الفصل السابع

كربلاء

الحرم المقدس

عرفت قديمًا باسم «كوربابل» ثم صحفت إلى كربلاء، فجعلها هذا التصحيف عرضة لتصحيف آخر يجمع بين الكرب والبلاء، كما رسمها بعض الشعراء.

ولم يكن لها ما تُذكر به في أقرب جيرة لها فضلًا عن أرجاء الدنيا البعيدة منها؛ فليس لها من موقعها، ولا من تربتها، ولا من حوادثها، ما يغري أحدًا برؤيتها، ثم يثبت في ذاكرة من يراها ساعة يرحل عنها.

فلعل الزمن كان خليقًا أن يعبر بها سنة بعد سنة وعصرًا بعد عصر، دون أن يُسمع لها اسم أو يحس لها بوجود، إلا أن تذكر «نينوى» وجيرتها فتدخل في زمرة تلك الجيرة بغير حساب.

وشاءت مصادفة من المصادفات أن يساق إليها ركب الحسين بعد أن حيل بينه وبين كل وجهة أخرى، فاقترن تاريخها منذ ذلك اليوم بتاريخ الإسلام كله. ومن حقه أن يقترن بتاريخ بني الإنسان حيثما عرفت لهذا الإنسان فضيلة يستحق بها التنويه والتخليد.

فهي اليوم حرم يزوره المسلمون للعبرة والذكرى، ويزوره غير المسلمين للنظر والمشاهدة، ولكنها لو أعطيت حقها من التنويه لحق لها أن تصبح مزارًا لكل آدمي يعرف لبني نوعه نصيبًا من القداسة وحظًّا من الفضيلة؛ لأننا لا نذكر بقعة من بقاع هذه الأرض يقترن اسمها بجملة من الفضائل والمناقب أسمى وألزم لنوع الإنسان من تلك التي اقترنت باسم كربلاء، بعد مصرع الحسين فيها.

فكل صفة من تلك الصفات العلوية التي بها الإنسان إنسان وبغيرها لا يحسب غير ضرب من الحيوان السائم؛ فهي مقرونة في الذاكرة بأيام الحسين — رضي الله عنه — في تلك البقعة الجرداء.

وليس في نوع الإنسان صفات علويات أنبل ولا ألزم من الإيمان والفداء والإيثار، ويقظة الضمير، وتعظيم الحق، ورعاية الواجب، والجلَد في المحنة، والأنفة من الضيم، والشجاعة في وجه الموت المحتوم، وهي — ومثيلات لها من طرازها — هي التي تجلَّت في حوادث كربلاء منذ نزل بها ركب الحسين، ولم تجتمع كلها ولا تجلَّت قط في موطن من المواطن تجليها في تلك الحوادث، وقد شاء القدر أن تكون في جانب منها أشرف ما يشرف به أبناء آدم؛ لأنها في الجانب الآخر منها أخزى ما يخزى به مخلوق من المخلوقات.

وحَسْبك من تقويم الأخلاق في تلك النفوس، أنه ما من أحد قُتل في كربلاء إلا كان في وسعه أن يتجنب القتل بكلمة أو بخطوة، ولكنهم جميعًا آثروا الموت عطاشًا جياعًا مناضلين على أن يقولوا تلك الكلمة أو يخطوا تلك الخطوة؛ لأنهم آثروا جمال الأخلاق على متاع الحياة.

أو حسبك من تقويم الأخلاق في نفس قائدها وقدوتها أنهم رأوه بينهم فافتدوه بأنفسهم، ولن يبتعث المرء روح الاستشهاد فيمن يلازمه إلا أن يكون هو أهلًا للاستشهاد في سبيله وسبيل دعوته، وأن يكون في سليقة الشهيد الذي يأتَمُّ به الشهداء.

نموت معك

أقبل الفتى الصغير علي بن الحسين على أبيه، وقد علم أنهم مخيَّرون بين الموت والتسليم فسأله: ألسنا على الحق؟

قال الوالد المنجب النجيب: بلى، والذي يرجع إليه العباد.

فقال الفتى: يا أبه! فإذن لا نبالي!

وهكذا كانوا جميعًا لا يبالون ما يلقون، ما علموا أنهم قائمون بالحق وعليه يموتون.

وأراد الحسين — وقد علم أن التسليم لا يكون — أن يبقى للموت وحده، وألا يعرض له أحدًا من صحبه، فجمعهم مرة بعد مرة، وهو يقول لهم في كل مرة: «لقد برَرْتم وعاونتم والقوم لا يريدون غيري، ولو قتلوني لم يبتغوا غيري أحدًا، فإذا جنَّكم الليل فتفرقوا في سواده وانجوا بأنفسكم.»

فكأنما كان قد أراد لهم الهلاك ولم يرد النجاة، وفزعوا من رجائهم إياه كما يفزع غيرهم من مطالبتهم بالثبات والبقاء، وقالوا له كأنهم يتكلمون بلسان واحد: «معاذ الله والشهر الحرام، ماذا نقول للناس إذا رجعنا إليهم؟ أنقول لهم: إنا تركنا سيدنا وابن سيدنا وعمادنا، تركناه غرضًا للنبل ودريئة للرماح وجزرًا للسباع، وفررنا عنه رغبة في الحياة؟ معاذ الله، بل نحيا بحياتك ونموت معك.»

قالوا له: نموت معك ولك رأيك. ولم يخطر لأحد منهم أن يزين له العدول عن رأيه إيثارًا لنجاتهم ونجاته، ولو خادعوا أنفسهم قليلًا؛ لزيَّنوا له التسليم، وسمَّوْه نصيحة مخلصين يريدون له الحياة، ولكنهم لم يخادعوا أنفسهم ولم يخادعوه، ورأوا أصدق النصيحة له أن يجنبوه التسليم ولا يجنبوه الموت، وهم جميعًا على ذلك.

ولم يكونوا جميعًا من ذوي عمومته وقرباه؛ بل كان منهم غرباء نصحوا له ولأنفسهم هذه النصيحة التي ترهب العار ولا ترهب الموت، فقال له زهير بن القين: «واللهِ لودِدت أني قُتِلْتُ ثم نُشِرْتُ ثم قُتِلْتُ حتى أقتل هكذا ألف مرة، ويدفع الله بذلك الفشل عن نفسك وعن أنفس هؤلاء الفتيان من أهل بيتك.»

وقال مسلم بن عوسجة كأنه يعتب لما اختار له من السلامة: «أنحن نخلي عنك؟ وبِمَ نعتذر إلى الله في أداء حقك؟ لا والله حتى أطعن في صدورهم برمحي وأضربهم بسيفي ما ثبت قائمه في يدى، ولو لم يكن معي سلاح أقاتلهم به؛ لقذفتهم بالحجارة، والله لا نخليك حتى يعلم الله أنَّا قد حفظنا غيبة رسوله فيك. وأما والله لو علمتُ أنني أُقتَل ثم أحيا ثم أُحرَق ثم أحيا ثم أُحرَق ثم أذرى ويُفعل بي ذلك سبعين مرة ما فارقتك حتى ألقى حِمامي دونك.»

وجيء إلى رجل من أصحابه الغرباء بنبأ عن ابنه في فتنة الديلم، فعلم أن الديلم أسروه، ولا يفكون إساره بغير فداء، فأذن له الحسين أن ينصرف وهو في حِلٍّ من بيعته ويعطيه فداء ابنه، فأبى الرجل إباء شديدًا، وقال: «عند الله أحتسبه ونفسي.» ثم قال للحسين: «هيهات أن أفارقك ثم أسأل الركبان عن خبرك، لا يكن والله هذا أبدًا.»

•••

وقد تناهت هذه المناقب إلى مداها الأعلى في نفس قائدهم الكريم، يخيل إلى الناظر في أعماله بكربلاء أن خلائقه الشريفة كانت في سباق بينها أيها يظفر بفخار اليوم كله، فلا يدري أكان في شجاعته أشجع، أم في صبره أصبر، أم في كرمه أكرم، أم في إيمانه وأنفته وغيرته على الحق بالغًا من تلك المناقب المثلى أقصى مداه، إلا أنه كان يوم الشجاعة لا مراء، وكانت الشجاعة فضيلة الفضائل التي تمدها سائرها بروافد من كل خلق نبيل يعينها على شأنها. فكان الحسين — شبل علي — في شجاعته الرُّوحية والبدنية معًا في غاية الغايات، وكان مضرب المثل بين الرعيل الأول من أشجع الشجعان في أبناء آدم وحواء.

ملك جأشه، وكل شيء من حوله يوهن الجأش، ويحل عقدة العزم، ويغري بالدعة والمجاراة.

ملك جأشه ومن حوله نساؤه وأبناؤه في نضارة العمر، يجوعون ويظمأون، ويتشبثون به ويبكون، وملك جأشه روية وأناة، ولم يملكه وثبة واثب إلى الغضب أو هيجة مهتاج إلى الوغى، فكان قبل القتال وفي حومة القتال قويًّا بصيرًا ينفض الضعف عن عزائمه، كما ينفض الأسد غبرات الحصباء عن لبده، ولم يخامره الأسف قط في ذلك الموقف المرهوب إلا من أجل أحبائه وأعزائه الذين يراهم ويرونه، ويسمع صيحتهم ويسمعونه. فقال وهو ينظر إلى الأخبية ومن فيها: «لله دَرُّ ابن عباس فيما أشار به عليَّ!»

وجلس ليلة القتال في خيمته يعالج سهامًا له بين يديه، ويرتجز وأمامه ابنه العليل:

يا دهر أفٍّ لك من خليلِ
كم لك بالإشراق والأصيلِ
من صاحبٍ وماجد قتيلِ
والدهر لا يقنع بالبديلِ
والأمر في ذاك إلى الجليلِ
وكل حي سالك سبيلي

فرد ابنُه عبرته لكيلا يزده ألمًا على ألمه، وسمعته أخته زينب، فلم تقوَ على حنانها ووجَلها، وخرجت إليه من خبائها حاسرة تنادي: «وا ثكلاه! اليوم مات جدي رسول الله وأمي فاطمة الزهراء وأبي عليٌّ وأخي الحسن، فليت الموت أعدمني الحياة يا حسيناه! يا بقية الماضين وثمالة الباقين!»

فبكى لبكائها ولم ينثنِ ذرة عن عزمه الذي بات عليه، وقال لها: يا أخت! لو تُرِكَ القطا لنام. ولم يزل يناشدها ويعزيها، وهو في قرارة نفسه مستقر كالطود على مواجهة الموت وإباء التسليم أو النزول على «حكم ابن مرجانة» كما قال، ثم احتملها مغشيًّا عليها حتى أدخلها الخباء.

•••

تزول الممالك وتدول الدول وتنجح المطامع أو تخيب وتحضر المطالب أو تغيب، وهذه الخلائق العلوية في صدر الإنسان أحق بالبقاء من الممالك وما حوَته، ومن الدول وما حفظته أو ضيعته؛ بل أحق بالبقاء من رواسي الأرض وكواكب السماء.

حرب النور والظلام

وكانت فئة الحسين صغيرة كما علمنا قد رصدت لها هنالك تلك الفئة الكبيرة التي تناقضها أتم ما يكون التناقض بين طرفين، وتباعدها أبعد ما تكون المسافة بين قطبين، فكل ما فيها أرضي مظلم مسفٌّ بالغ في الإسفاف، وليس فيها من النفحة العلوية نصيب.

أللمصادفات نظام وتدبير؟!

نحن لا نعلم إلا أنها مصادفات يخفى علينا ما بينها من الوشائج والصلات، ولكنها — لذلك — هي الأعاجيب التي تستوقف النظر لعجبها العاجب، وإن لم تستوقفه لما يفهمه فيها من نظام وتدبير.

فجيرة كربلاء كانت قديمًا من معاهد الإيمان بحرب النور والظلام، وكان حولها أناس يؤمنون بالنضال الدائم بين أورمزد وأهرمان، ولكنه كان في حقيقته ضربًا من المجاز وفنًّا من الخيال.

وتشاء مصادفات التاريخ إلا أن ترى هذه البقاع التي آمنت بأورمزد وأهرمان حربًا هي أَوْلى أن تسمى حرب النور والظلام من حرب الحسين ومقاتليه.

•••

وهي عندنا أولى بهذه التسمية من حروب الإسلام والمجوسية في تلك البقاع وما وراءها من الأرض الفارسية لأن المجوسي كان يدافع شيئًا ينكره؛ ففي دفاعه معنى من الإيمان بالواجب كما تخيله ورآه، ولكن الجيش الذي أرسله عبيد الله بن زياد لحرب الحسين كان جيشًا يحارب قلبه لأجل بطنه أو يحارب ربه لأجل واليه؛ إذ لم يكن فيهم رجل واحد يؤمن ببطلان دعوى الحسين أو رجحان حق يزيد، ولم يكن فيهم كافر ينفح عن عقيدة غير عقيدة الإسلام، إلا من طوى قلبه على كفر كمين هو مخفيه، ولا نخالهم كثيرين.

ولو كانوا يحاربون عقيدة بعقيدة، لما لصقت بهم وصمة النفاق ومسبَّة الأخلاق؛ فعداوتهم ما علموا أنه الحق وشعروا أنه الواجب أقبح بهم من عداوة المرء ما هو جاهله بعقله ومعرض عنه بشعوره؛ لأنهم يحاربون الحق وهم يعلمون.

ومن ثَمَّ كانوا في موقفهم ذاك ظلامًا مطبقًا، ليس فيه من شعور الواجب بصيص واحد من عالم النور والفداء؛ فكانوا حقًّا في يوم كربلاء قوة من عالم الظلام تكافح قوة من عالم النور.

أقربهم إلى العذر يومئذٍ من اعتذر بالفرَق والرهبة؛ لأنهم أكرهوه بالسيف على غير ما يريد، فكان الجبن أشرف ما فيهم من خصال السوء.

وكان منهم أناس كتبوا إلى الحسين يستدعونه إلى الكوفة ليبايعوه على حرب يزيد، لما ندبهم عمر بن سعد للقائه وسؤاله أحجموا عما ندبهم له واستعفوه؛ لأن جوابهم إن سألوه في شأن مجيئه إليهم: إنني جئتكم ملبيًا ما دعوتم إليه!

وركب أناسًا منهم الفزعُ الدائم بقية حياتهم؛ لأنهم عرفوا الإثم فيما اقترفوه عرفانًا لا تسعهم المغالطة فيه، ومن هؤلاء رجل من بني أبان بن دارم كان يقول: قتلت شابًّا أمرد مع الحسين بين عينيه أثر السجود، فما نمت ليلة منذ قتلته إلا أتاني فيأخذ بتلابيبي حتى يأتي جهنم فيدفعني فيها، فأصيح فما يبقى أحد في الحي إلا سمع صياحي.

•••

ورأى هذا الرجل صاحبًا له بعد حين، وقد تغيَّر وجهه واسودَّ لونه، فقال له: «ما كدت أعرفك.» وكان يعرفه جميلًا شديد البياض.

ومنهم من كان يتزاور عن الحسين في المعمعة، ويخشى أن يصيبه أو يصاب على يديه، ولو أنهم حاربوه لأنهم علموا أنه أهل للمحاربة فلم يتزاوروا عنه ولم يتحاشوه؛ لكانت الحرب هنالك حربًا بين رأيين ومذهبين وشجاعتين، ولكنهم كشفوا أنفسهم بتحاشيهم إياه، فإذا هم يحاربون رأيهم الذي يدينون به، ووليهم الذي يضمرون له الحرمة والكرامة، في ذلك خزيهم الأثيم.

على أن الجبن والجشع لا يفسِّران كل ما اقترفه جيش عبيد الله من شر ولؤم في أيام كربلاء.

فلا حاجة بالجبان ولا بالجشِع إلى التمثيل والتنكيل أو التبرع بالإيذاء حيث لا تلجئه الضرورة إليه، وليس قتل الطفل الذي يموت من العطش وهو على مورد الماء بالأمر الذي يلجئ إليه الجبن أو يلجئ إليه طلب المال، وقد حدث في أيام كربلاء من أمثال هذا البغي اللئيم شيء كثير رواه الأمويون، ولم تقتصر روايته على الهاشميين والطالبيين أو أعداء بني أمية!

•••

وينبغي أن نفهم ذلك على وجه واحد لا سبيل إلى فهمه بغيره، وهو نكسة الشر في النفوس البشرية، حين تلج بها مغالطة الشعور وحين تغالب عنانها حتى تعييها المغالبة فينطلق بها العنان.

فالرجل الخبيث المغرق في الخباثة قد يتصرف في خلوته تصرُّف الأنذال، ثم لا يبالي أن يعرف نذالته وهو بنجوة من أعيُن الرقباء، ولكن أربعة الآلاف لا يتصارحون بالنذالة بينهم، ولا يقول بعضهم لبعض إنهم يعملون ما يستحقون به التحقير والمهانة، ولا تقبل لهم فيه معذرة ولا علالة، وإنما شأنهم في هذه الحالة أن يصطنعوا الحماسة، ويجاهدوا التردد ما استطاعوا؛ ليظهروا في ثوب الغلاة المصدقين الذين لا يشكون لحظة في صدق ما يعملون، فيغمض الرجل منهم عينيه، ويستتر بغشاء من النفاق حتى ليوشك أن يخدع نفسه عن طوية فؤاده.

وتلك لجاجة المغالطة في الشعور.

أما مجاذبة النفس عنانها وانطلاقها بعد هذه المجاذبة المخفقة، فالشواهد عليها كثيرة فيما نراه كل يوم؛ يحاول الرجل أن يجتنب الخمر فلا يستطيع، فإذا هو قد خلع العذار، وغرق فيها ليله ونهاره غير مبالٍ بما يقال كأنما هو القائل: «دع عنك لومي فإن اللوم إغراء.»

وتحب المرأة أن تستحيي وتتوارى من المسبة في هواها، ثم يغلبها هواها فإذا هي ألقت حياءها للريح، وصنعت ما تحجم عنه التي لم تنازع نفسها قط في هوى، ولم تشعر قط بوطأة الخجل والاستتار.

واندفاع المتهجمين على الشر في حرب كربلاء بغير داعٍ من الحفيظة ولا ضرورة ملزمة تقضي بها شريعة القتال، لهو الاندفاع الذي يسبر لنا عمق الشعور بالإثم في نفوس أصحاب يزيد، وقد رأينا من قبلُ عمق الشعور بالحق في أصحاب الحسين، وما بنا من حاجة إلى البحث عن علة مثل هذه العلة لمن خُلِقُوا مجرمين، وخُلِقَتْ معهم ضراوة الحقد والإيذاء لهذا الميدان وغير هذا الميدان، كشمر بن ذي الجوشن، ومن جرى مجراه؛ فهؤلاء لا يصنعون غير صنيعهم الأثيم كلما وجدوا السبيل إليه.

على أنها — بعد كل هذا — حرب بين الكرم واللؤم، وبين الضمير والمعدة، وبين النور والظلام؛ فشأنها على أية حال أن تصبح مجالًا من الطرفين لقصارى ما يبلغه الكرم، وقصارى ما يبلغه اللؤم، وقد بلغت في ذلك أقصى مدى الطرفين.

•••

ومن المتعذر بعد وقوف هاتين القوتين موقف المراقبة والمناجزة، أن نتقصى أوائل القتال، ونتتبع ترتيب الحوادث واحدة بعد واحدة على حسب وقوعها؛ فإن الأقوال في سرد حوادث كربلاء لا تتفق على ترتيب واحد، سواء كان هذا الترتيب في رواية أنصار الحسين أو رواية أنصار يزيد.

إلا أن الترتيب الطبيعي يستبين للعقل من سبب الوقوف في ذلك المكان، وهو منع الحسين أن ينصرف إلى سبيله، وأن يرد الماء حتى يُكرهه العطش إلى التسليم، وكان الموقف كما وصفه أبو العلاء بعد ذلك بأربعة قرون:

منع الفتى هينًا فجَرَّ عظائمًا
وحمى نمير الماء فانبعث الدمُ

ولم يمتنع طريق الماء في بادئ الأمر دفعة واحدة؛ لأن حراس المورد من جماعة عمر بن سعد لم يكونوا على جزم بما يصنعون في مواجهة الحسين وصحبه، فلما اندفع بعض أصحاب الحسين إلى الماء بالقِرب والأداوى، مانعهم القوم هنيهة، ثم أخلوا لهم سبيل النهر خوفًا وحيرة، فشربوا وملأوا قربهم وأداواهم بما يغنيهم عن الاستقاء إلى حين.

والظاهر أن الشر كله كان في حضور شمر بن ذي الجوشن على تلك الساحة، متربصًا كل التربص بمن يتوانى في حصار الحسين ومضايقته، فيعزله ويعرضه لسوء الجزاء، ثم يطمع من وراء ذلك أن يتولى قيادة الجيش وإمارة الري بعد عزل عمر بن سعد بن أبي وقاص؛ فبطل التردد شيئًا فشيئًا، وتعذَّر على الحسين وأصحابه بعد الهجمة الأولى أن يصلوا إلى الماء، ولبثوا أيامًا وليس في معسكرهم ذو حياة من رجل أو امرأة أو طفل أو حيوان إلا وهو يتلظَّى على قطرة ماء فلا ينالها، ومنهم الطفل العليل والشيخ المكدود والحيوان الأعجم، وصياح هؤلاء الظماء من حرقة الظمأ يتوالى على مسمع الحسين ليل نهار وهو لا يملك لهم غير الوصاية بالصبر وحسن المواساة.

وفي ذلك المأزق الفاجع، نضحت طبائع اللؤم في معسكر ابن زياد بشرِّ ما تنضح به طبيعة لئيمة في البنية الآدمية؛ فاقترفوا من خسة الأذى ما تنزه عنه الوحوش الضاريات، وجعلوا يتلهون ويتفكهون بما تقشعر منه الجلود وتندى له الوجوه، ونكاد نمسك عن تسطيره أسفًا وامتعاضًا لولا أن القليل منه جزء لا ينفصل من هذه الفاجعة، وبيان لما يلي من وقعها في النفوس وتسلسل تراتها إلى أمد بعيد.

مآثم مخزية

فمن هذه المآثم المخزية أن الحسين برح به العطش فلم يباله، ولكنه رأى ولده عبد الله يتلوَّى من ألمه وعطشة، وقد بُحَّ صوته من البكاء، فحمله على يده يهم أن يسقيه، ويقول للقوم: «اتقوا الله في الطفل إن لم تتقوا الله فينا.» فأوتر رجل من نبالة الكوفة قوسه، ورمى الطفل بسهم وهو يصيح ليسمعه العسكران: «خذ اسقه هذا.» فنفذ السهم إلى أحشائه!

وكانوا يصيحون بالحسين متهاتفين: «ألا ترى إلى الفرات كأنه بطون الحيات؟! والله لا تذوقه حتى تموت ومن معك عطشًا.»

ولما اشتد عطش الحسين دنا من الفرات ليشرب، فرماه حصين بن نمير بسهم وقع في فمه، فانتزعه الحسين وجعل يتلقى الدم بيديه فامتلأت راحتاه بالدم، فرمى به إلى السماء وقد شخص ببصره إليها وهو يقول: «إن تكن حبست عنَّا النصر من السماء، فاجعل ذلك لما هو خير منه، وانتقم لنا من القوم الظالمين!»

وقد كان منع الماء — قبل الترامي بالسهام — نذيرًا كافيًا بالحرب، يبيح الحسين أن يصيب منهم من يتعرض للإصابة، ولكنه رأى شمر بن ذي الجوشن — أبغض مبغضيه المؤلبين عليه — يدنو من بيوته، ويجول حولها؛ ليعرف منفذ الهجوم عليها، فأبى على صاحبه السلم بن عوسجة أن يرميه بسهم، وقد أمكنه أن يصميه، وهو من أَسَدِّ الرماة؛ لأنه كره أن يبدأهم بعداء.

•••

وكأنه لمح منهم ضعف النية وسوء الدخلة في الدفاع عن مولاهم، وعلم أنهم لا يخلصون في حبِّه، ولا يؤمنون بحقِّه، وأنهم يخدمونه للرغبة أو الرهبة ولا يخدمونه للحق والذمة؛ فطمع أن يقرع ضمائرهم وينبه غفلة قلوبهم، ورمى بآخر سهم من سهام الدعوة قبل أن يرمي بسهم واحد من سهام القتال، فخرج لهم يومًا بزي جده — عليه السلام — متقلدًا سيفه لابسًا عمامته ورداءه، وأراهم أنه سيخطبهم، فكان أول ما صنعوه دليلًا على صدق فراسته فيهم؛ لأن رؤساءهم ومؤلبيهم أشفقوا أن يتركوا له آذان القوم فينفذ إلى قلوبهم ويلمس مواقع الإقناع من ألبابهم، فضجوا بالصياح والجلبة، وأكثروا من العجيج والحركة؛ ليحجبوا كلامه عن أسماعهم، ويتقوا أثر موعظته فيهم، وهو بتلك الهيئة التي تغضي عنها الأبصار، وتعنو لها الجباه.

ولكنه صابَرَهم حتى ملُّوا، وملَّ إخوانهم ضجيجهم هذا الذي يكشفون به عن عجزهم وخوفهم، ولا يوجب الثقة بدعواهم عند إخوانهم، فهدأوا بعد لحظات وسمعوه بعد الحمد والصلاة: «انسبوني من أنا! هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي؟ ألست ابن بنت نبيكم؟ أولم يبلغكم ما قاله رسول الله لي ولأخي: هذان سيدا شباب أهل الجنة؟ ويحكم! أتطلبونني بقتيل لكم قتلته أو مال لكم استهلكته؟»

ثم نادى بأسماء أنصاره الذين استدعَوْه إلى الكوفة ثم خرجوا لحربه في جيش ابن زياد. فقال: «يا شيث بن الربعي! يا حجار بن أبحر! يا قيس بن الأشعث! يا يزيد بن الحارث! يا عمر بن الحجاج! ألم تكتبوا إليَّ أن قد أينعت الثمار واخضرَّت الجنبات، وإنما تُقدم على جُند لك مجنَّد؟»

فزلزلت الأرض تحت أقدامهم بهذه الكلمات، وبلغ بها المقنع ممن فيه مطمع لإقناع، وتحولت إلى صفِّه فئة منهم تعلم أنها تتحول إلى صف لن تجد فيه غير الموت العاجل، واستطابت هذا الموت، ولم تستطب البقاء مع ابن زياد لاغتنام الغنيمة وانتظار الجزاء من المناصب والأموال.

•••

ولم تكن كلمة الحسين كل ما شهره عسكره من سلاح الدعوة قبل الاحتكام إلى السيف؛ فقد كانت للبطل المجيد زهير بن القين كلمات في أهل الكوفة أمضى من السيوف والرماح حيث تصيب، فركب فرسه وتعرض لهم قائلًا: «يا أهل الكوفة! نذار لكم من عذاب الله نذار. إن حقًّا على المسلم نصيحة المسلم، ونحن حتى الآن إخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة، وكنا نحن أمة وأنتم أمة. إن الله قد ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد لينظر ما نحن وأنتم عاملون، وإنما ندعوكم إلى نصر حسين وخذلان الطاغية ابن الطاغية عبيد الله بن زياد، فإنكم لا تدركون منهما إلا سوءًا: يسملان أعينكم، ويقطعان أيديكم وأرجلكم، ويُمَثِّلان بكم، ويرفعانكم على جذوع النخل، ويقتلان أماثلكم وقراءكم أمثال حجر بن عدي وأصحابه وهانئ بن عروة وأشباهه.»

فوجم منهم من وجم، وتوقَّح منهم من توقَّح، على ديدن المريب المكابر إذا خلع العذار ولم يأنف من العار، وتوعدوه وتوعدوا الحسين معه أن يقتلوهم أو يُسلِموهم صاغرين إلى عبيد الله بن زياد.

تخاذل وضعف

ولا يظهر من عدد الفريقين ساعة القتال أن المتحولين إلى معسكر الحسين كانوا كثيرين أو متلاحقين، ولكن بداءة التحول كانت ممَّا يخيف ويزعج؛ لأنها اشتملت على قائد كبير من قواد ابن زياد وهو الحر بن يزيد الذي أرسلوه في أول الأمر ليحلئ الحسين عن دخول الكوفة، وقد كان يحسب أن عمله ينتهي إلى هذه المراقبة ولا يعدوها إلى القتال وسفك الدم، فلما تبين نيَّة القتال، أقبل يدنو نحو عسكر الحسين قليلًا قليلًا، وتأخذه رِعدة وينتابه ألم شديد، حتى راب أمره صاحبه المهاجر بن أوس فقال له: والله إن أمرك لمريب! ما رأيت منك قط مثل ما أراه الآن، ولو قيل: مَن أشجع أهل الكوفة؟ ما عدوتك.

فباح له الرجل بما في نفسه، وقال له: إني أخيِّر نفسي بين الجنة والنار، ولا أختار على الجنة شيئًا ولو قطعت أو حرقت.

ثم ضرب فرسه، ولحق بالحسين، وهو يعتذر قائلًا: لو علمت أنهم ينتهون إلى ما أرى ما ركبت مثل الذي ركبت، وإني قد جئتك تائبًا ممَّا كان مني إلى ربي، مؤاسيًا لك بنفسي حتى أموت بين يديك!

ولن يخلو معسكر ابن زياد من مئات كالحر بن يزيد يؤمنون إيمانه، ويوَدون لو يلحقون به إلى معسكر الحسين، ويزعجهم أن يتحول أمامهم إلى ذلك المعسكر وهم ناظرون إليه؛ لأنه يبكتهم ويكشف مغالطتهم بينهم وبين أنفسهم، ويحضهم على الاقتداء به والتدبر في أسباب ندمه، لا لأنه ينتقص عددهم أو ينذر بالهزيمة في ميدان القتال؛ فكلهم ولا ريب يشعر بشعوره، ويعتقد في فضل الحسين على يزيد مثل اعتقاده، وبعيد على العقل أن يصدق في هؤلاء الشراذم أنهم قد أطاعوا يزيد؛ لأنه صاحب بيعة حاصلة، وأنهم قد «تأدبوا بأدب الدولة» أدبًا يغلب شعور الجماعة وإيمان المرء بحق الشريعة وحرمة البيت النبوي، ويهون عليه قتل سبط النبي في هذا السبيل، وكيف وإن منهم لمن بايع الحسين على البعد، ودعاه إليه ليقود «الجند المجنَّد» إلى قتال يزيد؟ فكلامهم في البيعة الحاصلة لغط يلوكونه بألسنتهم، ولا يستر ما في طويتهم، وليس أثقل على أمثال هؤلاء من عبء المغالطة كلما تلجلج في مكانه وحركته القدوة التي يريدونها ولا يقوون عليها، كتلك القدوة الماثلة بصاحبهم الحر بن يزيد.

لا جرم كان أعظم الجيشين قلقًا وأشدهما حيرة وأعجلهما إلى طلب الخلاص من هذا المأزق الثقيل هو أكبر الفئتين وأقوى العسكرين.

شجاعة جند الحسين

كان هناك عسكران أحدهما صغير، ويلح عليه العطش والضيق، ولكنه كان مطمئنًّا إلى حقه يلقى الموت في سبيله، ويزيده العطش والضيق طمأنينة إلى هذا المصير.

والعسكر الآخر أكبر العسكرين، ولكنه كان «يخون» نفسه في ضمير كل فرد من أفراده، وتملكه الحيرة بين ندم وخوف وتبكيت ومغالطة واضطراب، يحز في الأعصاب، ويقذف بالمرء إلى الخلاص كيفما كان الخلاص.

وطال القلق على دخيلة عمر بن سعد فأطلقه سهمًا في الفضاء كأنه كان متشبثًا بصدره فاستراح منه بانطلاقه.

فزحف إلى مقربة من معسكر الحسين، وتناول سهمًا فرماه عن قوسه إلى المعسكر، وهو يصيح: اشهدوا لي عند الأمير أنني أول من رمى الحسين.

ثم تتابعت السهام فبطلت حجة السلم، وذهب كل تأويل في نية القوم، وقام الحسين وهو ينظر إلى السهام وينظر إلى أصحابه، فقال: قوموا يا كرام، فهذه رسل القوم إليكم.

وبذلك بدأ القتال.

وقد تأهب الحسين لهذه المنازلة المنتظرة، وإن كان على انتظاره إياها قد تريث حتى يبدءوه بالعدوان من جانبهم، وحتى يجب عليه الدفاع وجوبًا لا خلاف فيه.

فاختار له رابية يحتمي بها من ورائه، ووسع وهدتها حتى أصبحت خندقًا لا يسهل عبوره، فأوقد فيه النار ليمنع عليهم الالتفاف به من خلفه، وهم في كثرتهم التي ترجح عدة صحبه ستين ضعفًا قادرون على مهاجمته من جميع نواحيه.

وكان معه اثنان وثلاثون فارسًا وأربعون راجلًا، وهم نيف وأربعة آلاف، يكثر فيهم الفرسان وراكبو الإبل، ويحملون صنوفًا مختلفة من السلاح.

ومع هذا التفاوت البعيد في عدد الفريقين، كان المعسكر القليل كفؤًا للعسكر الكثير لو جرى القتال على سنة المبارزة التي كانت دعوة مجابة في ذلك العصر، إذا اختارها أحد الفريقين.

فإن آلَ عليٍّ جميعًا كانوا من أشهر العرب — بل من أشهر العرب والعجم — بالقوة البدنية والصبر على الجراح والاضطلاع بعناء الحرب ساعات بعد ساعات، ومنهم من كان يلوي الحديد فلا يقيمه غيره، ومنهم محمد ابن الحنفية الذي صرع جبابرة القوة البدنية بين العرب والعجم في زمانه، ومن أشهر هؤلاء الجبابرة رجل كان في أرض الروم يفخر به أهلها، فأرسله ملكهم إلى معاوية يعجز به العرب عن مصارعته واتقاء بأسه. فجلس محمد ابن الحنفية وطلب من ذلك الجبار الرومي أن يقيمه، فكان كأنما يحرك جبلًا لصلابة أعضائه وشدة أسره. فلما أقر الرجل بعجزه رفعه محمد فوق رأسه ثم جلد به الأرض مرات.

والحسين — رضي الله عنه — قد كان هو ومن معه من شباب آل عليٍّ ممن ورث هذه القوة البدنية كما ورثوا ثبات الجأش وحَمِيَّةَ الفؤاد، وكانوا كفؤًا لمبارزة الأنداد واحدًا بعد واحد حتى يفرغ جيش عبيد الله من فرسانه القادرين على المبارزة، ولا يبقى منهم غير الهمل يتبددون في منازلة الشجعان، كما تتبدد السائمة المذعورة بالعراء.

وكان مع الحسين نخبة من فرسان العرب كلهم له شهرة بالشجاعة والبأس وسداد الرمي بالسهم ومضاء الضرب بالسيف، ولن تكون صحبة الحسين غير ذلك بداهة وتقديرًا لا يتوقفان على الشهرة الذائعة والوصف المتواتر؛ لأن مزاملة الحسين في مثل تلك الرحلة هي وحدها آية على الشجاعة على ملاقاة الموت وكرم النحيزة في ملاقاة الفتنة والإغراء، فإذا جرى القتال كله مبارزة بين أمثال هؤلاء ومن يبرزون لهم من جيش عبيد الله، فهم كفء للمنازلة، وليس أملهم في الغلب بضعيف.

وقد بدأ القتال بهجوم الخيل من قبل جيش ابن زياد، فأشرع أصحاب الحسين لها رماحهم، وجثوا على الركب ينتظرونها، فلم تقم الخيل للرماح، وأوشكت أن تجفل مولية بفرسانها.

فعدل الفريقان إلى المبارزة، فلم يتعرض لها أحد من جيش ابن زياد إلا فشل أو نكص على عقبيه، فخشى رءوس الجيش عقبى هذه المبارزة التي لا أمل لهم في الغلبة بها، وصاح عمر بن الحجاج برفاقه: أتدرون من تقاتلون؟ تقاتلون فرسان المصر وقومًا مستميتين. لا يبرز إليهم منكم أحد فإنهم قليل، لو لم ترموهم إلا بالحجارة لقتلتموهم.

فاستصوب عمر بن سعد مقاله، ونهى الناس عن المبارزة.

فلما برز عابس بن أبي شبيب الشاكري بعد ذلك وتحداهم للمبارزة، تحاموه لشجاعته ووقفوا بعيدًا منه. فقال لهم عمر: ارموه بالحجارة.

فرموه من كل جانب فاستمات وألقى بدرعه ومغفره، وحمل على من يليه، فهزمهم، وثبت لجموعهم حتى مات.

وعجزت خيل القوم مع كثرتها عن مقاومة خيل الحسين، وهي تنكشف كل ساعة عن فارس قتيل، فبعث عروة بن قيس مقدم الفرسان في جيش ابن زياد يقول لعمر بن سعد: «ألا ترى ما تلقى خيلي هذا اليوم من هذه العدة اليسيرة؟ ابعث إليهم الرجال والرماة.» فبعث إليه بخمسمائة من الرماة وعلى رأسهم الحصين بن نمير، فرشقوا أصحاب الحسين بالنبل حتى عقروا الخيل وجرحوا الفرسان والرجال.

وكان أبو الشعثاء يزيد بن زياد الكندي ممَّن عدل إلى جيش الحسين، وهو من أشهر رماة زمانه. فلما تكاثر عليهم رمي النبال والسهام، جثا بين يدي الحسين وأرسل مائة سهم لم يكد يخيب منها خمسة أسهم، وقاتل حتى مات.

وكان الذين عدلوا إلى عسكر الحسين أشد أنصاره عزمة في القتال وهجمة على الموت، ومنهم الحر بن يزيد الذي تقدم ذكره. فجاهد ما استطاع ليقنع أصحابه الأولين بالكف عن حرب الحسين أو بالعدول إلى صفِّه، وقام على فرسه يخطب أهل الكوفة ويزجرهم، فسكتوا هنيهة ثم رشقوه بالنبل فعقروا فرسه وجرحوه، فما زال يطلب الموت ويتحرى من صفوفهم أكثفها جمعًا وأقتلها نبلًا حتى سقط مثخنًا بالجراح وهو ينادي الحسين: «السلام عليكم يا أبا عبد الله.»

ولم يكن من أصحاب الحسين إلا من يطلب الموت، ويتحرى مواقعه وأهدافه، فكان نافع بن هلال البجلي يكتب اسمه على أفواق نبله ويرسلها فيقتل بها ويجرح، وقلما يخطئ مرماه. فأحاطوا به وضربوه على ذراعيه حتى كسرتا، ثم أسروه والدم يسيل من وجهه ويديه، فحسبوه يلين للوعيد ويجزع من التمثيل به، فأسمعهم ما يكرهون، وراح يستزيد غيظهم ويقول لهم: «لقد قتلت منكم اثني عشر رجلًا سوى من جرحت، ولو بقيت لي عضد وساعد لزدت.»

مصرع الحسين

واستهدف الحسين — رضي الله عنه — لأقواس القوم وسيوفهم، فجعل أنصاره يحمونه بأنفسهم، ولا يقاتلون إلا بين يديه. وكلما سقط منهم صريع، أسرع إلى مكانه من يخلفه؛ ليلقى حتفه على أثره.

فضاقت الفئة الكثيرة بالفئة القليلة، وسوَّل لهم الضيق بما يعانون من ثباتها أن يقوضوا الأخبية التي أوى إليها النساء والأطفال؛ ليحيطوا بالعسكر القليل من جميع جهاته. ثم أخذوا في إحراقها، وأصحاب الحسين يصدونهم ويدافعونهم، فرأى رضي الله عنه أن اشتغال أصحابه بمنعهم يصرفهم عن الاشتغال بقتالهم، فقال لهم: دعوهم يحرقونها؛ فإنهم إذا أحرقوها لا يستطيعون أن يجوزوا إليكم منها.

وظل على حضور ذهنه وثبات جأشه في تلك المحنة المتراكبة التي تعصف بالصبر وتطيش بالألباب، وهو جهد عظيم لا تحتويه طاقة اللحم والدم، ولا ينهض به إلا أولو العزم من أندر من يلد آدم وحواء. فإنه — رضي الله عنه — كان يقاسي جهد العطش والجوع والسهر ونزف الجراح ومتابعة القتال، ويلقي باله إلى حركات القوم ومكائدهم، ويدبر لرهطه ما يحبطون به تلك الحركات ويتقون به تلك المكائد، ثم هو يحمل بلاءه وبلاءهم، ويتكاثر عليه وقر الأسى لحظة بعد لحظة كلما فجع بشهيد من شهدائهم. ولا يزال كلما أصيب عزيز من أولئك الأعزاء حمله إلى جانب إخوانه وفيهم رمق ينازعهم وينازعونه، وينسون في حشرجة الصدور ما هم فيه؛ فيطلبون الماء، ويحز طلبهم في قلبه كلما أعياه الجواب، ويرجع إلى ذخيرة بأسه فيستمد من هذه الآلام الكاوية عزمًا يناهض به الموت ويعرض به عن الحياة، ويقول في أثر كل صريع: «لا خير في العيش من بعدك.» ويهدف صدره لكل ما يلقاه.

وإنه لفي هذا كله، وبعضه يهد الكواهل ويقصم الأصلاب، إذا بالرماح والسيوف تنوشه من كل جانب، وإذا بالقتل يتعدى الرجال المقاتلين إلى الأطفال والصبيان من عترته وآل بيته، وسقط كل من معه واحدًا بعد واحد فلم يبقَ حوله غير ثلاثة يناضلون دونه ويتلقون الضرب عنه، وهو يسبقهم ويأذن لمن شاء منهم أن ينجو بنفسه وقد دنت الخاتمة ووضح المصير.

وكان غلام من آل الحسين — هو عبد الله بن الحسن أخيه — ينظر من الأخبية، فرأى رجلًا يضرب عمه بالسيف ليصيبه حين أخطأ زميله، فهرول الغلام إلى عمه، وصاح في براءة بالرجل: يا ابن الخبيثة! أتقتل عمي؟

فتعمده الرجل بالسيف يريد قتله، فتلقى الغلام ضربته بيده فانقطعت وتعلقت بجلدها، فاعتنقه عمه، وجعل يواسيه وهو مشغول بدفاع من يليه.

ثم سقط الثلاثة الذين بقوا معه، فانفرد وحده بقتال تلك الزحوف المطبقة عليه، وكان يحمل على الذين عن يمينه فيتفرقون، ويشدُّ على الخيل راجلًا ويشق الصفوف وحيدًا، ويهابه القريبون فيبتعدون، ويهم المتقدمون بالإجهاز عليه ثم ينكصون؛ لأنهم تحرجوا من قتله، وأحب كل منهم أن يكفيه غيره مغبة وزره، فغضب شمر بن ذي الجوشن وأمر الرماة أن يرشقوه بالنبل من بعيد، وصاح بمن حوله: ويحكم! ماذا تنتظرون بالرجل؟ اقتلوه ثكلتكم أمهاتكم.

فاندفعوا إليه تحت عيني شمر مخافة من وشايته وعقابه، وضربه زرعة بن شريك التميمي على يده اليسرى فقطعها، وضربه غيره على عاتقه فخر على وجهه، ثم جعل يقوم ويكبو وهم يطعنونه بالرماح ويضربونه بالسيف حتى سكن حراكه، ووجدت به بعد موته — رضوان الله عليه — ثلاث وثلاثون طعنة وأربع وثلاثون ضربة غير إصابة النبل والسهام، وأحصاها بعضهم في ثيابه فإذا هي مائة وعشرون.

ونزل خولي بن يزيد الأصبحي ليحتز رأسه، فملكته رعدة في يديه وجسده، فنحاه شمر وهو يقول له: فت الله في عضدك!

واحتز الرأس وأبى إلا أن يسلمه إليه في رعدته؛ سخرية به وتماديًا في الشر، وتحديًا به لمن عسى أن ينعاه عليه! وقضى الله على هذا الخبيث الوضر أن يصف نفسه بفعله وصفًا لا يطرقه الشك والاتهام، فكان ضغنه هذا كله ضغنًا لا معنى له ولا باعث إليه إلا أنه من أولئك الذين يخزيهم اللؤم فيسليهم بعض السلوى أن يؤلموا به الكرام، ويجلعوه تحديًا مكشوفًا كأنه معرض للزهو والفخار، وهم يعلمون أنه لا يفخر به ولا يزهى! ولكنهم يبلغون به مأربهم إذا آلموا به من يحس فيهم الضعة والعار.

وبقيت ذروة من الحمية يرتفع إليها مرتفع.

وبقيت وهدة من الخسة ينحدر إليها منحدرون كثيرون.

فلم يكن في عسكر الحسين كله إلا رمق واحد من الحياة باقٍ في رجل طعين مثخن بالجراح، تركوه ولم يُجهِزوا عليه لظنهم أنه قد مات.

ذلك الرجل الكريم هو سويد بن أبي المطاع أصدق الأنصار وأنبل الأبطال.

فأبى الله لهذا الرمق الضعيف أن يفارق الدنيا بغير مكرمة يتم بها مكرمات يومه، وتشتمل عليها النفوس الكثيرات فإذا هي حسبها من شرف مجد وثناء.

•••

تنادى القوم بمصرع الحسين فبلغت صيحتهم مسمعه الذي أثقله النزع وأوشك أن يجهل ما يسمع. فلم يخطر له أن يسكن لينجو وقد ذهب الأمل وحمَّ الختام، ولم يخطر له أنه ضعيف منزوف يعجل به القوم قبل أن ينال من القوم أهون منال، ولم يحسب حساب شيء في تلك اللحظة العصيبة إلا أن يجاهد في القوم بما استطاع، بالغًا ما بلغ من ضعف هذا المستطاع.

فالتمس سيفه فإذا هم قد سلبوه، ونظر إلى شيء يجاهد به فلم تقع يده إلا على مدية صغيرة لا غناء بها مع السيوف والرماح، ولكنه قنع بها وغالب الوهن والموت، ثم وثب على قدميه من بين الموتى وثبة المستيئس الذي لا يفر من شيء ولا يبالي من يصيب وما يصاب. فتولاهم الذعر وشلت أيديهم التي كانت خليقة أن تمتد إليه، وانطلق هو يثخن فيهم قتلًا وجرحًا حتى أفاقوا له من ذعرهم ومن شغلهم بضجتهم وغيمتهم. فلم يقووا عليه حتى تعاون على قتله رجلان، فكان هذا حقًّا هو الكرم والمجد في عسكر الحسين إلى الرمق الأخير.

خسة ووحشية

وكان حقًّا لا مجازًا ما توخيناه حين قلنا إنهما طرفان متناقضان، وإنها حرب بين أشرف ما في الإنسان وأوضع ما في الإنسان.

فبينما كان الرجل في عسكر الحسين ينهض من بين الموتى ولا يضن بالرمق الأخير في سبيل إيمانه، إذا بالآخرين يقترفون أسوأ المآثم في رأيهم — قبل رأي غيرهم — من أجل غنيمة هينة لا تسمن ولا تغني من جوع. فلو كان كل ما في عسكر الحسين ذهبًا ودرًّا لما أغنى عنهم شيئًا وهم قرابة أربعة آلاف، ولكنهم ما استيقنوا بالعاقبة — قبل أن يُسلم الحسين نفسه الأخير — حتى كان همهم إلى الأسلاب يطلبونها حيث وجدوها، فأهرعوا إلى النساء من بيت رسول الله ينازعونهن الحلي والثياب التي على أجسادهن، لا يزعهم عن حرمات رسول الله وازع من دين أو مروءة، وانقلبوا إلى جثة الحسين يتخطفون ما عليها من كساء تخللته الطعون حتى أوشكوا أن يتركوها على الأرض عارية، لولا سراويل لبسها — رحمه الله — ممزقة، وتعمد تمزيقها ليتركوها على جسده ولا يسلبوها. ثم ندبوا عشرة من الفرسان يوطئون جثته الخيل كما أمرهم ابن زياد، فوطئوها مُقبِلِين ومدبرين حتى رَضُّوا صدره وظهره.

وقد يساق الغُنْمُ هنا معذرة للإثم بالغًا ما بلغ هذا من العظم، وبالغًا ما بلغ ذاك من التفاهة. لكنهم في الحقيقة قد ولعوا بالشر للشر من غير ما طمع في مغنم كبير أو صغير. فحرَّموا الري على الطفل الظامئ العليل، وأرسلوا إلى أحشائه السهام بديلًا من الماء، وقتلوا من لا غرض في قتله، وروَّعوا من لا مكرمة في ترويعه، فربما خرج الطفل من الأخبية ناظرًا وجلًا لا يفقه ما يجري حوله، فينقض عليه الفارس الرامح فوق فرسه، ويطعنه الطعنة القاضية بمرأى من الأم والأخت والعمة والقريبة، ولم تكن في الذي حدث من هذا القبيل مبالغة يزعمونها كما زعم أجراء الذمم بعد ذلك عن حوادث كربلاء وجرائر كربلاء. فقد قتل فعلًا في كربلاء كل كبير وصغير من سلالة عليٍّ رضي الله عنه، ولم ينجُ من ذكورهم غير الصبي علي زين العابدين، وفي ذلك يقول سراقة الباهلي:

عينُ جودى بعبرةٍ وعويلِ
واندبي ما ندبتِ آلَ الرسولِ
سبعة منهم لصُلبِ علي
قد أبيدوا وسبعة لعقيلِ

وما نجا علي زين العابدين إلا بأعجوبة من أعاجيب المقادير؛ لأنه كان مريضًا على حجور النساء يتوقعون له الموت هامة اليوم أو غد، فلما هَمَّ شمر بن ذي الجوشن بقتله، نهاه عمر بن سعد عنه إما حياء من قرابة الرحم أمام النساء — وقد كان له نسب يجتمع به في عبد مناف — وإما توقعًا لموته من السقم المضني الذي كان يعانيه؛ فنجا بهذه الأعجوبة في لحظة عابرة، وحفظ به نسل الحسين من بعده، ولولا ذلك لباد.

ثم قطعوا الرءوس ورفعوها أمامهم على الحراب، وتركوا الجثث ملقاة على الأرض لا يدفنونها ولا يصلون عليها كما صلوا على جثث قتلاهم، ومروا بالنساء حواسر من طريقها فولولن باكيات، وصاحت زينب رضي الله عنها: يا محمداه! هذا الحسين بالعراء، وبناتك سبايا، وذريتك مقتلة تسفى عليها الصبا.

فوجم القوم مبهوتين، وغلبت دموعهم قلوبهم؛ فبكى العدو كما بكى الصديق!

•••

لم تنقض في ذلك اليوم خمسون سنة على انتقال النبي محمد من هذه الدنيا إلى حظيرة الخلود، محمد الذي بر بدينهم ودنياهم فلم ينقل من الدنيا حتى نقلهم من الظلمة إلى النور، ومن حياة التيه في الصحراء إلى حياة عامرة يسودون بها أمم العالمين. ثم هذه خمسون سنة لم تنقض بعد، وإذا هم في موكب جهير يجوب الصحراء إلى مدينة بعد مدينة: سباياه بنات محمد حواسر على المطايا وأعلامه رءوس أبنائه على الحراب، وهم داخلون به دخول الظافرين!

وبقيت الجثث حيث نبذوها بالعراء «تسفي عليها الصبا».

فخرج لها مع الليل جماعة من بني أسد كانوا ينزلون بتلك الأنحاء، فلما أمنوا العيون بعد يوم أو يومين سروا مع القمراء إلى حيث طلعت بهم على منظر لا يطلع القمر على مثله — شرفًا ولا وحشة — في الآباد بعد الآباد.

وكان يوم المقتل في العاشر من المحرم، فكان القمر في تلك الليلة على وشك التمام، فحفروا القبور على ضوئه، وصلُّوا على الجثث ودفنوها، ثم غادروها هناك في ذمة التاريخ. فهي اليوم مزار يطيف به المسلمون متفقين ومختلفين، ومن حقه أن يطيف به كل إنسان؛ لأنه عنوان قائم لأقدس ما يشرف به هذا الحي الآدمي بين سائر الأحياء.

فما أظلت قبة السماء مكانًا لشهيد قط هو أشرف من تلك القباب بما حوته من معنى الشهادة وذكرى الشهداء.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤