الفصل الرابع

تأييد الحكومات للشيعة

وكما أن أهل السنة أيدتهم حكومات كالذي ذكرنا من قبل، فالتشيع قد أيدته حكومات أخرى، كالدولة البويهية في العراق وما حوله، والدولة الفاطمية في مصر والشام والمغرب، وما يؤسف له أن النزاع بين هذه الحكومات السنية والشيعية لم يقتصر على المناظرة والجدل الكلامي، بل تعدى إلى القتال بالسيف، وبذل الدماء أنهارًا، فكم سفك من الدماء في ادعاء المهدية، كالذي بذل في دعوى عبيد الله الفاطمي من أئمة الإسماعيلية في فتح أفريقيا، ومصر حتى أسس دولته، إلى كثير غيره من المهديين، إلى مهدي السودان، ثم ما كان من هجوم التتار ومصيبتهم العظمى في التقتيل والتخريب؛ مما جعل مؤرخي الإسلام يصرخون عند كتابة حوادثها، فإنه كان من أسبابها الكبيرة الخلاف بين الشيعة والسنية.

قال الخميسي: «نهب التتار سواد آمد وارزن، وميافارقين، وقصدوا مدينة أسعرد، فقاتلهم أهلها فبذل لهم التتار الأمان؛ فوثقوا منه، واستسلموا، فلما تمكن التتار منهم بذلوا فيهم السيف فقتلوهم، حتى كادوا يأتون عليهم، فلم يسلم منهم إلا من اختفى، وقليل ما هم، وساروا في البلاد لا مانع لسيفهم، ولا أحد يقف بين أيديهم، فوصلوا إلى ماردين فنهبوها … ثم وصلوا إلى نصيبين، والجزيرة فأقاموا عليها بعض نهار، ونهبوا سوادها، وقتلوا من ظفروا به، وقيل: إن الرجل الواحد منهم كان يدخل القرية، أو العزبة، أو الدرب، وفيه جمع كثير من الناس لا يزال يقتلهم واحدًا بعد واحد لا يتجاسر أحد أن يمد يده إلى ذلك الفارس، واستولوا على أرضهم، ولم يقف في وجوهم فارس، وهذه مصائب وحوادث لم ير الناس من قديم الزمان وحديثه ما يقاربها. وفي سنة ستة وخمسين وستمائة وصل الطاغية هولاكو إلى بغداد بجيوشه، وبالكرج، وبعسكر الموصل، فانكسر المسلمون أمامه لقلتهم، ونزل قائده على بغداد من غربيها، وهولاكو من شرقيها، ثم خرج الخليفة المستعصم لتلقيه في أعيان دولته، وأكابر الوقت فضربت رقاب الجميع، وقتلوا الخليفة، ورفسوه حتى مات، ودخلت التتار بغداد واقتسموها، وكلّ أخذ ناحية، وبقي السيف يعمل أربعة وثلاثين يومًا، وقلّ من سلم؛ فبلغت القتلى ألف ألف وثمانمائة وزيادة، فعند ذلك نادوا بالأمان.»

وكان مجيء هولاكو فيما يقال بدعوة الوزير ابن العلقمي الرافضي إذ كان يعتقد أن هولاكو سيقتل المعتصم، ويعود إلى حال سبيله، وعندئذ يتمكن الوزير من نقل الخلافة إلى العلويين.

ثم ما كان مثلًا بين الدولة العثمانية لما قامت في الآستانة، وما حولها، وبين الصفويين في إيران، وما حولها سنة ٩٢٠ فإن السلطان سليمًا لما بلغه أن كثيرًا من رعايا الدولة العثمانية يتمذهب بالمذهب الشيعي على أيدي دراويش بثهم الشاه إسماعيل الصفوي، عزم على محاربتهم، فأعلن الحرب على الشاه إسماعيل، وما زال الجيش العثماني يتقدم من مدينة إلى مدينة حتى وصل إلى سيواس، وأحصى جيشه فبلغ ١٤٠ ألف جندي، ترك جزءًا منه للمحافظة على الطريق يبلغ نحو أربعين ألفًا، وتقدم هو بالباقي، وتقدم إلى مدينة تبريز، فخرج إليه الشاه إسماعيل الصفوي، ووقف أمام السلطان سليم العثماني، وكان الجيشان في العدد سواءً تقريبًا، وكان في الجيش الإيراني طائفة من الخيالة، وفرق تلبس الزرد، وفرقة من طوائف الفدائية، وقتل من الفريقين عدد كبير، واستولى العثمانيون على مضارب الفرس، وما كان معهم من الذخائر والأدوات، وجرح الشاه إسماعيل، وسقط عن جواده، ودخل السلطان سليم تبريز، وقد قتل من الفرس وحدهم في تلك المواقع نحو أربعين ألفًا، ومن ذلك أيضًا ما فعلته الفرقة الفدائية الإسماعيلية من قتل ونهب، وما فعلته جماعة القرامطة، إلى كثير من أمثال ذلك.

فلو نظرنا إلى النفوس والجهود والأموال التي أتلفت بين طوائف المسلمين، وخصوصًا الشيعة والسنية، وما جرى للشيعة من عهد عليّ، وخلفائه مما يشرحه كتاب «مقاتل الطالبيين» لأبي الفرج الأصفهاني صاحب الأغاني، وما جاء في كتب التاريخ بعده أخذنا العجب، وأدركنا أن هذه القوى التي بذلت بين المسلمين كانت تكفي في سهولة لطرد الصليبيين، وكفّهم عن العبث بالبلاد، وكان الكف عن قتالهم فيما بينهم يكفي لإصلاح حالة المسلمين اجتماعيًّا واقتصاديًّا إصلاحًا ليس له نظير، ولكن هكذا قدر، وهكذا كان، فضاعت المجهودات عبثًا، بل ضاعت في التخريف والتبديد من عصر الخلفاء الراشدين إلى اليوم، ولو تدبر الفريقان لرأوا أن الخلاف كان أكثره على مسائل أصبحت في ذمة التاريخ، ولم يصبح للخصومة عليها معنى، ولكن ماذا نعمل، والعقول ضيقة، وفي الناس من يثير الخصومات كسبًا للمال، وحفظًا لمنزلته في أسرته، أو شهوة للحكم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤