الفصل الخامس
وحدة الوجود
ومما شاع في المتصوفة من قديم القول بوحدة الوجود، وهي مسألة في منتهى الدقة،
ربما جمعها تفسيرها بأن المحب يفنى في محبوبه، ويحب بكل قلبه حتى لا يكون هناك فرق
بين محب ومحبوب، وفي القرآن آيات أمعن فيها المتصوفة ففهموها على مذهبهم، مثل:
كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ (القصص:
٨٨)، و
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (الرحمن: ٢٦)،
و
فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ
(البقرة: ١١٥)، و
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي
قَرِيبٌ (البقرة: ١٨٦)،
وَنَحْنُ أَقْرَبُ
إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (ق: ١٦)؛ فكان الإمعانُ في ذلك،
والغلو فيه سببًا في أقوال المتصوفة في هذا الباب، ثم كان الحب العذري، والأدب الذي
أثاره مجنون ليلى، وجميل بثينة، وكثير عزة، وفيه أبيات تدل على فناء المحبِّ في
المحبوب، حتى يبلغ أن يكون المحبوب هو المحب. وسبب ثالث: وهو ما ذهب إليه الشيعة من
أن الأئمة وعلى رأسهم عليٌّ فيهم روحانية إلهية، بها استحقوا أن يكونوا أئمة، وأن
يكونوا معصومين، ثم أتى بعد ذلك الغلو في الفناء، أي فناء المحب في المحبوب، حتى لا
يرى شيئًا إلا هو، وكلما تقدم الزمن رأينا أثرًا من ذلك في مثل بعض أقوال أبي يزيد
البسطامي، وبعد ذلك رأينا ذلك واضحًا في الحلاج
١ من مثل قوله: «أنا الحق، وما في الجبة إلا الله»، ولكن يظهر أن الحلاّج
كان يقول بالحلول، أي حلول الله في الإنسان، أي أنه هو والله شيء واحد، كما يقول
بعض النصارى في امتزاج الطبيعة الإلهية بالطبيعة الناسوتية، كما يمتزج الماء
بالخمر، كقوله: «دع الخليقة لتكون أنت هو، وهو أنت»، وبالفعل وجد في بعض تعبيراته
كلمة الناسوت واللاهوت كالتعبيرات النصرانية.
أما وحدة الوجود، فمعنى آخر تجلى فيما بعد في ابن العربي وابن الفارض، وابن
سبعين، والعفيف التلمساني وغيره، حتى إن هؤلاء لم يفهموها فهمًا واحدًا، بل بينهم
خلاف ولو بسيط.
وينكر ابن الفارض الحلول، كالذي ذهب إليه الحلاج، ولذلك يقول في تائيته:
متى حِلْتُ عن قولي أنا هي أو أقل
وحاشا لمثلي أنها فيَّ حلت
وفي الصحو بعد المحو لم أك غيرها
وذاتي بذاتي إذ تحلت تجلت
ولذلك وصفوا مذهب ابن الفارض بالاتحاد، كما وصفوا مذهب ابن عربي بوحدة الوجود،
والقول بالاتحاد قريب من القول بوحدة الوجود، على خلاف بينهما يسير.
ومعنى القول بوحدة الوجود: أن العالم والله شيء واحد. وبيان ذلك أنَّ المتكلمين
والفلاسفة مثلًا يرون الوجود وجودين: واجب الوجود، وممكن الوجود، فواجب الوجود ما
كان وجوده لذاته، وممكن الوجود ما وجد لسبب، والأول أزلي أبدي، والثاني محدث فان،
وهذا القول يقول باثنينية الوجود، أي الله والعالم، فالله خالق، والعالم مخلوق،
والله مُدَبِّر، والعالم مدبر، وليس الله حالًّا في العالم، وإنما هو خالقه
ومدبّره، والله بيده الخير والشر، يثيب الناس ويعاقبهم؛ جزاء لما كانوا يعملون،
تهمه أعمال الناس، وتسره التضحية.
أما مذهب الحلول، فيرى أن الله والعالم امتزجا، وأن الله والقوة الداخلية
الفاعلية في العالم مترادفان، وأما أصحاب وحدة الوجود فيقولون: إنه ليس في العالم
وجودان، بل وجود واحد، والله هو العالم، والعالم هو الله، ولذلك يسمّى مذهبهم
بالواحديّة، ويسميه ابن تيمية بمذهب «الاتحاد»، أي الاتحاد بين الله
والعالم.
وقد كان انكساغوراس، وأرسطاطاليس، والرواقيون اثنينيين، وجاءت الأديان من يهودية
ونصرانية وإسلام، فأيدت الإثنينية. فالله والعالم، والخالق والمخلوق، والروح
والمادة، عنصران اثنان لا عنصر واحد. أما الواحدية فتقول بأن العالم والله، أو
المادة والروح، أو الخالق والمخلوق شيء واحد، وهذا واضح جدًّا في كلام ابن عربي،
فمن تعبيراتهم: «أن ذاته وذات الله قد أصبحتا ذاتًا واحدة»، وقد تجلى هذا المعنى في
القرن السادس والسابع الهجريين في حياة ابن الفارض وابن عربي،
٢ وليست مظاهر العالم المختلفة إلا مظاهر لله تعالى، أي ليس لله وجود إلا
الوجود القائم بالمخلوقات، وليس هناك غيره ولا سواه، وأن العبد إنما يشهد السوى ما
دام محجوبًا، فإذا انكشف الحجاب رأى أنه لا أثر للغيرية ولا للكثرة، وعاين الرائي
عين المرئي، والمشاهد عين المشهود، ولهم في ذلك كلام كثير، وشطحات بعيدة
المدى.
وقد تختلف تعبيراتهم باختلاف منازعهم، فتعبيرات الفلاسفة القائلين بوحدة الوجود
كالسهروردي غير التعبيرات التي يقولها شاعر أديب يقول بوحدة الوجود كابن الفارض،
ولأن هذا الكلام وهذا المذهب صعب إدراكه على العقل اعتمدوا هم على الذوق والكشف،
ولما كان كلامهم قد لا يرضي العامة استعملوا كلمات وتعبيرات الغزل المادي من سكر
وخمر، ووصال وهجران، إلى غير ذلك، حتى لقد يصعب على القارئ إذا لم يعرف قائل
الأبيات أن يعرف إن كانت هذه الأبيات صوفية أو نواسية.
وقد علقوا أهمية كبيرة على الذوق، وقالوا: إنه لا يحسن التصوف إلا من كان ذا ذوق
يناله بالرياضة والمجاهدة، ويقومه أكثر مما يقوّم النظر العقلي، والدليل المنطقي،
والذوق يوصّل إلى الكشف، أما النظر العقلي فيوصّل إلى العلم، والفرق بين مَنْ يرى
بذوقه، ومن يقتنع بعقله كالفرق بين من يرى بعينه، ومن يصدق غيره من قوله. ولذلك
اختلفت أساليب الصوفية عن أساليب العلماء في طرق المعرفة، فإذا عول الفلاسفة على
العقل، فإنما يعوِّل المتصوفة على القلب، يقول أحد الصوفية: «إنَّ السالك في سبيل
الله أحد ثلاثة: عابد يعبد الله رغبةً في الجنة، وفيلسوف يعتمد على براهينه، وهو لا
يصل إلى الله، وعارف يصل إلى الله بوجده، وهو خير الناس.» ولهم في المعرفة أيضًا
كلام كثير.
هوامش