الفصل السابع

الغزالي

فإذا جاء القرن الخامس الهجري رأينا شخصية كبيرة لها لون خاص غير الألوان السابقة كان لها تأثير كبير في المحيط الإسلامي، بل وفي غيره، وهي شخصية الغزالي، فهو ذو شخصية طبيعية ممتازة، ثم هو مثقف ثقافة واسعة يعرف كثيرًا من الفلسفة، وتعاليم المتشيعة، أو بعبارةٍ أخرى: مذهب الباطنية، والفقه الشافعي، والتصوف، ثم هو بعد أن جمع ذلك كله كانت له قدرة فائقة على التعبير، كما يدل عليه كتاب الإحياء. كانت قبله حروب هائلة بين الفقهاء والصوفية،١ وخصوصًا بين الصوفية والأشعرية، فجاء الغزالي يصالح بين الفريقين، ويرضي كثيرًا من الفقهاء عن التصوف، وكثيرًا من المتصوفة عن الفقهاء. كان في الأصل مدرسًا في مدرسة نظام الملك ببغداد، وقد ولد بطوس سنة ٤٥٠ﻫ، وأوصاه أبوه بالصوفية ورجالها، فلما ترعرع درس الفقه، وتلقى العلم في جرجان فنيسابور، وكان من شيوخه خليفة أبي الحسن الأشعري إمام الحرمين أبو المعالي الجويني، وكانت مدرسة نظام الملك وقصره الفخم تموجان بالعلماء والفقهاء.

وقد نال الغزالي شهرة واسعة في الفقه والمناظرة؛ إذ كانت له مواقف جادل فيها العلماء، وتغلب عليهم، فأخذ يزهى بمقدرته، ويومًا نظر إلى حالته، فرأى غرورًا كاذبًا، وحياة مظاهر لا قيمة لها، فتردد طويلًا، هل يبقى على هذه الحالة التافهة، أو يهجرها ويدع ما لا قيمة له إلى ما له قيمة، وأخيرًا قرر السفر إلى الحجاز، وتطليق ما هو فيه، والميل إلى الزهد والورع. ويروي في كتابه «المنقذ من الضلال» أنه غادر بغداد إلى الشام، ثم إلى مكة، فلما عاد من الحجاز عرج على الشام، وأقام فيه نحو عشر سنوات معتكفًا يصلي ويصوم، ويدون فيها علومه، ومن ذلك كتابه «الإحياء»، ثم رجع إلى بلده طوس، وقد امتلأ علمًا وزهدًا وورعًا، وكان يقرأ القرآن، ويتبتل إلى الله، ثم ألح عليه فخر الملك ابن نظام الملك أن يكون أستاذًا في المدرسة النظامية فقبل، ثم عاوده الحنين إلى الاعتكاف فهجر التدريس، وذهب إلى بلده.

والظاهر من سيرته أنه كان نهمًا في تحصيل العلم، لم يدع بابًا يظن أنه يوصله إلى معرفة الحقيقة إلا طَرقه، ولم تعجبه الفلسفة، ولا الفقه المجرد من الروح، ولا تعاليم الباطنية، وإنما اطمأن أخيرًا إلى التصوف فأحبه، وركن إليه، وكان لكتبه وتعاليمه أثر كبير في حياة المسلمين، بدليل تاريخ المسلمين قبله وبعده، ومن أهم مظاهر ذلك:
  • (١)

    أن الفقهاء كانوا يعتمدون على ظواهر الشعائر من وضوء وصلاة، وعدد ركعات، ونحو ذلك، فجاء هو فبثّ فيها الروح، وجعلها كما كانت في الحال الأول في صدر الإسلام أهم أركانها، فالصلاة ليست مجرد حركات، وإنما هي ذلك مع خشوع القلب.

  • (٢)

    كان المتصوفة قد ارتكنوا إلى الحب الإلهي فسكنوا واطمأنوا، وبعضهم لم يلتزم التزامًا دقيقًا بالواجبات الدينية، فجاء الغزالي وأعاد إلى النفوس الخوف من الله على طريقة الحسن البصري.

  • (٣)

    وبجانب ذلك حبب التصوف إلى الناس، وأقر الاعتقاد بالمكاشفة، وأنها تصل بالمعرفة إلى ما لم يصل إليه العقل، ونراه في الإحياء في كثير من المواضع يقف في شرحه عند حد، ثم يقول: إن ما وراء ذلك لا يدرك إلا بالكشف، ولا تستطيع أن تعبر عنه اللغة.

  • (٤)

    وافق الصوفية على القول بكرامة الأولياء، وإتيانهم بخوارق العادات.

  • (٥)

    فلسف الدين، فإذا قرأت أي باب من الأبواب، حتى ما تعرض له الفقهاء كالعبادات والمعاملات رأيته يعرضها عرضًا غير عرضهم، فعرضهم جاف كالقوانين، وعرضه لطيف جذاب كالقطعة الأدبية، بل هو نفسه في كتب الفقه جاف كالفقهاء، وفي كتاب الإحياء، ونحوه لطيف كالأدباء.

  • (٦)

    قرر أن الإيمان عن طريق الكشف لا عن طريق الفلسفة هو الطريق إلى الله، وطريق الكشف الرياضة والمجاهدة.

من أجل ذلك كله جرف العالم الإسلامي إلى اتجاهه، فأصبحنا نرى أن الناس لا ينظرون إلى المتصوفة نظرًا شذرًا كما كانوا يفعلون، ولعله من ذلك الحين اعترف أهل السنة بالكرامات والأولياء.

قلنا: إنَّ الغزالي ربما أثر في غير المحيط الإسلامي، فقد ترجمت بعض كتبه إلى اللغة اللاتينية في القرون الوسطى، وانتفع اليهودية بفلسفته، فاستخدموا كتابيه «التهافت، والمقاصد» في ردهم على الفلاسفة.

وقد بحث في كتابه «الإحياء» في العلم، وقواعد العقائد، وأحوال المعيشة، وآداب الاجتماع، ورياضة النفس، وعجائب القلب، وأخيرًا بحث في التعليمات الصوفية كالتوبة والصبر والمحبة. وعلى الجملة، فقد قسمه إلى أربعة أرباع: ربع العبادات، وربع في العادات، وربع في المهلكات، وربع في المنجيات.

وكما عقد الغزالي في التصوف الصلة بينه وبين الله، عقد الصلة بينه وبين النبي ، وذكر ذلك في فصل خاص من فصول المنقذ وقال: «فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به … وبالجملة، فمن لم يرزق منه شيئًا بالذوق فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم. وكرامات الأولياء هي على التحقيق بدايات الأنبياء، وكان ذلك أول حال رسول الله حين أقبل إلى جبل حراء؛ حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد.» وقد ألّف كتابًا اسمه «مشكاة الأنوار»، شرح فيه آية اللهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ (النور: ٣٥)، وفيه يذكر شيئًا عن موجود يسميه «المطاع»، يعتبره خليفة الله، والمعبر الأعلى للعالم، ويقول: إنَّ نسبته إلى الوجود الحق — أي الله — كنسبة الشمس إلى النور المحض، أو نسبة الجمر إلى جوهر النار الصرف.

قال الأستاذ نيكولسن: «ولا شك أنه يريد بالمطاع الأمر الإلهي الوارد ذكره في القرآن، أعني الأمر الإلهي الذي به تنفذ الإرادة الإلهية في العالم، ويتلقى عنه الأنبياء وحيهم، وبعبارة أخرى: فالمطاع هو الموجود الذي عن أمره تتحرك الأفلاك، وقد قيل: إن المطاع هذا المراد به القطب رأس الصوفية، ولكن هذا بعيد؛ لأن الغزالي لا يقول بنظرية القطبية الصحيحة، أمَّا أنا فأميل إلى القول بأن المطاع يمثل الصورة المثالية التي يسمونها الحقيقة المحمدية، أو الروح المحمدي، أو الإنسان السماوي الذي خلقه الله على صورته، ويعتبرونه قوة كونية يتوقف عليها نظام العالم وحفظه.»٢

وهذه النظرية — أي نظرية المطاع، أو الروح المحمدية — هي التي شرحها فيما بعد شرحًا وافيًا عبد الكريم الجيلي أو الجيلاني في كتابه «الإنسان الكامل»، وسنتكلم عنه في القسم الثاني.

وعلى الجملة، فيظهر لي أنَّ الإسلام في العصور المتأخرة عن الغزالي كان متأثرًا بتعاليم الغزالي وكتبه.

هوامش

(١) انظر في ذلك الجزء الثاني من ظهر الإسلام.
(٢) انظر كتاب «في التصوف الإسلامي» الذي نشره الدكتور أبو العلا عفيفي، ترجمة لدراسات مختلفة في التصوف قام بها الأستاذ نيكولسن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤