الفصل الثاني عشر
من الشعر الصوفي
وكما كان لهم نثر جميل، وقصص قصير لطيف، لهم أيضًا شعر جميل، مثل:
يا بني النقص والغير
وبني الضعف والخور
وبني البعد في الطبا
ع على القرب في الصور
أين من كان قبلكم
من ذوي اللبس والخط
سائلوا عنهم المدا
ئن واستبحثوا الخبر
سبقونا إلى الرحيـ
ـل وإنا لبالأثر
من مضى عبرة لنا
وغدًا نحن المعتبر
إن للموت أخذة
تسبق اللمح بالبصر
رحم الله مسلمًا
ذكر الموت فازدجر
رحم الله مؤمنًا
خاف فاستشعر الحذر
ومن قولهم:
فلا والله ما وصل ابن سينا
ولا رجعا بشيء بعد بحث
ولا أغنى ذكاء أبي الحسين
وتدقيق سوى خفي حنين
أمولاي قد أحرقت قلبي فلا تكن
غدًا محرقًا بالنار من كان يهواكا
أتجمع لي نارين نار محبة
ونار عذاب؛ أنت أرحم من ذاكا
والله ما آسى من الدنيا على
مال ولا ولد ولا سلطان
بل في صميم القلب مني حسرة
تبقى معي وتلف في أكفاني
إني أراك بباطني لا ظاهري
فالحسن مشغلة عن العرفان
إذا فكرت فيك يحير عقلي
وألحق بالمجانين الكبار
وأصفو تارة فيشوب ذهني
ويقدح خاطري كشواظ نار
سألتك باسمك المكتوب ألا
فككت النفس من رق الإسار
يا سرّ سر يدق حتى
يخفى على وهم كل حيّ
وظاهر باطن تجلى
من كل شيء لكل شيء
لعمري ما استودعت سري سرها
سوانا حذارًا أن تشيع السرائر
ولا لاحظته مقلتاي بلحظة
فتشهد نجوانا العيون النواظر
ولكن جعلت الوهم بيني وبينه
رسولًا فأدى ما تكن الضمائر
حقًّا أقول لقد كلفتني شططا
حملي هواك وصبري، إنّ ذا لعجيب
جمعت شيئين في قلبي له خطر
نوعين ضدين تبريد وتلهيب
نهاني حيائي منك أن أكتم الهوى
وأغنيتني بالفهم عنك من الكشف
تلطفت في أمري فأبديت شاهدي
إلى غائبي، واللطف يدرك باللطف
تراءيت لي بالغيب حتى كأنما
تبشرني بالغيب أنك في الكفّ
أراك وبي من هيبتي لك وحشة
فتؤنسني باللطف منك والعطف
وتحيي محبًّا أنت في الحب حتفه
وذا عجب كون الحياة مع الحتف
ولو أن الرقاد دنا لطرفي
جلدت جفونها بالدمع جلدا
فأجابه آخر:
ولكني أقول حييت حقًّا
إذا الوجد المبرح منك يهدا
وإن حل الرقاد بجفن عيني
رقدت إجابة لك لا لأهدا
لي سكرتان وللندمان واحدة
شيء خصصت به من بينهم وحدي
سكران سكر هوى وسكر مدامة
فمتى يفيق فتى به سكران
عجبت لمن يقول ذكرت ربي
فهل أنسى فأذكر ما نسيت
أموت إذا ذكرتك ثم أحيا
ولولا حسن ظنّي ما حييت
فأحيا بالمنى وأموت شوقًا
فكم أحيا عليك وكم أموت
شربت الحب كأسًا بعد كأس
فما نفد الشراب ولا رويت
يا أيها البرق الذي يلمع
من أي أكناف السما تسطع
يا ذا الذي زارا وما زارا
كأنه مقتبس نارا
مرَّ بباب الدار مستعجلًا
ما ضرَّه لو دخل الدارا
كأن رقيبًا منك يرعى خواطري
وآخر يرعى ناظري ولساني
فما رمقت عيناي بعدك منظرا
يسوءك إلا قلت قد رمقاني
ولا بدرت من في دونك لفظة
لغيرك إلا قلت قد سمعاني
وإخوان صدق قد سئمت حديثهم
وأمسكت عنهم ناظري ولساني
وما الزهد أسلى عنهم غير أنني
وجدتك مشهودي بكلّ مكاني
أفكر ما أقول إذا افترقتا
وأحكم دائبًا حجج المقال
فأنساها إذا نحن التقينا
وأنطق حين أنطق بالمحال
لو أن ما بي على صخر لأنحله
فكيف يحمله خلق من الطين
أنا إن متّ فالهوى حشو قلبي
وبداء الهوى يموت الكرام
بكت عيني غداة العين دمعًا
وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التي بخلت بدمع
بأن غمضتها يوم التقينا
نحن في أكمل السرور ولكن
ليس إلا بكم يتم السرور
عيب ما نحن فيه يا أهل ودّي
أنكم غيّب ونحن حضور
بحقّ الهوى يا أهل ودّي تفهموا
لسان وجود بالوجود غريب
حرام على قلب تعرَّض للهوى
يكون لغير الحق فيه نصيب
ليس في القلب والفؤاد جميعًا
موضع فارغ يراه الحبيب
هو سؤلي ومنيتي وحبيبي
وبه ما حييت عيش يطيب
وإذا ما السقام حل بقلبي
لم أجد غيره للسقم طبيب
سقى الله المدينة من محلّ
لباب الماء والنّطف العذاب
وجاد على البقيع وساكنيه
ضيَّ الذيل ملآن الوطاب
فلو بخل الصِّحاب على ثراها
لذابت فوقها قطع الشراب
سقاك فكم ظمئت إليك شوقًا
على عدواء داري واقترابي
غرست لأهل الحبِّ غصنًا من الهوى
ولم يك يدري ما الهوى أحد قبلي
فأورق أغصانًا وأينع صبوة
وأعقب لي مرًّا من السما للمحل
وكلُّ جميع العاشقين هواهم
إذا نسبوه كان من ذلك الأصل
ومن كان في طول الهوى ذاق سلوة
فإني من ليلي لها غير ذائق
وأكثر شيء نلته من وصالها
أماني لم تصدق كلمحة بادق
إن كنت سائلًا عن خالص المنن
وعن تآلف ذات النفس بالبدن
وعن تشبثها بالحظ مذ ألفت
أدرانها فغدت تشكو من العطن
وعن بواعثها بالطبع مائلة
تهوى بشهرتها في ظلمة الشجن
وعن حقيقتها في أصل معدنها
لا ينثني وصفها منها إلى وثن
وعن تنزلها في حكمها ولها
علم يفرّقها في القبح والحسن
فاسمع هديت علومًا عَزَّ سالكها
على البيان ولا يغررك ذو لسن
قصدًا إلى الحق لا تخفى شواهدها
قامت حقائقها بالأصل والفنن
يا سائلي عن علوم ليس يدركها
ذو فكرة بفهوم لا ولا فطن
خذها إليك بحق لست جاهله
والأمر مطلع والحق قيّدني
على الحقيقة خذ علم الأمور ولا
تحجبك صورتها في عالم الوطن
ففطرة النفس سر لا يحيط به
عقل تقيّد بالأوهام والدّرن
وقد تنقل الشعر الصوفي في أطوار كثيرة كما تطور النثر، وكانت ذروته عند ابن عربي،
وابن الفارض في الشعر العربي، وجلال الدين الرومي في الشعر الفارسي. وسنتكلم عن ذلك
في القسم الأخير من هذا الكتاب، إن شاء الله.
ولهم في الأدب نوع لطيف، وهو المكاتبات بين كبارهم، ويقولون: «العلم كله نصفان:
نصفه سؤال، ونصفه جواب.»
وكتب أبو سعيد الخرّاز إلى أبي العباس حمد بن عطاء:
يا أبا العباس: أتعرف لي رجلًا قد كملت طهارته، وبرئ من آثار نفسه،
موقوفًا مع الحق بالحق للحق، من حيث أوقفه الحق … فإن عرفت لي هذا فدلّني
عليه، حتى إن قبلني كنت له خادمًا.
وكتب عمرو بن عثمان المكي كتابًا إلى جماعة الصوفية ببغداد، فكان منه: «إنكم لم
تصلوا إلى حقيقة الحق، حتى تجاوزوا تلك الطرقات المنطمسة، وتسلكوا تلك المفاوز
المهلكة». وكان الجنيد حاضرًا قراءة المكاتبة، فقال: «ليت شعري من الداخل فيها؟»
وقال أبو محمد الجريري: «ليت شعري من الخارج منها؟»
ومرض رجل من أصحاب ذو النون، فكتب إليه أن ادع الله لي، فكتب إليه ذو النون: «يا
أخي، سألتني أن أدعو الله لك أن يزيل عنك الغم، واعلم يا أخي أن المرض والعلة يأنس
بها أهل الصفاء، وأصحاب الهمم … ومن لم يعدّ البلاء نعمة فليس من الحكماء، فليكن
معك يا أخي من الله حياء يمنعك من الشكوى والسلام …» وكتب رجل إلى ذي النون أيضًا:
«آنسك الله تعالى بقربه»، فكتب ذو النون: «أوحشك الله من قربه؛ فإنه إذا آنسك بقربه
فهو قدرك، وإذا أوحشك من قربه فهو قدره، ولا نهاية لقدره حتى يتركك ملهوفًا
إليه.»
وكتب يوسف بن الحسين إلى بعض الصوفية: «أشكو إليك ركوني إلى الدنيا، وما أجد في
طبعي من الأخلاق التي لست أرضاها من نفسي لنفسي»، فكتب إليه: «وصل كتابك، وفهمت ما
ذكرت، ومخاطبتك شريكك في شكواك، ونظيرك في بلواك، فإن رأيت أن تديم الدعاء، وقرع
الباب، فإنه من قرع الباب، ولم يعجز عن القرع دخل.»
وكتب صوفي إلى صوفي يسأله عما يؤديه إلى إصلاح نفسه، فكتب إليه: «إن فساد نفسي قد
شغلني عن صلاحك، ولست أجد نفسي لسفرها … والسلام.»
ثم لهم كلام غامض يحتاج إلى تفسير وتأويل، قام بهذا التفسير الخلف لأفراد السلف،
من أمثلة ذلك: قال النوري: «مكاشفات العيون بالأبصار، ومكاشفات القلوب بالاتصال،
والشطح كلام يترجمه اللسان عن وجد يفيض عن معدنه.»
ثم لهم كلام في غاية الغموض أشبه ما يكون بما يسمى اليوم «الأدب الرمزي»، يفسره
كلٌّ بما يتراءى له مثل قول أبي سعيد الخرَّاز يصف رجلًا صوفيًا: «هو عبد موقوف مع
الحق بالحق للحق»، يعني موقوف مع الله «بالله لله». ويقول أبو علي السندي: «كنت في
حال منّي بي لي، ثم صرت في حال منه به له»، ومعنى ذلك: أن العبد يكون ناظرًا إلى
أفعاله، ويضيف إلى نفسه أفعاله، فإذا غلبت على قلبه أنوار المعرفة، يرى جميع
الأشياء من الله قائمة بالله، معلومة لله، مردودة إلى الله.
وقال أبو زيد البسطامي: «ليس بليس»، يعني: قد غابت الأشياء الحاضرة، وتلفت
الأشياء، فليس يوجد شيء ولا يحس، وهو الذي يسميه قوم الفناء، والفناء عن
الفناء.
ويقول الشبلي: «يا دهشا كله»، معناه: كل شيء مع الحلق دهش كله كالذي قال:
إنّ من هواه قد أدهشني
لا خلوت الدهر من ذاك الدهش
وكان الشبلي يقول أيضًا: «تاهت الخليقة في العلم، وتاه العلم في الاسم، وتاه
الاسم في الذات» إلخ إلخ …
وربما كان هذا من أوضح ما غمض من أقوالهم.