الإمامة
كذلك من أعدلهم مَنْ جمع بين الشيعة والاعتزال، أهم اختلافهم كان على مسألة الإمامة، هل الأحق بخلافة المسلمين أبو بكر وعمر وعثمان؟ فقال أهل السنة: إن ترتيبهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة، وإنهم لم يظلموا عليًّا، ولم يغتصبوا منه الخلافة، وإن أكثر الصحابة كانوا أعلم بظروفهم، وأعلم بأخلاق بعضهم؛ فاختاروا أبا بكر، ثم عمر، ثم عثمان؛ لأنهم رأوا أنّ ذلك أنفع للمسلمين. وذهبت الشيعة إلى أن عليًّا أولى بالخلافة؛ لأن النبي ﷺ نصّ على ذلك، ولأن فيه من المزايا ما ليس في غيره.
ومن أجل أن الإمامة أهم شيء في الخلاف، وقد عدوها أصلًا من أصول الدين سميت طائفة كبيرة بالإمامية، وهم يرون أن الإمامة في عليّ أولًا، ثم في أبنائه على التعيين واحدًا بعد واحد، وأن الإيمان بالإمام، ومعرفته أصل من أصول الدين، وقد دعاهم احترام الأئمة، وإجلالهم إلى القول بعصمتهم، والحق أن ظاهر القرآن لا يقول بعصمة الأنبياء مثل: وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ (طه: ١٢١)، وعَبَسَ وَتَوَلَّىٰ * أَن جَاءَهُ الْأَعْمَىٰ (عبس: ١، ٢) فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ (الكهف: ٦)،ولهذا لما قال الشيعة بعصمة الأئمة اضطروا أن يقولوا بعصمة الأنبياء أيضًا، وفشت هذه العقيدة في المسلمين الآخرين، وربما كان الفخر الرازي من أسبق القائلين بعصمة الأنبياء.
ويقول المجلسي في كتابه «حياة القلوب»: «وهم — أي الأئمة — معصومون من الذنوب صغيرها وكبيرها، فلا يقع منهم ذنب أصلًا، لا عمدًا، ولا نسيانًا، ولا سهوًا، ولا غير ذلك. ولا يقع منهم ذنب قبل نبوتهم، حتى ولا في دور طفولتهم. ويستند الشيعة في ذلك إلى قوله تعالى لإبراهيم: إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا (البقرة: ١٢٤)، قال: وَمِن ذُرِّيَّتِي (البقرة: ١٢٤)، ثم قال: لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ، قالوا: فنعلم من ذلك أن كل مذنب فاسق ظالم، فلا يصلح للإمامة … قالوا: ولا يصلح للإمامة من كان يعبد الأصنام، أو أشرك بالله لحظة واحدة، حتى وإن صار مسلمًا بعد ذلك، وقد قال تعالى: إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان: ١٣)، وكذلك لا يكون إمامًا من ارتكب حرامًا صغيرًا كان أم كبيرًا، حتى ولو تاب بعد ذلك، فإنه لا يأمر بإقامة الحد من وجب إقامة الحد عليه، فوجب أن يكون الإمام معصومًا، ويستدل الشيعة على ذلك بأحاديث كثيرة، وقد يفلسفون هذه العصمة كالذي يقول المجلسي: «واعلم أنَّ القائلين بالعصمة قد اختلفوا في المعصوم: هل هو قادر على فعل المعصية أم لا؟ فالذين قالوا بأنه غير قادر قالوا: إنَّ في بدنه أو في نفسه خاصة تقتضي أن يكون الإقدام على ارتكاب المعصية محالًا، وقال بعضهم: إن العصمة ملكة نفسانية لا يصدر عنها أية معصية، ويقول بعضهم: إن العصمة لطف من الله بالنسبة للعبد، فلا يجد العبد في هذا اللطف داعيًا لترك الطاعة، وارتكاب المعصية.»
وقد يستدلون بقوله تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (الأحزاب: ٣٣).
وأهم فرق الإمامية فرقة تسمى «الاثنى عشرية»، وسميت بذلك لأنها تقول باثني عشر إمامًا، أولهم عليّ، عكس فرقة أخرى تسمّى السبعية؛ لأنها تقف عند الإمام السابع وهو إسماعيل، ولذلك يسمون الإسماعيلية، وبعد إسماعيل أتت أئمة مستورة.
والظاهر أنه غلب عليهم الاعتقاد بالإرث، أي أنَّ النبي ﷺ يورث، أي يورث في روحانيته، كما يورث الناس في أموالهم، حتى تجادل في ذلك الشعراء. فقال دعبل الشاعر الشيعي:
ويقول منصور النمري من شعراء العباسيين:
جاء في الكافي عن الصادق: «إن الأرض كلها لنا.» وروى عبد الله بن بكر الأرجاني عن الصادق قال: قلت جعلت فداك: فهل يرى الإمام ما بين المشرق والمغرب؟ قال: يا ابن بكر، فكيف يكون حجة على ما بين قطريها، وهو لا يراهم، ولا يحكم فيهم؟ إلى كثير من أمثال ذلك في الكافي وغيره.
وقد فسروا: أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ (النساء: ٥٩) بأنها نزلت في عليّ، ورووا: «أوصيكم بكتاب الله وأهل بيتي؛ فإني سألت الله عز وجل ألا يفرّق بينهما حتى يوردهما الحوض، فأعطاني ذلك.»
فنرى من هذا أن عقيدة الصحابة، وأهل السنة والمعتزلة في الإمام تخالف عقيدة الشيعة، الأولون لا يقدسون الإمام، ولا يرون أنه معصوم، ويرون أنه قد يخطئ؛ فيجب رده إلى الصواب، بل وقد يرتكب الكبائر فيجب رده، وأما الشيعة فيرون أن فيه صلة بالله، وأنه معصوم، وأنه لا يخطئ، وفرقٌ كبير بين الاثنين.
وأنا أرى أن الحق مع الأولين، وأن الاعتقاد بعصمة الإمام، وروحانيته، وتقديسه تشل العقول، وتجرِّئ الإمام على العبث بالرعية. وقد كان الصحابة يخطِّئون الأئمة في بعض تصرفاتهم، ويخالف بعضهم بعضًا، فهذا عمر انتقد تصرف أبي بكر مع خالد، وهذا عليّ خالف عمر في بعض المسائل، والصحابة أنفسهم منهم من خطّأ عليًّا نفسه في بعض تصرفاته.
وعلى الجملة، فكانوا ينظرون إلى الإمام على أنه مخلوق كسائر الناس يصدر عنه الخطأ والصواب، فإذا أخطأ وجب تقويمه، وهكذا سير الأمم الآن في تقويم ملوكهم، وردهم إلى الصواب إن أخطأوا، ونحن نقول ذلك اتباعًا للحق والعقل، لا نصرة لمذهب على مذهب.
الإمام جعفر الصادق
ويظهر أنّ أول من أسبغ هذا المعنى على الإمام، هو الإمام جعفر الصادق، فإنه كان من أوسع الناس علمًا واطلاعًا، عاش من سنة ٨٣ﻫ إلى سنة ١٤٨ﻫ، وقد لقب بالصادق لصدقه، وقد كانت أمه من نسل أبي بكر الصديق، فأثر ذلك في اعتداله. وقد نفعه أنه رأى من قبله من الأئمة احترق بالسياسة فابتعد عنها … قال فيه الشهرستاني، وهو غير شيعي: «وهو ذو علم غزير في الدين، وأدب كامل في الحكمة، وزهد بالغ في الدنيا، وورع تام عن الشهوات، وقد أقام بالمدينة مدة يفيد الشيعة المنتمين إليه، ويفيض على الموالين له أسرار العلوم، ثم دخل العراق، وأقام بها مدة ما تعرّض للإمامة قط، ولا نازع أحدًا في الخلافة، ثم غرق في بحر المعرفة، لم يطمع في شطّ، ومن تعلَّى إلى ذروة الحقيقة لم يخف من حطّ، وقد قيل: من أنس بالله توحَّش عن الناس، ومن استأنس بغير الله نهبه الوسواس، وهو من جانب الأب ينتسب إلى شجرة النبوة، ومن جانب الأم ينتسب إلى أبي بكر، ومع ذلك لم يسلم من إيذاء أبي جعفر المنصور له، وقد كان له بستان جميل في المدينة يستقبل فيه الناس على اختلاف مذاهبهم. ويرون أنه كان من تلامذته أبو حنيفة، ومالك بن أنس الفقيهان الشهيران، وواصل بن عطاء المعتزلي، وجابر بن حيان الكيماوي، وبعض الناس ينكر هذا. وله أقوالًا في الإرادة، وفي القدر، كقوله في الإرادة: «إن الله أراد بنا شيئًا، وأراد منا شيئًا، فما أراده بنا طواه عنا، وما أراده منا أظهره لنا، فما بالنا نشتغل بما أراده بنا عما أراده منا؟!» وقال في القدر: هو أمران «لا جبر، وتفويض»، وهما مسألتان مما تكلم فيهما المتكلمون كثيرًا كما رأينا، وله أقوال كثيرة منثورة في الكتب تدل على حكمته، وبعد نظره، وسعة علمه، وإنما قلنا: إنه لوَّن معنى الإيمان لونًا خاصًّا لما روي عنه من بعض الأقوال التي تدل على أن الله جعل لمحمد نورًا، ثم تنقل هذا النور إلى أهل بيته، كالذي ذكره المسعودي من حديث نسبه الإمام جعفر إلى الإمام عليّ جاء فيه: «إن الله أتاح نورًا من نوره، فلمع ونزع قبسًا من ضيائه فسطع … ثم اجتمع النور في وسط تلك الصورة الخفية، فوافق ذلك صورة نبينا محمد، فقال الله — عز وجل: أنت المختار المنتخب، وعندك مستودع نوري، وكنوز هدايتي، من أجلك أسطع البطحاء، وأموّج الماء، وأرفع السماء، وأنصب أهل بيتك للهداية، وأوتيهم من مكنون علمي ما لا يشكل به عليهم دقيق، ولا يغيب عنهم به خفي، وأجعلهم حجتي على بريتي، والمنبهين على قدرتي ووحدانيتي …» ونحو ذلك من الأقوال المنسوبة إليهم، فكل هذا جعلنا ننسب إلى الإمام جعفر الصادق صبغته للإمام صبغة جديدة لم نكن نعرفها من قبل.
وكان لجعفر الصادق أولاد كثيرون، منهم إسماعيل، وكان هو الأكبر وهو المعين للإمامة بعد أبيه. ولكن حدث أن مات إسماعيل قبل موت أبيه، فأحدث ذلك خلافًا كثيرًا عند الشيعة، وكان هو السابع، فرأت فرقة أنَّ إسماعيل هذا كان آخر الأئمة، ومنهم من أنكر موته، وقال: إنه غاب، وإنه سيعود، وإنه لم يمت حقيقةً، بل حجبه الله إلى الوقت الذي يقتضي ظهوره، ويسمى هؤلاء بالسبعية؛ لوقوفهم في الإمامة عند هذا، ويسمون أيضًا بالإسماعيلية نسبة إلى إسماعيل هذا، وهو قول غريب.
وبعضهم يقول: إنه مات حقيقةً، وإن الإمامة انتقلت بعده إلى أخيه موسى الكاظم، وساقت هذه الفرقة الإمامة بعد ذلك إلى اثني عشر إمامًا، ومن أجل ذلك يسمون الشيعة الاثنى عشرية، ثم القرامطة، والفاطميون، والحشاشون إسماعيلية الهند وإيران وآسيا الوسطى، كلها طوائف سبعية، أو بعبارة أخرى إسماعيلية، ولكل إمام من هؤلاء الأئمة تاريخ طويل، لا يهمنا هنا، فليرجع إليه من شاء، إنما الذي يهمنا ما يتعلق بعقيدة الإمام.
والمفكر في هذا يعجب لأمرين: أحدهما: تولية الإمامة لطفل في الرابعة، أو الخامسة من عمره، مع أنّ الإمامة منصب عظيم يشرف على أمور المسلمين لا بدّ له من رجل ناضج قادر على تحمل المسئولية، عارف بأمور الدين، ومشاكل الدنيا، والطفل الصغير لا يستطيع ذلك مهما أوتي من النبوغ، وربما دعاهم إلى ذلك فكرتهم في أن لكل إمام نورانية إلهية يتوارثها خلف عن سلف، وهي نظرية تحتاج إلى مناقشة، ونحن نرى حتى فيما بين أيدينا أنّ في نسل الأشراف من هو نبيل كل النبل، عظيم كل العظمة، ومن هو فاجر داعر، وتلك سنة الله في خلقه، فقد يخرج العالم جاهلًا، والجاهل عالمًا، والمتدين فاجرًا، والفاجر ديِّنًا، كما نرى فعلًا في الحكومات الشيعية من فاطمية وإسماعيلية من كان لا يصلح للإمامة مطلقًا بدلالة التاريخ، كما هو الشأن في الخلافة السنية.
والأمر الثاني: دعواهم في هذا الطفل أنه خفيُّ لا يظهر، وإنما يظهر عند حاجة الزمان إليه، وقد جرهم ذلك إلى القول بطول عمر الإمام الغائب، مع أنّ سنة الله في خلقه تحديد أعمار الإنسان.
وقد جرى ذلك على الأنبياء أنفسهم، فلم يعمر النبي محمدًا إلا ثلاثًا وستين سنة، كما جرى على عليّ، والحسن، والحسين، ولم نعلم أحدًا في التاريخ الظاهر عمّر أكثر من مائة سنة إلا قليلًا.
وعلى كل حال، فلم يعمّر أحد أبدًا، وقد دعا قولهم بغيبة الإمام الثاني عشر هذا إلى قول بعضهم: إنه لم يوجد، وإن الإمام العسكري مات من غير عقب، وإن دعوى الطفل هذه من صنع الوكلاء طمعًا في المال الذي يجبى من سائر الأقطار لأئمة الشيعة.