الفصل الثاني

ما هو التصوف؟

وبعد، فما هو التصوف …؟ ربما كان ابن خلدون خير من أوضح معناه فقال:

وأصلها — أي طريقة التصوف — العكوف على العبادة، والانقطاع إلى الله، والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها، والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومالٍ وجاه، والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة، وكان ذلك عامًّا في الصحابة والسلف، فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني، وما بعده، وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا، اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية …» ثم قال: «ثم لها آداب مخصوصة، واصطلاحات من ألفاظ تدور بينهم؛ إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة، فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا في التعبير عنه بلفظ متيسر فهمه منه … وصار علم الشريعة على صنفين: صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا، وصنف مخصوص بالقوم في الكلام في المجاهدة، ومحاسبة النفس عليها، والأذواق، والمواجيد العارضة في طريقها، وكيفية الترقي منها من ذوقٍ إلى ذوق … ثم إنَّ هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالبًا كشف حجاب الحس، والاطلاع على عوالم من أمر الله، ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها … وسبب هذا الكشف أنَّ الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن، ضعفت أحوال الحس، وقويت أحوال الروح، وغلب سلطانه … ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهودًا بعد أن كان علمًا.

وقد وفق ابن خلدون في إرجاع عناصر التصوف إلى أربعة:
  • (١)

    الكلام في المجاهدات، وما يحصل من الأذواق والمواجيد، ومحاسبة النفس على الأعمال.

  • (٢)

    الكلام في الكشف، والحقيقة المدركة من عالم الغيب.

  • (٣)

    التصرفات في العوالم، والأكوان، وأنواع الكرامات.

  • (٤)

    ألفاظ موهمة الظاهر نطق بها أئمة القوم، فتعرف بالشطحات تستشكل ظواهرها، فمنكر لها، ومستحسن، ومتأول.

والتصوف يعتمد على الذوق والمواجيد أكثر مما يعتمد على المنطق، والعقل في نظرهم أداة غير صالحة، إن استطاع إدراك ظواهر الأشياء فهو لا يصلح مطلقًا في استكناه الحقيقة؛ لأن العقل لا يعرف إلا ما يقع عليه الحس، أي لا يعرف الأشياء إلا في ظواهرها، أما الأشياء في حقائقها، وكنه وجودها فمن وراء طاقته أبدًا. والصوفية تمتاز بتمجيد الله، والخوف منه، والإحساس العميق بضعف النفس، والخضوع التام لإرادة الله القوية، والاعتقاد التام بوحدانيته.

وبعضهم عرَّفه بوصف المتصوف، فقال رويم البغدادي: «التصوف مبني على خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل، وترك الغرض والاختيار».

وقال الكرخي: «التصوف هو الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق»، وقال الجنيد: «أن تكون مع الله بلا علاقة»، وقال ذو النون: «أن لا تملك شيئًا، ولا يملكك شيء»، وقيل للحصري: «مَنْ الصوفي عندك …؟ فقال: الذي لا تقلّه الأرض، ولا تظلّه السماء».١

ومن أول ما ظهر من فلسفة المعاني الصوفية فلسفة الحب في قول رابعة العدوية:

أحبك حبين حبّ الهوى
وحبًّا لأنك أهل لذاكا
فأمَّا الذي هو حبّ الهوى
فشغل بذكرك عمن سواكا
وأما الذي أنت أهل له
فكشفك لي الحجب حتى أراكا
فلا الحمد في ذا ولا ذاك لي
ولكن لك الحمد في ذا وذاكا

قال الغزالي في الإحياء: «ولعلها أرادت بحبّ الهوى حبّ الله لإحسانه إليها، وإنعامه عليها بحظوظ العاجلة، وأرادت بحبه لما هو أهل له الحب لجماله وجلاله الذي انكشف لها، وهو أعلى الحبّين وأقواهما»، ولذة مطالعة جمال الربوبية هي التي عبر عنها رسول الله؛ حيث قال حاكيًا عن ربه: «أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر.»

وقد روي لها في الحب أيضًا قولها:

إني جعلتك في الفؤاد محدثي
وأبحت جسمي من أراد جلوسي
فالجسم مني للجليس مؤانس
وحبيب قلبي في الفؤاد أنيسي

وقد تدفق بعدها كلام الصوفية في الحب تدفقًا عظيمًا.

ورابعة العدوية هذه — كما تدل نسبتها — عربية الأصل، كانت من أعيان عصرها، ومات أبوها وهي صغيرة، وحدثت مجاعة بالبصرة بيعت أمةً بسببها، وقد حمدها سيدها لكثرة صلاتها، وسهرها الليل. وقد ماتت سنة ٢٣٥ﻫ، فهي عربية الأصل، ولذلك نرجح أن فلسفتها للحب كانت مزاجًا، ونتيجة إفراطها في العبادة والزهد، هذا إلى طبيعتها النسائية. وقد ذكر القشيري في رسالته أنها كانت تقول في مناجاتها: «إلهي تحرق بالنار قلبًا يحبك؟» فهتف بها هاتف يقول: «ما كنا نفعل هذا، فلا تظني بنا ظن السوء.» وقد روي أنها قابلت الحسن البصري وسمعت منه، والذي يقارن بينهما يرى أن الحسن كان مغمورًا بنزعة الخوف، وأما هي فكانت مغمورة بنزعة الحب، ولا شك أنَّ نزعة الحب أرقى بكثير من نزعة الخوف.

قد يجوز أن يكون من أتى بعدها قد تأثر بمعاني الحب التي قيلت في الثقافات المختلفة، أما هي فما نظن أنها تأثرت بذلك، وإنما هي موجدة وجدتها في نفسها فغنت لها غناءً بهيجًا، كالموجدة التي كانت عند الخنساء؛ فغنّت لها طويلًا غناءً حزينًا.

وعند نشوء التصوف في القرن الثاني يظهر أنه لم يكن هناك جامعة تجمعهم، ولا أمكنة خاصة يؤدون فيها شعائرهم، إنما كانوا أفرادًا متفرقين، قد يكون لبعض منهم تلاميذ، وكان كثير منهم يرتحل ويتلو القرآن، ويكثر من ذكر الله، ونرى في هذا الطور أبا يزيد البسطامي يكثر من الكلام في الاتصال بالله، والتفكير فيه، ويبدأ بفكرة كانت من أركان الصوفية فيما بعد، وهي فكرة الفناء في الله، وأبو يزيد هذا فارسي، وفكرة الفناء كانت في الديانة البوذية من قديم، وهي تسمى عندهم «نرفانا».

وفكرة الفناء كثيرة الشيوع في كلام الصوفية، وهي على درجات، وذات مظاهر، فالمظهر الأول: تغير أخلاقي في الروح تنحلّ معه الرغبات والشهوات، والثاني: انصراف الذهن عن كل الموجودات إلى التفكير في الله، والمظهر الأول نفسي، والثاني عقلي، ثم انعدام كل تفكير إرادي، والتفكير في الله من غير وعي، وآخر درجاته انعدام النفس بالبقاء مع الله. ويصف السريُّ السقطي مَنْ وصل إلى هذه الحالة بقوله: «إنه لو ضرب بسيف على وجهه لما شعر به.»

وربما كان من العناصر التي تسربت إلى التصوف أيضًا عنصر النصرانية، فقد رويت أحاديث كثيرة عن تلاقي بعض الصوفية برهبان نصارى، مثل ما رواه المبرد في الكامل، وملخصه أنَّ راهبين قدما من الشام إلى البصرة، عرض أحدهما على الآخر أن يذهبا لزيارة الحسن البصري؛ لأنَّ حياته كحياة المسيح.

وهناك روايات كثيرة عن صوفية نزلوا أديار النصارى، كما رووا آيات من الإنجيل، ويروون أن المسيح — عليه السلام — مرّ بثلاثة قد نحلت أجسامهم، واصفرت وجوههم، فسألهم: ما جاء بكم هنا؟ قالوا: خوفًا من النار. فقال لهم: إنكم لا تخافون مخلوقًا، ثم مر بثلاثة آخرين أشد ضعفًا، وأكثر اصفرارًا؛ فسألهم ما سأل الأولين، فقالوا: شوقًا إلى الجنة. قال لهم: رغبتم في شيء مخلوق. وأخيرًا مر بثلاثة في غاية النحول والاصفرار، فسألهم ما سأل الأولين، فقالوا: محبة الله، فقال المسيح: أنتم أقرب الناس إلى الله. ويعدّون ما أخذه الصوفية من المسيحية: لبس الصوف؛ إذ كان كثير من الرهبان يلبسونه، والكلام في حب الله.

ومن العناصر التي يعدّونها أيضًا أصلًا للصوفية الأفلاطونية الحديثة، فقد ترجمت لها كتب كثيرة إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية، وتنسب معظم الأفلاطونية الحديثة إلى أفلوطين الذي نشأ في مصر، ثم ذهب إلى روما في القرن الثالث الميلادي، وله كتاب التاسوعات الذي نقل بعضه إلى اللغة العربية بعنوان الأثولوجيا، أي الربوبية، نقله عبد المسيح بن ناعمة الحمصي، وأصلحه لأحمد بن المعتصم بالله أبو يوسف يعقوب الكندي، وانتفع بهذا الكتاب ابن سينا، وشرحه، وهو يعتقد خطأ أنه لأرسطو، ويقول أفلوطين في ذلك الكتاب: «إني ربما خلوت بنفسي، وخلعت بدني جانبًا، وصرت كأني جوهر متجرد بلا بدن، فأكون داخلًا في ذاتي، راجعًا إليها، خارجًا من سائر الأشياء؛ فأكون العلم والعالم والمعلوم جميعًا، فأرى في ذاتي من الحسن والبهاء والضياء ما أبقى له متعجبًا بهتًا …» وقد كانت هذه الفلسفة منتشرة في مصر؛ حيث تعلمها ذو النون المصري المتصوف الكبير. ومما ينسبون تسربه إلى الصوفية منها: الفيض، وانبثاق النور، والتجلي، وغير ذلك؛ فالبوذية، والنصرانية، والأفلاطونية الحديثة قد تسربت منها تعاليم إلى التصوف، وإن كان الأصل الأصيل لمتصوفة المسلمين الإسلام.

دخلت فكرة الفناء من البوذية عن طريق أبي يزيد البسطامي، ودخل غيرها عن طريق غيره، هكذا قال كثير من المستشرقين، وربما كان الخلاف الشديد بينهم في مقدار العناصر التي تسربت، فبعضهم يزيد من العنصر النصراني، وبعضهم يزيد من العنصر الأفلاطوني الحديث، وبعضهم من البوذية.

ويحق لنا أن نتساءل: هل وجود فكرة في إحدى هذه الأمم، ثم وجودها بعد ذلك في المتصوفة دليل على أنها أخذت عنها؟ فإذا وجد الفناء في البوذية، ثم وجدت فكرة الفناء في الصوفية، هل يكون هذا دليلًا على أخذ الآخرين من الأولين؟ قد يكون هذا نوعًا من التفكير الذي يدعو إلى الشك لا الجزم، خصوصًا وأن هناك موانع كثيرة من هذا الرأي مثل: أنَّ رابعة العدوية امرأة عربية لم يثبت لنا أنها ثقفت ثقافة أجنبية، وهي أول من تكلم في الحب الإلهي، فمن أين وصل إليها الحب النصراني؟ ثم إنّ الاتجاهات المتحدة والأمزجة المتحدة تنتج نتائج متحدة، قد لا نعجب بها إذا وجدنا النتائج العقلية متحدة في العالم؛ لأنَّ عقول الناس في العالم متشابهة، وهي تسير على قوانين منطقية واحدة من مقدمات مشروطة بشروط، وأنواع من القياس، أمَّا العواطف فمختلفة كثيرًا عند الناس، ومع ذلك لما اتحد الصوفيون في طريقة رياضة النفس والمجاهدة، والأخذ على المشايخ رأيناهم تقاربوا في النتائج، ورأينا الصوفيّ العراقي يفهم الصوفيّ الأندلسي، والعكس، ومحيي الدين بن عربي الأندلسي، استطاع أن يفهم الحلاّج العراقي، وهكذا، أفبعد هذا نستطيع أن نجزم بتسرب بعض العناصر المختلفة إلى التصوف؟ وإن هذا في نظري يشبه ما ملئت به كتب الأدب العربي من السرقات الشعرية، فهم يقولون: إنَّ معنى هذا البيت مسروق من معنى هذا البيت، ولا نستطيع أن نجزم بذلك إلا إذا اتحدت ألفاظ البيتين أو أكثر، أما المعاني فهي شائعة في كل الأجواء، قد يقع عليها اثنان أو أكثر، ويصوغها كل من غير سرقة، وقد أنصف في ذلك القاضي عبد العزيز الجرجاني في الوساطة، فحصر السرقة في حدود ضيقة، وكذلك نقول.

هوامش

(١) تجد هذه التعاريف في الرسالة القشيرية، وفي كتاب «اللمع».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤