الفصل الرابع

أعوان الفريقين

رجال المعسكريْن

كان الحسين في طريقه إلى الكوفة — يوم دعاه شيعته إليها — يسأل من يلقاهم عن أحوال الناس، فينبئونه عن موقفهم بينه وبين بني أمية، وقلما اختلفوا في الجواب.

سأل الفرزدقَ وهو خارج من مكة — والفرزدق مشهور بالتشيُّع لآل البيت — فقال له: «قلوب الناس معك وسيوفهم مع بني أمية، والقضاء ينزل من السماء، والله يفعل ما يشاء.»

وقال له مجمع بن عبيد العامري: «أما أشراف الناس فقد أُعْظِمَتْ رشوتهم ومُلِئَتْ غرائرهم، فهم أَلْب واحد عليك، وأما سائر الناس بعدهم فإن قلوبهم تهوي إليك وسيوفهم غدًا مشهورة عليك.»

وقد أصاب الفرزدق وأصاب مجمع بن عبيد، فإن الناس جميعًا كانوا بأهوائهم وأفئدتهم مع الحسين بن عليٍّ ما لم تكن لهم منفعة موصولة بمُلك بني أمية، فهم إذن عليه بالسيوف التي تشهرها الأيدي دون القلوب.

وقد «أُعْظِمَتِ الرشوة» للرؤساء، وأُعْظِمَتْ لهم من بعدها الوعود والآمال، فعلموا أن دوام نعمتهم من دوام ملك بني أمية.

فأما الرؤساء الذين كانت لهم مكانتهم بمعزِل عن الملك القائم، فقد كانوا ينصرون حسينًا ولا ينصرون الأمويين، أو كانوا يصانعون الأمويين، ولا يبلغون بالمصانعة أن يشهروا الحرب على الحسين.

ومن هؤلاء هانئ بن عروة من كبار الزعماء في قبائل كندة، وشريك بن الأعور، وسليمان بن صرد الخزاعي، وكلاهما من ذوي الشرف والدين.

بل كان من العاملين لبني أمية من يَخِزُهُ ضميره إذا بلغ العداء للحسين أشده، فيترك معسكر بني أمية ليلوذ بالمعسكر الذي كُتِبَ عليه الموت والبلاء. كما فعل الحر بن يزيد الرياحي في كربلاء، وقد رأى القوم يهمون بقتل الحسين ولا يقنعون بحصاره. فسأل عمر بن سعد قائد الجيش: «أمقاتل أنت هذا الرجل؟» فلما قال: «نعم.» ترك الجيش الأموي وذهب يقترب من الحسين حتى داناه فقال له: «جُعِلْتُ فداك يا بن رسول الله. أنا صاحبك حبستك عن الرجوع وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، ووالله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإني تائب إلى الله ممَّا صنعت، فهل ترى لي من توبة؟»

فقبل الحسين توبته وجعل الرجل يقاتل من ساعتها حتى قُتِلَ، وآخر كلمة على لسانه فاهَ بها: «السلام عليك يا أبا عبد الله!»

•••

فمجمل ما يقال على التحقيق أنه لم يكن في معسكر يزيد رجل يعينه على الحسين إلا وهو طامع في مال، مستميت في طمعه استماتة من يهدر الحرمات، ولا يبالي بشيء منها في سبيل الحطام.

ولقد كان لمعاوية مشيرون من ذوي الرأي كعمرو بن العاص، والمغيرة بن شعبة، وزيادة بن أبيه، وأضرابهم من أولئك الدهاة الذين يسميهم التاريخ أنصار دول وبناة عروش.

وكان لهم من سمعة معاوية وذرائعه شعار يدارون به المطامع، ويتحللون من التأثيم.

لكن هؤلاء بادوا جميعًا في حياة معاوية، ولم يبقَ ليزيد مشير واحد ممن نسميهم بأنصار الدول وبناة العروش، وإنما بقيت له شرذمة على غراره أصدق ما توصف به أنها شرذمة جلادين، يقتلون من أُمِرُوا بقتله ويقبضون الأجر فرحين.

فكان أعوان معاوية ساسة وذوي مشورة.

وكان أعوان يزيد جلادين وكلاب طراد في صيد كبير.

وكانوا في خلائقهم البدنية على المثال الذي يعهد في هذه الطُّغمة من الناس، ونعني به مثال المسخاء المشوهين، أولئك الذين تمتلئ صدورهم بالحقد على أبناء آدم ولا سيما من كان منهم على سواء الخُلُق وحسن الأحدوثة، فإذا بهم يفرغون حقدهم في عدائه وإن لم ينتفعوا بأجرٍ أو غنيمة، فإذا انتفعوا بالأجر والغنيمة فذلك هو حقد الضراوة الذي لا تعرف له حدود.

وشر هؤلاء جميعًا هم شمر بن ذي الجوشن، ومسلم بن عقبة، وعبيد الله بن زياد. ويلحق بزمرتهم على مثال قريب من مثالهم عمر بن سعد بن أبي قاص.

فشمر بن ذي الجوشن كان أبرص كريه المنظر قبيح الصورة، وكان يصطنع المذهب الخارجي؛ ليجعله حجة يحارب بها عليًّا وأبناءه، ولكنه لا يتخذه حجة ليحارب بها معاوية وأبناءه. كأنه يتخذ الدين حجة للحقد، ثم ينسى الدين والحقد في حضرة المال.

•••

ومسلم بن عقبة مخلوق مسمم الطبيعة في مسلاخ إنسان.

«وكان أعور أمغر ثائر الرأس، كأنما يقلع رجليه من وحل إذا مشى».

وقد بلغ من ضراوته بالشر وهو شيخ فانٍ مريض، أنه أباح المدينة في حرم النبي ثلاثة أيام، واستعرض أهلها بالسيف جزرًا كما يجزر القصاب الغنم حتى ساخت الأقدام في الدم، وقتل أبناء المهاجرين والأنصار وذرية أهل بدر، وأخذ البيعة ليزيد بن معاوية على كل من استبقاه من الصحابة والتابعين على أنه عبدٌ قِنٌّ لأمير المؤمنين!

وانطلق جنده في المدينة إلى جوار قبر النبي يأخذون الأموال ويفسقون بالنساء، حتى بلغ القتلى في تقدير الزهري سبعمائة من وجوه الناس وعشرة آلاف من الموالي. ثم كتب إلى يزيد يصف له ما فعل وصف الظافر المتهلل، فقال بعد كلام طويل: «فأدخلنا الخيل عليهم، فما صليت الظهر — أصلح الله أمير المؤمنين — إلا في مسجدهم! بعد القتل الذريع والانتهاب العظيم، وأوقعنا بهم السيوف، وقتلنا من أشرف لنا منهم، واتبعنا مدبرهم، وأجهزنا على جريحهم، وانتهبناها ثلاثًا كما قال أمير المؤمنين — أعز الله نصره — وجعلت دور بني الشهيد عثمان بن عفان في حرز وأمان، والحمد لله الذي شفا صدري من قتل أهل الخلاف القديم والنفاق العظيم، فطالما عَتَوْا وقديمًا ما طغوا. أكتب هذا إلى أمير المؤمنين وأنا في منزل سعيد بن العاص مدنفًا مريضًا ما أراني إلا لما بي. فما كنت أبالي متى مت بعد يومي هذا.»

•••

وكل هذا الحقد المتأجج في هذه الطوية العفنة إنما هو الحقد في طبائع المسخاء الشائهين، يوهم نفسه أنه الحقد من ثأر عثمان أو من خروج قوم على مُلك يزيد.

وكان عبيد الله بن زياد متهم النسب في قريش؛ لأن أباه زيادًا كان مجهول الأب فكانوا يسمونه زياد ابن أبيه. ثم ألحقه معاوية بأبي سفيان؛ لأن أبا سفيان ذكر بعد نبوغ زياد أنه كان قد سكر بالطائف ليلة فالتمس بغيًّا فجاءوه بجارية تُدعى سمية، فقالت له بعد مولد زياد إنها حملت به في تلك الليلة.

وكانت أم عبيد الله جارية مجوسية تُدعى مرجانة فكانوا يعيرونه بها وينسبونه إليها، ومن عوارض المسخ فيه — وهي عوارض لها في نفوس العرب دخلة تورث الضغن والمهانة — أنه كان ألكن اللسان لا يقيم نطاق الحروف العربية.

فكان إذا عاب الحروري من الخوارج، قال: «هروري» فيضحك سامعوه، وأراد مرة أن يقول أشهروا سيوفكم، فقال: افتحوا سيوفكم. فهجاه يزيد بن مفرغ قائلًا:

ويوم فتحت سيفك من بعيد
أضعتَ وكل أمرك للضياع

ولم يكن أهون لديه من قطع الأيدي والأرجل والأمر بالقتل في ساعة الغضب لشبهة ولغير شبهة. ففي ذلك يقول مسلم بن عقيل وهو صادق مؤيد بالأمثال والمثلات: «ويقتل النفس التي حرم الله قتلها على الغضب والعداوة وسوء الظن، وهو يلهو ويلعب كأنه لم يصنع شيئًا.»

وقد كانت هذه الضراوة على أعنفها وأسوئها يوم تصدى عبيد الله بن زياد لمنازلة الحسين؛ لأنه كان يومئذ في شرة الشباب لم يتجاوز الثامنة والعشرين، وكان يزيد يبغضه ويبغض أباه؛ لأنه كان قد نصح لمعاوية بالتمهُّل في الدعوة إلى بيعة يزيد، فكان عبيد الله من ثَمَّ حريصًا على دفع الشبهة والغلو في إثبات الولاء للعهد الجديد.

والذين لم يمسخوا في جِبِلَّتِهِم وتكوينهم هذا المسخ من أعوان يزيد بن معاوية، كان الطمع في المناصب والأموال واللذات قد بلغ بهم يبلغه المسخ من تحويل الطبائع وطمس البصائر ومغالطة النفوس في الحقائق.

•••

ومن هذا القبيل، عمر بن سعد بن أبي وقاص الذي أطاع عبيد الله بن زياد في وقعة كربلاء، ولم يعدل بتلك الوقعة عن نهايتها المشئومة، وقد كان العدول بها عن تلك النهاية في يديه. فقد أغرى عمر بن سعد بولاية الري، وهي درة التاج في ملك الأكاسرة الأقدمين. وكان يتطلع إليها منذ فتحها أبوه القائد النبيل العزوف، وينسب إليه أنه قال وهو يراود نفسه على مقاتلة الحسين:

فوالله ما أدري وإني لحائر
أفكر في أمري على خطرينِ
أأترك ملك الري والري منيتي
أم ارجعُ مأثومًا بقتلِ حسينِ
وفي قتله النار التي ليس دونها
حجاب، وملك الري قرة عيني

فإن لم تكن هذه الأبيات من لسانه فهي ولا شك من لسان حاله؛ لأنها تسجل الواقع الذي لا شبهة فيه.

•••

ومن الواقع الذي لا شبهة فيه أيضًا، أن عمر بن سعد هذا لم يَخْلُ من غلظة في الطبع على غير ضرورة ولا استفزاز، فهو الذي ساق نساء الحسين بعد مقتله على طريق جثث القتلى التي لم تزل مطروحة بالعراء؛ فصِحن وقد لمحنها على جانب الطريق صيحة أسالت الدمع من عيون رجاله، وهم ممن قاتل الحسين وذويه.

هؤلاء وأمثالهم لا يسمون ساسة مُلك ولا تسمى مهنتهم تدعيم سلطان، ولكنهم يسمون جلادين متنمرين يطيعون ما في قلوبهم من غلظة وحقد، ويطيعون ما في أيديهم من أموال ووعود، وتسمى مهمتهم مذبحة طائشة لا يبالي من يسفك فيها الدماء أي غرض يصيب.

•••

ومنذ قضي على يزيد بن معاوية أن يكون هؤلاء وأمثالهم أعوانًا له في ملكه، قُضي عليه من ساعتها أن يكون علاجه لمسألة الحسين علاج الجلادين الذين لا يعرفون غير سفك الدماء، والذين يسفكون كل دم أجروا عليه.

وهكذا كان ليزيد أعوان إذا بلغ أحدهم حَدَّهُ في معونته فهو جلاد مبذول السيف والسوط في سبيل المال.

وكان للحسين أعوان إذا بلغ أحدهم حَدَّهُ في معونته فهو شهيد يبذل الدنيا كلها في سبيل الروح.

وهي إذن حرب جلادين وشهداء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤