليد، وأن خالدًا قتل مالك بن نويرة، وتزوج امرأته في ليلته، ثم إن أبا بكر ترك إقامة الحَدّ عليه، وإيقاع العقوبة عليه، وقال أبو بكر: «إن خالدًا سيف من سيوف الله سله الله على أعدائه، فلا أعاقبه، مع أن الله تعالى قد أوجب القَوَدَ»، واعتُذِر عن أبي بكر بأنّ خالدًا قد اعتذر لأبي بكر عن خطئه، وقد قبل أبو بكر عذره لجليل أعماله. قال المرتضى: «إن أبا بكر لا يملك العفو في الحدود؛ لأنها حق الله، فالعفو عنه تغافل عن أمره، وإقرار له على الخطأ الذي وقع فيه.»

ونقدوا أبا بكر أيضًا في أنه استخلف عمر، مع أن النبي لم يستخلف، خصوصًا أنه روي عن أبي بكر أن رسول الله لم يستخلف، وقد أجيب عنه بأنّ كونَ رسول الله لم يستخلف لا يدل على تحريم الاستخلاف، كما أن النبي لم يركب الفيل، فلا يدل على تحريم ركوب الفيلة، وقد رأى أبو بكر المصلحة في ذلك، وخاف من حصول الخلاف بين الصحابة بعد وفاته على من يكون إمامًا، فبَتَّ في الأمر باستخلاف عمر.

ونقدوه أيضًا بأنه سمى نفسه خليفة رسول الله، مع اعترافه بأنه لم يستخلفه. وأجاب قاضي القضاة: بأن الصحابة سموه خليفة رسول الله؛ لاستخلافه إياه على الصلاة عند موته، إلخ … وهذا إن دل على النشاط الفكري، وحرية الرأي، فإنه يدل مع الأسف على الفرقة الشديدة وعدم توجههم إلى الناحية العملية التي تصلح بها أمور المسلمين.

ومثل ذلك أيضًا ما طعنوا به عمر في مسألة الشورى عند موته، فقد روي أنه قال: «لا أدري ما أصنع بأمة محمد؟ قال له ابن عباس: لم تهتم وأنت تجد من تستخلفه عليهم؟ قال: أصاحبكم؟ — يعني عليًّا — قلت: نعم. هو لها أهل في قرابته من رسول الله وصهره، وفي سابقته وبلائه. قال عمر: إن فيه بطالة وفكاهة. قال ابن عباس: قلت: فأين أنت من طلحة؟ قال عمر: فأين الزهو والنخوة؟ قلت: فعبد الرحمن بن عوف. قال عمر: هو رجل صالح على ضعفٍ فيه، قلت فسعد؟ قال: ذاك صاحب منقب وقتال، لا يقوم بقرية لو حمل أمرها. قلت: فالزبير. قال: وعقة لقس، مؤمن الرضا، كافر الغضب، شحيح … وإن هذا الأمر لا يصلح إلا لقوي في غير عنف رفيق في غير ضعف، جواد في غير سرف. قلت: فأين أنت عن عثمان؟ قال: لو وُليها لحمل بني أبي معيط على رقاب الناس …»

ونحن نشك في هذا الحديث لأسلوبه، ومع كل ذلك فالمعنى صحيح، وهو أن عمر جعل الأمر في هؤلاء الستة لحيرته في أيهم أصلح للإمامة، فطعن المرتضى عليه من وجوه: فأولًا: ذم كل واحد بأن ذكر فيه طعنًا، ثم أهّله للخلافة، ثانيًا: قال: إن اجتمع علي وعثمان، فالقول ما قالاه، وإن صاروا ثلاثة، فالقول للذين فيهم عبد الرحمن … قال المرتضى: إنما قال عمر ذلك لعلمه بأن عليًّا وعثمان لا يجتمعان، وأن عبد الرحمن لا يكاد يعدل بالأمر عن عثمان لقرابته منه، وقال: إنه أمر بضرب أعناقهم إن تأخروا عن البيعة فوق ثلاثة أيام، وهم لم يأتوا أمرًا يستوجب القتل، وقد أجاب عبد الجبار أن عمر إنما فعل ذلك؛ لأنه لم ير في نظره رجلًا كاملًا حتى يسند الخلافة إليه، فرشح أصلحهم لها، وثانيًا: إنما رجح الجانب الذي فيه عبد الرحمن؛ لأنه أزهدهم في الخلافة، فأسند إليه الاختيار. ثالثًا: قوله: إن عثمان وعليًّا لا يجتمعان، وأن عبد الرحمن يميل إلى عثمان قلة دين، لا يصح أن تسند إلى عبد الرحمن بمجرد الرأي. ورابعًا: أمره بقتل من تخلف ليس بثابت صحته، ولو صح لكان عمر معذورًا، لأنه يئول بالأمة إلى الشقاق.

هذا ملخص صغير جدًّا مما دار بين المرتضى وعبد الجبار.٦

هوامش

(١) انظر رسائل الصاحب بن عباد التي نشرها الدكتور عبد الوهاب عزام، والدكتور شوقي ضيف.
(٢) توجد منه نسخة مصورة في الإدارة الثقافية في الجامعة العربية، ونسخ أخرى في أماكن أخرى أيضًا، وهذا كتاب يجب نشره لقيمته.
(٣) انظر الكلام على الإمامية في الجزء الثالث من ضحى الإسلام.
(٤) حديث خم، كان بعد انصراف النبي من حجة الوداع، حيث نادى في الناس: «ألست أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ فقالوا: اللهم نعم. فقال من كنت مولاه فهذا علي مولاه …» وهناك أحاديث أخرى مثل: «علي مني بمنزلة هارون من موسى.» ومثل: «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله، وعترتي أهل بيتي» … إلخ.
(٥) نقل ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج٤ ص١٦٦ وما بعدها ما أوردت قاضي القضاة في المغني من المطاعن التي طعن بها في أبي بكر، وجواب قاضي القضاة عنها، واعتراض المرتضى في الشافي على قاضي القضاة، ونذكر ما عندنا في ذلك …
(٦) إن أردت التفصيل فارجع إلى شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد في مواضع متفرقة (ج٣ ص١٦٩–١٧٠).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤