مقدمة

كانت رواية إيفانهو (الصادرة عام ١٨٢٠) إحدى روايات «وافيرلي» الأخيرة. كان مؤلِّفها السير والتر سكوت، الذي وُلِد في مدينة إدنبرة عام ١٧٧١ ودرس ليُصبح مُحاميًا، قد كرَّس بمرور الوقت الجزءَ الأكبر من حياته للأدب، وكان أول نجاح كبير له في النثر هو رواية باسم «وافيرلي»، أو «ستون عامًا مضت» (أي ستون عامًا منذ عام ١٨٠٥، حيث كُتبت بالفعل أول بضعة فصول من الكتاب). كان من المفترَض أن تقع أحداث القصة في أثناء تمرُّد عام ١٧٤٥، ومن بين جميع الكتب الثلاثين التي تلَت وافيرلي فإن وحدًا وعشرين كتابًا منها تستند إلى وقائعَ تاريخية. كثيرًا ما يُقال إن سكوت «ابتكر الرواية التاريخية»، وربما أفضل الطرق لفهم المقصود من هذا هو: أولًا النظر في بعض الأسباب التي قادت إلى هذا النوع من الكتابة بالتحديد، وثانيًا دراسة رواية إيفانهو نفسها، وفهم العناصر التي تتألَّف منها.

  • (١)

    إن في الأدب صيحاتٍ كما في المَلبس، والمعمار، والأطعمة، وغيرها؛ إذ يملُّ الناس من قراءة نوع واحد من الحكايات أو القصائد، أو الاستماع لنوعٍ واحد منها، وكذلك يملُّ الكُتاب أنفسهم من تقليد بعضهم بعضًا، ويستحضرون في أذهانهم بعضَ الأمور الجديدة ليحكوا عنها. كتب قُدامى الروائيين الإنجليز، أمثال فيلدنج وريتشاردسون، قصصًا عن أشخاصٍ عاشوا في زمانهم، وجعلوا حياتهم أقربَ ما يُمكن إلى «الحياة الواقعية»، ولكن بعد ذلك بوقتٍ ليس بالطويل نمَت ذائقةٌ للقصص الأكثر إثارةً (الحالمة)، التي تحوي أحداثًا غير طبيعية أو غير مُعتادة أو حتى غير ممكِنة الحدوث. وفي الوقت نفسه ظهر عدةُ مؤرِّخين، أمثال هيوم (تاريخ إنجلترا، ١٧٥٤–١٧٦٢)، وروبرتسون (تاريخ اسكتلندا، ١٧٥٩، إلخ)، وجيبون (تاريخ ضعف وسقوط الإمبراطورية الرومانية، ١٧٧٦–١٧٨٨)، وتيرنر (تاريخ الأنجلوساكسونيين، ١٧٩٩–١٨٠٥)، الذين تمكَّنوا بأساليبهم وطرقهم المُمتازة من إثارة اهتمام واسع بالتاريخ وزيادة المعرفة العامة به. كما أدَّت ظروفٌ أخرى إلى استرعاء الانتباه، ليس فقط إلى الأحداث التاريخية كالمعارك والمجالس النيابية وحياة الملوك، ولكن أيضًا لكل ما فات من الحياة السابقة للأمم؛ ملابسهم، ودروعهم، ومنازلهم، وأثاثهم. باختصار، نشأ اهتمامٌ بكل شيء يشمله مصطلحُ علم الآثار القديمة، أو ما كان يُسمَّى قديمًا بالعصور القديمة.

    وعلى نحوٍ مُماثلٍ انصبَّ اهتمامٌ كبير على القصائد القصصية الإنجليزية والاسكتلندية القديمة، التي تروي قصصًا من التاريخ الأسطوري بأبطاله من أمثال: روبين هود، ووالاس، وريتشارد قلب الأسد. كان سكوت نفسه جامعًا كبيرًا للقصائد القصصية، وكذلك لقصص العصور القديمة، ومن بين كتاباته الأولى كانت المقدمات والحواشي التي ساهمت في تأليف الأشعار الشعبية للحدود الاسكتلندية (١٨٠٢)، التي تتكون من كتابَين من القصائد من النوع الذي كان يُغنِّيه قديمًا الشعراءُ أو المغنُّون المتجوِّلون. كان أبواه وجدَّاه قد شهدوا وقائعَ مشوِّقة (حالمة) من التاريخ الفعلي، كثورتَي ١٧١٥ و١٧٤٥، حيث سعى كلٌّ من المطالِب بالعرش جيمس بن جيمس الثاني و«الأمير تشارلي» على التوالي لإنجاح مزاعمهما باستحقاق التاج الإنجليزي. وكان لدى أمه الكثيرُ من الحكايات والأساطير حول هذه الأحداث، وكذلك حول المعارك والمغامرات الجامحة بين الاسكتلنديين على الحدود وفي المرتفعات في سابق عصرهم. كما كان له اطلاعٌ واسع باللغات الأخرى إلى جانب لغته الأم، ولا سيَّما الألمانية والإيطالية، اللتان لهما شأن في التاريخ العريق والحكايات الخيالية. وهكذا عاشت أفكاره في الحاضر إلى حدٍّ كبير كما في الماضي، وبالسير في شوارع إدنبرة، كان يرى بعينَي خياله الشخصياتِ التاريخيةَ العظيمة؛ الملكة ماري، أو دندي، أو مونتروز، حسبما تقتضي الحال، وذلك عندما تقع عيناه على أحد آثار العصور القديمة كبعض النقوش الحجرية القديمة، أو زقاق ضيق قديم. كتب كذلك قصصًا شعرية، مثل أنشودة الشادي الأخير (١٨٠٥)، وامرأة البحيرة، ومارميون، حيث مزج بين شخصيات حقيقية وخيالية؛ وهكذا نال شهرتَه بوصفه شاعرًا. صدرت رواية وافيرلي (١٨١٤) باسمٍ مجهول، وكان نجاحها فوريًّا ودائمًا لدرجة جعلَت مؤلِّفها يقضي بعدها الجزء الأكبر من حياته في كتابة روايات مُماثلة.

    أشهر تلك الروايات هي الوفيات القديمة (١٨١٦)، وبوب روي، وقلب ميدلوثيان (١٨١٨)، وكانت كلها تدور في بعض فترات التاريخ الاسكتلندي، وكينيلورث (١٨٢١) التي لعبت فيها الملكة إليزابيث أحد الأدوار الرئيسة، وحظوظ نايجل (١٨٢٢) التي وقعَت أحداثها في عهد جيمس الأول، وكوينتن دوروارد (١٨٢٣)، وهي قصة عن رامي سهام اسكتلندي كان في خدمة لويس الحادي عشر ملك فرنسا. وتُعَد رواية إيفانهو نفسها أُولى «روايات وافيرلي» التي تتناول التاريخ الإنجليزي، وليس التاريخ الاسكتلندي.

  • (٢)

    لا تستند رواية «إيفانهو» إلى أي أحداث تاريخية كما في رواية الطلسم، على سبيل المثال، التي تستند إلى الحملة الصليبية الثالثة، وإنما تُحاكي في فصولها الكتبَ التاريخية القديمة، التي كانت تحمل عناوين مثل «أحوال العباد» أو «العادات والتقاليد»، حتى إن الكاتب نفسه أطلق عليها اسم «حكاية فروسية»، و«الاختلاف بين النورمانديين والساكسونيين»، وهو الموضوع الرئيس — من الناحية التاريخية — للقصة؛ ما يُشير إلى حالة الأمور التي كانت في فترةٍ تاريخيةٍ غير محدَّدة، وليس إلى أحداث عام معيَّن. ومع ذلك فتاريخها محدَّد بحدثٍ واحدٍ معيَّن، وهو عودة الملك ريتشارد إلى إنجلترا بعد سجنه في عام ١١٩٤. لكن ظروف تلك العودة، كما وصفها سكوت، بعيدةٌ كل البعد عما حدث في الواقع. والحقائق التاريخية، حتى ذلك التاريخ، كما هي واردة في الرواية، هي كالآتي:

    في عام ١١٩٢، تلقَّى فيليب ملك فرنسا من جون وأرسل له معلومات عن أَسْر الملك ريتشارد على يد أرشيدوق النمسا، وذلك خلال عودته من الحملة الصليبية. وكان الأمير جون، في غياب الملك ريتشارد، قد أسقط سُلطة الوصي على العرش، المكروه من العامة، ويليام لونجشامب أسقف مدينة إيلي، واستولى على القلاع الملكية في تيكهل ونوتينجهام. وهُرِع إلى فرنسا لدى سماعه بسجن أخيه، حيث عقد اتفاقياتٍ سريةً مع الملك فيليب للتعاضد في مواجهة عدوهما المشترك ريتشارد، ثم عندما عاد إلى إنجلترا نشر بالخارج أخبارًا عن وفاة ريتشارد، وعندما رفض قضاةُ المحكمة العليا (مسئولون كانوا يحفظون النظام إلى جانب الوصي على العرش) الاعترافَ به ملكًا، لجأ إلى حمل السلاح. وقعت مناوشات، وجرَت خسارة قلاع والظفرُ بقلاعٍ أخرى ما بين الطرفَين، وأخذت إلينور، الملكة الأم، الصف المُعارض لجون، وعملت على جمع فدية ريتشارد المتفَق عليها برضًا ملحوظ من معظم رعاياه. وفي يوليو ١١٩٣، أرسل فيليب الرسالة المذكورة في الفصل الحادي عشر، التي كانت تعني أن شروط إطلاق سراح ريتشارد قد قُبِلت أخيرًا. وعلى إثر ذلك رجع جون إلى فرنسا، وتابَع مكائده مع فيليب. أما ريتشارد فقد أُطلقَ سراحه في فبراير ١١٩٤، ووصل إنجلترا في مارس من نفس العام، ثم عبَر بعد ذلك إلى نورماندي، حيث قابَل أخيرًا أخاه المتمرِّد وعفا عنه، قائلًا إنه لم يكن سوى «طفل» طائش، وكان جون حينئذٍ في السادسة والعشرين من عمره.

يا له من تسلسل للأحداث! يُوصَف مجتمع تلك الفترة بأنه (أ) في حالة اضطراب مدني، (ب) وواقع تحت تأثير أفكار الفروسية وعاداتها، (ﺟ) وتابع للثروة، ولكنه يميل إلى اضطهاد اليهود.

  • (أ)

    كانت حالة الحرب الأهلية (أي النزاعات المشتملة على القتال وإراقة الدماء بين الفصائل الصغيرة للمجتمع) سمةً مُميزة بالطبع لجميع الدول الأوروبية في هذا الوقت. وكان الوضع في إنجلترا مُتفاقمًا بفعل الغزو النورماندي الحديث العهد نسبيًّا، وما تبعه من تغييرات في المِلكية. وعلى الرغم من أن الساكسونيين لم يُجرَّدوا من ملكية أراضيهم (سيدريك وأثيلستان، على سبيل المثال، ممثلان كغير مستهدفَين في هذا الصدد)، فقد كانوا مُستائين لكَوْنهم حزبَ الأقلية والهزيمة، وعانَوا من احتقار النورمانديين الأكثر رُقيًّا بسبب عاداتهم وثقافتهم الأدنى. كما أن صعوبات التواصل، وحالة الجموح غير المهذَّب التي سادت في جزءٍ كبير من البلد، أتاحت ظهور قُطاع الطُّرق واللصوص المنظَّمين. كما أدَّت قوانينُ الغابة الصارمة التي أصدرها الملكان وليم الأول والثاني إلى ارتكاب النفوس الجريئة للجرائم؛ ما أدَّى إلى حالة من الخروج عن القانون. وكان الخارجون عن القانون (الأشخاص الذين لا تشملهم حماية القانون؛ ومن ثَم يُمكن لأي أحد إهانتُهم أو مهاجمتهم دون الخوف من عقابٍ قانوني) يحمون أنفسهم بتكوين العصابات تحت قيادة رجال أمثال لوكسلي، ويعيشون على الصيد من الغابات، وعلى أسر المسافرين الأغنياء وطلب فدية عنهم. وكانت السلطة السائدة تَمنح العِزب أو البارونيات، كتلك التي مُنحت لإيفانهو، للمقرَّبين من الملك، بغضِّ النظر عن المطالبات السابقة؛ ومن ثَم نشأت النزاعات، ووقعت المناوشات ووقائع فرض الحصار مثلما حدث لقلعة توركويلستون. وفي ظل حكم ملك قوي، مثل حكم الملك هنري الثاني (١١٠٠–١١٥٤)، عُولجت حالة الفوضى هذه، ولكن حكم الضعف أو غياب السيادة أدَّى إلى تدهور حال البلاد مرةً أخرى لترجع إلى حالة غياب القانون التي كانت عليها من قبل، ومن وقتٍ لآخر ساد الوضع نفسه حتى نهاية القرن الخامس عشر، وكان يتخلَّله فترات من التحسن.

  • (ب)

    هذا التأسيس لحالة الشهامة، أو الفروسية، بعاداتها، ينتمي أيضًا إلى فترةٍ مطوَّلة (تقريبًا من القرن الحادي عشر إلى القرن الرابع عشر). كان بإمكان كل جندي شجاع أن يُصبح فارسًا جزاءً لعملٍ بطولي يقوم به، ولكن شباب العائلات العريقة كانوا يحملون لقب الفارس في جميع الأحوال عندما يصِلون إلى سنٍّ مناسبة، وكانوا يجتازون تدريبًا مسبقًا كوُصفاء أو خدم لسيدات العائلات، وكحاملي دروع «إسكواير» أو مُرافقين شخصيين للفُرسان. وكانت الأجزاء المميزة لملابس الفُرسان هي الحزام الذي كان يُعلَّق فيه السيف والمِهماز؛ لأنهم كانوا دومًا يُقاتلون على ظهور الجياد. كما كانوا كثيرًا ما يرتدون سلسلةً حول العنق، كعلامةٍ مُميزة لطائفة الفُرسان التي ينتمون إليها؛ لذلك كان ارتداء سلسلة ومهماز يعني كَوْن الشخص فارسًا. وكان كل الفُرسان يُعتبَرون نُبلاء ومُتساويين. فإذا أهان فارسٌ فارسًا آخر يرمي الفارس المُهان قفازه الواقي أو قفازه المدرع في إشارة لتحدٍّ أو عرض للقتال، ثم يلتقط الآخر القفاز ويحتفظ به، ويُعطي قفازه للآخر كرمز أو تعهُّد بقبول التحدي. كما كان يُسمَح في بعض الأحيان للشخص المتهَم بالطعن في محاكمة بالمبارزة لإثبات براءته، وكان يُفترَض أن المنتصِر في المبارزة قد أثبت بذلك عدالة قضيته؛ إذ جرى الاعتقاد بأن الرب يُعطي النصر للشخص المُحِق، أو للمُحارب الذي يُقاتل نيابةً عنه. وكان المكان الذي تُعقَد فيه تلك المبارزات يُحاط بحواجز تُسمَّى بالحَلبات، وإذا تقاتَل عدة فُرسان أو أزواج من الفُرسان كانوا يُشكِّلون عراكًا أو احتشادًا، وكانت المعركة نفسها تُسمَّى بمباراة الفروسية أو الدورة. كانت طريقة القتال المُعتادة في المباريات هي المطاعنة، أو امتطاء الجواد والعَدْو به في اتجاه الخَصم برمح أو حَربةٍ طويلة، كانت تُمسَك أفقيًّا (مبسوطة أو في حالة سكون)، أي مُنخفضة ومُستقيمة، وفي استعداد للضرب. كان الهدف هو إيقاع الخَصم من على جواده (وفي أثناء ذلك يُكسَر رمحه عادةً)، وبعدئذٍ قد يتعرض للهجوم وقوفًا بالسيف. وكان اسم المكان الذي تُعقَد فيه المباريات يُسمَّى عادةً بساحة المطاعنة، وكانت قِطع من الأراضي تُخصَّص لساحات المطاعنة، كما يحدث في يومنا هذا في ملاعب الكريكيت. وقد انتشرت المباريات في حوالَي منتصف القرن الحادي عشر، وكانت للناس في ذلك العصر وسيلة للترفيه كالألعاب الرياضية أو مباريات الكريكيت في عصرنا الحالي. يروي أحد المؤرخين، وليام أوف نيوبورج، بتاريخ ١١٩٤، عن وسائل الترفيه هذه باعتبارها إحدى بِدع العصر، ويصف الإثارة التي تتسبَّب فيها بين العامة. وقد حرَّمها هنري الثاني، لكن ريتشارد الأول شجَّعها وأشرف عليها؛ وكان ذلك، من ناحية، بلا شك، بُغيةَ الأموال التي كان يأخذها من المُتنافسين. وكانت درجة الخطر أو القتال العنيف تتفاوت تبعًا للوائح المنظِّمة لكل مناسبة، غير أنهم كانوا دائمًا يختارون سيدةً جميلة «ملكة الحب والجمال»، التي كان حضورها يرمز إلى أنه من واجب الفارس أن يُقاتل نيابةً عن جميع النساء (والقساوسة والضعفاء)، وكانت تُعطي الجوائز للفُرسان المُنتصرين في نهاية المنافسة. وقد غنَّى الشعراء عن أحوال الفُرسان والسيدات على القيثارة، وكان هؤلاء الشعراء يُعرَفون بالتروبادوريين في فرنسا، وبالشُّداة في إنجلترا. كان الفُرسان في هذه الفترة يرتدون دروعًا مُزرَّدة مصنوعةً من عُقَد أو حلقات من الحديد، وكانوا يضعون فوق رءوسهم خوذات من الفولاذ أو الحديد، وكان الجزء الذي يُغطي الوجه فيها يُسمَّى قناعًا واقيًا، وكان يُصنَع من القضبان التي تتخلَّلها مسافات للتنفس أو تُثقَب فيه فتحات، ويُمكن رفعه وإنزاله على الوجه؛ أما الجزء الأسفل أو الجزء المُواجه للفم في القناع، فقد كان يُسمَّى بالقِبال.

  • (جـ)

    كانت الشعوب المسيحية في هذه الفترة تُعامل اليهود بكراهيةٍ شديدة؛ ففي معظم البُلدان لم يكن يُسمَح لهم بامتلاك الأراضي أو أن يُصبحوا مُزارعين أو صُناعًا؛ ومن ثَم كانوا يُجبَرون على العيش على التجارة، وشراء صناعات الغير وبيعها، وإن أصبحوا أغنياء بهذه الطريقة فكثيرًا ما كانوا يُقرِضون المال للمُحتاجين مقابلَ نسبةٍ كبيرة من الربا أو الفائدة، التي كان يُطلَق عليها في بعض الأحيان أموال انتفاع، والتي كانت تُدفَع بالإضافة إلى المبلغ الأصلي المُقترَض مقابل الانتفاع به. حرَّمت الكنيسة الربا على المسيحيين، وكان ابتزاز اليهود للمسيحيين بها سببًا آخر للكراهية التي كان يشعر بها المسيحيون تجاههم. وقد طُردوا من إنجلترا على يد كنوت (١٠١٦–‏١٠٣٥)، ولجَئوا إلى نورماندي. عاد عددٌ منهم تحت حماية وليام الفاتح، وسُمِح لهم بالبقاء حتى الطرد الثاني في ١٢٩٠ على يد إدوارد الأول. في هذه الفترة، كانت تحكمهم قوانينُ خاصة في كل مناحي الحياة. كانوا يُعَدون عبيدًا أو أملاكًا للملك الذي حماهم من سرقة الآخرين لهم حتى يتمكَّن من سرقتهم هو نفسه بحريةٍ أكثر؛ ومن ثَم كانوا معفيِّين من الضرائب الاعتيادية، ولكن كان ثَمة فرعٌ خاص في محكمة بيت المال، يُسمَّى ببيت مال اليهود، الذي فرض عليهم الضرائب والغرامات، وكانوا يُحاكَمون في مَحاكمَ خاصة عن الجرائم والمخالفات الأخرى، كما خُصِّصت لهم أحياء معيَّنة معزولة، كان يُطلَق عليها أحياء اليهود، وكانت في مدنٍ معيَّنة مثل لندن ويورك ولينكولن وليستر، وكانت محاطة ببواباتٍ كان لزامًا عليهم أن يظلوا بداخلها بعدما يحلُّ الليل. بقيت آثار أحياء اليهود في أسماء الشوارع والمنازل القديمة، التي كان يُطلَق عليها منازل اليهود، والتي كانت تُبْنى من الحجارة وليس من الخشب، وهو ما يشهد على تفوُّق مُلاكها في الثروة. كان اليهود، مثل فُرسان الهيكل الأثرياء، يُتَّهمون بجرائمَ مقيتة، كممارسة السحر وما إلى ذلك، وكانوا يُعذَّبون عادةً (على يد الملك جون وغيره) لإرغامهم على الكشف عن ثرواتهم وتسليمها. وفي حفل تتويج ريتشارد الأول، ذُبِح عددٌ من اليهود، الذين غامَروا بالظهور بين الحشود، وسط هُياج مُفاجئ من الجماهير؛ فقد جعلَتهم ملابسهم المُميزة، التي ارتدَوها في هذا اليوم باختيارهم وليس بالإكراه، هدفًا للهجوم. وكان اليهود في تعبيرهم عن كراهيتهم للمسيحيين يُسمونهم بأسماء القبائل والأمم التي كانت عدوَّة لهم في الماضي، مثل الفلسطينيين والإدوميين وغيرهم، ومن أسماء الازدراء الأخرى للمسيحيين كان اسم الإسماعيليين؛ أي المنحدِرين من سلالة إسماعيل بن إبراهيم وهاجَر؛ ومن ثَم ليسوا باليهود الأصليين، الذين كان بإمكانهم دائمًا الادعاءُ بانحدارهم من نسلِ ابن إبراهيم الآخَر؛ يعقوب.

أحوال الناس هذه: (١) الخصومة بين النورمان والساكسونيين، (٢) والخارجون عن القانون والبارونات، (٣) والمخاطر التي تُواجه النساءَ والقساوسة واليهود وجميع غير المُحاربين بوجهٍ عام في المجتمع، كلها تُقدمها لنا قصة إيفانهو بوضوح. كما يُعطينا العدد الكبير لشخصيات الحكاية والتعاقب السريع للأحداث أثر البانوراما، أو سلسلة من الصور المتحركة.

يحتوي النصُّ التالي على جزءٍ مختار من أكثر المشاهد البارزة، والذي يُشكِّل نحو ثُلث الرواية الأصلية، التي هي إحدى أطول روايات «وافيرلي»، ولكن حتى قُراء هذه النسخة الموجَزة لن يجدوا صعوبة في تكوين فكرة واضحة عن مباراة آشبي، وحصار توركويلستون، ومحاكمة ريبيكا وغيرها من الوقائع؛ فالعرض الملخَّص للأجزاء المحذوفة من القصة المقدَّم في الهوامش سيُمكِّن القُراء من مَلْء فراغات الحبكة، وآمُل أن تجعلهم يرجعون بعد ذلك إلى النسخة الكاملة لمزيدٍ من المعلومات حول الفارس الأسود، وأولريكا، ووامبا، وجيرث، وسيدريك، والشخصيات الأخرى.

سيُلاحظ القارئ أن (أ) عددًا من الأحداث يقع في الهواء الطلق، وأن (ب) بعض المواقع موصوفة بكثير من التفصيل؛ إذ إن قدرة سكوت على التصوير، ومن ثَم وصف الأماكن، هي إحدى مواهبه الأكثر إدهاشًا. لم يكن المشهد الإنجليزي مألوفًا بدرجةٍ كبيرة له كما كان مشهد بلده الأصلي، ولكنه كان قد زار أجزاءً من المقاطعة المدفون فيها إيفانهو؛ فكانت بعضُ أوصافه، وخاصةً لقلعة كونينجسبورج، هي أوصافًا أدلى بها شاهدُ عيان. وتتراوح الأماكن في القصة بين جورفولكس (أي جيرفولكس) آبي في الشمال (يوركشاير) وآشبي دو لا سوج في الجنوب (ليسترشاير)؛ فالأحداث الرئيسة تقع في آشبي وكونينجسبورج (موجودتان) وفي روثيروود، وتوركويلستون، وتمبلستو (غير موجودة)، وكان يتعيَّن على المسافرين من روثيروود العبور عبر شيفيلد في طريقهم إلى آشبي؛ لذا من المفترَض أنه لا بد أن تكون الأحداث قد وقعت إلى الشمال قليلًا أو الشمال الشرقي لشيفيلد، وبين تلك البلدة وروثيرهام، التي جاء منها اسم روثيروود. أما توركويلستون، فهو اسم لمكانٍ تخيُّلي مشتَق من الاسم الساكسوني «توركويل»، وهو من أسماء الرجال. بالانتقال إلى القلعة، الموصوفة بالكامل، فعلى الرغم من أنه لا يُمكن استنتاجُ موقعها إلا من طول الزمن الذي يستغرقه المسافرون في طريقهم شمالًا من آشبي للوصول إليها؛ فقد بُنِيت على الطراز النورماندي، الذي لا تزال عليه أمثلةٌ حية في المقاطعة. أما تمبلستو، فقد وُصفت بإبهام. وثَمة منشآتٌ عديدة لفُرسان الهيكل في يوركشاير في هذا التاريخ (١١٩٤). كما زُعم أن لوكسلي تشيس، حوالَي ثمانية أميال إلى الشمال الغربي لشيفيلد، كانت محل ميلاد روبن هود، ومنها جاء اسمه البديل «لوكسلي». وكان «قوس روبن هود» معلَّقًا فيما مضى في كنيسة هاثرسيج في ديربيشاير، وهو الآن محفوظ في قاعة كانون بالقرب من بارنسلي.

ثَمة تفاصيلُ عديدة حول الأنواع المختلفة من الملابس، والدروع التي كانت تُلبَس، والأسلحة التي كانت تُستخدَم في تلك الفترة، وفي كل النواحي ثَمة دليل على الاهتمام الذي أولاه المؤلف لموضوع علم الآثار القديمة (أو العصور القديمة) في فروعه كافةً. يُمكن أن تُوصَف رواية «إيفانهو»، في الواقع، من وجهات نظر كثيرة، باعتبارها رواية «أزياء»؛ أي رواية يُركز فيها المؤلف على الأحوال، والملابس، والأطعمة، والمنازل، وأساليب الحياة، وما إلى ذلك، لشخصياتها بالقدر نفسه تقريبًا الذي يتناول به أفعال تلك الشخصيات ومصائرها. وقد سعى سكوت أن يفعل في زمنٍ ماضٍ ما يسعى مَن يُطلَق عليهم الكُتاب الواقعيُّون في وقتنا الحاضر أن يفعلوه في زمننا. بعبارةٍ أخرى، لقد صوَّر لنفسه البيئةَ المُحيطة والعادات، التي تُشكل في نهاية المطاف جانبًا كبيرًا من حياة الناس؛ وذلك من أجل أن يُصور بوضوحٍ أكبر الطريقةَ التي كان يعيش بها الناس في ظل تلك الظروف. ومع ذلك، فقد قال سكوت صراحةً عن نفسه إنه لا يدَّعي الدقة المُطلَقة في تلك الأمور. وقد استخدم هذه المعرفة التي كانت لديه عن العصور القديمة، التي كانت، بطبيعة الحال، معرفةً ضخمة لشخصٍ عاش فترةً طويلة (لنقل) في فرنسا؛ ما يجعله، إذا جلب الحياة والشخصيات الفرنسية إلى القصة، أكثر دقةً من شخص لم يعبُر القنال الإنجليزي قط. ومع ذلك، فإن الشخصيات في «إيفانهو» هي شخصياتٌ حية، وليست مجرد شخصيات عادية ترتدي ملابسَ رسمية؛ إذ نستمتع بتفاصيل الحصار والموكب الفخم للمباراة، ولكننا نتحمَّس أكثرَ لمعرفة مصائر ويلفريد وحُلفائه، وينتابنا القلقُ الشديد حول إنقاذ ريبيكا من المُستبدين بها، ونتعرَّف على سيدريك وجيرث وبقية الأصدقاء الذين نتعرَّف عليهم.

إن كِتابًا مثل «إيفانهو» لا يُقرأ بُغيةَ التعلُّم، كما نقرأ عن الخصائص الجغرافية لآسيا أو معركة ووترلو، ولكن من خلال المتعة التي نستقيها منه (وهذا ينطبق على جميع الأعمال الأدبية الجيدة) نزيد معرفتنا بما نُسمِّيه «الحياة» بمعناها الأوسع والأعم. ففكرة «الفارس المثالي» أو الرجل النبيل كما نُطلِق عليه الآن، وهو الشخص الذي يكتسب بالولادة والمِران وكذلك الشخصية وداعةً ورحمة ودَماثة ومُراعاة لمشاعر الآخرين، وكذلك شجاعة ومهارة في أعمال الرجال، هي فكرة لا تنتمي فقط إلى عصر الفُرسان، وإنما لكل العصور. لم يكن سكوت يعتقد أن الناس قد وُلِدوا مُتساوين، ولكنه كان يعي النقائص التي كان النُّبلاء، الذين لا يتمتَّعون بصفات الفارس المثالي، عُرضةً لها. وستكشف دراسةٌ لسلوك مجموعة من الفُرسان في رواية «إيفانهو» عن تصور الكاتب عن أسمى أنواع الرجولة. وبعيدًا عن سحر ريبيكا والتشويق التراجيدي في قصتها، فربما كان من السِّمات الخاصة لفترةٍ كان العنف الوحشي مقبولًا فيها باعتباره أمرًا عاديًّا، أنه كان لا بد من وجود رجل به من صفات الفروسية ما يكفي لحماية حتى اليهوديات البائسات بقوة سلاحه. وعندما نتذكَّر أن الجزء الأكبر من قصة «إيفانهو» قد أُمليَ بينما كان المؤلف يُعاني من ألمٍ مبرِّح جرَّاء مرض لم يكن من المتوقَّع أن ينجوَ منه، فلا بد أن نعُدَّه هو أيضًا مثالًا على السلوك البطولي الذي أُعجبَ به كثيرًا ووصفه بأسلوبٍ أدبيٍّ بارع.

•••

ملحوظة: «الأجزاء المحذوفة من نص الرواية الأصلي مُشارٌ إليها باختصارٍ شديد في الهوامش بنهاية الكتاب.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤