الفصل الحادي عشر

الأدعية والابتهالات

والأدب الصوفي متنوع تنوع الأدب الماديّ، ففيه حكم، وفيه قصص كثيرة، وفيه شعر، وهو يهتم بمواضع خاصة يكثر فيها القول مثل: الحب، والمناجاة، والورع، والتقوى، وعدم الاهتمام بالرزق، وصفات أولياء الله العارفين، وذم الدنيا، والزهد في شؤونها. ولنسق الآن أمثلة منها:
  • (١)

    من دعاء ذي النون المصري: «اللهم إنَّ الحول حولك، والطول طولك، ولك في خلقك مدد وقوّة وحول، وأنت الفَعَّال لما تشاء، لا العجز والجهل يطارحانك، ولا النقصان والزيادة يحيلانك، لا يحد قدرتك أحد، ولا يشغلك شأن عن شأن.»

    وله أيضًا: «اللهم اجعل العيون منا فوَّارات بالعبرات، والصدور منا محشوة بالعبر والحرقات، واجعل قلوبنا غواصة في موج قرع أبواب السماوات، تائهة من خوفك في البوادي والفلوات، افتح لأبصارنا بابًا إلى معرفتك، ولمعرفتنا أفهامًا إلى النظر في نور حكمتك، يا حبيب قلوب الوالهين، ومنتهى رغبة الراغبين، اللهم تقبل ما مننت به علينا من الإسلام والإيمان، ولا تمنعنا عفوك عن السؤال، فإنا إليك آيبون، ومن الإصرار على معصيتك تائبون.»

    ومن أدعية معروف الكرخي: «حسبي الله لديني، حسبي الله لدنياي، حسبي الله الكريم لما أهمني، حسبي الله الحكيم القوي لمن بغى عليّ، حسبي الله الشديد لمن كادني بسوء، حسبي الله الرحيم عند الموت، حسبي الله الرءوف عند المساءلة في القبر، حسبي الله الكريم عند الحساب، حسبي الله اللطيف عند الميزان، حسبي الله القدير عند الصراط، حسبي الله لا إله إلا هو، عليه توكلت وهو رب العرش العظيم.»

    ومن دعاء ليوسف بن الحسين: «اللهم إنا نبات نعمك، فلا تجعلنا حصائد نقمك، اللهم أعطنا ما تريده منا، يا من أعطانا الإيمان من غير سؤال لا تمنعنا عفوك مع السؤال، فإنا إليك آيبون، ومن الإصرار على معصيتك تائبون.»

    ومن دعاء للجنيد: «اللهم إني أسألك يا خير السامعين، وبجودك ومجدك يا أكرم الأكرمين، وبكرمك وفضلك يا أسمح السامحين، أسألك سؤال خاضع خاشع متذلل متواضع ضارع، اشتدت إليك فاقته، وعظمت فيما عندك رغبته، وعلم ألا يكون شيء إلا بمشيئتك، ولا يشفع شافع إليك إلا من بعد إذنك … إلهي وسيدي وسندي، أنا بك عائذ لائذ مستغيث مستنجد.»

  • (٢)

    كتب الشبلي إلى الجنيد: «يا أبا القاسم، ما تقول في حال علا فظهر، وظهر فقهر وبهر، فاستناخ واستقر، فالشواهد منطمسة، والأوهام حنسة، والألسنة خرسة، والعلوم مندرسة، ولو تكاتفت الخليقة على من هذا حاله، لم يزده ذلك إلا توحشًا، ولو أقبلت إليه تعطفًا، لم يزده ذلك إلا تبعدًا.»

  • (٣)

    ومن كلامهم في عدم الاهتمام بالرزق: «إن جماعة دخلوا على الجنيد فاستأذنوه في طلب الرزق، فقال: إنْ علمتم أي موضع هو فاطلبوه، قالوا: فنسأل الله تعالى ذلك. قال: إن علمتم أنه ينساكم فذكّروه؛ قالوا: فندخل البيت ونتوكل، وننتظر ما يكون. فقال: التوكل على التجربة شك. قالوا: فما الحيلة؟ قال: ترك الحيلة.» وقال بعض العارفين: «من سأل الله الدنيا فإنما سأله طول الوقوف بين يديه»، وقالوا: «مَثَل الدنيا وأهلها كقوم ركبوا سفينة فانتهت بهم إلى جزيرة، فأمرهم الملّاح بالخروج لقضاء الحاجة، وحذّرهم المقام، وخوَّفهم مرور السفينة فتفرقوا في نواحي الجزيرة؛ فقضى بعضهم حاجته، وبادر إلى السفينة، فصادف المكان خاليًا، فأخذ أوسع الأماكن وألينها، وأوفقها لمراده، وبعضهم أطال الوقوف إلى الجزيرة ينظر أزهارها وأنوارها، وغياضها، ونغمات طيورها، وأحجارها، وجواهرها، ومعادنها، ثم تنبّه لخطر فوات السفينة، فرجع إليها فلم يصادف إلا مكانًا ضيقًا حرجًا، فاستقر فيه، وبعضهم أكبَّ على تلك الأصداف والأحجار، واستصحب منها جملة، فجاء إلى السفينة فلم يجد إلا مكانًا ضيقًا، وزاده ما حمله ضيقًا، وصار ثقيلًا عليه، ولم تطعه نفسه على رميه، فحمله على عنقه ورأسه، وبعضهم شغل بالأنوار والغيض، ونسي السفينة، ولم يبلغه نداء الملّاح لانشغاله بأكل الثمار، فتركته السفينة وعاش خائفًا على نفسه من السباع والحيات، وبعضهم سمع أخيرًا نداء الملاح فعاد مثقلًا بما معه فلم يجد في السفينة موضعًا واسعًا، أو ضيقًا فبقي على الشط حتى مات جوعًا … وبعضهم وبعضهم وبعضهم من صنوف الركاب المختلفين، وهذه حالة الخلق إلا من عصمه الله.»

  • (٤)
    ومن أدباء المتصوفة الذين لم ينالوا حظهم في الشهرة: النفّري وهو محمد بن عبد الجبار نسبة إلى نفّر بلدة كانت في جنوب العراق، ثم خربت … وقد مات سنة ٣٣٤ﻫ، وهو من صوفية القرن الرابع. وقد خلّف لنا كتابين صغيرين من خير الكتب، وهما: «المواقف»، و«المخاطبات»،١ والمخاطبات مفهومة، وهي مخاطبته لله — عز وجل — وابتهالاته إليه، والمواقف وقفاته أمام الله، وموافقة الله معه حسب أحواله، وقد تكلم في كل موقف بما يناسبه، فموقف العز، وموقف القرب، وموقف الكبرياء، وموقف الرفق، وهكذا … ولنسق أمثلة من كل منهما:
    قال في موقف العز: «أوقفني في العز وقال لي: لا يستقل به من دوني شيء،٢ ولا يصلح من دوني لشيء، وأنا العزيز الذي لا يستطاع مجاورته، ولا ترام مداومته، أظهرت الظاهر وأنا أظهر منه، فما يدركني قربه، ولا يهتدي إليَّ وجوده، وأخفيت الباطن وأنا أخفى منه، فما يقوم عليَّ دليله، ولا يصح إليَّ سبيله، وقال لي: لولاي ما أبصرت العيون نواظرها، ولا رجعت الأسماع بمسامعها. وقال لي: لو أبديت لغة العزّ لخطفت الأفهام خطف المناجل، ودرست المعارف درس الزمان، عصفت عليها الرياح العواصف … وقال لي: إن من أعد معارفه لو أبديت له لسان الجبروت لأنكر ما عرف، ولمار مور السماء يوم تمور السماء للقائي مورًا … إلخ»، وقال في موقف الأدب: «أوقفني في الأدب، وقال لي: طلبك مني وأنت لا تراني عبادة، وطلبك مني وأنت تراني استهزاء … وقال لي: رأس المعرفة حفظ حالك التي لا تقسمك … وقال لي: كلّ ما جمعك على المعرفة فهو من المعرفة. وقال لي: إن انتسبت فأنت لما انتسبت إليه لا لي … وإن كنت لسبب فأنت للسبب لا لي … وقال لي: آليت لا أقبلك وأنت ذو سبب أو نسب».

    وجعل موقفًا سماه موقف «استوى الكشف والحجاب»، قال لي: «أنا ناظرك، وأحب أن تنظر إلي؛ نفسك حجابك، وعلمك حجابك، ومعرفتك حجابك، وأسماؤك حجابك، وتعرفي إليك حجابك، فأخرج من قلبك كل شيء، وأخرج من قلبك العلم بكل شيء، وذكر كل شيء … وفرِّغ قلبك لي لتنظر إليَّ، ولا تغلب علي.»

    ومن أمثلة المخاطبات: «يا عبد … أي عارض عرض لك فلم ترني فيه فإنك من غيبتي لا منه … يا عبد، أنا أرأف من الرأفة، وأرحم من الرحمة … يا عبد، إذا بدوت لك فلا غنى ولا فقر … يا عبد، اشترني بما سرك وساءك، يفنى الثمن ويبقى المبتاع … يا عبد، اهدم ما بنيته بيدك قبل أن أهدمه بيدي … يا عبد، إذا رأيتني فلا والد يستجرك، ولا ولد يستعطفك … يا عبد، الغيبة ألا تراني في شيء، والرؤية أن تراني في كل شيء … يا عبد، الكشف جنة الجنة، والغطاء نار النار.»

    وهكذا نخرج من هذه الأمثلة على لفظ جميل، وأسلوب لطيف، ومعنى غامض. وقد رووا أن له قصيدة صوفية كبيرة، شرحها عفيف الدين التلمساني الصوفي أيضًا.

  • (٥)

    وأوضح منه وأبلغ ابتهالات أبي حيان التوحيدي وقد كان صوفيًّا، ومات سنة ٤١٤ﻫ.

    ومن أمثلتها: قوله: «اللهم إني أبرأ من الثقة إلا بك، ومن الأمل إلا فيك، ومن التسليم إلا لك، ومن التوكل إلا عليك، ومن الطلب إلا منك، ومن الرضا إلا عنك … أسألك أن تجعل الإخلاص قرين عقيدتي، والشكر على نعمك شعاري ودثاري، والنظر إلى ملكوتك دأبي وديدني، والانقياد لك شأني وشغلي، والخوف منك أمني وإيماني، واللّياذ بذكرك بهجتي وسروري … اللهم إني أسألك خفايا لطفك، وفواتح توفيقك، ومألوف برّك، وعوائد إحسانك، وأسألك القناعة برزقك، والرضا بحكمك، والنزاهة عن محظورك، والورع في شبهاتك … اللهم اجمع من أمري شمله، وانظم من شأني شتيته، واحرسني عند الغنى من البطر، وعند الفقر من الضجر، وعند الكفاية من الغفلة، وعند الحاجة من الحسرة، وعند الطلب من الخيبة، وعند البحث من الاعتراض عليك، أسألك أن تجعل صدري خزانة توحيدك، ولساني مفتاح تمجيدك، وجوارحي خدم طاعتك، فإنه لا عز إلا في الذل لك، ولا غنى إلا في الفقر إليك، ولا أمن إلا في الخوف منك، اللهم إليك نشكو قسوة قلوبنا، وغلّ صدورنا، وفتنة أنفسنا، وطموح أبصارنا، ورفث ألسنتنا، وسخف أحلامنا، وسوء أعمالنا … اللهم أطب عيشنا بنعمتك، وأرح أرواحنا من كد الأمل في خلقك، وخذ بأزمتنا إلى بابك … اللهم أنت الظاهر الذي لا يجحدك إلا زايلته الطمأنينة، وأوحشه القنوط، وتردد بين رجاء قد ناء عنه التوفيق، وأمل قد حفّت به الخيبة. اللهم إني أسألك جدًّا مقرونًا بالتوفيق، وعلمًا بريئًا من الجهل، وعملًا عريًّا من الرياء، وقولًا موشحًا بالصواب، وحالة دائرة مع الحق، وفطنة عقل مضروبة في سلامة صدر، وراحة جسم راجعة إلى روح بال، وسكون نفس … اللهم اجعل غدونا إليك مقرونًا بالتوكل عليك، ورواحنا عنك موصولًا بالنجاح إليك، ولا تخلنا من يد تستوعب الشكر، ومن شكر يمتري خلق المزيد، ومن مزيد يسبق اقتراح المقترض، وصنع يفوق ذرع الطالبين … اللهم احجز بيننا وبين كل ما دل على غيرك، انقلنا من مواطن العجز مرتقيًا بنا إلى شرفات العز، فقد استحوذ الشيطان، وخبثت النفس، وساءت العادة، وكثر الصادفون عنك، وقلّ الداعون إليك، وقلّ المراعون لأمرك، وفقد الواقفون عند حدودك، وخلت ديار الحق من سكانها، وبيع دينك بيع الخلق … اللهم فأعد نضارة دينك، وامدد علينا ظلّ توفيقك … اللهم إنا بك نعزّ، كما أنا بغيرك نذلّ، وإياك نرجو، كما أنّا من غيرك نيأس … اللهم إنك تملك العالم كله وما بعده وما قبله، ولك فيه تصاريف القدرة، وخفيَّات الحكمة، ونوافذ الإرادة، ولك فيه ما لا ندريه مما تخفيه، ولا تبديه، جللت عن الإجلال، وعظمت عن التعظيم، فكن عند ظننا بك … وحقق رجاءنا فيك، فما خالفناك جرأةً عليك، ولا عصيناك تقحّمًا في سخطك، ولا اتبعنا هوانا استهزاءً بأمرك ونهيك، ولكن غلبت علينا جواذب الطينة التي عجنتنا بها، وبذور الفطرة التي أنبتنا منها، فلسنا ندعي حجة، ولكن نسألك رأفة، إنك أهل ذلك، وأنت على كل شيءٍ قدير.»٣

    هذه لغة أسلس، وأوضح وأبلغ.

هوامش

(١) نشرهما الأستاذ آربري على نفقة جمعية جب وطبعهما في دار الكتب.
(٢) أي عز الله — سبحانه وتعالى …
(٣) انظرها بطولها في شرح نهج البلاغة، لابن أبي الحديد ج٣ ص٨٥ وما بعدها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤