مقدمة

يسرني أن أقدم إلى حضرات القراء هذه الطبعة من كتاب «أبي الشهداء» ويعظم رجائي أن يصل إلى أيدٍ كثيرة غير التي وصل إليها في طبعاته السابقة، وأن يتحقق له من عموم الرسالة بهذه المثابة ما يتمناه كل مؤلف لكل كتاب يريد به رسالة من الرسالات.

ليس من عادتي أن أطَّلع في كتبي بعد الفراغ من طبعها، ويتفق أن تمضي السنوات دون أن أُلقي عليها نظرة لغير مراجعة عاجلة، فإذا حدث بعد ذلك أن أنظر فيها لتقديمها إلى طبعة جديدة، أمكنني أن أشعر بها شعور القارئ الذي يطَّلع عليها لأول مرة، بعد أن شعرت بها شعور المؤلف الذي امتلأ بها، وأدارها في نفسه عدة مرات. وقد أستغرب منها أمورًا كالتي يستغربها القراء الذين يحكمون على موضوعاتها حكم «الأجانب الغرباء».

عجبًا! إن مشكلة الحياة الكبرى لم تتغير منذ ألف وثلاثمائة سنة، ولم تزل الحرب على أشُدها بين خدام أنفسهم وخدام العقائد والأمثلة العليا، ولم يزل الشهداء يصلونها نارًا حامية من عبيد البطون والأكباد، ولم يزل «داؤنا العياء» كما قال أبو العلاء!

كان هذا شعوري بكتاب أبي الشهداء حين قرأته من جديد؛ لتقديمه إلى هذه الطبعة. مسكينة هذه الإنسانية! لا تزال في عطش شديد إلى دماء الشهداء؛ بل لعلَّ العطش الشديد يزداد كلما ازدادت فيها آفات الأثرة والأنانية ونسيان المصلحة الخالدة في سبيل المصلحة الزائلة، أو لعل العطش الشديد إلى دماء الشهداء يزداد في هذا الزمن خاصة دون سائر الأزمنة الغابرة؛ لأنه الزمن الذي وجدت فيه الوحدة الإنسانية وجودًا ماديًّا فعليًّا، وأصبح لِزامًا لها أن توجد في الضمير وفي الروح كما وجدت في الخريطة الجغرافية وفي برامج السفن والطيارات.

الوحدة الإنسانية اليوم حقيقة واقعية عملية، ولكنها حقيقة واقعية عملية في كل شيء إلا في ضمير الإنسان وروح الإنسان.

حقيقة واقعية في اشتباك المصالح التجارية، وفي اتصال الأخبار بين كل ناحية من الكرة الأرضية وناحية أخرى.

حقيقة واقعية في أعصاب الكرة الأرضية — إذا صح هذا التعبير — فلا يضطرب عصب من أعصابها في أقصى المشرق حتى تتداعى له سائر الأعصاب في أقصى المغرب وفي أقصى الشمال والجنوب.

حقيقة واقعية في كل شيء إلا في ضمير الإنسان وفي روح الإنسان، وهذا هو المهم والأهم إذا أريدت للإنسانية وحدة صحيحة صالحة جديرة بالدوام.

ولن توجد هذه الوحدة إلا إذا وجد الشهداء في سبيلها، فأنعِم بمقدم «أبي الشهداء» من جديد إلى ضمائر فريق كبير من بني الإنسان، لعلهم يقدمون رسالته خطوة واحدة أو خطوات في سبيل اليقين والعمل الخالص لوجه الحق والكمال.

نتفاءل أو لا نتفاءل.

نتشاءم أو لا نتشاءم.

ليست هذه هي المسألة؛ وإنما المسألة هي أن طريق التفاؤل معروف وطريق التشاؤم معروف، فلا تتحقق مصلحة الإنسانية إلا إذا عمل لها كل فرد من أفرادها، وهانت الشهادة من أجلها على خُدَّامها، وتقدِّم الصفوف من يُقدِم على الاستشهاد، ومن ورائه من يؤمن بالشهادة والشهداء.

لا عظة ولا نصيحة، ولكنها حقيقة تقرر كما تقرر الحقائق الرياضية، فلا بقاء للإنسانية بغير العمل لها، ولا عمل لها إن لم ينسَ الفرد مصلحته؛ بل حياته في سبيلها.

لا بقاء للإنسانية بغير الاستشهاد.

وفي هذه الآونة التي تتردد فيها هذه الحقيقة في كل زاوية من زوايا الأرض نلتفت نحن أبناء العربية إلى ذكرى شهيدها الأكبر فنحني الرءوس إجلالًا لأبي الشهداء.

عباس محمود العقاد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤