الفصل الأول

الأشاعرة

عرف هذا الاسم منذ أن جاء أبو الحسن الأشعري البصري، والأشعري هذا ربيب المعتزلة؛ فقد تربى عليهم، وأخذ الكلام منهم، وقد روى السبكي في طبقات الشافعية: «أنه قام على الاعتزال أربعين سنة، حتى صار للمعتزلة إمامًا.» وقال الحسين بن محمد العسكري: «كان الأشعري تلميذًا للجبائي، وكان صاحب نظر، وذا إقدام على الخصوم، وكان الجبائي صاحب تصنيف وقلم، إلا أنه لم يكن قويًّا في المناظرة، فكان إذا عرضت مناظرة قال للأشعري: نب عني.»

فنحن إذا أنصفنا قلنا: إن مذهبه هو مذهب المعتزلة معدلًا في بعض مسائله، ولكنه استطاع أن يحول كثيرًا من الناس من الاعتزال إلى مذهبه الجديد، ونجح في ذلك إلى حد كبير.

علمنا أنه نشأ معتزليًّا، ولكنه تحول. قال بعضهم: إنه رأى رؤيا جعلته يعدل عن الاعتزال، وهذا لا يقنع. وقالوا: إنه اعتكف في بيته طويلًا، ثم أعلن عدوله عن الاعتزال. وإن صح ذلك فمعناه: أنه ظلّ يفكر طويلًا في أصول الاعتزال، فلما لم يرضه بعضها عدل عن الاعتزال، يضاف إلى ذلك أنه ناظر أستاذه أبا علي الجبائي في بعض المسائل، وقالوا: إنه انتصر عليه — كما سنذكر — فكان ذلك من الأسباب التي دعته إلى ترك الاعتزال. وفي نظري أنه انتصر على المعتزلة لأسباب:
  • (١)

    أن الناس كانوا قد ملوا كثرة المناظرات، والمماحكات، والمحن التي شهدوها، أو سمعوا بها في محنة خلق القرآن، فكرهوا هذه الطائفة التي سببت لهم كل هذه المشاكل، وأخذ كثير منهم بأزْر من يجابههم.

  • (٢)

    أن أبا الحسن — على ما يظهر من ترجمته — كان جدلًا قوي الحجّة، فلفت الأنظار إليه، وكان أيضًا معروفًا بالصلاح والتقوى، وحسن المظهر، مما جذب نفوس الناس إليه، ووجدوا فيه الشخص الذي يلقون حملهم عليه إذا عدلوا عن الاعتزال.

  • (٣)

    أن السلطات الحكومية من عهد المتوكل قد تخلت عن نصرة المعتزلة، وأغلب الناس يمالئون الحكومة أينما كانت، ويخافون أن يعتنقوا مذهبًا لا ترضاه، فهربوا من الاعتزال إلى من يهاجم الاعتزال.

  • (٤)

    رزق أبو الحسن الأشعري بأتباع أقوياء، أخذوا مذهبه، ودعوا إليه، ودعموه بالأدلة والبراهين، أمثال: إمام الحرمين، والإسفراييني، والباقلاني؛ فكان كل عالم من هؤلاء العلماء لمنزلته العظيمة يرغب الناس في الدخول في مذهب الأشعري، ويبعدهم عن الاعتزال.

  • (٥)

    سقطت الدولة البويهية الشيعية، وجاء عقبها الدولة السلجوقية التركية السنية، وكانت دولة قوية تنصر السنية بالعقلية التركية، ورزق ملكها ألب أرسلان بالوزير العظيم «نظام الملك»، وكان في الدولة السلجوقية يشبه ابن العميد، وابن عباد في الدولة البويهية، هذان ينصران التشيع والاعتزال، وهذا ينصر السنية، وقد كان نظام الملك هذا مثقفًا ثقافة واسعة، عالمًا، سياسيًّا، حكيمًا، حتى إنه طلب إلى رجال عصره أن يؤلف كل منهم كتابًا يشرح فيه كيف يتصور أن تكون الحكومة العادلة؛ فألف هو كتاب «سياسة نامة»، وألف في هذا الموضوع الرحالة المشهور «ناصر خسرو»، كما ألّف في ذلك «عمر الخيام».

ومن جليل أعماله أنه أنشأ مدارس كثيرة من أشهرها المدرسة النظامية، ومدرسة في نيسابور، ومدرسة في هراة، إلى مدارس أخرى، وحشر في هذه المدارس العلماء العظام أمثال أبي حامد الغزالي يدرسون على مذهب أهل السنة؛ فانتشر مذهبهم في كل الأنحاء، وكانت النتيجة الطبيعية لهذا أن يخمد التشيع والاعتزال.

ومع هذا فلم يخل الأشعري في أول أمره من ساخطين عليه، مهاجمين له حتى لم يتورع بعضهم من أن يسلقه بألسنة حداد، وقد تجمع ضدّه المعتزلة لما خرج عليهم، فألفوا الكتب ضده، وفنّدوا مذهبه، كذلك فعل الذين خالفوه في بعض آرائه، مثل ابن حزم الأندلسي، فلم يتورع أن يقول فيه أقذع الأقوال، وممن لم يكن يؤمن به — على ما يظهر — الإمام المذهبي.

اعتكف الأشعري في بيته ١٥ يومًا يفكر في كل ما تعلم عن المعتزلة. قالوا: «ثم خرج إلى الجامع، وصعد المنبر، وقال: معاشر الناس، إنما تغيبت عنكم هذه المدة لأني نظرت، فتكافأت عندي الأدلة، ولم يترجّح عندي شيء على شيء، فاستهديت الله فهداني إلى اعتقاد ما أودعته في كتبي هذه، وانخلعت من جميع ما كنت أعتقده، كما انخلعت من ثوبي هذا، وانخلع من ثوب كان عليه، ورمى به.»

وأول ما بلغنا من شكه وخروجه أنه ناظر أستاذه الجبائي، فقال الأشعري له: ما قولك في ثلاثة: مؤمن، وكافر، وصبي؟ فقال الجبائي: المؤمن من أهل الدرجات، والكافر من أهل الهلكات والصبي من أهل النجاة. فقال الأشعري: فإن أراد الصبي أن يرقى إلى أهل الدرجات هل يمكن؟ قال الجبائي: لا، يقال له: إنما المؤمن إنما نال هذه الدرجة بالطاعة، وليس لك مثلها، قال الأشعري: فإن قال: التقصير ليس مني، فلو أحييتني كنت عملت من الطاعات كعمل المؤمن، قال الجبائي: يقول له الله: كنت أعلم أنك لو بقيت لعصيت ولعوقبت، فراعيت مصلحتك، وأمتك قبل أن تنتهي إلى سن التكليف … قال الأشعري: فلو قال الكافر: يا رب علمت حاله كما علمت حالي، فهلا راعيت مصلحتي مثله؟ فانقطع الجبائي.» وهذه المناظرة مبنية على قول المعتزلة: إن الله تعالى يجب عليه مراعاة الأصلح للعبد، فناقشه الأشعري في هذا المبدأ.

ورووا مناظرة أخرى له، خلاصتها: أن رجلًا سأل الجبائي: هل يجوز أن يسمى الله عاقلًا؟ فقال الجبائي: لا؛ لأن العقل مشتق من العقال، والعقال بمعنى المانع، والمنع في حق الله محال. فقال الأشعري للجبائي: فعلى قياسك لا يسمّى الله تعالى حكيمًا؛ لأن هذا الاسم مشتق من حكمة اللجام، وهي الحديدة المانعة للدابة عن الخروج، ويشهد لذلك قول حسان:

فنحكم بالقوافي من هَجَانا
ونضرب حين تختلط الدماءُ

بمعنى نمنع بالقوافي من هجانا.

وقال آخر:

أبني حنيفة حكّموا سفهاءكم
إني أخاف عليكمُ أن أغضبا

أي امنعوا سفهاءكم، فإذا كان اللفظ مشتقًّا من المنع، والمنع على الله محال، لزمك أن تمنع إطلاق «حكيمًا» عليه تعالى، فلم يجد الجبائي جوابًا، وسأل الأشعري: ما تقول أنت؟ قال: أجيز حكيمًا، ولا أجيز عاقلًا … لأن طريقي في مأخذ أسماء الله السماع الشرعي، لا القياس اللغوي، فأطلقت حكيمًا، لأن الشرع أطلقه، ومنعت عاقلًا، لأن الشرع منعه، ولو أطلقه الشرع لأطلقته، وهكذا سار الجدل بينهما حتى انفصل عنه الأشعري، وعن الاعتزال.

(١) انتصار الأشاعرة

لم تسر الأمور بعد ذلك سيرًا هادئًا بسبب ما تمكن في الناس من الاعتزال، فكنا نرى مناظرات بين العلماء، وحيرةً واضطرابًا بين الناس، فمثلًا: يروون أنه «اجتمع أبو إسحاق الإسفراييني الأشعري، والقاضي عبد الجبار المعتزلي، فقال عبد الجبار في ابتداء جلوسه للمناظرة: سبحان من تنزّه عن الفحشاء، فقال الإسفراييني: سبحان من لا يقع في ملكه إلا ما يشاء. فقال عبد الجبار: فيشاء ربنا أن يعصى؟ فقال الإسفراييني: أيعصى ربنا قهرًا؟ فقال عبد الجبار: أفرأيت أن منعني الهدى، وقضى عليّ بالردى، أحسن إليَّ أم أساء؟ فقال الإسفراييني: إنْ كان منعك ما هو لك فقد أساء، وإن منعك ما هو له، فيختص برحمته من يشاء. فانقطع عبد الجبار … وهذه المناظرة مبنية على أن المعتزلة تقول: إنَّ الله لم يرد الكفر من الكافر، بل تركه يفعل ما يشاء باختياره. والأشعري ومَنْ تبعه يقولون: إن الله خالق أفعال العباد.

وأحيانًا تشتد الخصومة، كالذي روى أن السلطان السلجوقي طغرل بك كان له وزير اسمه الكندري، وكان شيعيًّا معتزليًّا متعصبًا للتشيع، وكان يعقد في داره مجالس للمناظرة، كما كانت دور غيره أيضًا مكانًا للمناظرة، فأوعز للسلطان طغرل بك بلعن المبتدعة على المنابر، ودس عنده أن الأشعرية من ضمن المبتدعة، واتخذ ذلك ذريعة إلى إهانة أتباع أبي الحسن، ومنعهم من الوعظ والتدريس، وعزلهم من خطبة الجامع، واستعان بالحنفية على الشافعية، وأكثر الشافعية أشعرية، حتى حكى بعضهم أن اضطهاد الأشاعرة في هذه الحادثة يشبه اضطهاد الأمويين للعلويين. وفي هذه الفتنة أمر طغرل بك بسبب هذه الدسائس أن يقبض على كثير من كبراء الأشعرية كإمام الحرمين، وأبي القاسم القشيري، وأبي سهل بن الموفّق. ولما قرئ الكاتب بنفيهم تحرشت بهم العامة والأوباش، وقد حبس بعضهم، وهرب بعضهم. وكان ممن هرب إمام الحرمين، فقد هرب إلى الحجاز، ولم تخمد هذه الفتنة إلا بتغير الأحوال؛ فقد قتل الكندري وخلف ألب أرسلان طغرل بك.

ومما يدل على هلع الناس وفزعهم ما نرى في هذا العصر من استفتاءات من الناس للعلماء الذين يثقون بهم، وعقد المجامع لإصدار الفتاوى، مثل الفتوى التي صدرت من القشيري يشكو مما أصاب أهل السنة، ويحكي ما نالهم من المحنة. والفتوى التي صدرت من الحافظ البيهقي … ونحن نسوق مثلًا نص سؤال للعلماء، وجواب عليه مما يدل على الحيرة.. فمثلًا: استفتى بعض أهل بغداد بعض العلماء فقالوا: ما قول السادة الأئمة الأجلة في قوم اجتمعوا على لعن فرقة الأشعري وتكفيرهم، ما الذي يجب عليهم؟ فأجاب قاضي القضاة أبو عبد الله الدامغاني الحنفي بقوله: «إنه قد ابتدع وارتكب ما لا يجوز، وعلى الناظر في الأمور — أعز الله أنصاره — الإكثار عليه، وتأديبه بما يرتدع به هو وأمثاله عن ارتكاب مثله.» ووقع على الكتاب الدامغاني هذا. وبعد ذلك كتب أبو إسحاق الشيرازي فتوى أخرى يقول فيها: الأشعرية أعيان أهل السنة، ونصّار الشيعة انتصبوا للرد على المبتدعة من القدرية والرافضة وغيرهم، فمن طعن فيهم فقد طعن على أهل السنة، وإذا رفع أمر من يفعل ذلك إلى الناظر في أمر المسلمين وجب عليه تأديبه بما يرتدع به كل أحد، ومثل هذا كان كثيرًا.

ومن الفتاوى فتوى القشيري يقول فيها: «بسم الله الرحمن الرحيم، اتفق أصحاب الحديث أن أبا الحسن الأشعري كان إمامًا من أئمة أصحاب الحديث، ومذهبة مذهب أصحاب الحديث، تكلم في أصول الديانات على طريقة أهل السنة، ورد على المخالفين من أهل الزيغ والبدع، وكان على المعتزلة والروافض والمبتدعين من أهل القبلة، والخارجين عن الملة سيفًا مسلولًا، ومَنْ طعن فيه، أو قدح، أو لعنه، أو سبّه فقد بسط لسان السوء في جميع أهل السنة»، بذلنا خطوطنا طائعين بذلك في هذا الدرج في ذي القعدة سنة ست وثلاثين وأربعمائة، كتبه عبد الكريم ابن هواز القشيري، ووقّع على هذا الكتاب أيضًا تحته الخبازي، وكتب الجويني وغيرهما.١
وكتب عبد الجبار الإسفراييني مثل هذا بالفارسية كتابًا هذا تفسيره: «إن أبا الحسن الأشعري كان إمامًا، ولما أنزل الله — عز وجل — قوله: يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (المائدة: ٥٤) أشار المصطفى إلى أبي موسى الأشعري».٢

ومن هذا القبيل أيضًا ما حصل من التآليف في ذلك العصر وبعده، فقد ألّفت الرسائل في الطعن في أبي الحسن الأشعري، كما ألفت الكتب والرسائل في الدفاع عنه، فمن ألف في الدفاع عنه ابن عساكر الإمام الكبير، فقد ألف كتابًا سماه «تبيين كذب المفتري فيما نسب إلى الأمام أبي الحسن الأشعري»، وكل هذا يدل على حركة واسعة النطاق كانت بين خصوم أبي الحسن الأشعري ومؤيديه.

وكما قلنا من قبل: إن أبا الحسن الأشعري قد رزق أتباعًا كثيرين من العلماء الأقوياء من شافعية، ومالكية، وحنفية، وحنبلية. فمن الآخذين عنه: أبو إسحاق الإسفراييني، والشيخ أبو بكر القفال، والحافظ الجرجاني، والشيخ أبو محمد الطبري العراقي، وأكثرهم جالسه، وأخذ عنه شفاهًا، ثم جاءت بعد هؤلاء طبقة ثانية من الصعلوكي والداراني، وأبو بكر الباقلاني، وأبو بكر بن فورك.

ومن الطبقة الثالثة: أبو الحسن السكري، وأبو منصور النيسابوري، وأبو منصور البغدادي، والحافظ الهروي، وغيرهم … ومن الرابعة: الخطيب البغدادي، وأبو القاسم القشيري، وإمام الحرمين. ومن الخامسة: الغزالي، وفخر الإسلام الشاشي، وأبو نصر القشيري، وابن عساكر، والسمعاني، وأبو طاهر السلفي. ومن السادسة: فخر الدين الرازي، وسيف الدين الآمدي، وعز الدين بن عبد السلام، وابن الحاجب المالكي، إلى كثير غيرهم … وكل هؤلاء تبايعوا على نصرة مذهبه، مع علو مكانتهم، وسعة نفوذهم، مما آل أخيرًا إلى انتشار المذهب، وخفوت خصومه.

(٢) المسائل الأساسية في مذهبه، والتي خالف فيها المعتزلة

(٢-١) الخلاف على الصفات

كل المسلمين يقولون بالتوحيد، بل إنّ عنوان دين الإسلام هو «لا إله إلا الله»، ولكن المعتزلة فلسفوا هذا التوحيد، وبحثوه بحثًا كلاميًّا، وعمّقوه تعميقًا جدليًّا، فمثلًا قالوا: إن كثيرًا من الآيات والأحاديث تنسب إلى الله القدرة، والإرادة، والعلم، والحياة، والكلام، فهل هذه الصفات عين ذاته، أو غير ذاته، أو لا عين ولا غير؟ وهي مسألة تَحَرّج العلماء قبلهم عن الخوض فيها. فلما قالوا: هم بالتوحيد من جميع جهاته، فإنّ حقيقته تعالى أحدية من كل وجه، لا كثرة فيها بوجه من الوجوه؛ إذ لو كانت هذه الصفات غير ذاته، لكانت مركبةً، ولو كانت مركبة لاحتاج كل جزء إلى الأجزاء الأخرى. وأيضًا لو كان هناك صفات غير الذات لكانت قديمة قدم الذات، ولتعددت القدماء، وليس قديمًا إلا أن يكون إلهًا، فلو كان هناك صفات قديمة لتعددت الآلهة، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا. فقالوا: إنه تعالى حيّ عالم قدير، مريد بذاته، لا بِعِلْم وقدرة وحياة زائدة على ذلك، إذ لو كان عالمًا بعلم زائد، ومتصفًا بهذه الصفات كلها؛ لأنها زائدة على ذاته — كما هو الحال في الإنسان — لكان هناك صفة وموصوف، وحامل ومحمول، وهذه صفة الجسمية، والله تعالى منزه عن الجسمية، فكان زعيمهم أبو الهذيل العلاف يقول: «إنه عالم بعلم هو هو، وقادر بقدرة هي هو، وحي بحياة هي هو، وإنما اختلف التعبير لغرض، فإذا قلت عالم، أثبتّ لله علمًا هو ذاته، ونفيت عن ذاته الجهل إلخ.»

ويقول النظام مثلًا: إن صفات الله إنما هي صفات سلبية، لا تقتضي للذات شيئًا زائدًا عليها، فإذا قلت: إنه عالم أثبتَّ لله علمًا هو ذاته، ونفيت عن ذاته الجهل، ودللت على أن هناك معلومات منكشفة لذاته، وإذا قلت قادر أثبت لله قدرة هي ذاته، ونفيت عن ذاته العجز، ودللت على أن هناك مقدورًا له وهكذا. وقال بعض المعتزلة: إنَّ هذه صفات الغرض منها إفادة الناس معانيها، فإذا قلنا عالم، فالغرض منه إفادة الناس علمًا بأنه لا يجهل، وكذلك بقية الصفات.

فلما جاء الأشعري كان من أهم ما خالف فيه المعتزلة قوله بإثبات هذه الصفات لله؛ فإثبات العلم والقدرة والإرادة له تدل على وجود هذه الصفات متميزة؛ لأنه لا معنى لكلمة عالم إلا أنه ذو علم، ولا لقادر إلا أنه ذو قدرة، والدليل على ذلك أننا إذا قلنا: إنه عالم قادر، فإما أن يكون المفهومان من الصفتين واحدًا أو مغايرًا، فإن كانا شيئًا واحدًا وجب أن يعلم بقادريته، ويقدر بعالميته، وليس الأمر كذلك؛ فوجب أن يكون هناك صفة علم وقدرة مختلفين.

وقال أيضًا: إنَّ إسناد العلم والقدرة إليه تعالى، إما أن يرجع إلى اللفظ المجرد، وإما إلى تغير الصفات، والرجوع إلى اللفظ المجرد باطل، لأن العقل يقضي باختلاف مفهومين معقولين، أعني أنه يقضي باختلاف مفهوم قادر عن مفهوم عالم، فتعين أن تكون هناك صفتان قائمتان بنفسيهما غير ذاته؛ فألجأه ذلك إلى أن يقول: «إن الله تعالى عالمٌ بعلم، قادرٌ بقدرة، حيّ بحياة، مريد بإرادة، متكلم بكلام، سميع بسمع، بصير ببصر، وهذا الصفات أزلية قديمة قائمة بذاته تعالى، لا هي هو ولا هي غيره.» قال: «وعلمه يتعلق بجميع المعلومات، وقدرته تتعلق بجميع المقدورات، وإرادته تتعلق بجميع ما يقبل الاختصاص.»

ومن هنا نشأ الخلاف في مسألة خلق القرآن، فالأشعري يقول: إن الألفاظ المنزلة على لسان الملائكة إلى الأنبياء دلالات على الكلام الأزلي، والدلالة مخلوقة محدثة، والمدلول قديم أزلي، والمعتزلة لما لم يقولوا بصفة زائدة على الذات قالوا: ليس هناك كلام إلا هذه الألفاظ المنزلة على لسان الملائكة وهي مخلوقة.

والناظر إلى هذا الخلاف يرى أنّ كلًّا من المعتزلة والأشعرية جاوزوا حدَّهم، ودخلوا في سفسطات لا طائل تحتها، وليس العقل البشري بمستطيع شيئًا من ذلك. إننا لا نستطيع أن نقول بالنسبة لأنفسنا: إن كنا علمنا غير ذاتنا، وقدرتنا غير ذاتنا، أو هي هي، فكيف نستطيع أن نقول ذلك في الله، إن عقولنا ضعيفة لا تصلح إلا لخدمتنا في الوصول إلى أغراضنا في الحياة الواقعية، ومحاولة الوقوف على هذه الموضوعات ليست في متناول العقل البشري؛ إن العقل البشري لا يستطيع أن يدرك حقيقة أي شيء إدراكًا تامًّا، وكل ما يستطيع أن يدركه هو بعض صفاته.

إننا لا نستطيع أن ندرك «ماذا»، ولكن قد نستطيع بعد الجهد أن ندرك «كيف»، فلا نستطيع أن ندرك كُنْه الكهرباء ما هي، ولا الجاذبية، ولا المغناطيسية، ولا كُنْه الضوء ولا الحرارة، ولا كنه أي شيء من هذا القبيل، وكل الذي نستطيعه أن ندرك كيف نستخدم الكهرباء، والمغناطيسية، والجاذبية، فكيف يشرئب المتكلمون إلى البحث في أنّ صفات الله هي عين ذاته، أو غير ذاته، ثم يصلون فيها إلى قرار؟ هذا فوق عقل البشر، وفوق قدرتهم، ولعل الباحث في هذا شأنه شأن من يبحث عن نجم دقيق في السماء، ثم يعثر في حجر أمامه، بل ذلك أدق.

إذن فالكلام في هذا الموضوع سواء من المعتزلة أو الأشعرية أو الشيعة سفسطة لا توصل إلى نتيجة، وأقوال بهلوانية ليس لها إلا أشكال لفظية منطقية، ولا حقيقة وراءها. وما كان أغناهم كلهم عن ذلك، ولو فعلوا لوفروا زمانهم ومجهودهم، ولكنها شراهة العقل. وكان المتقدمون من الصحابة والتابعين أصح نظرًا، وأصدق تصرفًا، إذْ امتنعوا أن يدخلوا هذا الباب الذي لا يوصّل، وقالوا: إن الله تعالى ليس كمثله شيء، ولا يشبهه شيء، ورأينا أن الله يقول: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ(طه: ٥)، وفي الحديث عن الله تعالى: خَلَقْتُ بِيَدَيَّ (ص: ٧٥)، ونحو ذلك، فنؤمن بها ولا نؤولها، ونكل أمرها إلى الله، أما الغلو، وأما التأويل فلسنا مكلفين بهما. وقال مالك بن أنس عند سؤاله عن الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَىٰ (طه: ٥): الاستواء معلوم، والكيفية مجهولة، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة. ومثل ذلك ما قال أحمد بن حنبل، وسفيان الثوري.

(٢-٢) العدل

ثم قول المعتزلة بالعدل، أي عدل الله تعالى، وقد عدّوا هذا جزءًا مهمًّا من أصول المعتزلة؛ حتى كانوا يسمون أنفسهم أهل العدل والتوحيد … وقد وضعوا لهذه الفكرة نظامًا شاملًا، فأولًا: قالوا: بأن في الأشياء حُسْنًا وقبحًا ذاتيين يستطيع العقل معرفتهما، وهو مسئول عن ذلك قبل الرسالة وبعد الرسالة، ففي العدل والصدق والشجاعة أوصاف ذاتية يمكن العقل معرفتها. وثانيًا إن الله خلق العالم وهو يسيّره إلى غاية؛ لأن أعمال الحكماء يقصد منها غايته، والله أحكم الحكماء.

وثالثًا: متى كان الله عدلًا، وهو يحاسب الناس على أعمالهم ويجازيهم، فلا بد أن يكون الإنسان حرّ التصرف في أن يكون مسئولًا عن عمله؛ فأعمال العباد مخلوقة لهم، وفي قدرة العباد أن يفعلوها وأن يتركوها من غير دخل لإرادة الله، ولولا ذلك ما كان التكليف، إذ لو لم يكن قادرًا على الفعل وعدمه، ما صحّ أن يقال له افعل ولا تفعل، ولا مدح بفعل ولا ذم بترك، ولا كان للأنبياء معنى، وهي مسألة شائكة حيَّرت أهل الأديان من يهود ونصارى ومسلمين، كما حيرت الفلاسفة من قبل.

ولما جاء الإسلام رأينا أنّ هذه المسائل تثار ثم تخمد، ولا يتوسع فيها؛ فيروى أن عمرو بن العاص، وهو في أول الإسلام قال مرة أمام أبي موسي الأشعري: «أين أجد أحدًا أحاكم إليه ربي؟» فقال له أبو موسى: «أنا ذلك المتحاكم إليه.» قال عمرو: «أو يُقَدّر عليّ شيئًا ثم يعذبني عليه؟ قال أبو موسى: نعم … قال عمرو: ولم؟ قال: لأنه لا يظلمك.»

وجاء المعتزلة ووسّعوا هذا البحث وفلسفوه، واتخذوا جانب الإرادة، ورأوا أن آيات القرآن بعضها يؤيدهم، وبعضها ضدهم، فساروا في آيات التأييد على وجوهها، وأولو الآيات التي هي ضدّهم. فلما جاء دور أبي الحسن الأشعري طلع برأي جديد فقال: إنّ الله هو خالق أفعال العباد، وهو مريد كل ما يصدر منهم من خير أو شر، فعلمه تعالى وإرادته وقدرته متعلقة بجميع أفعال العباد، ولو قلتم: إن ذلك — إذا كان — تكليف بما لا يطاق، إذ لا يقدر العبد أن يخرج عما أريد منه، قال الأشعرية: أن لا مانع من تكليف ما لا يطاق … وإذا كان العبد يحس بقدرته، فقدرته لا تأثير لها في خلق الأحداث، ولكن الله تعالى أجرى سنته أن يخلق الشيء عند القدرة الحادثة من العبد، فإذا أراد العبد شيئًا، وعزم عليه، وتجرد له خلقه الله، غير أن للعبد شيئًا يسمى «كسبًا»، وقد فسروا هذا الكسب بأنه: «الاقتران العاديّ بين قدرة العبد والفعل»، فالله يخلق الفعل عند قدرة العبد وإرادته، لا بقدرة العبد وإرادته، وهذا الاقتران هو الكسب … وبعبارة أوضح: أن الكسب هو الشعور بالاختيار، ولذلك كانت مسألة الكسب من أهم المسائل عند الأشعرية، وعليها يقع العقاب أو الثواب، وقد ناقشه في ذلك ابن حزم فقال: خبرنا عن هذا الكسب، هل هو مخلوق للعبد أو هو مخلوق لله؟ فإنْ كان مخلوقًا للعبد فقد أثبت للعبد خلقًا، وهو ما تنكره، وإن كان لله لم تفعل شيئًا. وهو كلام صحيح، ولذلك أكثر الأشعرية في هذا الكسب من غير أن يصلوا إلى نتيجة واضحة، وجاء بعد الأشعري مَنْ عرض لهذا الأمر بتفسيرٍ آخر فقال: إن نفي القدرة عن العبد شيء يأباه العقل، فلا بد إذن من نسبة فعل العبد إلى قدرته حقيقة على أنه محدث للعمل، وخالق له. والإنسان كما يحس من نفسه القدرة يحس من نفسه أيضًا عدم الاستقلال، فالفعل يستند وجوده إلى قدرة العبد، والقدرة يستند وجودها إلى سبب آخر، وإذا احتاج الأمر استند هذا السبب إلى سبب آخر حتى ينتهي إلى مسبب الأسباب وهو الله، وفي رأيي أن هذا رجوع إلى قول المعتزلة بالتواء.

على كل حال، يميل الأشعرية إلى التوسط بين الجبر والاختيار، وأن الله يوجد القدرة والإرادة في العبد، وقدرة العبد وإرادته لهما مدخل في فعله، فجميع المخلوقات من فعل الله، بعضها بلا واسطة، وبعضها بواسطة، وكون العبد يتوسط هو موضوع المسئولية والمؤاخذة.

كما خالف الأشعرية في هذا الباب المعتزلة في أن الله تعالى يريد الكائنات كلها من خيرٍ وشر وإيمان وكفر، وقد دخلوا مع المعتزلة في نقاشٍ طويل خصوصًا في مسألة الكفر من الكافر. قالت المعتزلة: إن الله لا يريد كفر الكافر، وإلا لما أمره به، ولو كان الكفر مرادًا لوجب الرضا به، والله لا يرضى لعباده الكفر. وأجابت الأشعرية بأن الأمر ينفك عن الإرادة، كالأمر الذي يصدره من يريد اختبار المأمور، والطاعة موافقة الأمر، وهو غير الإرادة، والرضا إذا نسب إلى الله تعالى فمعناه الثواب، أو ترك الاعتراض عليه، إلخ …

وربما كان من أهم مسائل الخلاف بين المعتزلة والأشعرية اختلاف تصورهما لعدل الله، فالمعتزلة يقولون: إن الله كتب على نفسه العدل، فلا بد أن يعمل العمل لحكمة، ولا بد أن يسير العمل لغاية، ولا بد أن يكون عادلًا مع المطيع والعاصي، والمؤمن والكافر، فلا بد أن يكون العبد حرًّا في العمل يعمل إذا شاء، ويترك إذا شاء، ولا بد أن يثيب الله المطيع، ويعاقب العاصي.

أما الأشعرية فعمادهم أن الله لا يُسْأل عما يفعل، وإطاعة المطيع تَفَضُّل، وعقاب العاصي مقدر، وليس الله ملزمًا في عمله بغاية، … إلخ.

وربما كانت نقطة الخطأ عند المعتزلة ومن تابعهم، تصورهم عدل الله كما يتصورون عدل الحاكم من البشر كخليفة أو سلطان، فطبقوا عدل هؤلاء على عدل الله تعالى، وفاتهم أن العدل تختلف معانيه، حتى باختلاف الناس أنفسهم؛ فالعدل في نظر الإنسان الراقي غير العدل في نظر الرجل البدائي، وقد كان أرسطو يرى الرق عدلًا، ونحن اليوم نراه ظلمًا صارخًا، فما بالنا نحاول أن ندرك عدل الله وعقولنا لا تستطيع؟ إن نظرنا للعدل يتصل ببيئتنا، والعدل عند النظر إلى البيئة غير العدل عند النظر إلى الدنيا كلها، والله تعالى يحكم العالم كله، وهو في عدله ينظر إلى العالم كله، وليست الأرض وسكانها إلا هنة من هنات العالم؛ فنحن بالنسبة إلى الله ننظر كما تنظر النملة في محيطها الصغير، فكيف نحكم على عدل الله، ونحن لا ندرك شؤون هذا الكون ومخلوقاته، فضلًا عن أننا لا ندرك منه عدل الله وسائر صفاته، فالغلطة هنا كالغلطة هناك التي شرحناها عند الكلام على صفات الله.

(٢-٣) الوعد والوعيد

ومن أصول المعتزلة قولهم بالوعد والوعيد، فمن مات كافرًا أو مصرًّا على كبيرة من الكبائر، فهو مخلد في النار أبدًا، ومن مات مؤمنًا دخل الجنة أبدًا، فخالف في ذلك الأشعري وأصحابه فلم يخلّدوا في النار إلا الكفار، والله قادر على أن يغفر لمن يشاء، وتبع ذلك قول الأشعري بالشفاعة، وأساس فكرتهم أن الله مالك لخلقه، يفعل ما يشاء، ويحكم بما يريد، فلو أدخل الخلائق بأجمعهم الجنة لم يكن حيفًا، ولو أدخلهم النار لم يكن جورًا ولا ظلمًا؛ إذ الظلم أو الجور هو التصرف فيما لا يملكه المتصرف، أو وضع الشيء في غير موضعه، وهو المالك المطلق، فلا يتصور منه ظلم، ولا ينسب إليه جور.

قال إمام الحرمين في كتاب «الإرشاد»: «إذا ثبت جواز الغفران، وقد شهدت له شواهد من الكتاب والسنة، فيترتب على ذلك تشفيع الشفعاء، وحط أوزار المجرمين بشفاعتهم.

فمذهب أهل الحق أن الشفاعة حق، وقد أنكرها منكرو الغفران، ومَنْ جَوَّز الصفح والعفو بدءًا من الله تعالى، فلا يمنع الشفاعة …»

ويذهب الأشعري في كتابه «اللمع» في تفسير الوعد والوعيد مذهبًا آخر، ويفسر قوله تعالى: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍُ (الانفطار: ١٤)، وغير ذلك من الآيات، بأن الكلام قد يقع على الكل كما يقع على البعض، واللغة تجيز ذلك، كما يقول القائل: جاءني جيراني، وإن لم يأت جميعهم.

(٢-٤) رؤية الله في الآخرة

قال المعتزلة بعدم رؤية الله في الآخرة لقوله تعالى: لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ (الأنعام: ١٠٣)، وخالفهم الأشعري فقال: إن الله تعالى يُرى في الآخرة بدليل قوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (القيامة: ٢٢، ٢٣).

قال المعتزلة: إنَّ الرؤية تتطلب أن يكون المرئي في جهة وفي مكان وصورة، واتصال شعاع، وكل ذلك مستحيل على الله. وقالت الأشاعرة: إنَّ كل موجود يصح أن يُرى، والمصحح للرؤية هو موجود، والله تعالى موجود فيصح أن يُرى، ثم قيود الجهة والمكان، واتصال الشعاع إنما هو شأن الرؤية في الدنيا، وما يدرينا كيف نكون في الآخرة، وعلى أي وضع نتخيل رؤية الباري، وفي رأينا أن مذهب الأشاعرة في ذلك أصح.

وقد أجمع الأشاعرة على جواز رؤية الله في الآخرة، وجعلوا ذلك من جملة اعتقاد أهل السنة، قال الإسفراييني في «التبصير»: «وأن تعلم أن القديم سبحانه يُرى وتجوز رؤيته بالأبصار؛ لأن ما لا تصح رؤيته لم يتقرر وجوده كالمعدوم، وكل ما صح وجوده جازت رؤيته كسائر الموجودات، ودلائل هذه المسألة في كتاب الله كثيرة، منها قوله تعالى: تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ (الأحزاب: ٤٤)، واللقاء إذا أطلق في اللغة وقع على الرؤية، خصوصًا حيث لا يجوز فيه التلاقي بالذوات، والتماس بينها، وقد ورد في تفسير الآية الخاصة بموسى: قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ۚ قَالَ لَن تَرَانِي (الأعراف: ١٤٣) أنه لو لم تكن الرؤية جائزة لكان لا يتمناها مَنْ هو موصوف بالنبوة. وأيضًا فإنه سبحانه قال في جوابه: لَن تَرَانِي، ولم يقل: لن أرى، وفيه دليل على أنه يصح أن يرى …

(٢-٥) خلق الأفعال

وكان من أهم المسائل التي خالف فيها الأشاعرة المعتزلة مسألة «خلق الأفعال»، فالمعتزلة قالوا: إن الإنسان يخلق أفعال نفسه، ولذلك يُسْأل عنها، وتكون مثوبته وعقوبته عليها عدلًا، فجاء الأشعرية فقالوا: إن للعبد قدرة مؤثرة بإذن الله تعالى، وإن له اختيارًا، ولكنه مجبور على اختياره، وقدرته ليست مؤثرة أصلًا، بل هي كاليد الشلاء، فنفوا الاختيار عن العبد، وهذا هو الذي يتفق مع أن الله يخلق ما يشاء.

ومن أدق مسائل الاختلاف بين الأشاعرة والمعتزلة الآية التي علقت بالمشيئة مثل: وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَن يَشَاءَ اللهُ (الإنسان: ٣٠)، ومثل قوله: قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (الزخرف: ٢٢) جعل الزمخشري هذه الآية دليلًا على أن الله لم يشأ الكفر من الكافر، وكَفَّر أهل السنة القائلين بأن المقدورات كلها بمشيئة الله، ووجه ذلك أن الكفار لما ادعوا أنه تعالى شاء منهم الكفر حيث قالوا: لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم ( الزخرف: ٢٠) … إلخ، أي لو شاء — جل جلاله — أن نترك عبادة الأصنام لتركناها، فرد الله عليهم، وأبطل اعتقادهم بقوله: مَّا لَهُم بِذَٰلِكَ مِنْ عِلْمٍ (الزخرف: ٢٠)، فلزم حقيقة خلافه، وهو عين ما ذهب إليه، ويلزمه كفر القائلين بأن قوله تعالى في صورة الزخرف: جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا (الزخرف: ١٥)؛ فيكون ما تضمنته كفرًا آخر، ويلزمه كفر القائلين بأن الكل بمشيئتة، وقال بعض الجبرية: إن كفرهم بذلك لأنهم قالوه على سبيل الاستهزاء، ورده الزمخشري بأن السياق لا يدل على أنهم قالوا مستهزئين، وحيث بطل أنهم قالوها على طريق الهزء وجب أن يكونوا جادين.

هذا إلى مسائل في الخلاف بين الأشعرية والمعتزلة لا نطيل بذكرها، كخلافهم في الشفاعة ينكرها المعتزلة، ويقرها أهل السنة، وكالصراط والميزان والحوْض، يقول المعتزلة: إنها معان رمزية، ويقول أهل السنة: إنها حقائق واقعية … إلخ.

(٣) الغزالي والرازي

جاء عالمان كبيران قويا مذهب الأشعري، وزادا في انتشاره، هما أبو حامد الغزالي، وفخر الدين الرازي، فقد كان لهما مقام كبير عند المسلمين، وتأليفات كثيرة، استقبلت بالقبول.

(٣-١) أبو حامد الغزالي

فأما أبو حامد الغزالي فقد كان أعجميًّا من طوس، جيد الأسلوب، متدفق التعبير، وإن كان يلحن أحيانًا، ولد بطوس سنة ٤٥٠ﻫ من أبوين فقيرين، وتكفل به وبالقليل من مال أبيه رجل صوفي أوصى إليه به أبوه، فعلمه شيئًا من التصوف، فلما فرغ ماله التحق طالبًا ليصيب شيئًا من الرزق الذي كان يصرف للطلبة، وتعلّم الفقه حتى كان أفْقَه أقرانه، وإمام أهل زمانه، وكان تلميذًا لإمام الحرمين يأخذ عنه قواعد العقائد، ولازمه مدة طويلة، فلما مات إمام الحرمين خرج الغزالي قاصدًا نظام الملك الوزير السلجوقي، وكان له مجلس يحضره العلماء يتناظرون فيه، فظهر عليهم، وولاه نظام الملك التدريس في مدرسته ببغداد، فذهب إليها سنة ٤٧٤ﻫ واشتهر اسمه، وعظم جاهه، ثم كان يعتريه الشكّ هذه المدة فيما يعمله، ثم زهد في منصبه وجاهه، وحجّ سنة ٤٨٨ﻫ، ورجع من الحج إلى دمشق، واعتكف بمنارة الجامع نحو عشر سنين يفكر ويقرأ ويكتب، وأخيرًا زهد في العلوم وتصوّف.

على كل حال، كانت له نواحي ثقافات عديدة واسعة، تثقف في الفقه وأصول الفقه، وألف فيهما، وتثقف بالفلسفة، وقرأ كثيرًا من كتب ابن سينا، ورسائل إخوان الصفاء، ثم قرأ التعاليم الباطنية، ورد عليها، وبكل ذلك تأثرت نفسه، فلما أخرج كتاب «الإحياء» ظهرت فيه نزعات الفقه والتصوف والفلسفة مجتمعة، ممزوجة مزجًا غريبًا.

والذي يهمنا أنه كان شافعيًّا أشعريًّا، وقد وسّع مذهب الأشعري، وزاد فيه من ناحيتين: من ناحية موضوعاته، ومن ناحية معالجته للبراهين معالجة فلسفية على نمط جدل المنطق اليوناني؛ فصبغ العقيدة الأشعرية بصبغتين: صبغة فلسفية، وصبغة صوفية، وكان له أثر كبير في المسلمين حتى ليذهب بعض المستشرقين إلى أن الإسلام كما يتصوره كثير من الناس هو الإسلام بالصبغة الغزالية، وقد كتب على منهج الأشعرية كتبًا ورسائل في العقيدة التي يجب أن يعتنقها أهل السنة منها رسالة صغيرة تحوي أهم العقائد سماها «عقيدة أهل السنة»،٣ و«الرسالة القديمة»، نقتطف منها بعض المقتطفات:

الحمد لله المبدئ المعيد، الفعال لما يريد، ذي العرش المجيد، والبطش الشديد، وهو في ذاته واحد لا شريك له، فرد لا مثل له، صمد لا ضدّ له، منفرد لا ند له، واحد قديم لا أول له، أزلي لا بداية له، مستمر الوجود لا آخر له … ليس بجسم مصوّر، ولا بجوهر محدود مقدَّر، لا يماثل الأجسام لا في التقدير، ولا في قبول الأجسام، ليس بجوهر، ولا تحله الجواهر، ولا بعرض، ولا تحله الأعراض … لا يحده المقدار، ولا تحويه الأقطار، ولا تحيط به الجهات، ولا تكتنفه الأرضون، ولا السموات، وإنه مستوٍ على العرش على الوجه الذي قاله، وبالمعنى الذي أراده، استواء منزهًا عن المحاسّة والاستقرار … وهو فوق العرش والسماء، وفوق كل شيء إلى تخوم الثرى فوقيّة لا تزيده قربًا إلى العرش والسماء، كما تزيده بعدًا عن الأرض والثرى … قريب من كل موجود، وهو أقرب إلى العبد من حبل الوريد، وهو على كل شيءٍ شهيد، إذ لا يماثل قربه قرب الأجسام، كما لا تماثل ذاته ذات الأجسام … وأنه لا يحل في شيء، وأنه لا يحلّ فيه شيء — تعالى عن أن يحويه مكان —كما تقدّس عن أن يحده زمان، بل كان قبل أن خلق الزمان والمكان وهو الآن على ما عليه كان … وهو تعالى حيّ قادر، جبار قاهر، لا يعتريه قصور ولا عجز، ولا تأخذه سنة ولا نوم، ولا يعارضه فناء ولا موت … وهو المنفرد بالخلق والاختراع، المتوحد بالإيجاد والإبداع، خلق الخلق وأعمالهم، وقدّر أرزاقهم وآجالهم، لا يشذ عن قبضته مقدور، ولا يعزب عن قدرته تصاريف الأمور … وهو عالم بجميع المعلومات، محيط بما يجري من تخوم الأرضين إلى أعلى السموات، لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء، بل يعلم دبيب النملة السوداء على الصخرة الصماء، في الليلة الظلماء، ويدرك حركة الذر في جو الهواء، وهو تعالى مريد للكائنات؛ مدبّر للحادثات، فلا يجري في الملك والملكوت قليل أو كثير، صغير أو كبير، خير أو شر، نفع أو ضرّ، إيمان أو كفر، عرفان أو نكر، إلا بقضائه وقدره وحكمه، فما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، لا يخرج عن مشيئته ناظر، ولا فلتة خاطر، ولو اجتمع الإنس والجن والملائكة والشياطين على أن يحركوا في العالم ذرة، أو يسكنوها دون إرادته ومشيئته لعجزوا عن ذلك، وإرادته قائمة بذاته في جملة صفاته … وهو — سبحانه وتعالى — لا موجود سواه إلا وهو حادث بفعل، وإنه حكيم في أفعاله، عادل في أقضيته لا يقاس عدله بعدل العباد، إذ العبد يتصور منه الظلم بتصرفه في ملك غيره، ولا يتصور الظلم من الله، فإنه لا يصادف لغيره مالكًا، حتى يكون تصرفه فيه ظلمًا … وهو متفضل بالخلق والاختراع والتكليف لا عن وجوب، ومتطول بالإنعام والإصلاح لا عن لزوم، فله الفضل والإحسان، والنعمة والامتنان؛ إذ كان قادرًا على أن يصب على عباده أنواع العذاب، ويبتليهم بضروب الآلام والأوصاب، ولو فعل ذلك لكان منه عدلًا، ولم يكن منه قبيحًا ولا ظلمًا، وهو يثيب عباده المؤمنين على الطاعات بحكم الكرم والوعد لا بحكم الاستحقاق واللزوم له؛ إذ لا يجب عليه لأحد فعل، ولا يتصور منه ظلم.

والله قد أرسل الرسل، وأرسل محمدًا خاتمًا للنبيين، ناسخًا لما قبله من شرائع اليهود والنصارى والصابئين، وأيده بالمعجزات الظاهرة، والآيات الباهرة، كانشقاق القمر، وتسبيح الحصى، وإنطاق العجماء، وما تفجر من بين أصابعه من الماء، ومن آياته الظاهرة القرآن العظيم الذي تحدى به العرب، فإنهم مع تميزهم في الفصاحة والبلاغة لم يقدروا على معارضته، ثم يجب الإيمان بالسمعيات كالحشر والنشر، وقد ورد بها الشرع، ومعناه الإعادة بعد الإفناء، وذلك مقدور لله تعالى كابتداء الإنشاء، وسؤال الملكين، وعذاب القبر والميزان، والله يحدث في صحائف الأعمال وزنًا بحسب درجات الأعمال عند الله … والإيمان بالصراط، وهو جسر ممدود على متن جهنم أدق من الشعرة، وأحد من السيف … والجنة والنار مخلوقتان … والإمام الحق بعد رسول الله أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي رضي الله عنهم، ولم يكن لرسول الله نص على إمام أصلًا، فلم يكن أبو بكر إمامًا إلا بالاختيار والبيعة … واعتقاد أهل السنة تزكية جميع الصحابة، والثناء عليهم، كما أثنى الله ورسوله عليهم.

وما جرى بين معاوية وعلي كان مبنيًّا على الاجتهاد، لا منازعة من معاوية على الإمامة إذ ظن عليّ رضي الله عنه أن تسليم قتلة عثمان مع كثرة عشائرهم واختلاطهم بالعسكر يؤدي إلى اضطراب أمر الإمامة في بدايتها، فرأى التأخير أصوب، ورأى معاوية أن تأخير أمرهم مع عظيم جنايتهم يوجب الإغراء بالأئمة، ويعرض الدماء للسفك، وقد قال العلماء: كل مجتهد مصيب … وإن فضل الصحابة على حسب ترتيبهم في الخلافة، إذ حقيقة الفضل ما هو فضل عند الله عز وجل، وذلك لا يطلع عليه إلا رسول الله، وقد ورد في الثناء على جميعهم آيات وأخبار كثيرة … إلخ إلخ.

ومن أراد الاتساع فليرجع إلى الرسالتين.

(٣-٢) فخر الدين الرازي

وأما الفخر الرازي، فهو محمد بن عمر التيمي البكري. وهو كذلك فارسي كالغزالي، وهو مثله أيضًا في قوة الحجة، وفصاحة اللسان، والقدرة على البرهان، وكثرة التأليف في علم الكلام، وقد حارب كل المذاهب ما عدا مذهب أهل السنة. يضاف إلى ذلك ما كان له من عظم الجاه، وسعة الثراء، يقال: إنه ملك من الذهب العين ثمانين ألف دينار، وغير ذلك من الأمتعة، والمراكب، والأثاث.

ولد سنة ٥٤٣ﻫ، ودرس علوم الدين، والفلسفة، والفقه، وكانت له اليد الطولى في اللسانين العربي والفارسي، يعظ بهما على السواء، وتفسيره القرآن الكريم، وكتبه المختلفة العربية تدل على سعة اطلاعه، سافر إلى خوارزم بعدما مهر في العلوم، فرأى بها جماعات من المعتزلة ناظرهم فاضطهدوه حتى خرج عنهم.

ألف تصانيف كثيرة في التفسير وفي الكلام، وقد وسَّع كالغزالي مذهب الأشعري، ودافع عنه، وعلى الجملة كانا دعامتين من أكبر دعائم الأشعري، وقد وردت إلينا بعض كتبه كالتفسير، وتأسيس التقديس، وغيرهما، وهي تدل على تدفق، وسعة نظر، وقوة برهان.

ومع ذلك وصل هو والغزالي إلى نتيجة واحدة، وهي التقليل من قيمة علم الكلام، فقال الفخر الرازي في وصيته التي وضعها في آخر أيامه: «ولقد اختبرت الطرق الكلامية، والمناهج الفلسفية؛ فما رأيت فيها فائدة تساوي الفائدة التي وجدتها في القرآن؛ لأنه يسعى في تسليم العظمة، والجلال لله، ويمنع عن التعمق في إيراد المعارضات والمناقضات، وما ذاك إلا للعلم بأن العقول البشرية تتلاشى في تلك المضايق العميقة، والمناهج الخفية.

فلهذا أقول: كل ما ثبت بالدلائل الظاهرة من وجوب وجوده، ووحدته، وبراءته عن الشركاء، فذلك هو الذي أقول به، وألقى الله به، وأمَّا ما ينتهي الأمر فيه إلى الدقة والغموض، فكل ما ورد في القرآن، والصحاح المتعين للمعنى الواحد، فهو كما قال، والذي لم يكن كذلك أقول يا إله العالمين، إني أرى الخلق مطبقين على أنك أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين،٤ وكذلك قال:
نهاية إقدام العقول عقالُ
وأكثر سَعْيِ العالمين ضلالُ
وأرواحنا في وحشةٍ من جسومنا
وحاصل دنيانا أذًى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا
سوى أنْ جَمَعْنَا فيه قيلَ وقالوا

وللغزالي موقف يشبه هذا الموقف في قيمة علم الكلام، نعرض له فيما بعد.

هوامش

(١) انظر الكتاب والتوقيعات كاملة في كتاب تبيين كذب المفترى لابن عساكر. مطبعة التوفي، دمشق ١٣٤٧ﻫ — ص١١٢–١١٤.
(٢) وهم قوم أبي الحسن الأشعري إذ هم من نسله. ص١١٤ المرجع السابق.
(٣) طبعتها مشيخة علماء الإسكندرية بناء على ما قرره مجلس إدارة الأزهر من تدريس هاتين الرسالتين للسنة الأولى والثانية لطلاب العلوم الدينية في معاهدها الإسلامية.
(٤) يظهر أن في هذه العبارة غموضًا، والظاهر أن معناها: أن ما ورد في القرآن والأحاديث الصحيحة، وكان له معنى واحد اعتقد هذا المعنى، وسار عليه، وأما ما غمض وخفي، وكان له أكثر من معنى تركه من غير تشقيق، وتأويل، واكتفى بالحكم على الله بأنه أكرم الأكرمين، وأرحم الراحمين. وقيل: إنه رجع عن مذهب الكلام في آخر حياته إلى طريقة السلف، وتسليم ما ورد على وجه المراد اللائق بجلال الله تعالى، ومما يذكر عنه قوله: من لزم مذهب العجائز كان هو الفائز.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤