الفصل الثامن

جريرة كربلاء

موطن الرأس

اتفقت الأقوال في مدفن جسد الحسين عليه السلام، وتعددت أيما تعددٍ في موطن الرأس الشريف.

فمنها: أن الرأس قد أعيد بعد فترة إلى كربلاء فدفن مع الجسد فيها.

ومنها: أنه أرسل إلى عمرو بن سعيد بن العاص والي يزيد على المدينة، فدفنه بالبقيع عند قبر أمه فاطمة الزهراء.

ومنها: أنه وُجِدَ بخزانة ليزيد بن معاوية بعد موته، فدُفِنَ بدمشق عند باب الفراديس.

ومنها: أنه كان قد طيف به في البلاد حتى وصل إلى عسقلان، فدفنه أميرها هناك، وبقي بها حتى استولى عليها الإفرنج في الحروب الصليبية؛ فبذل لهم الصالح طلائع وزير الفاطميين بمصر ثلاثين ألف درهم على أن ينقله إلى القاهرة حيث دفن بمشهده المشهور. قال الشعراني في طبقات الأولياء: «إن الوزير صالح طلائع بن رزيك خرج هو وعسكره حفاة إلى الصالحية، فتلقى الرأس الشريف، ووضعه في كيس من الحرير الأخضر على كرسي من الأبنوس، وفرش تحته المسك والعنبر والطيب، ودُفِنَ في المشهد الحسيني قريبًا من خان الخليلي في القبر المعرف.»

وقال السائح الهروي في الإشارات إلى أماكن الزيارات: «وبها — أي عسقلان — مشهد الحسين — رضي الله عنه — كان رأسه بها، فلما أخذتها الإفرنج نقله المسلمون إلى مدينة القاهرة سنة تسع وأربعين وخمسمائة.»

وفي رحلة ابن بطوطة أنه سافر إلى عسقلان «وبه المشهد الشهير حيث كان رأس الحسين بن عليٍّ عليه السلام، قبل أن ينقل إلى القاهرة».

وذكر سبط بن الجوزي فيما ذكر من الأقوال المتعددة أن الرأس بمسجد الرقة على الفرات، وأنه لما جيء به بين يدي يزيد بن معاوية قال: «لأبعثنَّه إلى آل أبي معيط عن رأس عثمان.» وكانوا بالرقة، فدفنوه في بعض دورهم، ثم دخلت تلك الدار بالمسجد الجامع، وهو إلى جانب سوره هناك.

فالأماكن التي ذكرت بهذا الصدد ستة في ست مدن، هي: المدينة، وكربلاء، والرقة، ودمشق، وعسقلان، والقاهرة. وهي تدخل في بلاد الحجاز والعراق والشام وبيت المقدس والديار المصرية، وتكاد تشتمل على مداخل العالم الإسلامي كله من وراء تلك الأقطار، فإن لم تكن هي الأماكن التي دُفِنَ فيها رأس الحسين فهي الأماكن التي تحيا بها ذكراه لا مراء.

وللتاريخ اختلافات كثيرة، نسميها بالاختلافات اللفظية أو العَرَضية؛ لأن نتيجتها الجوهرية سواء بين جميع الأقوال، ومنها الاختلاف على مدفن رأس الحسين عليه السلام. فأيًّا كان الموضع الذي دُفِنَ به ذلك الرأس الشريف، فهو في كل موضع أَهْلٌ للتعظيم والتشريف. وإنما أصبح الحسين — بكرامة الشهادة وكرامة البطولة وكرامة الأسرة النبوية — معنى يحضره الرجل في صدره وهو قريب أو بعيد من قبره. وإن هذا المعنى لفي القاهرة، وفي عسقلان، وفي دمشق، وفي الرقة، وفي كربلاء، وفي المدينة، وفي غير تلك الأماكن سواء.

وقاحة ابن زياد

ويقل الاختلاف أو يسهل التجاوز عنه كذلك فيما حدث بين فاجعة كربلاء ولقاء يزيد.

فالمتواتر الموافق لسير الأمور أنهم حملوا الرءوس والنساء إلى الكوفة، فأمر ابن زياد أن يُطاف بها في أحياء الكوفة ثم ترسل إلى يزيد.

وكانت فعلة يدارونها بالتوقُّح فيها على سُنَّةِ المأخوذ الذي لا يملك مداراة ما فعل. فبات خولي بن يزيد ليلته بالرأس في بيته، وهو يمني نفسه بغنى الدهر كما قال. فأقسمت امرأة له حضرمية: «لا يجمع رأسها ورأسه بيت وفيه رأس ابن رسول الله.»

ثم غدا إلى قصر ابن زياد، وكان عنده يزيد بن أرقم من أصحاب رسول الله، فرآه ينكث ثنايا الرأس حين وُضع أمامه في إجانة، فصاح به مغضبًا: ارفع قضيبك عن هاتين الثنيتين؛ فوالذي لا إله غيره، لقد رأيت شفتي رسول الله على هاتين الشفتين يقبِّلهما، وبكى.

فهزئ به ابن زياد، وقال له: لولا أنك شيخ قد خرفت وذهب عقلك، لضربت عنقك!

فخرج يزيد، وهو ينادي في الناس غير حافل بشيء: أنتم معشر العرب العبيد بعد اليوم، قتلتم ابن فاطمة وآثرتم ابن مرجانة، فهو يقتل شراركم ويستعبد خياركم.

وأُدخلت السيدة زينب بنت عليٍّ رضي الله عنها، وعليها أرذل ثيابها ومعها عيال الحسين وإماؤها، فجلست ناحية لا تتكلم ولا تنظر إلى ما أمامها. فسأل ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحية ومعها نساؤها؟

فلم تجبه، فأعاد سؤاله ثلاثًا وهي لا تجيبه، ثم أجابت عنها إحدى الإماء: هذه زينب بنت فاطمة بنت رسول الله .

فاجترأ ابن زياد قائلًا: الحمد لله الذي فضحكم وقتلكم وأبطل أحدوثتكم.

وقد كانت زينب — رضي الله عنها — حقًّا جديرة بنسبها الشريف في تلك الرحلة الفاجعة التي تهد عزائم الرجال، كانت كأشجع وأرفع ما تكون حفيدة محمد وبنت عليٍّ وأخت الحسين. وكُتِبَ لها أن تحفظ بشجاعتها وتضحيتها بقية العقب الحسيني من الذكور، ولولاها لانقرض من يوم كربلاء.

فلم تمهل ابن زياد أن ثارت به قائلة: الحمد لله الذي أكرمنا بنبيه وطهرنا من الرجس تطهيرًا، إنما يُفضح الفاسق ويُكذب الفاجر، وهو غيرنا والحمد لله.

فقال ابن زياد: قد شفى الله نفسي من طاغيتك والعصاة.

فغلبها الحزن والغيظ من هذا التشفي الذي لا ناصر لها منه، وقالت: لقت قتلت كهلي، وأبدت أهلي، وقطعت فرعي، واجتثثت أصلي، فإن يشفك هذا فقد اشتفيت.

فتهاتف ابن زياد ساخرًا وقال: هذه سَجَّاعة، لعمري لقد كان أبوها سَجَّاعًا شاعرًا.

فقالت زينب: إن لي عن السجاعة لشغلًا. ما للمرأة والسجاعة؟

علي زين العابدين

ثم نظر ابن زياد إلى غلام عليل هزيل مع السيدة زينب فسأله: من أنت؟

قال: عليُّ بن الحسين.

قال: أوَلم يَقتل اللهُ عليَّ بن الحسين؟

قال: كان لي أخ يسمى عليًّا قتله الناس.

فأعاد ابن زياد قوله: الله قتله.

فقال عليٌّ: الله يتوفى الأنفس حين موتها، وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله.

فأخذت زيادًا عزة الإثم وانتهره قائلًا: وبك جرأة لجوابي!

وصاح الخبيث الأثيم بجنده: اذهبوا به فاضربوا عنقه.

فجاشت بعمَّة الغلام قوة لا يردها سلطان، ولا يرهبها سلاح؛ لأنها قوة من هان لديه الموت وهانت عليه الحياة، فاعتنقت الغلام اعتناق من اعتزم ألا يفارقه إلا وهو جثة هامدة، وأقسمت لئن قتلته لتقتلني معه. فارتد ابن زياد مشدوهًا، وهو يقول متعجبًا: يا للرحم! إني لأظنها ودت أني قتلتها معه.

ثم قال: «دعوه لما به.» كأنه حسب أن العلة قاضية عليه.

وعليٌّ هذا هو زين العابدين جد كل منتسب إلى الحسين عليهما السلام، وكان كما قال ابن سعد في الطبقات: «ثقة كثير الحديث عاليًا رفيعًا ورعًا.» وكما قال يحيى بن سعيد: «أفضل هاشمي رأيته في المدينة.»

ولولا استماتة عمته كما ترى، لقد كادت تذهب بهذه البقية الباقية كلمة على شفتي ابن زياد!

الرأس عند يزيد

ولما قضى الخبيث نهمة كيده من الطواف برأس الحسين في الكوفة وأرباضها، أنفذه ورءوس أصحابه إلى دمشق مرفوعة على الرماح، ثم أرسل النساء والصبيان على الأقتاب، وفي الرَّكب عليٌّ زين العابدين مغلول إلى عنقه يقوده شمر بن ذي الجوشن ومحضر بن ثعلبة؛ فتلاحق الركبان في الطريق ودخلا الشام معًا إلى يزيد.

وتكرر منظر القصر بالكوفة في قصر دمشق عند يزيد، ولا نستغرب أن يتكرر بعضه حتى يظن أنه قد وقع في التاريخ خلط بين المنظرين؛ لأن المناسبة في هذا المقام تستوحي ضربًا واحدًا من التعقيب وضربًا واحدًا من الحوار.

فارتاع من بمجلس يزيد من نبأ المقتلة في كربلاء حين بلغتهم، وقال يحيى بن الحكم وهو من الأمويين:

لهام بجنب الطَّف أدنى قرابة
من ابن زياد العبد ذي الحسب الوغلِ
سمية أمسى نسلُها عدد الحصى
وبنتُ رسول الله ليست بذي نسلِ

فأسكته يزيد، وقال وهو يشير إلى الرأس وينكث ثناياه بقضيب في يده: أتدرون من أين أُتي هذا؟ إنه قال: «أبي عليٌّ خير من أبيه وأمي فاطمة خير من أمه، وجدي رسول الله خير من جده وأنا خير منه وأحق بهذا الأمر.» فأما أبوه فقد تحاج أبي وأبوه إلى الله وعلم الناس أيهما حُكِمَ له، وأما أمه فلعمري فاطمة بنت رسول الله خير من أمي، وأما جده فلعمري ما أحد يؤمن بالله واليوم الآخر يرى لرسول الله فينا عِدْلًا ولا ندًّا، ولكنه أُتِيَ من قبل فقهه ولم يقرأ: قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ [آل عمران: ٢٦].

وهو كلام ينسب مثله إلى معاوية في رده على حجج عليٍّ في الخلافة، ولعل يزيد قد استعاره من كلام أبيه وزاد عليه.

ونظر بعض أهل الشام إلى السيدة فاطمة بنت الحسين — وكانت جارية وضيئة — فقال ليزيد: «هب لي هذه.» فأرعدت وأخذت بثياب عمتها، فكان لعمتها في الذود عنها موقف كموقفها بقصر الكوفة؛ ذيادًا عن أخيها زين العابدين، وصاحت بالرجل: كذبت ولؤمت، ما ذلك لك ولا له.

فتغيظ يزيد وقال: «كذبتِ، إن ذلك لي، ولو شئت لفعلت.»

قالت: «كلا والله، ما جعل الله لك ذلك، إلا أن تخرج من ملتنا وتدين بغير ديننا.»

فاشتد غيظ يزيد وصاح بها: «إياي تستقبلين بهذا؟! إنما خرج من الدين أبوكِ وأخوكِ.»

قالت: «بدين الله ودين أبي وأخي وجدي اهتديتَ أنت وأبوكَ وجدك.»

فلم يجد جوابًا غير أن يقول: «بل كذبتِ يا عدوة الله.»

فقالت: «أنت أمير تشتم ظالمًا، وتقهر بسلطانك.»

فأطرق وسكت.

وأدخل عليُّ بن الحسين مغلولًا، فأمر يزيد بفك غله، وقال له: إيهِ يا ابن الحسين، أبوك قطع رحمي وجهل حقي ونازعني سلطاني، فصنع الله به ما رأيت.

قال عليٌّ: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا ۚ إِنَّ ذَٰلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ * لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ [الحديد: ٢٢، ٢٣]، فتلا يزيد الآية: وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ [الشورى: ٣٠] ثم زوى وجهه وترك خطابه.

وكان لقاء نساء يزيد خيرًا من لقائه؛ فواسين السيدة زينب والسيدة فاطمة ومن معهما، وجعلن يسألنهن عما سُلِبنه بكربلاء فيرددن إليهن مثله وزيادة عليه.

وأحب يزيد أن يستدرك بعض ما فاته، فلجأ إلى النعمان بن بشير واليه الذي عزله من الكوفة لرفقه بدعاة الحسين، وأمره أن يُسيِّر آل الحسين إلى المدينة، ويجهزهم بما يصلحهم. وقيل: إنه ودع زين العابدين، وقال له: «لعن الله ابن مرجانة، أما والله لو أني صاحب أبيك ما سألني خصلة أبدًا إلا أعطيته إياها، ولدفعت الحتف عنه بكل ما استطعت ولو بهلاك بعض ولدي، ولكن الله قضى ما رأيت يا بني! كاتِبْني من المدينة، وأنهِ إليَّ كل حاجة تكون لك.»

تبعة يزيد

والناس في تقدير التبعة التي تصيب يزيد من عمل ولاته مشارب وأهواء، يرجع كل منهم إلى مصدر من مصادر الرواية فيبني عليه حكمه.

فمنهم من يرى أنه بريء من التبعة كل البراءة، ومنهم من يرى أنه أقر فعلة ابن زياد ثم ندم عليها، ومنهم من يقول: إنه قد أمر بكل ما اقترفه ابن زياد، وتوقَّع حدوثه، ولم يمنعه وهو مستطيع أن يمنعه لو شاء.

والثابت الذي لا جدال فيه، أن يزيد لم يعاقب أحدًا من ولاته كبر أو صغر على شيء ممَّا اقترفوه في فاجعة كربلاء، وأن سياسته في دولته بعد ذلك كانت هي سياسة أولئك الولاة على وتيرة واحدة ممَّا حدث في كربلاء، فاستباحة المدينة — دار النبي — وتحكيم مسلم بن عقبة في رجالها ونسائها، ليست بعمل رجل ينكر سياسة كربلاء بفكره وقلبه، أو سياسة رجل تجري هذه الحوادث على نقيض تدبيره وشعوره، وما زال يزيد وأخلافه يأمرون الناس بلعن عليٍّ والحسين وآلهما على المنابر في أرجاء الدولة الإسلامية، ويستفتون من يفتيهم بإهدار دمهم وصواب عقابهم بما أصابهم، ومن تجب لعنته على المنابر بعد موته بسنين، فقتله جائز أو واجب في رأي لاعنيه.

ومن أفرط في سوء الظن، رجح عنده أن عبيد الله كان على إذن مستور بكل ما صنع، ويملي لهم في هذا الظن أن استئصال ذرية الحسين من الذكور خطة تهم يزيد لوراثة الملك في بيته وعقبه، ويفيده أن يقدم عليها مستترًا من وراء ولاته ثم ينصل منها ويلقي بتبعتها عليهم، ولو لم يكن ذلك لكان عجيبًا أن توكل حياة الحسين وأبنائه وآله إلى والي الكوفة بغير توجيه من سيده ومولاه؛ فقد كان الزمن الذي انقضى منذ خروج الحسين من مكة إلى نزوله بالطف على الفرات كافيًا لبلوغ الخبر إلى يزيد، ورجوع الرسل بالتوجيه الضروري في هذا الموقف لوالي الكوفة وغيره من الولاة، فإن لم يكن الأمر تدبيرًا متفقًا عليه فهو المساءة التي تلي ذلك التدبير في السوء والشناعة، وهي مساءة التهاون الذي لا تستقيم على مثله شئون دولة. وقد روى ابن شريح اليشكري أن عبيد الله صارحه بعد موت يزيد فقال: «أما قتلي الحسين فإنه أشار إليَّ يزيد بقتله أو قتلي فاخترت قتله.» وهو كلام متهم لا تقوم به حجة على غائب قضى نحبه.

ويبدو لنا أن الظن بتهاون يزيد هنا أقرب إلى الظن بإيعازه وتدبيره؛ لأنه جرى عليه طوال حكمه، وألقى حبل ولاته على غاربهم وهو لاهٍ بصيده وعبثه، وأنه ربما ارتاح في سريرته بادئ الأمر إلى فعلة ابن زياد وأعوانه، ولكنه ما عتم إن رأى بوادر العواقب توشك أن تطبق عليه بالوبال من كل جانب، حتى تيقظ من غفلته بعد فوات الوقت فعمد إلى المحاسنة والاستدراك جهد ما استطاع، ولم يكن في يقظته على هذا معتصمًا بالحكمة والسداد.

ولقد رأى البوادر منه غير بعيد، ولما تنقضِ ساعات على ذيوع الخبر في بيته قبل عاصمة ملكه، فنعى ابن الحكم فعلة ابن زياد، وناح نساؤه مشفقات من هول ما سمعن ورأين، وبكى ابنه الورع الصالح معاوية فكان يقول إذا سئل: «نبكي على بني أمية لا على الماضين من بني هاشم.»

ومهما تكن غفلة يزيد، فما أحد قط يلمح تلك البوادر، ثم يجهل أنها ضربة هوجاء لن تذهب بغير جريرة، ولن تهون جريرتها في الحاضر القريب ولا في الآتي البعيد.

والواقع أنها قد استتبعت بعدها جرائر شتى لا جريرة واحدة، وما تنقضي جرائرها إلى اليوم.

فلم تنقضِ سنتان حتى كانت المدينة في ثورة حَنَقٍ جارف يقتلع السدود ويخترق الحدود؛ لأنهم حملوا إليها خبر الحسين محمل التشهير والشماتة. وضحك واليهم عمرو بن سعيد حين سمع أصوات البكاء والصراخ من بيوت آل النبي، فكان يتمثل قول عمرو بن معديكرب:

عجت نساءُ بني زياد عجةً
كعجيج نسوتنا غداة الأرتبِ

وكانت بنت عقيل بن أبي طالب تخرج في نسائها حاسرة وتنشد:

ماذا تقولون إن قال النبي لكم:
ماذا فعلتم وأنتم آخر الأممِ
بعِترتي وبأهلي بعدَ مفتقدي
منهم أسارى ومنهم ضُرِّجوا بدمِ
ما كان هذا جزائي إذ نصحتُ لكم
أن تخلُفوني بسوءٍ في ذوي رحمي

فكان الأمويون يجيبون بمثل تلك الشماتة، يقولون كما قال عمرو بن سعد: «ناعية كناعية عثمان.»

ولا موضع للشماتة هنا بالحسين؛ لأنه قد أصيب على باب عثمان وهو يذود عنه، ويجتهد في سقيه وسقي آل بيته، ولكنا شماتة هوجاء لا تعقل ما تصنع ولا ما تقول.

ثورة المدينة

وللقدر المتاح لجَّت بالولاة الأمويين رغبتهم في تلفيق «المظاهرات الحجازية» فلم يرعوا ما بأهل المدينة من الحزن اللاعج والأسى الدفين. وجعلوا همهم كله أن يكرهوا القوم على نسيان خطب الحسين واصطناع الولاء المغتصب ليزيد. فحملوا إلى دمشق وفدًا من أشراف المدينة لم يلبثوا أن عادوا إليها منكرين لحكم يزيد مُجْمِعِينَ على خلع بيعته، وراحوا يقولون لأهل المدينة: «إنا قدمنا من عند رجل ليس له دين، يشرب الخمر، ويضرب بالطنابير، ويعزف عنده القيان، ويلعب بالكلاب، ويسمر عنده الخراب.»

وقال رئيسهم عبد الله بن حنظلة الأنصاري، وهو ثقة عند القوم لصلاحه وزهده: «لو لم أجد إلا بَنِيَّ هؤلاء — وكان له ثمانية بنين — لجاهدت بهم. وقد أعطاني وما قبلت عطاءه إلا لأتقوى به.»

والتهبت نار الثورة بالألم المكظوم والدعوة الموصولة، فأخرج المدنيون والي يزيد وجميع من بالمدينة من الأمويين ومواليهم وأعلنوا خلعهم للبيعة.

وصدق ابن حنظلة النية، فكان يقدم بنيه واحدًا بعد واحد حتى قُتِلُوا جميعًا، وقتل بعدهم أنفة من حياة يسام فيها الطاعة ليزيد وولاته.

وبدا في ثورة المدينة أن يزيد لم يستفِد كثيرًا ولا قليلًا من عبرة كربلاء؛ لأنه سلط على أهلها رجلًا لا يقل في لؤمه وغله وسوء دخلته، وولعه بالشر والتعذيب، وعبثه بالتقتيل والتمثيل، عن عبيد الله بن زياد، وهو مسلم بن عقبة المري. فأمره أن يسوم الثائرين البيعة بشرطه، وأن يستبيح مدينتهم ثلاثة أيام إن لم يبادروا إلى طاعته، وكان شرطه الذي سامهم إياه بعد اقتحام المدينة وانقضاء الأيام الثلاثة التي انتظر فيها طاعتهم «أنهم يبايعون أمير المؤمنين على أنهم خول له يحكم في دمائهم وأموالهم ما شاء».

وإذا كان شيء أثقل على النفوس من هذا الشرط، وأقبح في الظلم من استباحة الأرواح والأعراض في جوار قبر النبي ؛ فذاك هو ولاية هذا النكال بيد مجرم مفطور على الغل والضغينة مثل مسلم بن عقبة، كأنه يلقي على الناس وزر مرض النفس ومرض الجسد ومرض الدم الذي أبلاه، ولم يبل ما في طويته من رجس ومكيدة. «فاستعرض أهل المدينة بالسيف جزرًا كما يجزر القصاب الغنم، حتى ساخت الأقدام في الدم وقتل أبناء المهاجرين والأنصار».

وأوقع كما قال ابن كثير: «من المفاسد العظيمة في المدينة النبوية ما لا يُحَدُّ ولا يوصف» ولم يكفه أن يسفك الدماء ويهتك الأعراض حتى يلتذ بإثارة الآمال والمخاوف في نفوس صرعاه قبل عرضهم على السيف، فلما جاءوه بمعقل بن سنان صاحب رسول الله هَشَّ له وتلقاه بما يُطمعه، ثم سأله: «أعطشت يا معقل؟ حوصوا له شربة من سويق اللوز الذي زودَنا به أمير المؤمنين.» فلما شربها قال له: «أما واللهِ لا تبولها من مثانتك أبدًا.» وأمر بضرب عنقه.

ويروي ابن قتيبة أن عدد مَنْ قُتل من الأنصار والمهاجرين والوجوه ألف وسبعمائة، وسائرهم من الناس عشرة آلاف سوى النساء والصبيان.

وحادث واحد من حوادث التمثيل والاستباحة يدل على سائر الحوادث من أمثاله، دخل رجل من جند مسلم بن عقبة على امرأة نُفَسَاء من نساء الأنصار ومعها صبي لها. فقال: «هل من مال؟»

قالت: «لا، واللهِ ما تركوا لنا شيئًا.»

قال: «والله لتُخرِجِنَّ إليَّ شيئًا أو لأقتلنك وصبيك هذا.»

فقالت له: «ويحك! إنه ولد ابن أبي كبشة الأنصاري صاحب رسول الله.» فأخذ برجل الصبي والثدي في فمه، فجذبه من حجرها فضرب به الحائط فانتثر دماغه على الأرض.

وهو مثل من أمثال قد تكررت بعدد تلك البيوت التي قتل فيها أولئك الألوف من النسوة والأطفال والآباء والأمهات.

وقد مات هذا السفاح وهو في طريقه إلى مكة يهم بأن يعيد بها ما بدأ بالمدينة، فدفن في الطريق، وتعقبه بعض الموتورين من أهل المدينة فنشبوا قبره وأحرقوه.

جريرة العدل

ولم تنقضِ سنوات أربع على يوم كربلاء حتى كان يزيد قد قضى نحبه، ونجمت بالكوفة جريرة العدل التي حاقت بكل من مَدَّ يدًا إلى الحسين وذويه.

فسلط الله على قاتلي الحسين كفؤًا لهم في النقمة والنكال يفل حديدهم بحديده ويكيل لهم بالكيل الذي يعرفونه، وهو المختار بن أبي عبيد الثقفي داعية التوَّابين من طلاب ثأر الحسين. فأهاب بأهل الكوفة أن يُكفِّروا عن تقصيرهم في نصرته، وأن يتعاهدوا على الأخذ بثأره فلا يبقين من قاتليه أحد ينعم بالحياة، وهو دفين مذال القبر في العراء.

فلم ينج عبيد الله بن زياد، ولا عمر بن سعد، ولا شمر بن ذي الجوشن، ولا الحصين بن نمير، ولا خولي بن يزيد، ولا أحد ممن أحصيت عليهم ضربة أو كلمة أو مدوا أيديهم بالسلب والمهانة إلى الموتى أو الأحياء.

وبالغ في النقمة فقتل وأحرق ومزَّق وهدم وتعقب الهاربين، وجوزي كل قاتل أو ضارب أو ناهب بكفاء عمله، فقُتل عبيد الله وأُحرِق، وقتل شمر بن ذي الجوشن وألقيت أشلاؤه للكلاب، ومات مئات من رؤسائهم بهذه المثلات وألوف من جندهم وأتباعهم مغرقين في النهر أو مطاردين إلى حيث لا وزر لهم ولا شفاعة. فكان بلاؤهم بالمختار عدلًا لا رحمة فيه، وما نحسب قسوة بالآثمين سلمت من اللوم أو بلغت من العذر ما بلغته قسوة المختار.

ولحقت الجريرة الثالثة بأعقاب الجريرة الثانية في مدى سنوات معدودات.

فصمد الحجاز في ثورته أو في تنكُّره لبني أمية إلى أيام عبد الملك بن مروان، وكان أحرج الفريقين من سيق إلى أحرج العملين. وأحرج العملين ذاك الذي دفع إليه — أو اندفع إليه — الحجاج عامل عبد الملك، فنصب المنجنيق على جبال مكة، ورمى الكعبة بالحجارة والنيران، فهدمها وعفى على ما تركه منها جنود يزيد بن معاوية؛ فقد كان قائده الذي خلف مسلم بن عقبة وذهب لحصار مكة أول من نصب لها المنجنيق، وتصدى لها بالهدم والإحراق.

وما زالت الجرائر تتلاحق حتى تقوض من وطأتها ملك بني أمية، وخرج لهم السفاح الأكبر وأعوانه في دولة بني عباس، فعموا بنقمتهم الأحياء والموتى، وهدموا الدور، ونبشوا القبور، وذكر المنكوبون بالرحمة فتكات المختار بن أبي عبيد، وتجاوز الثأر كل مدى خطر على بال هاشم وأمية يوم مصرع الحسين.

لقد كانت ضربة كربلاء، وضبة المدينة، وضربة البيت الحرام، أقوى ضربات أمية؛ لتمكين سلطانهم، وتثبيت بنيانهم، وتغليب ملكهم على المنكرين والمنازعين؛ فلم ينتصر عليهم المنكرون والمنازعون بشيء كما انتصروا عليهم بضربات أيديهم، ولم يذهبوا بها ضاربين حقبة حتى ذهبوا بها مضروبين إلى آخر الزمان.

وتلك جريرة يوم واحد هو يوم كربلاء، فإذا بالدولة العريضة تذهب في عمر رجل واحد مديد الأيام، وإذا بالغالب في يوم كربلاء أخسر من المغلوب إذا وضعت الأعمال المنزوعة في الكِفتين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤