الأدب الشيعي
كان للشيعة دولتان ضخمتان: الدولة الفاطمية في المغرب ومصر والشام، والدولة البويهية في فارس والعراق. وكان لكلٍّ حضارة ضخمة فيها شعر، وفيها فن، وفيها علم؛ فكان للدولة الفاطمية شعر كثير، من مبدأ ابن هانئ الذي ملأ شعره مديحًا في خلفاء الدولة الفاطمية، والخلفاء يجزلون له العطاء، وهم يفرطون في المديح له حتى يخرجوا بهم إلى صف الآلهة، وقلده الشعراء بعده، فمن شعره مثلًا:
ويقول:
ويقول:
ويقول:
وهكذا جاء الشعراء بعده فاتبعوه، وأفرطوا في مديح الخلفاء، واستمروا على ذلك إلى أن كان آخرهم عمارة اليمني.
وبين ابن هانئ وعمارة شعراء لا يحصون عدًّا، كتميم بن المعز، وكلهم على نمط ابن هانئ في المديح، كالذي يقول أبو الحسن علي بن محمد الأخفض في الخليفة الآمر:
ويقول في مدح الخليفة الحافظ:
فإذا نحن تجاوزنا الشعراء، وجدنا المجالس تموج بالحركة الثقافية من أول عهد النعمان داعي الدعاة، وقد كان يجلس للدرس والمحاضرة إلى عهد يعقوب بن كلس، فقد كان يعقد درسًا في بيته كل أسبوع، يقرأ عليهم مؤلفاته، وخصص ديوانًا من بيته لكل طائفة من الأدباء والعلماء.
وأنشأ الفاطميون خزائن الكتب، وشجعوا نقلها، والعناية بها، ووقفوا الأوقاف على استنساخها، حتى كانت دار الحكمة تموج بالناسخين والمطالعين. فإن نحن تجاوزنا إلى الطُّرَف الفنية التي كانت تملأ القصور، والتي يدل عليها ما أخرج من القصور أيام صلاح الدين، وما بيع منها أخذنا العجب من ذلك، هذا إلى احتفالاتهم بالأعياد، وإقامة الولائم في عيد الفطر، وفي الأضحى … إلخ. وعلى الجملة، فقد خلفوا حضارة تعتني بالعلم، والأدب، والفن إلى آخر مدى.
وأما الدولة البويهية، فقد كانت كذلك معتنية بالعلم والأدب، لقد بدأت حياتها تتعصب للأدب الفارسي، ولكن ما لبثت أن تثقفت الثقافة العربية، وتعصبت لها، ونبغ من ملوكهم من كان يشارك العلماء والشعراء في شعرهم وأدبهم، مثل: عضد الدولة البويهي، وكان وزراء استنّوا سنتهم، وعنوا بالأدب، على رأسهم هؤلاء الأقطاب الأربعة: ابن العميد، والصاحب بن عباد، والوزير المهلبي، وابن سعدان. وقد كان كلّ عظيم الجاه، يقصد إليه الأدباء والعلماء، وكان لكل ميزة، كان الصاحب بن عباد ميزته الأدب البحت، وهو في مجالسه يعلم الأدباء بالنقد، ويقترح عليهم نَظْم الشعر في موضوعات معينة، أو إجازة بعض الأبيات، وابن العميد كانت ميزته العلم والأدب، ويضم إليه طائفة من المتخصصين في هذا، وابن سعدان كان يعنى بالفلسفة، ويجالس الفلاسفة أمثال: أبي حيان التوحيدي، ويثير في مجالسه مسائل فلسفية، والوزير المهلبي كان يعنى بالأدب الصرف، وفي التأليف في الأدب، ومن جلسائه أبو الفرج الأصفهاني، وله ألّف كتابه الأغاني، والقاضي التنوخي وغيرهم، هؤلاء ملأوا الدنيا علمًا وأدبًا.
ومن الآثار الأدبية الشيعية أشعار الشريف الرضي، وما في ديوانه مما يتعلق بالتشيع كثير، وكان يدور في فلكه مهيار الديلمي، فيقول القصائد الشيعية العديدة.
وكانت مقاتل الطالبيين، واضطهادهم باعثًا لأدباء الشيعة على النّوح والبكاء والعويل الذي لا ينفد، كالذي يقول الناشئ:
وللناشئ هذا بائية مشهورة جدًّا في البكاء والنحيب، مطلعها:
وكان له أشعار كثيرة لا تحصى في النواح والبكاء.
وللصاحب بن عباد نحو عشرة آلاف بيت في مناقب أهل البيت، والتبرؤ من أعدائهم، ومما ينسب إليه قوله وهو من أفظع الهجاء:
ومن شعر مهيار الديلمي في ذلك:
وله في رثاء الحسين:
وممن تشيع من كبار الكتاب أبو بكر الخوارزمي، كان شيعيًّا متعصبًا لأهل البيت، صريحًا في مواجهته لهم، مسلطًا قلمه على خصومهم. وللتشيع هذا أثر قوي في رسائله، فهو لا يترك فرصة دون أن يستغلها في هجاء خصومه، أو مدح رؤساء الشيعة، أو إظهار التوجع والتفجع لما أصاب أهل البيت من ظلم وقتل وغصب. فإذا كتب رسالة إلى جماعة الشيعة في نيسابور أسهب وأطال فيما أصاب أنصار الشيعة من قتل، وتشريد، ومنحة، وبلاء أيام الأمويين والعباسيين بأسلوب تسوده نغمة الحزن والكآبة، فيقول: «وأنتم ونحن — أصلحنا الله وإياكم — عصابة لم يرض الله لنا الدنيا، فذخرنا للدار الأخرى، ورغب بنا عن الثواب العاجل، فأعدّ لنا الثواب الآجل، وقسمنا قسمين: قسمًا مات شهيدًا، وقسمًا عاش شهيدًا، فالحي يحسد الميت على ما صار إليه، ولا يرغب بنفسه عما جرى إليه. قال أمير المؤمنين: المحن إلى شيعتنا أسرع من الماء إلى الخدور، فإذا كنا شيعة أئمتنا في الفرائض والسنن، ومتبعي آثارهم في كل قبيح وحسن؛ فينبغي أن نتبع آثارهم في المحن. غُصبت سيدتنا فاطمة ميراث أبيها يوم الثقيفة، وأخّر أمير المؤمنين عن الخلافة، وسُمَّ الحسن سرًّا.» وعلى هذا النحو يمضي في رسالته معددًا مصائب الشيعة، هاجيًا آل مروان، وآل الزبير، وبني العباس هجاء لاذعًا عنيفًا.
وتتابع الشيعة على هذا المنوال، فألف ابن أبي الحديد شارح نهج البلاغة قصائد سبعًا كالمعلقات السبع، سماها «القصائد السبع العلوية»، الأولى: في ذكر فتح خيبر، والثانية: في ذكر فتح مكة، والثالثة: في وصف النبي، والرابعة: في واقعة الجمل، والخامسة: في وصف علي، والسادسة: في وصفه أيضًا ومدحه، والسابعة: في أوصافه. فمثلًا يقول في وصفه:
… إلخ إلخ.
وعلى الجملة، فالثروة الأدبية التي تركها الشيعة في العويل والبكاء، ومدح الخلفاء ثروة كبيرة. وإذا نحن قلنا: الأدب الشيعي، فهو بعينه أدب معتزلي؛ لأن الأدب البويهي كان أدبًا شيعيًّا معتزليًّا.