الفصل السادس

بعض فرق للشيعة

نتجت من الشيعة فرق كثيرة لعبت أدوارًا هامة في التاريخ، كالإسماعيلية، والقرامطة، والزنج، والزيدية، لا بأس أن نذكر كلمة عن كل منها.

أولًا: الإسماعيلية

ذكرنا قبل أن الإسماعيلية نسبة إلى الإمام إسماعيل، وهو الإمام السابع، وهم يقفون عنده، ولذلك يسمى أتباعه بالسبعية، وقد يطلق على بعضهم الحشاشون؛ لأنه أثر عندهم استعمال الحشيش في دعوتهم، وقد يلقب بعضهم أيضًا بالفدائيين.

وقد كانت هذه الفرقة قوة كبيرة لعبت دورًا كبيرًا في تاريخ الإسلام، وكان تؤلف حزبًا كبيرًا متآلفًا مطيعًا، ومن أول رؤسائهم عبد الله بن ميمون القدّاح، وله أتباع كثيرون، ويمتاز هو ورؤساء حزبه بأنهم كانوا في غاية المكر والدهاء، وضعوا أسسًا ومبادئ لجمعية سرية على أدق نظام عرفه التاريخ إلى اليوم، يرمي إلى شيئين هامين:
  • الأول: استغلال الاستياء من الدولة العباسية على أي نحو كان، وتوحيد الصفوف لإزالتها، وإحلال فرقتهم محلها؛ ومخاطبة كل باللغة التي تناسبه، والأغراض التي تناسبه.
  • والثاني: ترتيبهم الدعوات إلى مذهبهم ترتيبًا محكمًا على حسب استعداد الناس، فللجماهير تعاليم، وللخاصة تعاليم، ولخاصة الخاصة تعاليم، ولا يعلم الأدنى تعاليم الأعلى؛١ فهم رتبوا الدعوات بحسب الاستعدادات، ولا يعلم أسرار الجمعية إلا رؤساؤها، وزعماؤها القليلون.
وربما تطورت في ذلك مع الزمن، فقد بدأت الإسماعيلية فرقة شيعية معتدلة أكبر خصائصها أنها تدين بالأئمة السبعة الأولى وحدهم، ثم تطورت مع الزمن، ودخلت فيها تعاليم كثيرة مختلفة، وتقسمت إلى طوائف، لكل طائفة عمل خاص، فطائفة الفدائيين، وطائفة للقيام بالدعوة، وهكذا … ثم كان زعماؤها في غاية المهارة في معرفة نفوس من يدعونهم، فيعرفون كيف يخاطبون العرب، والعجم، والكرد، والأتراك، كما يعرفون كيف يخاطبون الجمهور غير المتعلمين، والمثقفين، والفلاسفة … الخ، والذي يعرف أسرار الجمعية، وأغراضها عدد قليل جدًّا، ولا يصلون إلى درجة الزعامة إلا بعد أن يمروا بدرجات يمتحنون في كل درجة منها امتحانًا قاسيًا، ثم يحلفون الأيمان المغلظة على الوفاء بتعليمهم، وقد حكى أبو المنصور البغدادي في «الفرق بين الفرق» صورة اليمين فقال: «وأما أيمانهم فإن داعيهم يقول: جعلت على نفسك عهد الله، وميثاقه، وذمته، وذمة رسله، وما أخذ الله من النبيين من عهد وميثاق أن تستر ما تسمعه مني، وما تعلمه من أمري، ومن أمر الإمام الذي هو صاحب زمانك، وأمر أشياعه وأتباعه في هذا البلد، وفي سائر البلدان، وأمر المطيعين له من الذكور والإناث، فلا تظهر من ذلك قليلًا، ولا كثيرًا، ولا تظهر شيئًا يدل عليه من كتابة أو إشارة إلا ما أذن لك فيه الإمام صاحب الزمان، أو أذن لك في إظهاره المأذون له في دعوته، فتعمل في ذلك حينئذ بمقدار ما يؤذن لك فيه. وقد جعلت على نفسك الوفاء بذلك في حالتي الرضا والغضب، والرغبة والرهبة، وجعلت على نفسك أن تمنعني، وجميع من أسميه لك مما تمنع منه نفسك لعهد الله تعالى عليك، وميثاقه، وذمته، وذمة رسله، وتنصحهم نصحًا ظاهرًا وباطنًا، وألا تخون الإمام وأولياءه، وأهل دعوته في أنفسهم، ولا في أموالهم، وأنك لا تتأول في هذه الأيمان تأويلًا، ولا تعتقد ما يحلّها، فإنك إن فعلت شيئًا من ذلك فأنت بريء من الله ورسله وملائكته، وجميع ما أنزله الله من كتبه، وإنك إن خالفت في شيء مما ذكرناه لك فلله عليك أن تحج إلى بيته مائة حجة ماشيًا نذرًا واجبًا، وكل ما تملكه في الوقت الذي أنت فيه صدقة على الفقراء والمساكين، وكل مملوك يكون في ملكك يوم تخالف فيه أو بعده يكون حرًّا، وكل امرأة لك الآن، أو يوم مخالفتك، أو تتزوجها بعد ذلك تكون طالقًا منك ثلاث طلقات … والله تعالى الشاهد على نيتك، وعقد ضميرك فيما حفلت به، فيقول المحلف: نعم.»٢ فكان الرجل إذا انتدب لأي مهمة نفذها بكل دقة مهما تطلبت من التضحية، كما نرى في تاريخ الفدائيين، وكما يرى في تاريخ حادثة الرجل الذي انتدب لقتل نظام الملك فقتله.

وكان للفدائيين من الإسماعيلية حصن حصين بقلعة تسمى ألّموت، أي عش العقاب، في الشمال الشرقي من قزوين، وكانت مركز الحشاشين يدرب فيها الأتباع على الطاعة والفداء، بناها حسن الداعي إلى الحق العلوي سنة ٢٤٦ﻫ، وقد اشتهرت أيام الحسن الصباح إذ أرعبت الأمراء والحكام، وخوفتهم من الاغتيال على يد أتباعه، وقد تلقى تعليمه عن فاطميين في مصر، وكان يدّعي أنه من نسل ملوك حمير، وقد عرف أنه كان في مصر يعادي الفاطميين سنة ٤٦٤ﻫ، وقد رويت حكاية عن صداقته لعمر الخيام، ونظام الملك، وأحد أتباعه قتل نظام الملك بخنجر، واستمرت القلعة قوية مرعبة بعد موته بمدة من الزمان، ثم سقطت بعد ذلك.

وكانوا يشككون من دخل مذهبهم في عقائدهم الأصلية، ومبادئهم السياسية، والأدبية، والاجتماعية، ويفهمونه أن مذهب الجمعية هو العلم الصحيح، وقد نجحوا في أغلب دعواتهم عند أكثر الناس، ولم تخطئ فراستهم إلا قليلًا، والقارئ للكتب التي ألفت من المخالفين لهم كالغزالي والبغدادي، يجب أن يحذر من أقوالهم التي لا تمثلهم تمامًا لما فيها من بعض المبالغات.

وقد كان الإسماعيلية يؤولون الآيات والأحاديث تأويلًا غير ما يدل عليه ظاهرها، ولذلك سمّوا بالباطنية، وذلك كالتأويلات التي نراها في رسائل إخوان الصفاء، كالبعث والنشور، وخلود النفس، ونحو ذلك، فكلها لها معنى باطني.

هذا مبدؤهم الديني: تأويل لكل ما ورد به الشرع، ووراء ذلك كانت لهم مبادئ سياسية واجتماعية، فمبدؤهم السياسي أن يطوحوا بالدولة العباسية وخلفائها، وأن يحلّوا محلهم الأئمة الشيعية، وقد نجحوا في ذلك إلى حد كبير، فإنْ لم تنجح وسائلهم السلمية، فلا بأس أن تستعمل الوسائل الحربية. ويظهر أيضًا أنَّ من أغراضهم الاجتماعية إزالة المظالم التي كان يرتكبها العباسيون، وأمراؤهم وتوزيع العدل بين الناس، وهذا مقصد نبيل حقًّا، ولكن يظهر لي أنه لما أتيحت لهم الفرص، وحلّ الشيعة محل العباسيين في بعض الممالك، لم يطبقوا العدل تطبيقًا دقيقًا، بل وقع بعضهم في مثل ما وقع فيه العباسيون، وقد دعاهم موقفهم، واستجلاب الناس لهم إلى أن ينشروا الدعوة إلى الإخاء بين الناس بقطع النظر عن الخلاف في الجنسية، أو الطبقة، أو الدين، فإنَّ هذا من غير شك يرغب في قبول دعوتهم، خصوصًا وقد تعلموا أنه مما أفسد الأمر على بني أمية، وعلى بني العباس عصبيتهم الشديدة، وقد جعلهم هذا ينشرون دعوتهم بين أهل الأديان المختلفة، والطبقات المختلفة، والأحزاب المختلفة.

وقد جرأ انتشار مذهبهم على أقوال لا تقرها السنية، كأشعار أبي العلاء في اللزوميات، وبعض أشعار ابن هانئ الأندلسي، وكقول الصاحب بن عباد:

دخول النار في حب الوصيّ
وفي تفضيل أبناء النبي
أحبُّ إليّ من جنات عدن
أخلدها بتيم أو عديّ٣

وأبو العلاء وإن لم يكن شيعيًّا، فقد تسربت إليه بعض آراء الشيعة، وينسب إلى أحدهم أنه قال:

وما الخير إلا كماء السما
ء حلال فقدست من مذهب
وقد أدرك بنو العباس، ومن تبعهم خطر هذه الحركات عليهم، فهاجموهم وانتقموا منهم، يقول عماد الدين الهمذاني: «إنّ أحد أمراء خراسان قتل في مدة قليلة أكثر من مائة ألف من الباطنية، وبنى من رءوسهم بالري منارًا أذّن عليه المؤذنون.» وفي كتاب الفرق أن محمود بن سبكتكين سلطان غزنة قتل في مدينة مولتان من أرض الهند الألوف، وقطع أيدي ألف منهم، وباد بذلك نصراء الباطنية من تلك الناحية.٤

ومن هذا الاضطهاد، والهجوم العباسي كانت وسائلهم، واضطهادهم مبعثًا لتغلغلهم في كل مرفق من مرافق الحياة، فلم تجد عملًا من الأعمال إلا وتجد خلايا من خلاياهم تعمل لبث دعوتهم، أو إفساد الحكم على العباسيين، وقد كادوا يقضون على دولة العباسيين لولا أنه دخل عنصر جديد انضم إلى العباسيين في الدفاع عنهم، وهو العنصر التركي، فقد شارك العباسيين في السنية، والفتك بالإسماعيلية حتى ألجأهم إلى الفرار للجبال والبلاد البعيدة، ومع هذا كله لم تنمح الإسماعيلية، بل ظلت تنبسط وتنقبض، وتضيق وتتسع حسب الظروف حتى يومنا هذا، وربما اتخذت أسماء مختلفة كالبابية، والبهائية، والدروز، وغيرها.

ثانيًا: القرامطة

هي فرقة من فرق الإسماعيلية، كان مركزها في أول الأمر مدينة واسط بين الكوفة والبصرة وما حولها، وكان يسكن هذه البلاد خليط من العرب، والنبط، والسودان، وأكثرهم كانوا فقراء مستائين من حكومتهم، ومن أصحاب الأراضي الذين يستغلونها … ولهذا لبّوا دعوة القرامطة.

واشتهر من أول الدعاة حمدان القرمطي، وقد عرفت الدعوة باسمه، وقد كان حمدان هذا أكّارًا بسيطًا بعثه أحد كبار دعاة العلوية ليدعو نيابةً عنه في تلك البلاد، فبنى مركزًا جديدًا للدعوة الإسماعيلية قرب الكوفة، سماه دار الهجرة، واتخذه مكانًا للدعوة والوعظ، فدخل في دعوته كثير من الناس، وقد فرض الضرائب على أتباعه يصرف منها على الفقراء والتأسيسات، وقد روي عنه أنه جمع من أتباعه أموالًا كثيرة، وزّعها على المحتاجين من القرامطة، حتى لم يبق بينهم فقير، ولذلك يمكن أن يعدوا من أول الجمعيات الاشتراكية، وكان دعاتهم يدعون إلى مؤاخاة الناس على اختلاف دياناتهم، وطبقاتهم، وأجناسهم … وتحمس الأتباع لهذه الدعوة، وانتشرت دعوة القرامطة من واسط إلى كثير من البلاد العربية المجاورة لها، والبعيدة عنها، حتى وصلت إلى جنوبي جزيرة العرب.

وجاء زعيم اسمه أبو سعيد الجنّابي، فأنشأ فرعًا كبيرًا في بلاد الأحساء من بلاد البحرين، وتعاونت الفروع كلها للعمل ضد الخلافة العباسية، واتبعها قوم في السر حتى في بغداد مركز الخلافة، وحتى في بلاط الخليفة نفسه يمدون رؤساءهم بالمعلومات، ويبثون الدعوة إليها سرًّا، وكانوا ينتهزون من الفرص التي تضع من شأن العباسيين كتصرفاتهم السيئة أحيانًا، وضعف من يلي الأمر من خلفائهم، فإذا أحسوا ضعفًا نشطوا في الدعوة، وخرجوا على الدولة.

فلما انتشرت الدعوة في البحرين انتشارًا كبيرًا في عهد الخليفة المعتضد أرسل جيشًا لمقاومة الحركة، ولكن جيش الخليفة انكسر، وأسر قائده، وتبددت جنوده، وقتل من وقع في الأسر منهم، وقد استولى الثوار القرامطة على مدينة حجر عاصمة البحرين، كما استولوا على اليمامة، وعلى عمان، ولما قاد الحركة القرمطية أبو طاهر سليمان وسّع نفوذه، وكان يزحف تارةً على البصرة وبغداد، وطورًا إلى الحجاز، وكان ينتصر في كل غزواته تقريبًا، وقد دخل أبو طاهر هذا مكة، وسلب الكعبة، وقتل الحجاج. ويحدثنا المؤرخون أن الذين قتلهم القرامطة في تلك السنة من الحجاج نحو ثلاثة آلاف غير الذين ماتوا من الجوع، وغير من وقع أسيرًا، وكان من بين من أسر الأزهري اللغوي العالم المشهور، وقد غنم أبو طاهر ملايين الدنانير إذ ذاك، وأرسل جزءًا منها إلى الإمام الشيعي، وأنفق الباقي على أتباعه، وكان للقرامطة جواسيس يبلّغون رؤساءهم كل حركة من العباسيين، وخاف الناس منهم جدًّا، خصوصًا لقطعهم الطرق على السابلة، وعجزت الخلافة العباسية عن كحب جماحهم.

وقد زحف القرامطة على البصرة، ونهبوها سنة ٣١٥ﻫ حتى ضج الناس، وشملهم الرعب، ونسبوا انتصارهم إلى قوى روحية تساعدهم، والحق أن قوتهم كانت في قوة إيمانهم بعقيدتهم مما يدعوهم إلى ثباتهم، بينما خصومهم لا يحاربون عن عقيدة، وقد هاجم القرامطة مكة مرة أخرى، ودخلها أبو طاهر، وأصحابه يقتلون أهلها، ومن كان فيها من الحجاج، حتى من تعلق فيها بأستار الكعبة، وهدم زمزم، وفرش بالقتلى المسجد، وأقام بمكة ستة أيام، وهو يحرّض أصحابه على القتل، وينتقل من مكان إلى مكان، ويقول: «أجهزوا على الكفار، وعبدة الأحجار.» وأقام أبو طاهر وأصحابه اثني عشر يومًا يقتلون وينهبون، ويأتون من الأفعال ما تقشعر منه الأبدان، فهل هذا يحقق ما كانوا يقولونه من أنهم يريدون القضاء على الدولة العباسية لنشر العدل والأمن بين الرعية؟!

وكان من جملة ما نهبه القرامطة من مكة الحجر الأسود، وبقي هذا الحجر في الأحساء ملقى في إحدى زوايا المدينة مهجورًا إلى سنة ٣٣٩ﻫ؛ حيث ردّه القرامطة بأمر من المنصور الفاطمي.

مضت سنة على هذه الحوادث الأليمة، والخلافة لم تستطع تعقبهم، ولا تأديبهم، فلما رأى القرامطة ضعف الخلافة، زحف أبو طاهر مرة أخرى على الكوفة واحتلها، واضطر الخليفة أن يعقد معه هدنة، ويؤدي له مائة وعشرين ألف دينار كل سنة.

ثم توفي أبو طاهر سنة ٣٣٢ﻫ، فاكتفى خلفاء أبي طاهر بما فتحوه من البلاد، ولم يعودوا يتطلعون إلى فتوحات جديدة، وسبب آخر أنه كان قد سقطت الدولة العباسية في يد بني بويه الشيعيين، فصادقوهم، وأحسنوا الصلات بينهم.

ثالثًا: الزنج

ومن هذا القبيل أيضًا ما عرف التاريخ بثورة الزنج، وكان لها شأن كبير في تاريخ المسلمين.

ظهر صاحب الزنج هذا في فرات البصرة سنة ٢٢٥ﻫ، وهو رجل زعم أنه عليّ بن محمد بن أحمد بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، وبعض العلويين ينكر نسبته إليهم. وقد كان في هذه البقعة عدد كبير من الزنج الذين كانوا يكسحون السباخ في البصرة. وقد استغل زعيم الزنج هذا استياءهم من عملهم، وكراهيتهم لأصحاب رءوس الأموال، وكراهيتهم للحكم العباسي الذي يقر هذا العمل، فالتفوا حوله، وكان متصلًا بحاشية السلطان يطلعونه سرًّا على الأمور، وكان فصيحًا خطيبًا يؤثر في سامعيه، حتى اجتمع له عدد كبير منهم. وانتشر أتباعه في الأحساء، وما حولها، وادّعى الولاية، وأنه يلهم بما يعمل، وما لا يعمل. وما زال يحبّب الناس في مذهبه، وخاصةً الغلمان، ويمني أتباعه، ويعدهم حتى اتبعه عدد كبير، ثم تأتيه الأموال من أتباعه، ويفرقها عليهم.

ولما قوي أمره، وتمكن من نهب كثير من الأموال والمراكب البحرية التي تحمل أموالًا كثيرة للتجارة، هجم على البصرة، وأوقع القتل في أهلها، وأمر الزنوج بوضع السيف فيهم، وأوقع بذلك الرعب في البلاد، واستخفى من سَلِم من أهل البصرة في آبار الدور، فكانوا يظهرون ليلًا، ويطلبون الكلاب فيذبحونها ويأكلونها، ويأكلون الفئران والسنانير، وصار إذا مات الواحد منهم أكلوه. وظل الزنج على ذلك سنين وتغلبوا على البطيحة وواصف وخربوهما، حتى إنه أخيرًا جمع أبو العباس بن أبي أحمد جمعًا كثيرًا، ونشبت حرب بين الفريقين؛ فهزمت الزنج، وأعملت فيهم السيوف، واختفى من فرّ منهم حتى زال أمرهم.

كل هذا يرينا صورة مصغرة مما حدث في تاريخ المسلمين من المكايد والمذابح والمقاتل، والناظر إلى حقيقة الأمر يرى أن الخلاف بين هؤلاء وهؤلاء مبني على شهوة الحكم، وعلى نزاع في مسائل تاريخية ذهب زمنها. والذي يرى هذه الفتن والضحايا التي ذكرنا بعضها يعجب من بقاء الدول الإسلامية بعد هذا، ولولا أن أساسها متين جدًّا ما بقيت، لا أمام الصليبيين، ولا أمام غيرهم. فمن العجيب أن تبقى كل هذه النكبات، وقد أدرك المأمون هذا العناء الذي يلاقيه الطرفان من عباسيين وعلويين، فأراد أن يستريح ويجعل الأمر بعده إلى إمام العلويين؛ ظانًّا أن الخلاف ينقطع بذلك، ولكن ما علم أفراد البيت العباسي بذلك حتى ثاروا وزاد الخلاف بدل أن ينحسم، وحتى اضطر المأمون أخيرًا إلى الرجوع عن فكرته.

رابعًا: الزيدية

ومن فرق الشيعة الزيدية، وهم من أعدل الفرق؛ لأنهم يرون أن عليًّا أحق بالخلافة من أبي بكر وعمر، ولكن أما وقد اجتمع أكثر الصحابة على بيعة أبي بكر وعمر، فلا بد أن يعترف بإمامتهما؛ لأن الصحابة إذ ذاك قدروا الظروف المحيطة بهم.

ولم يجوّز الزيدية التستر والاختفاء، ولذلك كان كثير من أئمتهم يخرجون فيقتلون، ولهذا خرج زيد بن علي فقتل وصلب، وقام بالإمامة ابنه يحيى بن زيد، ومضى إلى خراسان، واجتمعت عليه جماعة كثيرة؛ فقتل أيضًا وصلب. وقد فوض الأمر بعد إلى محمد وإبراهيم الإمام، وخرجا بالمدينة، وسار إبراهيم إلى البصرة فقتلا أيضًا، وتوالى أئمتهم من بعده، وجروا على صحة إمامة أبي بكر وعمر، وقالوا بجواز ولاية المفضول.

وقد تتلمذ الإمام زيد لواصل بن عطاء إمام المعتزلة في الأصول، ولذلك اقترب مذهب الزيدية من الاعتزال، يقول الشهرستاني: وصارت أصحابه كلهم معتزلة.

ولذلك يختلف الزيدية في بعض المسائل عن سائر الشيعة، ولاعتدالهم لم يكن لهم حركات عنيفة في التاريخ الإسلامي.

وقد استطاع أحد زعمائهم، واسمه القاسم سنة ١٦٣٣م أن يطرد الوالي التركي من اليمن، ويؤسس إمامة زيدية، ثم انتصر الأتراك سنة ١٨٤٩م، فأصبحت ولاية تركية إلى أن قام الإمام يحيى سنة ١٩٠٤م، ولكن الأتراك لم يعترفوا باستلال حكومة الإمام حتى سنة ١٩١١م، ولم ينسحب الأتراك بالكلية من اليمن حتى السنة الأخيرة من الحرب العالمية الأولى، ومملكة اليمن الآن مملكة زيدية.

وللزيدية مؤلفات في الأصول، والحديث، والفقه خاصة بهم، من أئمتهم المتأخرين المشهورين الإمام الشوكاني، صاحب التآليف الكثيرة في الأصول والفقه.

هوامش

(١) انظر خطط المقريزي.
(٢) الفرق بين الفرق ص١٨٢، وقد ذكر اليمين في بعض كتب الإسماعيلية نفسها.
(٣) يشير بتيم إلى أبي بكر التيمي، وبعدي إلى عمر العدوي.
(٤) الفرق ص١٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤