أدب المعتزلة
وقد خلّف المعتزلة للعالم العربي أدبًا كثيرًا، ونستعمل هنا كلمة أدب بالمعني الواسع، فتفاسير للقرآن، وتحاليل للأحداث التاريخية، وملء الهواء بالمناظرات التي لا حدّ لها، كالمناظرات في خلق القرآن إلى دراسات للحيوان لدلالته على قدرة الله، إلى شعر ومراسلات، إلى إثارات للعقول، ويكفيهم فخرًا في الأدب صحيفة بشر بن المعتمر في البلاغة، وما ألَّفه الجاحظ في موضوعات كثيرة لم يكن يستطيع أن يؤلف فيها لولا الاعتزال، إلى أدب البويهيين، والصاحب بن عباد، وابن العميد، ومن كان في بلاطهما من الأدباء، إلى مناقشات القاضي عبد الجبار إلى أدب الزمخشري. ولكن مع الأسف أنه لما دالت دولة المعتزلة، وكُرِهوا من عامة العلماء اختفت أيضًا كتبهم إلا القليل، وأصبح الناس يتقربون إلى الله بإحراقها، بل إنا نعدُّ من أدب المعتزلة ما قيل في هجائهم وسبِّهم؛ إذ لو لم يدعوا دعواتهم ما هجوا، ومن أمثلة ذلك: ما كتبه فيهم بديع الزمان الهمذاني في إحدى مقاماته، واسمها «المقامة المارستانية».
والذي يظهر أن بديع الزمان حكى لنا صورة من أقوال الناس في عصره ضد المعتزلة لما زالت دولتهم؛ فكان خصومهم يقولون عليهم مثل ما حكى بديع الزمان، وأن بديع الزمان أديب فقط، لا هو فيلسوف، ولا متكلم، وذلك شأن بعض أدبائنا اليوم كحافظ، وشوقي، يتلقفون الآراء من العلماء الدارسين، ويصرفونها في شكل شعري جميل، وربما كان بديع الزمان ماكرًا مخادعًا؛ إذ سمى المقامة مارستانية، وجعل سبهم على لسان مجنون، كأن المعتزلة لا يسبهم إلا مجنون.
وكان من ضمن أدباء المعتزلة قوم من أحرار النحويين دعوا إلى القياس في اللغة، ومن أعلامهم أبو علي الفارسي، وتلميذه ابن جني، وكلاهما معتزلي؛ فكان يقول أبو علي: «ما قيس على كلام العرب فهو من كلام العرب، فإذا عربت العرب لفظة أعجمية أجريت عليها أحكام الإعراب، وعددتها من كلام العرب، وأجزت الاشتقاق منها، كما عرب العرب لفظة الدرهم، واشتقوا منه دُرْهمت الخُبَّازي صار وزنها كالدراهم، وقالوا: رجل مُدَرْهِم، أي كثرت دراهمه.»
وكان يقول: «لو شاء شاعر أو ساجع أن يبني بإلحاق لام الكلمة اسمًا أو فعلًا لجاز له، ولكان ذلك من كلام العرب، وذلك نحو قولك: خرجج أكرم من ذخلل، وضربب زيد عمرًا، ومررت برجل ضربب، ونحو ذلك. فقال له تلميذه ابن جني: أفترتجل اللغة ارتجالًا؟ قال: ليس بارتجال، ولكنه مقيس على كلامهم؛ فهو إذن من كلامهم … ألا ترى أنك تقول: طاي الخشكنان من كلام العرب، وإن لم تكن العرب تكلمت به هكذا.»
وأما ابن جني، فقد نحا في كتابه الخصائص منحى جديدًا طريفًا يدل على تذوقه اللغة، وتوسعه فيها، رأى الفقهاء وضعوا للفقه أصولًا، والمتكلمين وضعوا لعلم الكلام أصولًا، فأراد أن يضع للغة أصولًا، وكان له فضل فيما سماه «الاشتقاق الكبير»، ويعني به أصول الكلمة، وتقليبها على وجوهها المختلفة، واستخراج التباديل، والتوافيق منها، كأن تأخذ كلمة «كلم»، وتحولها إلى ملك، ومكل، ولكم، وكمل، ولمك، وتمعن النظر فيها لتنظر هل هذه الحروف إذا جمعت كلها دلت على شيء واحد، وترى أن هذه الحروف إذا جمعت دلت على القوة. ومما يؤسف له أن مدرسة القياس هذه لم تستمر في سيرها؛ فقد نكبت عندما نكبت المعتزلة.
وقد أخذ مصباح المعتزلة يخبو شيئًا فشيئًا إلى أن انطفأ، وأصبح القول بالاعتزال سرًّا بعد أن كان جهرًا؛ ولذلك أسباب سنذكرها عند الكلام على الأشعري، إن شاء الله.