الفصل الأول

نشأة التصوف

التصوف١ نزعة من النزعات، لا فرقة مستقلة كالمعتزلة، والشيعة، وأهل السنة، ولذلك يصح أن يكون الرجل معتزليًّا وصوفيًّا، أو شيعيًّا وصوفيًّا، أو سنيًّا وصوفيًّا، بل قد يكون نصرانيًّا أو يهوديًّا أو بوذيًّا وهو متصوف،٢ وهذا لا يمنعنا من عقد فصل لهم كما فعل الفخر الرازي من قبل.
ومن المؤلفين مَنْ يجعل الصوفية طائفة من أهل السنة، قال ابن السبكي في شرح عقيدة ابن الحاجب: «اعلم أن أهل السنة والجماعة كلهم قد اتفقوا على معتقد فيما يجب ويجوز ويستحيل، وإن اختلفوا في الطرق والمبادئ الموصلة لذلك، وبالجملة فهم بالاستقراء ثلاث طوائف:
  • الأولى: أهل الحديث، ومعتمد مبادئهم الأدلة السمعية: الكتاب، والسنة، والإجماع.
  • الثانية: أهل النظر العقلي، وهم الأشعرية، والحنفية، وشيخ الأشعرية أبو الحسن الأشعري، وشيخ الحنفية أبو منصور الماتريدي، وهم متفقون في المبادئ العقلية في كل مطلب يتوقف السمع عليه.
  • الثالثة: أهل الوجدان والكشف، وهم الصوفية، ومبادئهم مبادئ أهل النظر والحديث في البداية، والكف والإلهام في النهاية».

وقد اختلف الناس في نسبة الكلمة: هل هي من الصُفَّة، أو من الصفاء، أو من «سوفيا»، وهي باليونانية بمعنى الحكمة، أو من الصوف، ونحن نرجح أنها نسبة إلى الصوف؛ لأنهم في أول أمرهم كانت هذه الفرقة تلبس الصوف اخشيشانًا وزهادة، كما نرجح أنها كانت ترتكن في أول أمرها على أساس إسلامي، فركنا التصوف أول ما ظهرا هما: الزهادة، وحب الله. وفي القرآن الكريم آيات كثيرة تزهّد في الدنيا، وتقلل من شأنها مثل:أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (التكاثر: ١، ٢)، والْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا (الكهف: ٤٦)، ووَاضْرِبْ لَهُم مَّثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ (الكهف: ٤٥) الآية. ووجد رجال كثيرون من أول الإسلام عرفوا بالزهادة كرجال الصفة، وأبي ذر الغفاري، ووجد بعد ذلك الحسن البصري، وقد كان إمامًا كبيرًا أثرت عنه الأقوال الكثيرة في ذم الدنيا، والخوف من الله، وكان حزينًا حزنًا مفرطًا، حتى قالوا: إنه كان دائمًا كأنه عائد من جنازة، ولكن كل هؤلاء لم يطلق عليهم متصوفون بالمعنى الذي عرف بعد، وحتى الحسن البصري هذا لم يترجمه القشيري في رسالته التي ترجم فيها للصوفية.

والركن الثاني في التصوف هو الحب الإلهي، وفي القرآن: وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ (البقرة: ١٦٥)، وفي الحديث: «نعم العبد صهيب! لو لم يخف الله لم يعصه.» فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ (المائدة: ٥٤)، ولكن لما فتحت الفتوح الإسلامية، واختلطت الثقافات المختلفة، وكانت تموج في المملكة الإسلامية الفلسفة اليونانية، وخاصة الأفلاطونية الحديثة، والنصرانية، والبوذية، والزرادشتية، وجدنا أن هذا الزهد، وهذا الحب الإلهي يتفلسفان، وتتسرب إلى التصوف بعض تعليمات من كل هذا.

فالفلسفة اليونانية كانت منتشرة في الشرق منذ فتوح الإسكندر، وكان لها مدرسة في حزّان، وهي التي تسمّت بالصابئة، وقد ترجموا كتبًا يونانية كثيرة إلى السريانية، ثم إلى العربية.

كما كان هناك فلسفة هندية وفارسية، وإن كانت فلسفتهم أقل انتشارًا من الفلسفة اليونانية، وكان للهند مدرسة في جنديسابور كانت تدرس فيها علوم اليونان، والهند على السواء.

كل هذه كانت تتسرب منها تعاليم إلى التصوف بعد عصره الأول.

هوامش

(١) تعرضنا للتصوف في الجزء الثاني من ظهر الإسلام، وكان غرضنا منه توضيح النزاع بين الفقهاء والمتصوفة، ونريد هنا تأريخ التصوف، فليعذرنا القارئ إذا وجد بعض أشياء قليلة تتكرر.
(٢) وبالفعل وجدت في العصر الحديث جمعية صوفية برئاسة عناية الله خان، تجمع بين أديان مختلفة، وتصدر مجلة صوفية كل ثلاثة شهور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤