الفصل الخامس

عواطف أهل الشيعة

ولئن أمعن المتكلمون من المعتزلة والسنية في الحجج العقلية، والقوانين الدقيقة المنطقية، فقد غلبت على الشيعة العواطف، لقد أحبوا آل البيت حبًّا عاطفيًّا، وكرهوا جدًّا من عاداهم، وتأثروا تأثرًا شديدًا ممن عذبهم، أو قتلهم، أو حبسهم، ولم يكتفوا بالعواطف المجردة، بل أرادوا الانتقام ممن عذبهم، وحاولوا مرارًا قلب حكمهم، وهذه كلها شأن العواطف، أما مقدمة صغرى وكبرى، وقياس، وأشكال قياس، فهذه صبغة المعتزلة والسنية، ولكل طابعه.

دعت هذه العواطف عند الشيعة، وتعظيم الأولياء، وفكرة الاستشفاع بهم إلى مظهر واضح ربما تأثر به المسلمون جميعًا، وهو إقامة الأضرحة، والعناية بها وتزيينها، وزيارتها، والاستشفاع بها، وكثرة الدعوات عندها، وتمني الدفن بجوارها، وإن كانت هذه العادات عند السنيين والمسلمين فهي عند الشيعة أقوى، وربما كانت هي الأساس، من ذلك مثلًا مشهد الإمام علي بالنجف، وهو يبعد عن الكوفة نحو أربعة أميال، قد حشد فيه من قديم الفن الفارسي من خط جميل، وقاشاني، وتحف فنية ذهبية، وغير ذلك، والزائر لهذا المشهد يرى ساحات واسعة ملئت بالقبور كما يرى مئات القباب المختلفة الألوان، وقد سلم هذا المشهد من تخريب هولاكو؛ لأن الشيعة كانت قد ساعدته ليستعينوا به على السنية الذين كانوا قد آذوهم، يقول ابن بطوطة في رحلته: «ثم رحلنا، فنزلنا من مشهد علي بن أبي طالب بالنجف، وهي مدينة حسنة … وأهل هذه المدينة كلهم رافضة … وحيطان هذه الروضة منقوشة بالقاشاني، والقبة مفروشة بأنواع البسط من الحرير وسواه، وبها قناديل الذهب والفضة … وفي المدينة خزانة كبيرة تجمع بها النذور من الناس في بلاد العراق وغيرها، من يصيبه المرض ينذر للروضة نذرًا إذا برئ … وهذه الروضة ظهرت لها كرامات.»

وقد وردت أحاديث كثيرة عن الأئمة الشيعيين في فضل زيارة قبر علي، كالذي رواه جعفر الصادق أنه قال: «من زار أمير المؤمنين عارفًا بحقه غير متجبر، ولا متكبر، كتب الله له أجر مائة شهيد، وغفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.» وأتى رجل الإمام الصادق، وأخبره أنه لم يزر أمير المؤمنين فقال له: «بئس ما صنعت لولا أنك من شيعتنا ما نظرت إليك، ألا تزور من يزوره الله والملائكة، ويزوره الأنبياء، ويزوره المؤمنون. قال: جعلت فداك، ما علمت ذلك، قال: فاعلم أن أمير المؤمنين أفضل عند الله من الأئمة كلهم، وله ثواب أعمالهم، وعلى أعمالهم فضلوا.»١

وعلى الزائر حين يزور أن يتلو دعاء الزيارة وهو: «السلام عليك يا ولي الله، يا حجة الله، يا خليفة الله، يا عمود الدين، يا وارث النبيين، يا قسيم الجنة والنار، يا صاحب العصا والميسم، يا أمير المؤمنين: أشهد أنك كلمة التقى، وباب الهدى، والأصل الثابت، والجبل الراسخ، والطريق الحق؛ أشهد أنك حجة الله على خلقه، وشاهده على عباده، وأمينه على علمه، ومستودع أسراره، ومعدن حكمته، وأخو رسوله، أشهد أنك أول مظلوم، وأول من غصب حقه، فصبر وانتظر، لعن الله من ظلمك، وغصب حقك وعاداك، لعنة عظيمة يلعنه بها كل ملك كريم، ونبي مرسل، ومؤمن صادق، ورحمة الله عليك يا أمير المؤمنين، وعلى روحك وجسدك … إلخ.» وهم يروون دعاءً مخصوصًا دعا به أحد الأئمة، وهذا الحديث يرينا مقدار أثر الإمام جعفر الصادق في تلوين التشيع وأثره.

ومن أشهر المشاهد والمزارات كربلاء على بعد ثلاثة أميال من بغداد، وفيها مشهد الحسين، وهي من أعظم المزارات وأفخمها، وأحفلها بالتحف والمذهبات، يقول فيها ابن بطوطة.. «والعتبة الشريفة، وهي من الفضة، وعلى الضريح المقدس قناديل الذهب والفضة، وعلى الأبواب أستار الحرير، وكم يكرر الزائرون مأساة الحسين … وهم يروون الروايات الغريبة عن فضل هذا المكان المقدس تتلألأ قبته المغشاة بالذهب إذا طلعت عليه الشمس.»

كذلك يرى من دخل بغداد من الشمال أو الغرب المآذن الذهبية الأربعة فوق مشهد الكاظمية، كما يرى الشيعة يقصدون هذه المشاهد، ويستشفعون بها، ويدعون عندها.

وقد كان البناء قديمًا، وجدده الشاه إسماعيل الأول، أما تذهيب القبتين فأمر به الشاه أغا محمد، وأصلحت إحدى القباب، وكسيت المنائر بالذهب، وهم يضعون لزيارتهم شروطًا فيقولون: «إذا أردت زيارة قبر موسى الكاظم، وقبر محمد بن علي بن موسى فاغتسل وتنظف، وتعطر، والبس ثوبيك الطاهرين، ثم قل عند قبر الإمام موسى: السلام عليك يا وليَّ الله، يا حجة الله، يا نور الله … أتيتك زائرًا عارفًا بحقك، معاديًا لأعدائك، مواليًا لأوليائك، فاشفع لي عند ربك يا مولاي.»٢

والذي يرى المشاهد العديدة في القاهرة كمشهد الحسين، والسيدة زينب، والسيدة نفيسة، وغيرها يرى أنها صورة مصغرة جدًّا للمشاهد في النجف، وكربلاء، والكاظمية.

وللشيعة كتب في الحديث تتميز بالرواية عن الأئمة، وعن رجال الشيعة يعتمدون عليها الشيعيون، كما يعتمد السنيون على كتب الصحاح، من أشهرها كتاب الكافي للكليني، وهو أول هؤلاء المحدثين، وأعلاهم منزلة، ألّف كتابه الكافي في علم الدين، ويحتوي على ١٦ ألف حديث، وقسمها إلى أحاديث صحيحة، وحسنة، وموثقة، وقوية، وضعيفة،٣ وقد مات الكليني في بغداد سنة ٣٢٨ﻫ أو ٢٩. ومن المؤلفين في الحديث أيضًا الصدوق القمي الملقب بابن بابويه، وهو يحتوي على أربعة آلاف وأربعمائة وستة وتسعين حديثًا، ومن المؤلفين في الحديث أيضًا الطوسي، وينسب إليه التأثير الكبير في الدعوة إلى الشيعة، وقد كان له تلاميذ كثيرون، وقد ولد الطوسي سنة ٣٨٥ﻫ في طوس، وجاء بغداد وعمره ثلاث وعشرون سنة، ثم هاجر إلى النجف، وله كتب كثيرة في الحديث، وأصول الدين، والفقه، والتراجم، والناظر إليها يعلم صبغتها بالصبغة الشيعية، وربما اختلفت في ترتيبها عن ترتيب الصحاح السنية، هذا عدا أن لهم مجتهدين وفقهاء عنوا بالفقه الشيعي، وفيه بعض مخالفات للفقه السني، إن شئت فانظر إلى كتاب «بحر الأنوار»، وعلى العموم فقد كانت لهم خلافات في العقيدة، وفي الحديث، وفي الفقه، ولمجتهديهم قوة على الرأي العام الشيعي، وتبجيل وتقديس أكثر مما لعلماء أهل السنة، وكثيرًا ما تدخلوا في الأمور السياسية، وعطّلوا بعض المشاريع السياسية، وقد حاول بعض الولاة الشيعيين أن يحدّ من سلطانهم فلم ينجح.

هوامش

(١) المجلسي.
(٢) هذه الأدعية ومئات أمثالها في تحفة الزائرين للمجلسي.
(٣) طبع هذا الكتاب في طهران.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤