الفصل السابع

أدب المعتزلة

وقد خلّف المعتزلة للعالم العربي أدبًا كثيرًا، ونستعمل هنا كلمة أدب بالمعني الواسع، فتفاسير للقرآن، وتحاليل للأحداث التاريخية، وملء الهواء بالمناظرات التي لا حدّ لها، كالمناظرات في خلق القرآن إلى دراسات للحيوان لدلالته على قدرة الله، إلى شعر ومراسلات، إلى إثارات للعقول، ويكفيهم فخرًا في الأدب صحيفة بشر بن المعتمر في البلاغة، وما ألَّفه الجاحظ في موضوعات كثيرة لم يكن يستطيع أن يؤلف فيها لولا الاعتزال، إلى أدب البويهيين، والصاحب بن عباد، وابن العميد، ومن كان في بلاطهما من الأدباء، إلى مناقشات القاضي عبد الجبار إلى أدب الزمخشري. ولكن مع الأسف أنه لما دالت دولة المعتزلة، وكُرِهوا من عامة العلماء اختفت أيضًا كتبهم إلا القليل، وأصبح الناس يتقربون إلى الله بإحراقها، بل إنا نعدُّ من أدب المعتزلة ما قيل في هجائهم وسبِّهم؛ إذ لو لم يدعوا دعواتهم ما هجوا، ومن أمثلة ذلك: ما كتبه فيهم بديع الزمان الهمذاني في إحدى مقاماته، واسمها «المقامة المارستانية».

وسماها المارستانية؛ لأنه تصوّر رجلًا مجنونًا في مستشفى المجاذيب دخل عليه رجلان: عيسي بن هشام، ومعتزلي اسمه أبو داود العسكري، فأخذ هذا المجنون يشتم المعتزلي، ويهجوه، ويسفه آراءه، فمثلًا يقول له: «إن الخيرة لله لا لعبده»، وذلك خلاف ما يقوله المعتزلة من أن العبد مختار مطلق في أفعاله، وليس لإرادة الله دخل فيها. ويقول له: إنكم يا معتزلة١ تقولون: «خالق الظلم ظالم، أفلا تقولون: خالق الهلك هالك؟»؛ ذلك لأن المعتزلة يقولون: إن الله لو كان خالقًا لأفعال العبد، وفي الناس من يقع منهم الظلم، لكان الله خالقًا للظلم، ولو كان خالقًا للظلم كان ظالمًا؛ فرد عليهم بقوله: إن الله خالق فناء العالم، وفناء الأفراد، فعلى قياسكم يكون خالق الإفناء فانيًا، تعالى الله عن ذلك.
ويقول: «إنَّ إبليس خير منكم؛ إذْ يقول: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي، فأقرَّ بالإغواء، وأنكرتم، وآمن وكفرتم …»، وتقولون: «إن العبد يختار أفعال نفسه، والمختار لا يبعج بطنه، ولا يفقأ عينه، ولا يرمي من حالق ابنه»، أي إنه إذا كان مختارًا ما صدرت عنه هذه الأفعال، ثم قال: «فليحزنكم أن القرآن بغيضكم، وأن الحديث يغيظكم، وإذا سمعتم: مَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ (الأعراف: ١٨٦)، وإذا سمعتم: زُويت٢ لي الأرض فأريت مشارقها ومغاربها، جحدتم»؛ وذلك لأن أكثر المعتزلة ينكرون الإسراء والمعراج إلا بالروح. ثم إذا قيل: عرضت عليّ الجنة حتى هممت أن أقطف ثمارها، وعرضت عليّ النار حتى اتقيت حرّها بيدي، أنغضتم رءوسكم، ولويتم أعناقكم. وإن قيل: عذاب القبر، تطيرتم. وإن قيل: الصراط، تفاخرتم؛ وذلك لأن أكثر المعتزلة ينكرون وجود الجنة والنار اليوم، كما ينكرون عذاب القبر بآلام حسية، وإنما هي — كما يقولون — بآلام نفسية، كما ينكرون عذاب الصراط بالمعنى المادي، ويقولون: «إنه عبارة عن طريق الحق»، ثم يسبّهم «بأنهم خبث الحديث»؛ لأنهم اعتزلوا حديث الناس لما سمعوا حديث الحسن البصري، فسماهم من أجل ذلك خبث الحديث، كما سبّهم بأنهم «مخانيث الخوارج»، والمخانيث: جمع مخناث، كالمخنث؛ وذلك لأنهم اتفقوا مع الخوارج في تفسيق بعض الناس الذين حكّموا أبا موسى الأشعري، ولم يكن من رأيهم التحكيم، ولكن الخوارج كان من رأيهم قتال من حكموا بتضليله، وأما المعتزلة فلا يرون القتال، فالمعتزلة بالنسبة للخوارج كالمخانيث من الرجال … إلخ.

والذي يظهر أن بديع الزمان حكى لنا صورة من أقوال الناس في عصره ضد المعتزلة لما زالت دولتهم؛ فكان خصومهم يقولون عليهم مثل ما حكى بديع الزمان، وأن بديع الزمان أديب فقط، لا هو فيلسوف، ولا متكلم، وذلك شأن بعض أدبائنا اليوم كحافظ، وشوقي، يتلقفون الآراء من العلماء الدارسين، ويصرفونها في شكل شعري جميل، وربما كان بديع الزمان ماكرًا مخادعًا؛ إذ سمى المقامة مارستانية، وجعل سبهم على لسان مجنون، كأن المعتزلة لا يسبهم إلا مجنون.

وكان من ضمن أدباء المعتزلة قوم من أحرار النحويين دعوا إلى القياس في اللغة، ومن أعلامهم أبو علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، وكلاهما معتزلي؛ فكان يقول أبو علي: «ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، فإذا عربت العرب لفظة أعجمية أجريت عليها أحكام الإعراب، وعددتها من كلام العرب، وأجزت الاشتقاق منها، كما عرب العرب لفظة الدرهم، واشتقوا منه دُرْهمت الخُبَّازي صار وزنها كالدراهم، وقالوا: رجل مُدَرْهِم، أي كثرت دراهمه.»

وكان يقول: «لو شاء شاعر أو ساجع أن يبني بإلحاق لام الكلمة اسمًا أو فعلًا لجاز له، ولكان ذلك من كلام العرب، وذلك نحو قولك: خرجج أكرم من ذخلل، وضربب زيد عمرًا، ومررت برجل ضربب، ونحو ذلك. فقال له تلميذه ابن جني: أفترتجل اللغة ارتجالًا؟ قال: ليس بارتجال، ولكنه مقيس على كلامهم؛ فهو إذن من كلامهم … ألا ترى أنك تقول: طاي الخشكنان من كلام العرب، وإن لم تكن العرب تكلمت به هكذا.»

وأما ابن جني، فقد نحا في كتابه الخصائص منحى جديدًا طريفًا يدل على تذوقه اللغة، وتوسعه فيها، رأى الفقهاء وضعوا للفقه أصولًا، والمتكلمين وضعوا لعلم الكلام أصولًا، فأراد أن يضع للغة أصولًا، وكان له فضل فيما سماه «الاشتقاق الكبير»، ويعني به أصول الكلمة، وتقليبها على وجوهها المختلفة، واستخراج التباديل، والتوافيق منها، كأن تأخذ كلمة «كلم»، وتحولها إلى ملك، ومكل، ولكم، وكمل، ولمك، وتمعن النظر فيها لتنظر هل هذه الحروف إذا جمعت كلها دلت على شيء واحد، وترى أن هذه الحروف إذا جمعت دلت على القوة. ومما يؤسف له أن مدرسة القياس هذه لم تستمر في سيرها؛ فقد نكبت عندما نكبت المعتزلة.

كان المعتزلي يتباهى باعتزاله، ويفتخر به، قال صاحب الحور العين: «إن المعتزلة ينظرون إلى جميع المذاهب كما تنظر ملائكة السماء إلى أهل الأرض مثلًا، ولهم من التصانيف الموضوعات، والكتب المؤلفات في دقائق التوحيد والعدل، والتنزيه لله — عز وجل — ما لا يقوم به سواهم، ولا يوجد لغيرهم، ولا يحيط به علمًا لكثرته إلا الله، عز وجل. وكل متكلم بعدهم يغترف من بحارهم، ويمشي على آثارهم، ولهم في معرفة المقالات والمذاهب المبدعات تحصيل عظيم، وحفظ عجيب، وغرض بعيد لا يقدر عليه غيرهم، ينقدون المذاهب كما ينقد الصيارف الدنانير والدراهم.»٣

وقد أخذ مصباح المعتزلة يخبو شيئًا فشيئًا إلى أن انطفأ، وأصبح القول بالاعتزال سرًّا بعد أن كان جهرًا؛ ولذلك أسباب سنذكرها عند الكلام على الأشعري، إن شاء الله.

هوامش

(١) في الأصل: وأنتم يا مجوس هذه الأمة … إلخ، يريد بمجوس هذه الأمة المعتزلة.
(٢) حديث الرسول: «وزويت لي الأرض»: أي جمعت.
(٣) الحور العين، تأليف الأمير أبي سعيد نشوان بن سعيد بن نشوان اليمني الحميري، والرسالة مطبوعة في مصر ١٩٤٨، ص٢٠٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤