ذو النون المصري
وهو أيضًا شخصية غريبة، فهو مصري من إخميم، يقال إنه نوبيّ، وتدل أقواله على أنه مثقف ثقافة واسعة، اشتهر بالكيمياء، والكيمياء في ذلك العصر كانت مشوبة بشعوذة السحر، فكانت النتائج الكيميائية التي ننظر إليها اليوم هادئين ينظر إليها فيما مضى على أنها نوع من الكرامات. وقد روي عنه أنه شُغِف بالتجوال في البرابي، وادعاء أنه يقرأ خطوطها الهيروغليفية، وأن هذه الكتابات مملوءة بالسحر والحكمة، وكان يدّعي أنه يقرؤها، ويدل ما نقل إلينا عنه من قراءتها أنه لم يقرأها حقًّا، كما قرأها شامبليون بعد اكتشاف حجر رشيد، وإنما قرأها من خياله وأوهامه. على كل حال، له تأثير كبير في نقل التصوف من حالٍ إلى حال، وينسب إليه إدخال الكلام في المقامات والأحوال في الصوفية، وقد شغلت جزءًا كبيرًا منها؛ فللصوفية كلام طويل في الأحوال والمقامات التي وضع فكرتها ذو النون، خلاصتها: أن طريق الوصول إلى الله شاق عسير، يجب أن يتدرج فيه المريد في مراحل يسلم بعضها إلى بعض، ولذلك سمّوا السير في الطريق سفرًا وحجًّا، وسمّوا السائر سالكًا، وهذه المراحل المتعددة تسمى بالمقامات، وقد جعلها الطوسي صاحب كتاب «اللمع»، وهو من أقدم الكتب الصوفية سبعًا، كل واحدة تُسْلم إلى ما بعدها، وهي مقام التوبة والورع والزهد، والفقر والصبر والتوكل والرضا، فالتوبة هي الشعور بالخطيئة، والعزم الأكيد على الإقلاع عنها، وإذا لم يستطع المريد ذلك، فعليه أن يتوب مرة تلو مرة، إلى أن يتوب الله عليه، حتى يرووا أن أحدهم كرر عملية التوبة سبعين مرة. ويضاف إلى الشعور بالخطيئة، والعزم على تركها عدم التفكير فيها؛ إذ الشغل الشاغل هو الله تعالى، وبعد التوبة يجب أن يتبع الطالب مرشدًا، أو شيخًا يطيعه طاعة عمياء. ويحتقر المتصوفة مَنْ يسير في الطريق من غير مرشد، ويقولون: إنه أشبه ما يكون ببستان ليس له بستاني، فهو لا يثمر ثمرًا صالحًا، أما الورع فهو تخصيص الطالب نفسه لعبادة الله، وخدمة الإنسان في السنة الأولى، وعبادة الله، والانصراف عن الدنيا في السنة الثانية، والانصراف عن اللذات الشهوانية، والمشاغل الدنيوية بالتأمل في الله في السنة الثالثة، ثم الزهد والفقر، فالزهد في الملذات الدنيوية، والفكر عنها، والعيشة عيشة الفقراء ولو كان صاحبه غنيًّا، ثم الصبر، وفيه يعذب السالك نفسه؛ لأنها أمّارة بالسوء، والنبي ﷺ يقول: «أعدى أعدائك نفسك التي بين جنبيك.» ثم مقام التوكل يجعل الإنسان نفسه آلة في يد الخالق يديرها كيف شاء، ثم مقام الرضا والطمأنينة، وراحة النفس، والسلام الروحي؛ ولذلك يستعينون على هذا المقام بالغناء، والموسيقى، والرقص، وتكرار لا إله إلا الله، أو الله الله، إلى أن يكلّ لسانه، ويشعر أنه إنما ينطق بقلبه، ولست أدري هل الاتفاق في الدرجات، وجعلها سبعًا متفقة مع الدعوة الفاطمية، وتدرجها إلى سبع أيضًا: أيهما أخذ من الآخر؟؟
هذه هي المقامات، أما الأحوال فعدّوا منها التأمل، والقرب، والمحبة، والخوف، والرجاء، والشوق، والأنس، والطمأنينة، والمشاهدة، والتعين، وهم يقولون: إن المقامات يتوصل إليها بمجهود الشخص، أما الأحوال فموهبة من الله لا حكم للإنسان عليها، وهذا معنى قولهم: الأحوال مواهب، والمقامات مكاسب.
على كل حال، لم تكن الصوفية في القرن الثاني قد تكونت كمجموعة تربط بينها روابط متينة، إنما كانت جماعة متفرقة في البلدان، وقد يكون لكل شيخ صوفي تلاميذه الخاصة به.
وجاء بعده سريّ السقطي المتوفى سنة ٢٥٣ﻫ، قالوا: إنه أول من تكلم ببغداد في الحقائق الإلهية والتوحيد، وجاء بعده الجنيد البغدادي المتوفى سنة ٢٩٧ﻫ، قالوا: إنه أول من صاغ المعاني الصوفية، وكتب في شرحها، وزاد التصوف في القرن الرابع نظامًا من ناحيتيه: النظرية، والعملية.
ويلاحظ أن الصوفيين الأولين كانوا مع تصوفهم يلتزمون أداء الشعائر في أوقاتها، ثم ظهرت نزعة عند بعضهم بعدم التدقيق في تأدية الشعائر، كأنَّ العلاقة الصوفية بين المتصوف والله تجعل في حلّ من التزامها.